حذارِ من الوقوف على الطريق السريع

كانت ديانا تأمل في مغادرة العمل في الخامسة، حتى تتمكَّن من الوصول إلى المزرعة في الوقت المناسب لتناوُل العشاء. حاولت ألَّا تُظهِر مشاعرها الحقيقية عندما قدَّم إليها نائبها، فيل هاسكينز، في الساعة ٤:٣٧ وثيقة معقَّدة مكوَّنة من اثنتَي عشرة صفحة تتطلَّب توقيع مدير قبل أن يمكن إرسالها إلى العميل. لم يتوانَ هاسكينز في تذكيرها بأنهم فقدوا عَقدَين مماثلَين ذلك الأسبوع.

هكذا كانت الحال دائمًا يوم الجمعة. تهدأ الهواتف في منتصف فترة ما بعد الظهيرة، وبمجرد أن تعتقد أن في إمكانها أن تغادر، تصل وثيقة تفويض إلى مكتبها. من نظرة واحدة على هذه الوثيقة على وجه الخصوص، عرفت ديانا أنه لن يتسنَّى لها أي فرصة للرحيل قبل السادسة.

كانت واجباتها، كونها أمًّا وحيدة وكذلك مديرة بشركة صغيرة لكن مزدهرة في منطقة سيتي بلندن، تحتِّم أن تكون اللحظات التي تنعم فيها بالراحة خلال اليوم قليلة؛ لذا عندما كانت تحين عطلة نهاية الأسبوع التي كان ولداها جيمس وكارولين يقضيانها مع زوجها السابق كل أربعة أسابيع، كانت ديانا تحاول مغادرة المكتب أبكر قليلًا من المعتاد لتتجنَّب زحام حركة المرور في نهاية الأسبوع.

قرأت الصفحة الأولى على مهلٍ، وأجرت بعض التعديلات، وهي تدرك أن أي خطأ ترتكبه على عجَل في ليلة الجمعة من الممكن أن تندم عليه في الأسابيع القادمة. ألقَت نظرة على الساعة الموجودة على مكتبها وهي توقِّع الصفحة الأخيرة من الوثيقة. كانت تشير إلى ٥:٥١.

التقطت ديانا حقيبتها، وسارت بهِمَّة نحو الباب، وألقت العَقد على مكتب فيل دون الاكتراث بأن تتمنى له عطلة نهاية أسبوع سعيدة. كانت تشك أن الأوراق ظلَّت على مكتبه منذ الساعة التاسعة صباحًا، وأن الاحتفاظ بها لديه حتى الساعة ٤:٣٧ كان وسيلته الوحيدة للانتقام منها بعد أن عُيِّنت رئيسة للقسم. وبمجرد أن وصلت في أمان إلى المصعد، ضغطت الزر للنزول إلى موقف السيارات في الدور تحت الأرضي، متوقعة أن يزيد التأخير زمن رحلتها ربما بمقدار ساعة.

خرجت من المصعد، وسارت نحو سيارتها الأودي الكبيرة، ثم فتحت الباب وألقت حقيبتها على المقعد الخلفي. وعندما خرجت بالسيارة إلى الشارع، كانت حركة المرور في الشفق شبه مواكبة لحركة المشاة ببذلاتهم المقلمة، الذين بدَوا مثل النمل العامل، وهم يسارعون نحو أقرب نفقٍ لركوب المترو.

أدارت المذياع فجاءتها نشرة أخبار الساعة السادسة. رنَّت أجراس ساعة بيج بن، قبل أن يدلي المتحدثون باسم الأحزاب السياسية الثلاثة الرئيسية بآرائهم حول نتائج الانتخابات البريطانية. كان جون ميجور يرفض التعليق على مستقبله. وكان تفسير حزب المحافظين لأدائه الضعيف أن ستة وثلاثين في المائة فقط من الشعب قد اهتموا بالذهاب إلى صناديق الاقتراع. شعرت ديانا بالذنب؛ إذ كانت من بين الأربعة وستين في المائة الذين لم يصوتوا.

أكمل المذيع الأخبار بالقول بأن الوضع في البوسنة لا يزال يائسًا، وأن الأمم المتحدة تُنذر بعواقب وَخِيمة إذا لم يتوصَّل رادوفان كاراديتش والصرب إلى اتفاقٍ مع الأطراف الأخرى المتصارعة. بدأ ذهن ديانا يشرد؛ فالتهديد من هذا النوع لم يعُد من قَبيل الأخبار. فقد اعتقدت أنهم ربما سيكررونه كلمة بكلمة إذا استمعت إلى المذياع بعد عام.

بينما كانت سيارتها تسير ببطء حول ميدان راسل سكوير، بدأتْ تفكِّر في عطلة نهاية الأسبوع المُقبِلة. لقد مرَّ أكثر من عام منذ أن أخبرها جون بأنه الْتَقى بامرأة أخرى ويريد الطلاق. لا تزال تتساءل لماذا لم تكُن صدمتها — أو على الأقل غضبها — من خيانته أكبر، وقد ظلَّا متزوجَين سبع سنوات. كان لا بد أن تقرَّ بأن الوقت الذي كانا يقضيانه معًا ظلَّ يتناقص أكثرَ فأكثر، منذ تعيينها مديرة. وقد تكون حقيقة أن ثلث المتزوجين في بريطانيا الآن إمَّا مُطلَّقون وإما مُنفصِلون هي ما جعلها في بلادة. لم يتمكَّن والداها من مداراة خيبة أملهما، ولكنهما آنذاك كانا متزوجَين منذ ٤٢ عامًا.

كان الطلاق سلِسًا إلى حدٍّ معقول؛ حيث أذعن جون لمعظم مطالبها، وإنْ كان أقل دخلًا منها، ولعلَّ ذلك ما شكَّل إحدى مشكلاتهما معًا. احتفظت ديانا بالشقة في باتني، والسيارة الأودي الكبيرة، والصغيرين اللذين كان يُسمح لجون باستقبالهما في عطلة نهاية الأسبوع مرَّة شهريًّا. كان سيصطحبهما من المدرسة في وقتٍ مبكرٍ من عصر ذلك اليوم، وكالعادة، سيُعيدهما إلى الشقة في باتني قرابة السابعة مساء يوم الأحد.

كانت ديانا تفعل ما في وسعها لتجنُّب البقاء وحيدة في باتني وهما ليسا معها، وعلى الرغم من أنها كانت دائمًا ما تتذمَّر من اضطرارها إلى تحمُّل مسئولية تربية طفلَين دون وجود الأب، فإنها كانت تشتاق إليهما بشدة بمجرَّد أن يغيبا عن ناظرَيها.

وهي لم تتخذ لها حبيبًا ولم تُقِم علاقات جنسية عابرة. ولم يتعدَّ أيٌّ من كبار الموظفين في العمل قطُّ حدود دعوتها إلى تناول الغداء. ربما لأن ثلاثةً فقط منهم كانوا غير متزوجين، وليس هذا دون سبب. والشخص الوحيد الذي ربما تكون قد فكرَّتْ في الارتباط به أوضَحَ أيَّما توضيح أنه لا يريد منها إلا علاقة عابرة، لا علاقة جادة.

على أي حال، أدركَتْ ديانا منذ فترة طويلة أنه لكي تُعامَل بجدية بصفتها أول مديرة في الشركة، فعليها أن تعُدَّ العلاقات العاطفية في العمل — مهما كانت عابرة أو قصيرة الأمد — من شأنها أن تنتهي بالألم. إنها ترى أن الرجال تافهون جدًّا. فالمرأة يكفيها أن ترتكب خطأً واحدًا لتُوصَم على الفور بأنها مُستهتِرة. وعندئذٍ إمَّا أن يسخر منها كل رجل آخَر في الشركة من وراء ظهرها، وإمَّا أن يعاملها دون احترام.

امتعضت ديانا عندما توقَّفَت عند إشارة حمراء أخرى. فقد مرَّت ٢٠ دقيقة، ولم تقطع أكثر من بضعة أميال. فتحت صندوق التابلوه، وبحثت في الظلام عن شريط كاسيت. وجدت واحدًا وأدخلَتْه في الفتحة ذات الصلة، على أمل أن يكون بافاروتي، لكن بادرتها نبرات صوت جلوريا جاينور العالية لتُطمئنها بأغنيتها: «سوف أحيا». ابتسمَتْ وفكَّرَت في دانيال، بينما تحوَّل ضوء الإشارة إلى اللون الأخضر.

كانت هي ودانيال قد درسا الاقتصاد في جامعة بريستول في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وكانا صديقَين، ولم يكونا عاشقين قطُّ. ثم الْتَقى دانيال بريتشيل، التي جاءت بعدهما بعام، ومنذ ذلك الحين لم ينظر إلى امرأة غيرها. تزوَّجا يوم تخرُّجه، وبعد عودتهما من شهر العسل، تولَّى دانيال إدارة مزرعة والده في بيدفوردشير. أنجبا ثلاثة أطفال، واحدًا تلو الآخَر، وقد سُرَّ ديانا أن طُلب منها أن تكون عرَّابة صوفي، الابنة الكبرى. مضى الآن على زواج دانيال وريتشيل ١٢ عامًا، وكانت ديانا متأكدة أنهما لن يُخيِّبا آمال والدَيهما بأي إشارة إلى الطلاق. وعلى الرغم من أنهما كانا مُقتنعَين أن ديانا تعيش حياة مثيرة وناجحة، فإنها كثيرًا ما كانت تحسدهما على حياتهما الهادئة والخالية من التعقيد.

لقد كانت تُدعى بانتظامٍ إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع معهما في الريف، لكنها من بين كل دعوتين أو ثلاث دعوات يقدِّمها دانيال، كانت تقبل واحدة فقط؛ لا لأنها لم تكُن ترغب في الانضمام إليهما أكثر من ذلك، ولكن لأنها منذ طلاقها لم تكُن لديها رغبة في استغلال حُسن ضيافتهما.

على الرغم من أنها كانت تستمتع بعملها؛ فقد كان الأسبوع المنقضي رهيبًا. فقد أخفقت في عَقدين، واستُبعِد جيمس من فريق كرة القدم في المدرسة، ولم تتوقف كارولين قطُّ عن إخبارها بأن والدها لا يمانع في أن تشاهد التليفزيون حين يكون عليها أن تؤدي فروضها المدرسية.

تحوَّلَت إشارة مرور أخرى إلى اللون الأحمر.

استغرقت ديانا ما يقرب من ساعة للسفر سبعة أميال خارج المدينة، وعندما وصلت إلى الطريق السريع المزدوج الأول، ألقت نظرة على علامة الطريق «إيه وان»، لا لتسترشد بها وإنما بالأحرى من قَبيل العادة؛ لأنها كانت تعرف كل ياردة من الطريق المؤدِّي من عملها إلى المزرعة. حاولت زيادة سرعتها، ولكن ذلك كان مستحيلًا تمامًا؛ حيث ظلَّت الحارتان مزدحمتَين ازدحامًا يأبى الانفراج.

«اللعنة.» كانت قد نسيت أن تحضر لهما هدية، ولو حتى زجاجة لائقة من نبيذ الكلاريت. قالت مجددًا: «اللعنة»؛ إذ كان دانيال وريتشيل دائمًا هما مَن يقدِّمان إليها الهدايا. راحت تتساءل عما إذا كان في إمكانها شراء شيء في الطريق، ثم تذكَّرَت أنه لا يوجد سوى محطات الوقود على الطريق حتى المزرعة. ولا يمكنها أن تأتيهما بعلبة شوكولاتة أخرى والتي لن يأكلاها أبدًا. عندما وصلت إلى ملتقى الطرق الدائري المؤدي إلى الطريق السريع «إيه وان»، استطاعت أن تزيد السرعة لتتجاوز الخمسين للمرة الأولى. بدأت تسترخي؛ مما سمح لذهنها بالانجراف مع الموسيقى.

وإذا بها تتفاجأ دون مقدمات. وعلى الرغم من أنها داست على المكابح فورًا؛ فقد كان الأوان قد فات بالفعل. صدَرَ صوت ضربة خافتة من مصد السيارة الأمامي، واضطربت السيارة اضطرابًا طفيفًا.

كان مخلوق صغير أسود انطلق معترضًا طريقها، وعلى الرغم من ردود فعلها السريعة، فلم تستطع تفاديه. انحرفَتْ ديانا إلى حارة الطوارئ وتوقَّفَت على الفور، وهي تتساءل إذا كان ثمة احتمال أن يكون الحيوان قد نجا. أخذَتْ تعود ببطء إلى المكان الذي كانت تعتقد أنها قد صدمته فيه بينما كانت السيارات تمرُّ بجوارها بضجيجها.

وعندئذٍ رأته، مستلقيًا على حافة الطريق العشبية، كان قطًّا ظلَّ يعبر الطريق عشرات المرات. خرجت من السيارة، وتوجهت نحو الجسد الهامد. انتاب ديانا شعورٌ بالغثيان فجأة. كانت هي نفسها لديها قطتان، وكانت تعلم أنها لن تتمكَّن أبدًا من إخبار طفليها بما فعلته. رفعت الحيوان الميت ووضعته برفقٍ في الخندق الممتد على جانب الطريق.

قالت وهي تشعر ببعض السخافة: «أنا آسفة جدًّا.» ثم ألقت نظرة أخيرة عليه قبل أن تعود إلى سيارتها. المثير للسخرية أنها كانت قد اختارت السيارة الأودي لما تتميز به من خواص أمان.

عادت إلى السيارة وأدارتها لتجد جلوريا جاينور لا يزال صوتها يجلجل مدوِّيًا برأيها في الرجال. أوقفت تشغيل الشريط، وحاولت أن توقف التفكير في القط في أثناء انتظارها انقطاع تيار السيارات بما يكفي للسماح لها بالعودة بتأنٍّ إلى حارة السير البطيء. نجحت في النهاية، ولكنها ظلَّت غير قادرة على محو صورة القط الميت من ذهنها.

كانت ديانا قد زادت سرعتها إلى ٥٠ مرَّةً أخرى عندما لاحظت فجأةً سطوع ضوء المصباحين الأماميين لسيارة خلفها على الزجاج الخلفي لسيارتها. رفعت ذراعها ولوَّحت في مرآة الرؤية الخلفية، لكن ظلَّ الضوء يبهر عينيها. أبطأت سرعتها للسماح للمركبة بالمرور، لكن لم يُبدِ السائق أي اهتمام بفعل ذلك. بدأت ديانا تتساءل إذا كانت هناك مشكلة ما في سيارتها. هل تعطل أحد مصابيحها؟ هل ينبعث دخان بكثافة من العادم؟ هل كان …؟

قررت أن تزيد السرعة، وتترك مسافة بينها وبين المركبة خلفها، لكنها ظلَّت على بُعد ياردات قليلة من مصد سيارتها. حاولت أن تُلقي نظرة على السائق في مرآة الرؤية الخلفية، لكن الرؤية كانت صعبة مع سطوع الأضواء. وعندما اعتادت عيناها الوهجَ أكثر، استطاعت أن تتبيَّن ظِل شاحنة سوداء كبيرة تتقدَّم نحوها، وما بدا أنه رجل شاب خلف عجلة القيادة. وبدا أنه كان يلوِّح لها.

أبطأت ديانا سرعتها مرة أخرى عندما اقتربت من ملتقى الطرق الدائري التالي، مما أعطاه الفرصة كاملة لتجاوزها على الحارة الخارجية، لكنه مرة أخرى لم يستغل الفرصة، وظلَّ ملاصقًا لسيارتها، دون أن يخفِّف من إضاءة مصباحَيه الأماميَّين. انتظرت أن يتوقف تيار السيارات عن يمينها قليلًا. وحين حدث ذلك، داست بقدمها على دواسة الوقود، وانطلقت على ملتقى الطرق الدائري وواصلت سرعتها على الطريق «إيه وان».

أخيرًا تخلَّصَت منه. كانت قد بدأت للتوِّ تطمئن وتفكر في صوفي، التي كانت دائمًا ما تظل مستيقظة حتى تتمكَّن من القراءة لها، عندما باغتها هذان المصباحان الأماميان الساطعان من خلال الزجاج الخلفي لسيارتها وبهر ضوءهما عينيها مرَّة أخرى. بل وكان علاوةً على ذلك أقرب إليها من ذي قبل.

أبطأت السرعة، فأبطأ السرعة. ثم زادتها، فزادها. حاولت التفكير فيما يسعها أن تفعله بعد ذلك، وبدأت تلوِّح بشكلٍ هستيري للسائقين وهم يمرُّون سريعًا، لكنهم ظلُّوا غافلين عن مأزقها. حاولت التفكير في طرقٍ أخرى لعلها تلفت انتباه أحد؛ وإذ بها تتذكر أنه عندما انضمت إلى مجلس إدارة الشركة، اقترحوا أن تركِّب هاتفًا بالسيارة. لكن كانت ديانا قد قررت الانتظار حتى الصيانة التالية للسيارة، التي كان يجب إجراؤها قبل أسبوعين.

مرَّرت بيدها على جبينها ومسحت قطرات العرق القليلة التي تناثرت عليه، وفكرت لحظة، ثم اتجهت بسيارتها إلى الحارة السريعة. فانحرفت الشاحنة وراءها، وظلَّت على مقربة شديدة من مصد سيارتها الخلفي حتى صارت تخشى أنها إذا لمست المكابح مجرد لمسة، فقد تسبِّب حادثَ تصادم كبيرًا دون قصد.

زادت ديانا سرعتها إلى ٩٠، لكن الشاحنة لم تتراجع. ضغطت بقدمها أكثر على دواسة الوقود ووصلت السرعة إلى ١٠٠، لكنه ظلَّ قريبًا منها رغم ذلك.

شغَّلت ديانا المصباحين الأماميين على الإضاءة العالية، وأدارت مصابيح التحذير، وظلَّت تُطلق بوق السيارة لأي شخص يُقدِم على البقاء في طريقها. كلُّ ما كانت تأمله هو أن تراها الشرطة، وتشير إليها بالتوجه إلى حارة الطوارئ وتوجِّه إليها تهمة تجاوز السرعة المسموح بها. فقد رأت وهي تتجاوز بسيارتها الأودي الكبيرة ١١٠ أميال في الساعة لأول مرة منذ اشترتها أنه من الأفضل حقًّا أن تُوقِع عليها غرامة على أن تصطدم بشاب متهور. بيد أن الشاحنة السوداء لم تتراجع.

وعلى حين غفلة، انحرفت مرَّة أخرى إلى الحارة الوسطى ورفعت قدمها عن دواسة الوقود، فصارت الشاحنة موازية لها، مما أعطاها فرصة للنظر إلى السائق لأول مرة. كان يرتدي سترة جلد سوداء ويشير إليها متوعدًا. فلوَّحَت له بقبضتها وأسرعت مبتعدة عنه، لكنه انحرف ببساطة في إثرها مثل عدَّاء أوليمبي، عازمًا على عدم السماح لمنافسه بالابتعاد.

ثم تذكَّرَت شيئًا، وانتابها شعور بالغثيان للمرة الثانية في تلك الليلة. وصرخت مرتاعة: «يا إلهي.» اجتاحتها ذكرى الجريمة التي وقعت على الطريق نفسه قبل بضعة أشهر بتفاصيلها. فقد تعرَّضَت امرأة للاغتصاب قبل ذبحها بسكين ذات حافة مُسنَّنة وإلقائها في خندق. وعلى مدار أسابيع استمرَّ تعليق لافتات على الطريق «إيه وان» تُناشد السائقين العابرين الاتصال برقمٍ معين إذا كان لديهم أي معلومات قد تساعد الشرطة في تحقيقاتها. الآن اختفت اللافتات، لكن الشرطة ما زالت تبحث عن القاتل. بدأت ديانا ترتجف عندما تذكَّرَت تحذيرهم لجميع قائدات السيارات: «حذارِ من الوقوف على الطريق السريع.»

بعد بضع ثوانٍ رأت علامة طريق تعرفها جيدًا. لقد وصلت إليها أسرع مما كانت تتوقع. بعد ثلاثة أميال سيكون عليها مغادرة الطريق السريع إلى الطريق الجانبي المؤدي إلى المزرعة. دعَت أن يبقى الرجل ذو السترة السوداء على الطريق «إيه وان» إذا سلكت هي المنعطف كعادتها، لتتخلَّص منه أخيرًا.

ارتأت ديانا أن الوقت قد حان لتجعله يزيد من سرعته. فعادت إلى الحارة السريعة، وضغطت بقدمها مرَّة أخرى دواسة الوقود. للمرة الثانية وصلت إلى ١٠٠ ميل في الساعة وهي تنطلق مرورًا بالعلامة التي تشير إلى أن المسافة المتبقية إلى الطريق الجانبي ميلان. صار جسدها الآن مغطًّى بالعرَق، وأشار عدَّاد السرعة إلى بلوغها ١١٠ أميال. نظرت في مرآة الرؤية الخلفية، لكنه كان لا يزال خلفها مباشرةً. سينبغي لها توخِّي اللحظة المناسبة إنْ أرادت تنفيذ خطتها بنجاح. حين صار ميلًا واحدًا هو المتبقي، بدأت تنظر إلى يسارها، حتى تتأكد من أن توقيتها سيكون مثاليًّا. لم تعُد في حاجة إلى التحقُّق في المرآة لتعرف أنه سيكون هناك دائمًا.

رأت علامة الطريق التالية عليها ثلاثة خطوط بيضاء مائلة، تحذِّرها أنها يجب أن تكون في الحارة الداخلية إذا كانت تنوي مغادرة الطريق السريع في التقاطع التالي. ظلَّت في الحارة الخارجية على سرعة ١٠٠ ميل في الساعة حتى رأت فجوة كبيرة بما فيه الكفاية لتنفُذ منها. ظهر خطَّان أبيضان على جانب الطريق: عرفَتْ ديانا أن لديها فرصة واحدة فقط للهروب. عندما مرَّت بالعلامة التي عليها خط أبيض واحد، انحرفت فجأة عبر الطريق بسرعة ٩٠ ميلًا في الساعة، مما جعل السيارات في الحارتين الوسطى والداخلية تتوقف وتضج بعبارات الغضب. لكن ديانا لم تأبَه لآرائهم عنها، لأنها باتت الآن على الطريق الجانبي آمِنة، فيما انطلقت الشاحنة السوداء مسرعة على الطريق «إيه وان».

علا صوتها بالضحك شاعرة بالارتياح. إلى يمينها، كانت تستطيع رؤية تدفُّق السير المستمر على الطريق السريع. لكن تحوَّلت ضحكتها إلى صرخة عندما رأت الشاحنة السوداء تعبر الطريق السريع فجأةً أمام سيارة نقل، وتصعد حافة الطريق العشبية، وتندفع إلى الطريق الجانبي، في انحرافٍ حاد. كادت تخرج عن الطريق وتسقط في خندق، لكنها استطاعت بطريقة ما أن توازن نفسها، وانتهت بها الحال على بُعد بضع ياردات خلفها، وعادت أضواؤها مرَّة أخرى لتسطع على زجاجها الخلفي.

وعندما وصلت إلى نهاية الطريق الجانبي، انعطفت ديانا إلى اليسار في اتجاه المزرعة، وهي تحاول مذعورة أن تتبيَّن ما عليها فعله بعد ذلك. كانت أقرب بلدة على بُعد نحو ١٢ ميلًا على الطريق الرئيسي، وكانت المزرعة على بُعد ٧ أميال فقط، لكن ٥ منها كانت على طريقٍ ريفي متعرِّج غير مُضاء. نظرَت إلى عدَّاد الوقود. أشار المؤشر إلى اقتراب الوقود من النفاد، لكن كان في الخزان ما يكفي قطعًا لتنظر في أيٍّ من الخيارين. كان أمامها أقل من ميل قبل أن تصل إلى المنعطف؛ لذا كانت لديها دقيقة فقط حتى تحسم قرارها.

حين صارت على بُعد ١٠٠ ياردة، قرَّرَت الذهاب إلى المزرعة. وعلى الرغم من الطريق غير المُضاء، فقد كانت على علم تام به، وكانت واثقة بأن الشخص الذي يلاحقها لا يعرفه. وبمجرد وصولها إلى المزرعة، سيمكنها أن تخرج من السيارة وستدخل المنزل قبل أن يتمكَّن من اللحاق بها. ومن المؤكد أنه سيهرب بمجرد أن يرى المزرعة، على أي حال.

انتهت الدقيقة. لمست ديانا دواسة المكابح، وانحرفت إلى طريق ريفي مُظلِم إلا من ضوء القمر.

خبطت ديانا عجلة القيادة براحة يدَيها. وتساءلت: هل اتخذت القرار الخاطئ؟ ألقت نظرة على مرآة الرؤية الخلفية. هل توقف عن مطاردتها؟ بالطبع لم يتوقف. ظهر أمامها الجزء الخلفي من سيارة لاند روفر. أبطأت ديانا، في انتظار منعطف تعرفه جيدًا، حيث يتسع الطريق قليلًا. حبست أنفاسها، ونقلت إلى السرعة الثالثة، وتجاوزت اللاند روفر. وتساءلت: هل الاصطدام بالمواجهة أفضل من الذبح؟ دارت مع المنعطف، ورأت طريقًا خاليًا أمامها. زادت ديانا من سرعتها مرَّة أخرى، فتمكَّنَت هذه المرة من الابتعاد ٧٠، بل ربما حتى ١٠٠، ياردة، عن مُطارِدها، لكنها لم تكُن سوى مهلة استمرَّت لحظات قليلة. وما لبث المصباحان الأماميان نفسهما أن اقتربا منها مرَّة أخرى.

مع كل منعطف، كانت ديانا تتمكَّن من اكتساب بعض الوقت؛ إذ ظلَّت الشاحنة تختل وتنحرف من جانب إلى جانب، غير معتادة الطريق، لكنها لم تتمكن قَطُّ من الابتعاد عنها أكثر من بضع ثوانٍ. نظرَتْ إلى عدَّاد المسافات. كانت المسافة من بداية الطريق الجانبي حتى المزرعة خمسة أميال تقريبًا، ولا بد أنها قد قطعت نحو ميلين الآن. أخذت تراقب عدَّاد المسافات كلما سجل عُشر ميل، مرعوبة من احتمال أن تتجاوزها الشاحنة وتجبرها على الانحراف إلى الخندق القائم على الطريق. ظلَّت ملازمة لوسط الطريق لا تحيد عنه.

مرَّ ميل آخَر، وهو لا يزال ملاصقًا لها. ثم إذا بها ترى سيارة آتية نحوها. زادت من ضوء مصباحيها الأماميين وضغطت البوق. ردَّت السيارة الأخرى بنفس أفعالها، مما أجبرها على تهدئة السرعة والاحتكاك بالأشجار في أثناء مرورهما بعضهما بجوار بعض. نظرت إلى عدَّاد المسافات مرة أخرى. تبقَّى ميلان فقط.

ظلَّت ديانا تبطئ ثم تسرع في كل منعطف مألوف في الطريق، لتضمن بذلك ألا تُتاح للشاحنة المساحة الكافية قَطُّ للسير بمحاذاتها. حاولت التركيز على ما يجب أن تفعله لحظة أن تصير المزرعة في مرمى البصر. قدَّرَت طول الممر المؤدي إلى المنزل بنصف ميل تقريبًا. كان مليئًا بالحفر والمطبات وكان دانيال كثيرًا ما يشير إلى أنه لا يستطيع تحمُّل تكلفة إصلاحه. ولكن على الأقل كان عرضه يتسع لسيارة واحدة فقط.

كان المعتاد أن تُترك البوابة المؤدية إلى ممر المنزل مفتوحة لها، وإن كان دانيال قد نسي ذلك بضع مرات نادرة استثنائية، وكان عليها أن تخرج من السيارة وتفتحها بنفسها. فكَّرَت أنه لا يمكنها الإقدام على تلك المجازفة الليلة. إذا كانت البوابة مغلقة، ستضطر إلى التحرك إلى البلدة التالية والتوقف خارج مطعم كريمزون كيبر، الذي كان دائمًا ما يزدحم في هذا الوقت من ليلة الجمعة، أو أمام مركز الشرطة المحلي، إذا استطاعت الاهتداء إليه. نظرَتْ إلى عدَّاد الوقود مرَّة أخرى. فرأت المؤشر يلامس اللون الأحمر. قالت: «أوه يا إلهي»؛ إذ أدركت أن الوقود ربما لا يكفي للوصول إلى البلدة.

لم يسَعها إلا الدعاء أن يكون دانيال قد تذكَّر وترك البوابة مفتوحة.

خرجت من المنعطف التالي وزادت السرعة، لكنها مرَّة أخرى لم تبتعد عنه إلا بضع ياردات، وكانت تعلم أنه خلال ثوانٍ سيعود لملاحقتها. وقد فعل ذلك. وقد ظلَّا خلال بضع مئات الياردات التالية على بُعد أقدامٍ بعضهما من بعض، حتى إنها باتت على يقين أنه لا بد سيصطدم بالجزء الخلفي من سيارتها. لم تجرؤ مرة واحدة على لمس المكابح؛ فإنهما إذا تصادما في ذلك الطريق، بعيدًا عن أي مساعدة، لن يكون لديها أي أمل في الهروب منه.

تحقَّقَت من عدَّاد المسافات. فوجدت أن أمامها ميلًا واحدًا.

قالت متضرعة: «ستكون البوابة مفتوحة حتمًا. لا بد أن تكون مفتوحة.» وعندما دارت مع المنعطف التالي، لاح لها بيت المزرعة عن بُعد. كادت تصيح من الارتياح عندما رأت أن الأضواء مضاءة في غرف الدور السفلي.

صاحت: «الحمد لله!»، ثم تذكَّرَت البوابة مرَّة أخرى، وغيَّرَت دعاءها إلى «فلتكُن مفتوحة يا ربي الكريم.» كانت تعرف ما يجب القيام به بمجرد أن تدور مع المنعطف الأخير. أخذت تدعو: «لتكُن مفتوحة، هذه المرة فقط. لن أطلب بعد ذلك أي شيء، أبدًا.» دارت مع المنعطف الأخير وخلفها مباشرة الشاحنة السوداء. «رباه، رباه، رباه.» ثم رأت البوابة.

كانت مفتوحة.

كانت ملابسها عندئذٍ تقطر عرقًا. أبطأت السرعة، وحوَّلَت ناقل السرعات إلى السرعة الثانية، ودخلت بالسيارة من الفتحة نحو الممر ذي المطبات، حيث احتكت بجانب البوابة عن يمينها وهي منطلقة نحو المنزل. لم تتوانَ الشاحنة عن اللحاق بها، وكانت لا تزال على بُعد بوصات فقط خلفها عندما اعتدلت في مسارها. ظلَّت ديانا تضغط بيدها على البوق والسيارة ترتد وتهتز فوق المطبات والحفر.

طارت أسراب من الغربان المذعورة من على الأغصان المتدلية، وهي تصيح محلِّقة في الهواء. بدأت ديانا تصرخ: «دانيال! دانيال!» وعلى بُعد ٢٠٠ ياردة منها، أُضيءَ ضوء الشرفة.

كان ضوء المصباحين الأماميين لسيارتها منعكسًا على واجهة المنزل، ويدها لا تزال ضاغطة على البوق. وعندما تبقَّت ١٠٠ ياردة على المنزل، رأت دانيال يخرج من الباب الأمامي، لكنها لم تخفِّف من السرعة، ولا الشاحنة خلفها. وعندما تبقَّت ٥٠ ياردة بدأت تومض بمصباحَي سيارتها الأماميين على دانيال. هنا بات في إمكانها أن ترى تعبير الحيرة والجزع على وجهه.

وعندما تبقَّت ٣٠ ياردة، ضغطت ديانا المكابح. فانزلقت السيارة الثقيلة عابرة المدخل المغطَّى بالحصى أمام المنزل، وتوقفت عند حوض الزهور تحت نافذة المطبخ بالضبط. سمعت صرير مكابح خلفها. لم يتمكَّن الرجل ذو السترة الجلدية من التصرُّف بسرعة كافية لعدم اعتياده طبيعة الأرض، وبمجرد أن لامست عجلاته الفناء المغطَّى بالحصى بدأ ينزلق فاقدًا السيطرة. وما لبثت الشاحنة أن اصطدمت بالجزء الخلفي من سيارتها، فدفعت بها إلى جدار المنزل وحطمت زجاج نافذة المطبخ.

قفزت ديانا من السيارة، وهي تصرخ: «دانيال! أحضِر سلاحًا، أحضِر سلاحًا!» وأشارت إلى الشاحنة خلفها. وأضافت: «ذلك الوغد يطاردني منذ مسافة ٢٠ ميلًا!»

خرج الرجل من الشاحنة، وبدأ يسير نحوهما بشكلٍ غير منتظم. ركضت ديانا إلى المنزل. تبعها دانيال وأمسك ببندقية صيد، يحتفظ بها عادةً لصيد الأرانب، كانت مستندة إلى الجدار. عاد للخارج لمواجهة الزائر غير المرغوب فيه، الذي توقف عند الجزء الخلفي من سيارة ديانا.

صوَّب دانيال البندقية في اتجاهه ناظرًا مباشرة إليه. وقال بهدوء: «لا تتحرك وإلا أطلقتُ عليك النار.» ثم تذكَّر أن البندقية لم يكُن بها رصاص. خرجت ديانا من المنزل سريعًا، لكنها ظلَّت على بُعد عدة ياردات خلفه.

صرخ الشاب ذو السترة الجلدية، حينما ظهرت ريتشيل في مدخل الباب: «ليس أنا! ليس أنا!»

تساءلت بانفعال: «ماذا هناك؟»

لم يزِد دانيال على أن قال: «اتصلي بالشرطة»، وسرعان ما اختفت زوجته مرَّة أخرى داخل المنزل.

تقدَّم دانيال نحو الشاب الذي بدا مرعوبًا، والبندقية موجهة نحو صدره مباشرةً.

صاح مرة أخرى، مشيرًا إلى السيارة الأودي: «ليس أنا! ليس أنا! إنه في السيارة!» الْتَفتَ سريعًا لمواجهة ديانا. وأردف قائلًا: «رأيته يدخل عندما توقَّفتِ في حارة الطوارئ. ماذا يسعني أن أفعل غير ذلك؟ فإنك أبيتِ أن تتوقفي.»

تقدَّم دانيال بحذرٍ نحو الباب الخلفي للسيارة، وأمر الشاب بفتحه ببطء، وهو لا يزال موجهًا البندقية نحو صدره.

فتح الشاب الباب، وتراجع خطوة إلى الخلف على الفور. نظر الثلاثة فوجدوا رجلًا قابعًا على أرضية السيارة. وقد أمسك في يده اليمنى بسكين طويلة الشفرة بحافة مسنَّنة. أخفض دانيال البندقية مصوبًا نحوه، لكن دون أن يقول شيئًا.

وعندئذٍ جاءهم صوت صافرة سيارة الشرطة من على بُعد، والذي كان بالكاد مسموعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥