علي الشمسي باشا
لم يكن علي الشمسي من يوم نشأته منكور المحل، وأول عهد الجمهور به يوم كان في سويسرا يطلب العلوم العالية، فكان طالبًا مجدًّا متفوقًا، وكان إلى جانب ذلك حركة وطنية قوية تدعو لمصر المضطهدة وتطلب لها الحرية في صميم بلاد الحرية. نعم، كان الشمسي في أوروبا أقوى صدًى لصوت الحزب الوطني في مصر، وأتم تحصيل علومه ونال عليا الشهادات من أكبر جامعات سويسرا، وعاد إلى بلاده، فظن الناس أن «وظيفة» تمهد في الحكومة لهذا القادم الناجح الجديد، فإذا به يعدل إلى دار الحزب الوطني وينتظم من فوره عضوًا في مجلس إدارته. وهكذا كان الشمسي درسًا بليغًا في التضحية خالصة لوجه الوطن، ومن حيث علم من لم يكن يعلم أن التلميذ يتعلم في مدارس مصر، حتى إذا تاقت نفسه إلى طلب العلم العالي هاجر إلى بلاد الغرب، فلبث سنين طوالًا بعيدًا عن أهله وأحب الناس إلى قلبه، وأنفق ما شاء الله أن ينفق من مال وعمر، وأدركه ما شاء طلب العلم من كد ذهن وإرهاق عصب، حتى إذا برع وحاز أسمى الألقاب العلمية، عاد إلى بلاده لا ليطلب بهذا كله عند الحكومة مرتزقًا، ولكن ليطلب به «وظيفة» جندي مجاهد في سبيل الوطن!
وكان علي الشمسي في الحزب الوطني قوة كبيرة، لا في جهارة الصوت، ولا في كثرة الترائي للجماهير، ولا في سبب من أسباب الظهور، ولكن في صحة الرأي وبعد النظر وسلامة التدبير، حتى إذا بعثته ضرورة الحال للخطابة، أسمع الناس كلام وطني شديد الوطنية، في عبارات سياسي محصه العلم ومرسته تجارب الأيام.
وهنا يحلو لي أن أقرر ملاحظة صغيرة: تلك أنه لم يكد يخرج رجل فينا إلى ميدان السياسة إلا جاز إليه بالحزب الوطني والتشيع بادئ الرأي لمبادئه. والوجه في هذا — على تقديري — أن الحزب الوطني حزب الشباب حقًّا، وأن مبادئه مبادئ الشباب حقًّا.
وجاء الانتخاب «للجمعية التشريعية» فظفر علي بك الشمسي بالعضوية فيها عن مديرية الشرقية، ولا أدري أكان ظفره بذاك، على شدة التنافس وقسوة الخصومة السياسية، لإدراك الناخبين صدق وطنيته وما له من المواهب السامية، أم لأنهم إنما أخرجوه للنيابة عنهم لحسبه، وأصالة عرقه، ومواضع بيته في تلك البلاد؟
على أنه ما كاد يتبوأ كرسيه في «الجمعية التشريعية»، وكان أصغر أعضائها سنًّا، حتى انفسح له بين رجالاتها في مكان الرأي والحكمة مكان خطير!
ودارت رحى الحرب العظمى، وظهر للسلطة القوية أن علي الشمسي «من غير المرغوب فيهم» فكفوه عن العودة إلى بلاده، ويلبث في ديار الغرب منفيًّا طوال زمن الحرب، فاغتنم هو هذا النفي ليدعو فيه لمصر وليستزيد من فضل الوقت لطلب العلم في أعظم جامعات الغرب.
وأراد الله وأغمد السيف، وهتف هاتف السلام، وأذن «للمغضوب عليهم» في العودة إلى بلادهم، فعاد علي الشمسي لا ليستريح من ذلك النصب الطويل، ولكن ليستقبل في قضية بلاده ذلك الجهاد الطويل.
وشخص الوفد المصري إلى أوروبا، فسرعان ما اتصل به علي الشمسي، وظل يمده بجهوده ويصله بصادق الدعوة في مواطن الدعوة، ثم انتظم فيه عضوًا.
وبعد، فأنت أخبر بمساعيه للوفد المصري وبخاصة في بلاد الغرب، مما أجدى عليه بقوة ذكائه وعظيم اختباره ووثيق صلاته برجال السياسة هناك أعظم الجدوى.
•••
ولقد حدثتك في أول هذا المقال أن علي الشمسي لم يكن من يوم نشأته منكور المحل، وإنما أردت بهذا علم الناس بنشأته في المجد والحسب، وثقتهم بما له من شدة فطنة وواسع علم، وإيمانهم بما أدرك من اختبار وتمرين في السياسة وصدق جهاد في الوطن. أما أنه يصلح لأن يكون وزيرًا، وفي وزارة المعارف، يضطلع بتلك الإدارة الواسعة ويعالج أضخم مشكلة تعترض حياة البلاد، وهي مشكلة التعليم؛ فذلك ما كان محل نظر كبير، إن لم أقل إنه كان موضع خوف كبير! حتى لقد سلم كثير من الناس الأمر لله في هذا وللزعماء تسليمًا! وحتى قال بعض الصادقين المخلصين حين رأوا إجماع الزعماء على تقليد علي بك الشمسي وزارة المعارف: «اللهم إيمانًا كإيمان العجائز!»
وأول ما ظن به أنه سينبعث بهوى السياسة وحدها في عمله الجديد، فلا يرى أثرًا إلا عفاه، ولا بناء إلا هدمه، ولا عملًا لأسلافه إلا نقضه، ولكن علي الشمسي لم يكن عند رأي أحد من أولئك المتعجلين جميعًا! فقد ارتفع به علمه عن أن يغير في نظم التعليم لمجرد الشهوة في التغيير، وارتفعت به وطنيته عن أن يغضب العلم ليرضي السياسة. وحين فارت فورة بعض أعضاء مجلس النواب على ما صنع سلفه، أبت على علي الشمسي كرامته وكرامة العلم عليه أن يشايع بظهر الغيب، بل لقد صارح القوم بأنه لا يستطيع أن يحكم على عمل سلفه إلا بعد أن يراجعه ويصيب فيه مكان الرأي، فما كان منه خيرًا أثبته وأقره، وما كان شرًّا رده إلى الخير. وأسرع لساعته فدعا بالأفذاذ من أقطاب العلماء وأهل البصر في هذا الموضوع، وألف منهم «لجنة» برياسته لمراجعة نظم التعليم بجميع درجاته، ووضع الخطة الحكيمة التي تحقق في العلم أماني البلاد. وها هي تي تعمل جاهدة في هذه السبيل، فلا تنتقل من خطوة إلى خطوة إلا بعد البحث وتقليب النظر وطول المراجعة، حتى لا ترسل خطوتها إلا إلى الثابت المطمئن، مستهدية بالحكمة والاختبار وحاجة البلاد وطبيعة أهلها، وما انتهى إليه رأي علماء التربية في نظم التعليم. وإنا لنرجو الله تعالى أن يوفق هذه «اللجنة» في مهمتها حتى تبلغ غايتها، وبهذا ندعو لعلي باشا الشمسي بتسجيل أبلغ فخر أثبته التاريخ لوزير المعارف في مصر.
•••
وعلي باشا الشمسي رجل جم الأدب وافر التهذيب، يروى عنه أنه لا يلقى أصغر عماله إلا باللطف والهشاشة، على أنه مع هذا شديد الحزم، لا تأخذه هوادة في موطن الحق. يغار على عمله غيرته على أوثق أسبابه، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من أعمال وزارته إلا سلط عليها ذكاءه وقلبها على كل نواحي الرأي، فإن اجتمع فيها وجه المصلحة الخالصة أمضاها وأجازها، وإلَّا فلأمِّ هَوى النفس وهَوى «الرجاء» الثَّكَل.
وليت حكامنا جميعًا يصلبون على تقبل الشفاعات في غير مواطن الحق، فإن الإفراط في الرجاء أصبح من أعضل أدوائنا الاجتماعية.
وإذا كان الحاكم عدلًا صادق الولاية على عمله، فليس هناك معنى «للرجاء» عنده إلا أن يراد به العدول إلى الظلم وتعمد الخلاف للقانون! أرأيت مثل هذا إسفافًا في الطباع وفُسولة في الأخلاق؟! … والعجب أنه مع وضوح هذا كله لجماعة المضطربين بفنون الشفاعات عند الحكام، فإن أكثرهم ليطلقون ألسنتهم بمقالة السوء فيمن يعتصم بالحق ولا ينحرف، طوعًا لشفاعاتهم، عن حكم القانون. وبهذا أصبح لا يستحق الحمد، في شرع هؤلاء، إلا ظالم متمرد على النظام!
وقال لي صديق من القضاة يومًا وهو جزع ثائر النفس: لا يغيظني يا فلان قدر أن يجيئني الشفيع في إحدى القضايا فلا يفتح عليه الإجرام إلا بأن يرجوني «أن أقضي فيها بالعدل!» ومعنى هذا أنني لا أحكم في أقضية سائر الناس إلا بالظلم! ولو سألني أن أقضي في شأن صاحبه بالظلم؛ لكان ذلك أرفق بي وأدل على أنني إذا أرسلت على طبعي لما عَدَوْتُ مكان الحق! …
أقول، لو صلب الحكام جميعًا على تقبل الرجاء لما استنكفوا الأذى فقط بل لطبعوا، على الأيام، كثرة الناس على حب الحق وإجلال القانون، وما أحوج بلادنا في نهضتها الكريمة إلى أن يتغلغل في القلوب حب الحق، وإجلال القانون.
ونعود إلى علي باشا الشمسي فنقول إنه أظهر في هذه الفترة التي قبض فيها على زمام وزارة المعارف كل مواهب الوزير العظيم، القوي الذهن، النافذ الرأي، الواثق بالنفس، والذي لا يجعل كلمته في أسباب الحكم رهنًا بمنصبه، بل يجعل منصبه رهنًا بكلمته.
وليس لتعليم علي الشمسي فضل كبير في الحرص على كلمته، بل إن أعظم الفضل في ذاك لحكم الوراثة، فقد قال أبوه أمين باشا الشمسي أغنى تجار القطن من قبل كلمة، وكان له أن يتحلل منها فلم يفعل، وخسر فيها مئات آلاف الجنيهات. وهكذا إذا كان في نبل الكلمة خسارة في المنصب أو المال، فهي كل الربح يحصيه التاريخ لعظماء الرجال.
•••
وعلي باشا الشمسي شاب متين الجسم، مفتول العضل، أدنى إلى القصر منه إلى الطول، أبيض اللون، أزرق العينين، تسترعي نظرك منه تلك الجبهة الواضحة العريضة التي تمثل لك قاعدة مثلث ينتهي بأسفل ذقنه، وما أن راقك منه أدبه وشدة وداعته، فاطلعت منه على تلك الجبهة الهائلة إلا أحسست أنه رجل خُلق للكفاح والنضال.
وإذا كان في المصريين قوم قد أسفوا أول الأمر على تقليد علي الشمسي وزارة المعارف، فإن هؤلاء اليوم أشد الناس أسفًا على أن الوزارة قد حرمت هذه العبقرية من زمان طويل.