الدكتور محجوب ثابت
لا شك في أن الدكتور محجوب ثابت يعد بحق، في ميراثنا القومي، ولو — لا أذن الله — جرى عليه القدر، لكان لا بد للأمة من «دكتور محجوب ثابت» بأي طريقة من الطرق. نعم، هو في ميراثنا القومي لا يقل عن آثار سقارة، وجامع السلطان حسن، ومقابر الخلفاء. ولقد أصبح على الزمان جزءًا من تقاليدنا الأهلية كحفلة المحمل، ووفاء النيل، وركبة الرؤية، وشم النسيم! ولما فكر المرحوم محمود بك رشاد في جعل العلم المصري محلى بصور بعض الآثار القديمة، فرعونية وإسلامية، لم ير المصور بدًّا من أن يرسم بجانب الهرم وأبي الهول وجامع برقوق وحضرة سيدي أبي السعود، صورة الدكتور محجوب ثابت.
وفي الحق إن الدكتور يرى نفسه مسئولًا عن كل ما في البلد من هابط وصاعد، وقائم وقاعد، وغاد ورائح، وسانح وبارح، ودارج على متن الغبراء، وسابح في جوف الماء، وطائر في جو السماء. فإذا كانت هنالك منطقة خارجة عن اختصاص الدكتور محجوب فهي عيادته فقط! ذلك بأنه ليس برجل أَثَرَة، بل هو رجل إيثار، يُعْنَى من أمر قومه بكل دقيق وجليل، أما خاصة شأنه فلا يعنيه منها كثير ولا قليل.
وللدكتور في مشكلة السودان نظرية طريفة جدًّا، فإنه يرى أن كل العقدة فيها إنما هي في إقناع المصريين وحدهم بقبوله وإدخاله بلا قيد ولا شرط في ملكهم الخالص، فهو كلما رأى رجلًا أو امرأة أو صبيًّا أو وليدًا أقبل عليه «يقنعه» في قوة وحماسة بقبول السودان، وتدفق ما شاء الله أن يتدفق بألوان الحجج لحق مصر في السودان وحاجة مصر إلى السودان، وما أنفقت مصر على فتوح السودان، ومن أبلى من أبناء مصر في حروب السودان. ولو أن رجلًا مسح السودان شبرًا شبرًا، وذرعه فترًا فترًا، ما كان أعلم به من الدكتور ثابت، على أنه لم يره ولم يزره طول حياته مرة واحدة. وقال له بعضهم يومًا: لقد جعلت السودان شغلك يا دكتور حتى أصبحت رمزه في هذه البلاد، فهلا زرته وتفقدت أهله؟ ففتل عثنونه وقال: لا حاجة بنا إلى هذا، فقد عرفناه وخبرناه … ولا أدري أكان هذا من الدكتور ورعًا أم كسلًا!
ويظهر أن الدكتور ظن بعد لَأْيٍ أن المصريين غير مقتنعين بضرورة «أخذ» السودان، فشخص إلى سوريا ليقنع أهلها بضرورة «أخذ» المصريين للسودان! فقد بلغني أن ذلك كان حديث الدكتور هناك في مسائه وصباحه، وغدوه ورواحه، وموضوع مفاكهاته وأسماره، في مقامه وتسياره.
ورأى الدكتور في «أخذ» السودان أبدع من رأي ذلك الفلاح المكاري، إذ قال لإخوانه يومًا: كيف لا تهنئوني؟ فقالوا: بماذا؟ فقال: بأنني سأتزوج بنت السلطان! فقالوا له: وهل قضي الأمر؟ قال: بل نصفه، فإنني وأبي قد رضينا ولم يبق إلا هي وأبوها! … أما الدكتور — أعزه الله — فإنه لا يرى بين المصريين وبين أخذ السودان كاملًا بلا قيد ولا شرط، ومن فوقه ملحقاته وملحقات ملحقاته، إلا أن يرضوا هم! … وقد قلت له يومًا: ألا جعلت بعض همك إقناع الإنجليز أيضًا بترك السودان لأصحابه المصريين؟ فأجابني بكل قوة وثقة: لا! ما يقولوش حاجة!
حقًّا، إن هذا الرجل أمة وحده، وإنه لعبقري لا يتدلى إلى منطق الناس وأسباب تصورهم، فإن له قياسه وتقديره، وله منطقه وتفكيره، وله أسلوبه وتدبيره. وأظهر صفاته في هذا الباب أنه لا يحفل بما لا يسمونه الواقع كثيرًا ولا قليلًا، فحسبه أن يشتهي الأمر فيقدره واقعًا، أمكن ذلك الأمر أو استحال، ومثله من تخيل ثم خال. ولقد كان في سنة ١٩٢١ يسعى جاهدًا في أن ينتظم عضوًا في الوفد المصري، وقد وسوس له شيطان من الإنس بأن عدلي باشا فكر في تعيينه مستشارًا في الوفد الرسمي لولا أن انتهى إليه أن سعد باشا سيلحقه بالوفد المصري، فكان جوابه على الفور: مافيش مانع يا سيدي! وهكذا طمع الدكتور في أن يكون عضوًا، معًا، في الوفدين المتقاتلين سنة ١٩٢١!
وأذن الله ودخل الدكتور في الوفد المصري طبعة ثالثة أو رابعة بعد ما عصفت القوة بجلة رجاله سنة ١٩٢٢، ثم بدا له، لأمر ما، أن «يشلحه» فكانت تخرج النداءات والمنشورات ممهورة بتوقيعات رجال الوفد وليس اسم الدكتور فيها، إذ الدكتور مصمم على أنه ما برح عضوًا في الوفد يلتمس «لعضويته» المعاذير بأنه ربما دعي للتوقيع فغاب، أو أرسل إليه فلم يبلغه الكتاب، على حد قول الشاعر:
وظل الدكتور برغم طول المدى وذيوع الأخبار «بشلحه» مصممًا على أنه ما زال عضوًا في الوفد. وقد جادله بمحضري في ذلك قوم، فكانت كل حجته أن محمدًا أفندي — كذا — قابله يومًا فحياه، وقال له: «يعني ماحدش بيشوفك يا دكتور؟!» ومحمد أفندي هذا يزور السيد حسين القصبي أحيانًا، فلا بد أن يكون سمع هذا من الوفد، فكيف تزعمون بعدها أنني لم أبق عضوًا في الوفد؟
ومن أظرف نوادره، أنه في غيبة الرئيس الجليل حدثت بينه وبين بعض رجال الوفد جفوة، فانقطع عن زيارة بيت الأمة، فقيل له: إن السيدة أنيسة الرشيدي نازلة بدارك، وهي تستقل كل يوم مركبتك إلى الأمة، والناس كلهم يعرفون «مكسويني» وإنهم ليرونه هناك فلا يشكون في أنك الزائر! فقال: لقد نبهنا على الأوسطى «علي» إذا نزلت السيدة أن يقف على الرصيف الثاني احتجاجًا!
وكانوا يرشحون لمناصب المفوضين والقناصل لتمثيل مصر في البلاد الأجنبية، فتقدم الدكتور، فقيل له: ولكنك حذقت الطب. أما التمثيل السياسي فشيء آخر. فقال: ومن أخبر به منا يا ولدي! لقد عجنَّاه وخبزناه، فقد كنا في «جنيف» وكان يجلس معنا أحيانًا على بعض قهواتها سكرتير قنصل إنجلترا وتناول الشاي معنا مرارًا! …
•••
والدكتور محجوب ثابت عريض الألواح بعيد مدى العظام لولا أن في جسمه رهولة، أميل إلى الطول، فإذا مشى خلته أحدب وما به حدبة، ولكنه انحناء الظهر من ثقل التبعات لا من ثقل السنين. عريض الجبهة إلا أن أسفل وجهه أعرض من أعلاه. يرسل سبلته وعثنونه وشعر عارضيه في هيئة لطيفة مقبولة، وله عينان رقيقتان ترتسم في بياض كل منهما دائرة تحيط بدائرة حتى تنتهي إلى إنسانها، وهما دائمتا الحركة والاختلاج. وهو بعد طيب القلب، مكفوف الأذى، عذب الروح، حلو الحديث، ضحوك السن، يتحرى في قوله غريب اللغة، ويلتمس الشاهد من مأثور شعر العرب، وقد يجيء به أحيانًا مكسورًا غير متزن. أما قافاته فحدث عنها ولا حرج. جزت بداره مرة فرأيت بنتين صغيرتين تتلاعبان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا بيت الدكتور، فسألتها: ومن الدكتور؟ فقالت لها: ألا تعرفين الدكتور الذي يقول يا بنت هاتي القِبرة! «الإبرة».
وفيه ذكاء حاد، يديم القراءة والنظر في الكتب وكأنه يحفظ بظهر الغيب كل ما يقرأ، تعرف هذا من علمه الواسع الذي يكاد يستغرق كل ما في الدنيا وكل أسبابها، إلا أن علمه — مع الأسف — يختلط بعضه ببعض، حتى ليخيل إليك أن رأسه «كتبخانة مدشوتة». ولو قد ملكت أمره، وكانت لي بسطة في المال والسلطان لدعوت بمستشرق ألماني فني؛ لينظم هذه المكتبة العظيمة فيضم كل شكل إلى شكله، ويجمع كل جنس إلى جنسه، ويرد كل معنى إلى بابه، ويصف كل فن في «دولابه».
ومن أخص صفات الدكتور ثابت، أنه لا يكاد يشعر بمرور الزمن، وإذا كان من آية يوشع أن الشمس رجعت له مرة، فإن من آية دكتورنا عند نفسه أن الشمس تثبت له موضعها على طول الزمان، فأنت إذا دعوته ليتناول الغداء معك أقبل عليك الساعة ٥ بعد الظهر حتمًا في غير ورع ولا اعتذار. ولقد دعاه صديق لي وله لتناول الإفطار في رمضان ولبثنا ننتظره برهة، فلما أيسنا منه أفطرنا، وفي نحو الساعة الحادية عشرة أقبل الدكتور مشمرًا للفطور، وما كان أشد دهشته «يقينًا» إذ علم أننا أفطرنا من أربع ساعات فانطلق يزمجر و«يزوم»، ويعتب ويلوم!
ومما يذكر للدكتور في هذا الباب أنه ما أدرك قط القطار الذي يعتزم السفر فيه، حتى تقرر عند جميع أصدقائه أنه إذا آذنهم بالسفر إلى بورسعيد في قطار الساعة ٧ صباحًا شخصوا إلى المحطة لتوديعه في قطار الساعة ١١، وإذا آذنهم بالسفر إلى الإسكندرية في قطار المفتخر، كانوا في وداعه بقطار الساعة ٧ مساء.
وسافر مرة إلى الإسكندرية لوداع الآنسة سنتيا موير الصحفية الأمريكية، وأخذ تذكرة للذهاب والإياب على أن يعود من يومه، فلبث هنالك قرابة شهرين ونصف شهر.
ولو قد ذهبنا نعدد لطائف الدكتور محجوب وبدائعه، لما اتسع للحديث مثل هذا المقال. وإنه ليجمل بنا في موضع الإنصاف أن نقرر أن الرجل شريف النفس، عفيف الجيب، جمع للنهضة المصرية من مديريتي جرجا وقنا قرابة خمسة عشر ألف جنيه، أبلغها كلها محلها، لم يقتطع منها درهمًا واحدًا حتى ولا لأجرة القطار وسائر نفقات السفر وهي غير قليلة، فضلًا عما احتسب عند الله من خراب الأجزاخانة، ودمار العيادة، وفرار الزباين، وسرقة شبابيك الدار.
وهو لا يتعمل للدرهم ولا يجري وراءه؟ أما إذا سقط الدرهم إلى جيبه فلا إلى رجعى، فمثله في ذلك مثل المصيدة لا تجري وراء الفأر، فإذا سقط إليها الفأر، فهيهات ليس له منها فرار. وله في هذا الباب أحاديث مذكورة وأفاكيه منشورة.
•••
وبعد، فالدكتور محجوب ثابت أمة وحده بما اجتمع له من الصفات، وما احتشد لديه من فنون المعلومات، وما تكدس عليه من ألوان التبعات. وهو إذا اعتبر لنفسه حق التحدث على كل شيء، والدخول في كل دقيق وجليل من شئون البلاد، فقد وجب بإزاء هذا أن يكون لكل مصري فيه نصيب. وإني لأقترح على الحكومة أن تصدر قرارًا بنزع ملكيته وإضافته إلى المنافع العامة، ولعلها بعد العمر الطويل تجعله من نصيب دار الآثار، حتى يظل رمزًا لتلك العبقرية الفريدة على طول الأعصار؟