عدلي يكن باشا
وكانت لجنة الدستور، وزاره بمحضري رجل من أعضائها، فسأله: ماذا صنعتم اليوم؟ فقال له: كنا نتناقش في موضوع «كذا». فاستوى عدلي على كرسيه، ولبث ساعة يتدفق بالحديث في ذلك الموضوع، ويورد كل مذاهب علماء الدستور فيه، يعلل كل رأي، ويوجه كل مذهب في بلاغة وفصاحة قول ودقة تعبير، وخرجنا وصاحبي يضرب كفًّا بكف، ويزعم لي أنه لو حلف بكل مؤثمة من الأيمان أن عدلي كان حاضر لجنتهم، ما حنث ولا أثم!
شديد القصد في حديثه، فإذا أذن الله وتكلم، فهو حلو الحديث، رخيم الصوت، بارع المطلع، رائع المقطع، يصيب المحز ويقع من فوره على اللباب. تشعر أنه خلص إلى الغاية، وأصاب من النزاع، دون أن يعلق بقوله شيء من وَضَر الجدل، وما لا تدعو إليه حاجة الكلام.
لعل عدلي قد جاوز الستين، وأحلف بدوري أن مصر لو كانت عاشت عيشًا طبيعيًّا خاليًا من الأحداث والعظائم، ما كان له في الدنيا أثر، ولا جرى له على لسان جمهرة المصريين ذكر ولا خبر، فلقد نجم عدلي باشا في مناصب الحكومة كما نجم غيره من الناس موظفًا صغيرًا في وزارة الداخلية، وما برح يتقلب في فنون الأعمال العامة حتى أصبح وكيل مديرية، فمديرًا، فمحافظًا للعاصمة، فمديرًا لديوان الأوقاف، فمتقاعدًا في داره، فوكيلًا للجمعية التشريعية، فوزيرًا للمعارف، لا يمتاز في شيء من ذلك إلا بالنبل والكبر على الصغائر، والترفع عن سفساف الأمور، وكل ما كان له فيما عالجه من الأعمال من صحة الرأي، وصدق التدبير، وحسن التنظيم، فما كان ليذكر له شيء منها إلا بألسن من شارفوه ومن عملوا معه. أما عظمة عدلي وأما شهرته الخالدة على الزمان، فهو مدين بهما للجُلَّى وللأحداث العظام، فلولا جسيمات الأمور؛ لكان عدلي رجلًا مدرجًا في عداد سائر الرجال.
ولقد كان وزيرًا للمعارف في وزارة رشدي باشا في سنة ١٩١٨، وتهادنت الدول المحتربة الهدنة العامة، وشمرت لعقد الصلح، وتوقع المتطيرون أن تكون مصر من حصة إنجلترا في سَلَبِ تركيا المقهورة، فنهض رشدي ومعه صاحبه عدلي وناجيا الإنجليز بأنهما يريدان أن يشخصا إلى إنجلترا؛ ليراجعاها في حقوق مصر التي ضحت بما ضحت من الرجال والأموال في نصرة قضية الحلفاء. وتثاقل الإنجليز عنهما وتعللوا باشتغال ساستهم عن لقائهما بالاستعداد لمؤتمر الصلح، وخاف رشدي وعدلي أن تفلتهما الفرصة، وكرها الصبر على الهَضِيمة، فنفخا في الحركة الوطنية من روحهما القوى، وراحا يؤازران الوفد المصري ويشدان عضده من جهة، ويشرعان الإضراب للموظفين، ويستحمسان الجمهرة من جهة أخرى، حتى كان من أمر النهضة المصرية في سنة ١٩١٩ ما كان. وتلك أولى عزائم عدلي التي يحصيها له الجمهور.
وهبط ملنر مصر والوفد قائم في باريس، ودارت اللجنة هاهنا وهاهنا لعل أحدًا يعاطيها أو يقاولها، فاستمسك الناس كلهم عنها، ولم يواتها منهم أحد، فعاذت في النهاية بالثلاثة الأعلام: رشدي وعدلي وثروت، فصارحوها بأنها إن أرادت الجِدَّ، فلا تفاوض في شأن مصر غير الوفد، فلتمض إلى باريس فهناك الحديث، أما في مصر فلن تجد مهما طال بها المقام، ثلاث قطط تحدثها في شأن البلاد!
وانكفأت لجنة ملنر إلى لندن، واستشرفت حقًّا لمفاوضة الوفد، إذ الوفد لا يتحول إلى لندن دون أن يستبين موضع خطوه، ويريد، وبين يديه رجاء أمة، أن يعرف فيم مذهبه وأين يقع حديثه، وكيف تكون غاية أمره. فدارت الأنظار كل مدار، فلم تقع لهذا المهم إلا على عدلي، فدعاه الوفد فلبى الدعاء وشخص إلى باريس فلندن، فمهد الطريق، ووطأ أكناف السياسة هناك، وكان خير معوان للوفد على أداء مهمه الخطير.
وألف الوزارة في صدر سنة ١٩٢١، وشخص إلى لندن في وفد رسمي، وفاوض كرزن وأدلى إليه بحقوق مصر وأمانيها كلها، وأبى أن ينزل على ما أراد الإنجليز أن ينزلوا مصر عليه، فقطع المفاوضة، وعاد من فوره مرفوع الرأس، موفور الكرامة. وما كادت تستقر قدمه، حتى استقال من منصب الوزارة استقالته الكريمة النبيلة.
واليوم وقد تحرجت الأمور، وتصدت القوة بكل ما عندها لتنال مصر، فلا يلتفت زعيمها الأكبر إلا إلى صديقه عدلي. وكذلك كان شأن عدلي دائمًا تلتفت مصر إليه كلما نزلت بها الأحداث الجسام.
وبعد، فلقد تحسب عدلي رجلًا عظاميًّا تلقى المجد عن آبائه العظام الفاتحين. والواقع أن عدلي يكن رجل عصامي بأجمع معاني الكلمة، وقد لا يعدله في عصاميته هذه رجل آخر في البلاد.
وإن من يعرفون عدلي ليعدون له عيوبًا، ويحصون عليه آثامًا وذنوبًا، وسبحان من تفرد بالكمال.
فهم يحسبون على طباعه أنه ما برح «ابن ذوات» فهو قليل الاتصال بالناس، شديد التحفظ بنفسه عنهم، لا يزورهم ولا يستزيرهم ولا يستريح إلى مجالستهم. ومهما توافى له إنسان وتعلق بحبه، فهو لا يطالعه بالهناء إذا دخلت عليه نعمة. ولا بالمواساة إذا مسه الضر. ولا يعوده إذا مرض، ولا يشيع جنازته إذا مات! وإذا طلبه صاحبه لحاجة عامة أو خاصة حيره وشتت سعيه، فإذا أراده في البيت قالوا له في «الكلوب»، وإذا وثب إلى «الكلوب» قالوا في البيت. ويحلفون على أن اقتحام قلعة للألمان وقت الحرب العظمى أيسر من زيارته في بيته!
ولو قد كتب لي أن أصبح هيئة سياسية، واحتجت في شأن البلاد إلى سعي عدلي باشا، لوكلت به «عصبة» من أولاد البلد، أولي القوة والفتوة، فتسلموه في صباح كل يوم، وأرادوه على المشي ساعتين في الأحياء الوطنية، وأكرهوه على أن يُفشي السلام، ويُومئ بالتحية لكل من لقيه؛ حتى إذا جُهِدَ به ردُّوه فأجلسوه في البهو، وفتحوا الأبواب بين يديه، وكلما دخل عليه زائر بعثوا وجهه بالهشاشة، ويديه بالتحية، ولسانه بنحو: «أهلًا وسهلًا ومرحبًا. زارنا النبي. شرفتنا. آنستنا …» إلخ، ثم صفق بيديه فدعا بالقهوة وعرض على الزائر «نرجيلة»، فإذا ردها، قدم له سيجارة فسيجارة فثالثة. فإن كان الضيف موظفًا سأله عن عمله ودرجته ومرتبه، وأظهر له التوجع على تأخره وتقدم أقرانه، وإن كان زارعًا أقبل عليه فسأله عن القطن وما عسى أن يكون قد اعتراه من الآفات، والمناوبات وشح المياه ومناطق الأرز وإطفاء الشراقي وسعر كيلة البرسيم اليوم! … وإذا حضر وقت الغداء — وهنا الكلام — وهم الضيف بالانصراف، أمسك بطرف ثوبه وعزم عليه ليتغدين معه. وحلف جاهدًا أنه لا يجد في ذلك كلفة، ولا يتجشم في سبيله مشقة. وأنا بعد ذلك ضامن لدولة الباشا أن الضيف منصرف غير لابث، معتلًّا بالمرض وضعف البنية، أو بالضيف ينتظره في داره، أو غير ذلك من وجوه التعاليل، ولا يحتمل الباشا من هذه «الكركبة» كلها إلا حسن الذكر وسيرورة الأخبار، بما له من رائع الآثار، فإذا ذكرت الشجاعة قالوا إنه عنتر عبس، وإذا ذكر الحلم حلفوا أنه الأحنف بن قيس، وإذا عرض حديث المكارم، أقسموا أنه أجود من حاتم، فإذا كان الكلام في الفصحاء والمقاول زعموا أنه أخطب من سَحْبان وائل.
فأما إذا ظل سابحًا في السماء، فما أقل حظ أهل الغبراء من عدلي باشا في الزعماء.