قمر من دم: تماهي الفضاء المتخيَّل في الفضاء الحقيقي
ماذا بوسع المبدع أن يكتب عن مأساةٍ بحجم مأساة ملجأ العامرية؟ هل تستطيع قصيدة واحدة أو قصيدتان، أو ثلاث أن تترك في وجداننا وأذهاننا أثرًا يرتقي إلى مستوى الأثر الذي تركته هذه المأساة/الجريمة البشعة في وجدان هذا العصر الملعون وضميره؟
وهل يستطيع خطابٌ مسرحيٌّ واحد محدود في فِعله الدرامي، وتقنياته السينوغرافية أن يصعقنا مثلما صعقنا الفعل الوحشي الذي ارتكبته أميركا يوم قصفت هذا الملجأ الآمن؟
أشهد أنها مهمة صعبة؛ ذلك لأننا — معشر النقَّاد — نطالب المبدع، دائمًا، أن يقدِّم لنا إبداعًا أكثرَ تأثيرًا وجمالًا وعمقًا من الأساس المرجعي، أو المصدر الواقعي الذي يستقي منه تجربته الإبداعية، فكيف به وهو يجد نفسه محاطًا بكلِّ ما يحمله هذا الأساس من هول وجداني، وهيمنة مكانية، ورهبة، وقدسية، وخشوع؟
من هنا أجد لزامًا عليَّ، وأنا أحاول أن أقدِّم قراءةً في عرض/احتفالية «قمر من دم»، للفرقة القومية العراقية للتمثيل (١٩٩٢م)، أن أضع أمامي هذه الاعتبارات كلها، وأتعامل مع التجربة لا بوصفها خطابًا مسرحيًّا، بدَلالته المعروفة، بل بوصفها تجربة فريدة، أو طقسًا خاصًّا ليس له مثيل، وربما لن يتكَّرر، إذا ما راعينا المناسبة التي قُدِّمت فيها التجربة، ومكانها، والجمهور الذي شاهدها وتفاعل معها.
إنَّ أول ما يثير الانتباه في هذا العرض هو فضاؤه المشهدي، حيث يَفرض سلطته على سائر العناصر الأخرى. وأكاد أقول إنه البطل الحقيقي الذي يهيمن على كل شيء في العرض، فها هنا تنمحي ثنائية الحضور/الغياب، الفضاء المتخيَّل/الفضاء الحقيقي. اﻟ «هنا»/اﻟ «هناك» — على حدِّ تعبير الاحتفاليين المغاربة — ويتصدَّع التقسيم التقليدي للفضاءات: الفضاء الآمن/الفضاء المُعادي، كما نلمس ذلك في الحياة والفن، فيصبح الفضاء الآمن (وهو ملجأ العامرية) فضاءً معاديًا بفعل الجريمة، يحوِّله القَتلة من مكانٍ يحتمي به الأبرياء، وعشَّاق الحياة من الموت إلى جحيم تنصهر فيه أجسادهم اللينة الطرية، وتختلط بنثار الأسمنت والحديد المصهور.
أما بالنسبة لنا — نحن الذين شاهدنا العرض، وشاركنا في إحياء طقسه — فقد أصبح الفضاء، في حركة جدلية، ذا أبعاد ثلاثة: «فضاء آمن، فضاء مُعادٍ، فضاء آمن»؛ لأننا حينما وصلنا إلى الملجأ، ورأيناه من الخارج كنَّا على يقينٍ بأننا أمام مكان يمتلك مقوِّمات الأمان كلها. ولكننا ما إن دلفنا إلى داخله حتى تبدَّد إحساسنا الأول، وبدأنا نشعر بخطورته، وقسوته، وآثار الدمار الذي لحِق به، ثم اكتشفنا — بعد حين — أنه مكان مقدَّس نشعر تجاهه بالخشوع والاطمئنان، والأمان المطلق لأنه تطهَّر بدماء زكية؛ إذ سُفحت على جنباته دماء أكثر من ٤٠٠ ضحية من أبناء شعبنا العراقي المظلوم.
ولأن العرض قُدِّم في نفس المكان الذي حدثت فيه المأساة، فلم يكن المُخرج فاضل خليل بحاجةٍ إلى تأثيثه؛ فثمَّة قضبان معدنية معوجَّة، وأعمدة وجدران ملطَّخة بالسواد، وأنابيب مهشَّمة … وغير ذلك مما خلَّفه الدمار. أمَّا اللوحان الخشبيان اللذان رُسمت عليهما عيونٌ جاحظة في مؤخرة فضاء العرض فلم يكن لهما أثرٌ إيجابي في تعميق التجربة/الاحتفالية، بالرغم من أنَّ تلك العيون كانت علامات اصطناعية رمزية، بالمفهوم السيميائي، توحي بأنها شهود عِيان على الجريمة، وبخاصة أنها تحدق إلى الفتحة التي أحدثها الصاروخ في سقف الملجأ.
يبتدئ نصُّ الاحتفالية بقصيدة «قمر من دم» للشاعر يوسف الصائغ، ويبدو من عنوانها، الذي استعاره المخرج عنوانًا للعرض، أنها تقوم على ثنائية القمر ونقيضه الدم، القمر بموحياته، كعلامة، يفضي إلى استعارات (مدلولات) عديدة: النقاء، الجمال، البراءة، الطفولة، الحلم، النور، الشاعرية، الرقة … إلخ، والدم كعلامة تدلُّ على الموت، الجريمة، الدمار … إلخ، وبذلك تكشف هذه القصيدة أو عنوانها عن كلِّ ما يطرحه العرض من مفردات، أو موتيفات تنسج خيوط الخطاب المسرحي — كمغزل خفي — تتوارى في أغواره رسالة التجربة، فتصبح القصائد الأخرى تفصيلًا لتلك القصيدة، تضيء ما اختزنته من دلالات الجريمة/المأساة ونتائجها. فالقمر الذي خضَّبه الدم هو الصبيَّة المبتورة الساق التي كتب الحوار المؤثِّر بينها وبين أمها الشاعرُ خزعل الماجدي، وكان ذلك الحوار هو الملمح الدرامي الوحيد في النص، بالمعنى التقليدي للدراما، وأبان فيه الشاعر عن إمكانيةٍ واضحة في صياغة الحوار المسرحي الذي يعمِّق الحدث، ويأسر المتلقي بشاعريته الأخَّاذة، ونفاذه إلى الوجدان:
وإذا كانت الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر فاروق سلوم ترتبط بالبنية الدلالية للنص؛ كونها تتحدَّث عن الحصار «لأنك طفل يا ولدي أهدَوك حصارًا»، فإنَّ القصيدة التي يختتم بها العرض، وهي للشاعر عبد الوهاب البياتي، لم تُكتب عن مأساة العامرية، بل هي أبيات مأخوذة من قصيدة قديمة للشاعر يمجِّد فيها العراق وصموده بوجه الغزاة. وما كان سيؤثِّر على سياق النص لو أن المُخرج اختار أية قصيدة أخرى لغير البياتي، تحمل الدلالة ذاتها.
لقد تعمَّد المُخرج في مقاربته الإخراجية للنص، أن يقدِّم خطابًا يغلب عليه الطابع السمعي بتركيزه على إلقاء سامي عبد الحميد، وموسيقى نصير شمَّة، وغناء فريدة المؤثِّر، وأداء ابتسام فريد، وأمل حسين، ذي النبرة البكائية الحادة. ولعلَّ تركيز المُخرج على الجانب السمعي، وإهماله إلى حدٍّ ما الجانبَ الحركي والصوري يُعزى إلى قناعته بأنَّ أية صورة أو تكوين مسرحي، ولا سيما إذا كانت ذات بهرج وإبهار في هذا الفضاء بالذات، باستثناء حركات الشاعر وإيماءاته، ومشهد الأم وابنتها لن يحقِّق التأثير المطلوب، ولن يعوِّض عن الصورة البشعة للجريمة/المأساة. وكانت مهارة نصير شمَّة وتقنيته العالية في العزف أبرزَ عنصر فني في تحقيق رؤية المُخرج، أو نزوعه إلى إبراز الخطاب السمعي للاحتفالية/العرض. فقد صوَّر لنا بأنامله وأوتاره حالةَ ما قبل المأساة: أنغام عذبة وهادئة ورقيقة، ثم صوت صافرة الإنذار، ثم هدير الطائرات، ثم القصف الوحشي، ثم الكارثة وإخراج الجثث من بين الأنقاض ثم التشييع …
ويقف إلى جانب الموسيقى سِحر إلقاء سامي عبد الحميد، بتموُّجاته وتقنياته المعروفة: التلوين في النبر، والتنغيم، والتركيز، والإيقاع، وهذه هي خاصيته التي عُرف بها، والتي أهَّلته أن يكون واحدًا من أبرز أساتذة الإلقاء في المسرح العربي.
لقد اتَّسم العرض بطابع طقسي، ولم أكن أتمنى أن تغلِّف طقسها نبرةٌ بكائية حادة وموجعة؛ لأننا لم نَعدْ بحاجة إلى المزيد من البكاء، ولنا تاريخ طويل منه منذ أطلال الشعر الجاهلي حتى الآن، فضلًا عن تناقض هذه النبرة مع عنوان العرض الذي هو «احتفالية»، كما أطلق عليه المُخرج.