عبد الخالق ثروت باشا
لطيف الحجم، دقيق الجسم، لولا بدونة دخلت عليه في السنين الأخيرة، طلق الوجه، عذب الروح، فكه الحديث. ولو أنه قدر لك أن تصحبه عشرين عامًا دون أن يُقَيَّضَ لك اسمُه، ما عرفت قط أنك في صحبة هذا الذي لا يبلغه العجب.
فلقد تحضر مجلسه، فيقبل عليك يحدثك فلا يرتفع بك إلى نفسه، وإنما يتدلى بكل حديثه إلى نفسك، فتراه يدارجك في قولك، ويكلمك من جنس كلامك، ويباريك على قدر فهمك حتى تنصرف عنه وقد هيأ لك وهمك أنه مثلك، هذا إذا لطف الله بعقلك فلم يهيئ لك أنه دونك!
وإنه إذ يتحدث إليك لتختلج معارف وجهه حتى ليتمثل لك في شخص تلميذ في السنة الرابعة الابتدائية! وإن حدقتيه لتضطربان في حركة أفقية، على أنك لو تفطنت لأدركت أنها ليست حركة الحائر المتردد، بل إنها لحركة المتعرف المتقرِّي الذي يريد أن يستل منك ذات نفسك. وإنه ليجسها من جميع أقطارها؛ ليبلوها أيها أهون عليه.
ولقد يخيل إليك لطف ثروت، وتبسطه في حديثه معك، أنك مستطيع أن تدسه في جيبك، إذ هو قد دسك من أول المجلس تحت نابه! فاحذره أطلق ما يكون وجهًا، وأنعم حديثًا.
أبو الهول:
لعل ثروت باشا أبعد المصريين نفسًا، وأعمقهم ضميرًا، وقد حدثني من طالت به صحبته أنه من شباب سنه قد جعل يمرن نفسه على إخفاء نياته، ويأخذ معارف وجهه بألا تنم على ما في قرارة نفسه، وإنك لتحدثه في الجلى ويحدثك فيها وهو متطلق الوجه ضاحك السن حتى ليكاد يملأ عليك المجلس أنسًا ومراحًا، والله وحده يشهد ما في جوف هذا الهيكل من ثوائر تهد أعصى الرجال، وتدك أشمخ الأجبال، حتى لقد دعاه بعض أصدقائه، وهو ما برح في مطلع مناصبه «بطرس المسلمين»!
ولقد بالغوا في صمت أبي الهول وقدروا أن من خلف هذا الوجوم الطويل سرًّا طويلًا. أما ثروت، فإنه أحذر من أبي الهول وأحرص على دخيلة نفسه؛ فإن وجهه الضاحك منك لا لك ليقنعك بأن هذا الخلق لا يحقن من السر كثيرًا ولا قليلًا.
ولو أن إنسانًا حدثك بأن لسان ثروت لم يسقط من ثلاثين سنة بكلمة واحدة لا يريد هو أن يطلقها بكل معناها، وما تتصرف إليه من وجوه المغازي، لما كان في قوله متزيدًا ولا غاليًا.
ولقد تُعْوِزه موهبة الخطابة والتفجر بالقول، على أنه إذا ارتجلت عليه طارئة خطاب الجمهرة أرسل الكلام، في أدق المواقف وأحرجها، بليغًا سلسًا نيرًا، يروعك برشاقته في التحرف عن كل ما لا يؤذن به للسياسي وإن فسح فيه للخطيب.
وهو بعد رجل حسن الملقى، كريم المقال، وافر الأدب.
وإنه لَيُقبل عليك بكل ما عنده من الرقة وإظهار المودة وشدة المواتاة، حتى لتجدنه قد أصبح قطعة من قلبك، ولتحسبن أنك أصبحت أيضًا قطعة من قلبه، ولعلك لست منه في شيء أبدًا!
وسبحان من قسم الحظوظ، فلو أن لي أمنية في خلق الله لتمنيت عليه تعالى أن يمزج عدلي بثروت، على نحو ما تمتزج بعض النقابات والبنوك، حتى إذا اتحدا وتمت «لخبطتهما» أحدهما بصاحبه، شق هذه العجينة إلى شخصين، وسوى منهما رجلين، إذن لخرجا أحسن الرجال، ولتحقق كل ما عقد بهما من الآمال، اللهم آمين! …
•••
وقد بدت مخايل النجابة على عبد الخالق ثروت طفلًا، حتى إذا استوى لسن التعليم سلك في المدرسة التوفيقية، فكان يملك «الأولية» غالبًا على سائر لداته التلاميذ، وأحرز «البكالوريا» في سنة ١٨٨٨، وخرج في أوائل من أحرزوها لعامه. وقد حدثني من رآه تلميذًا في مدرسة الحقوق يزور مع والده المرحوم إسماعيل باشا عبد الخالق عالمًا من أجل علماء عصره، فإذا هذا الفتى يجادله في أمور من أمور الدين مجادلة الأكفاء، ويحاوره في تعاليل أحكامه محاورة النظراء، حتى انبعث لسان الشيخ العظيم بتسبيح من خلق هذا الغلام!
وبعد إذ تخرج في مدرسة الحقوق نابغة رائعًا، اتصل بلجنة المراقبة القضائية، وعين سكرتيرًا للمستشار القضائي، فكان كل التشريع المصري قرابة ثلاثين سنة من وضع عبد الخالق أو باشتراكه، فليس عجيبًا أن يدعى عبد الخالق ثروت في هذا البلد أبا القانون.
وكان مستشارًا في الاستئناف، وكان مديرًا لأسيوط، وكان نائبًا عموميًّا، ثم كان وزيرًا للحقانية في وزارة رشدي من صدر سنة ١٩١٤ إلى صدر سنة ١٩١٩، ثم استقال مع صحبه الذين استقالوا مشايعة للثورة وحفاظًا لنهضة الوطن. فكان في كل المناصب التي وليها لا يعمل إلا بالقانون، ولا يؤثر إلا حكم القانون مهما اختلفت عليه ألوان الاعتبارات، فقد اتصل القانون بعصبه وجرى في نفسه مجرى دمه، ولعل ما أخذ به ثروت باشا بعد إذ اضطلع بأثقل عبء سياسي من تردده في بعض مواطن الإقدام، إنما كان الوزر فيه كله على حرصه على القانون، وتحريه ألا يتحرف عنه في كل مذاهبه، فإن للسياسة أحيانًا سبيلًا غير سبيل القانون، وعلى كل حال فإذا عَدَّت السياسة هذا على ثروت، فسيعتدها له النبل ومعالي الخلال.
وكان ثروت وزيرًا للداخلية في وزارة عدلي باشا «سنة ١٩٢١»، وقائمًا مقام رئيس الوزراء في أثناء غيابه في مفاوضة اللورد كرزن، فلما قطع عدلي باشا هذه المفاوضات عاد إلى مصر، فقدم استقالة الوزارة. واستوحش ما بين مصر وإنجلترا، وسكت المنطق من حيث تكلم الحديد والنار، وانطلقت القوة تفعل في هذا البلد ما تشاء، وفُتنت الأحلام في مصر وإنجلترا معًا، وعُميت على الناس مذاهب الرأي هنا وهناك. ولا بد من حل، فلكل سائلة قرار، فأبى داهية الرجال أن يكون هذا الحل على حساب الضعيف! …
لا أدري، ولعل أحدًا — غير الله — لا يدري كيف كان أبو الهول يقلب الرأي، وما كانت تُجِنُّ خَلَجَاتُ وجهه من فنون الحيل، حتى إذا استوى له الرأي كله تجمع، فضرب تلك الضربة الهائلة التي صدعت قيود مصر وأطلقتها في الدول دولة مستقلة ذات سيادة وسلطان، وسرعان ما آذنت إنجلترا الدول بانتهاء حمايتها على مصر، وسرعان ما آذنها جلالة الملك باستقلال البلاد. وشرع ثروت باشا يسن للدولة دستورًا قويًّا؛ لأن مصر الفتاة تأنَف العيش إلا في كَنَف برلمان. وهذا البرلمان يعمل وسيعمل إن شاء الله حتى تحيا مصر أعلى الحياة.
على أنه ما برح بيننا وبين إنجلترا مسائل جليلة، وإن رجالًا فيها ليتربصون الفرص ليتحيَّفوا من حقوقنا، فما أحوجنا في أمرنا معها إلى عزم الأبطال. وما كان الله ليخيب رجاء مصر وفيها سعد، وفيها عدلي، وفيها ثروت، وفيها من يَحُفُّ بهم من رجالات عظام.
فلتحيَ مصر ولتبلغ كل أمانيها في ظل ائتلافها النبيل.