المشهد الأول: رماد على ماء بغداد
(الهدوء يسود المكان، والعود يعزف
برومانسية وجمال، فجأة يظهر البرق ويصيب القمر فيهتز
ويكون على وشْك السقوط، ويندلع انفجار كبير … وتتصاعد
النيران، وتظهر أصوات الطائرات المغيرة وأصوات الصواريخ
والانفجارات، ويرافق ذلك مؤثرات ضوئية، ويتصاعد صوت
العود محتدمًا مع هول الأحداث … ويكون هناك توافقٌ بين
أصوات الانفجارات والطائرات وصوت العود.
يسقط القمرُ على أرض الملجأ
ويتحطَّم وتنتشر شظاياه «مثل قِطع الجمر» على كل
المكان. وهناك شجرةٌ تتوسَّط المكان وتحتها سلَّة هدايا
للأطفال (أقلام، كراسات، قفص، أحذية، حبل لعبة التوكي،
خلاخل، أساور) ينكشف المكانُ بوضوح، وهو «ملجأ
العامرية»؛ حيث المكان المحطَّم والأسلاك النازلة من
الأعلى، وهناك ديكور مكوَّن من عين كبيرة تحيطها عيون
تلمع بالدموع والدم والجمر. وعلى الأرض شموعٌ مضاءة.
وتظهر ببطء مجاميع الممثلين التي تعبِّر عن أشباح
لشهداء الملجأ.)
المرأة
:
قمرٌ من دمٍ … قد التصقت كِسر الخبز
فيه
دمٌ وتراب
دهرٌّ على كتفيه غراب
ولقد نظرتُ بمقلتَي ذئبٍ إلى وطني
…
وأحسستُ العواء يبلِّله
اللُّعاب
(يتصاعد عزف العود عاليًا ثم
يهدأ.)
ورأيتني أتشمَّم الجثث الحرام
أفتِّش الموتى عن امرأتي
لكن!
صاح غراب البين
فانشق المشهد قسمين
مشهدٌ عن يمين ضريح الحسين
وآخر … في ملجأ العامرية.
المغنية
:
لأنك طفلٌ يا ولدي
أهدَوْكَ حصارًا
لا تعرف حتمًا يا ولدي معنى
الأسرار
اصرخ بالدنيا يا ولدي
كيف سأحيا من غير سلام
أو حبٍّ، من غير أمان؟
كيف سأحيا والحرب دمارٌ
وحصار؟
كيف سأحيا والحرب دمارٌ
وحصار؟
(يزداد عزف العود صعودًا
وتتحوَّل الشجرة من لونها لأخضر إلى الأحمر كما لو
أنها تنزفُ دمًا، وتظهر سلَّة من لعب وهدايا
الأطفال على غصنٍ جانبي منها، ويخرج بخار أحمر من
سلَّة الهدايا … تصبح العين التي تتوسَّط الديكور
حمراء، وتتحطَّم دائرة السواد منها ويخرج دخان
أسود.)
الرجل
:
رمادٌ على ماء بغداد
أم وردةٌ أم دفوف؟
رماد على دجلة
يرشفُ خدَّ الرصافة والكرخ
دمعًا … دمًا … ودخانًا
رمادٌ على الجسر
ينزف في النهر تأريخهُ وهواه
رمادٌ على نخلةٍ
ألف طائرةٍ فوقها
وهي من رطب تستحمُّ دمًا
ونحاسا
رمادٌ على شجرٍ كان يحملُ نورًا
وآسا
رمادٌ على نجمةٍ
سقطت وتشظَّت ببغداد
واحترقت حرقةً والْتباسا.
(يتصاعد صوت الناي جريحًا ويتصاعد
صوت أمواج النهر ثم ينخفض صوت الناي
تدريجيًّا.)
رمادٌ على النهر ما عاد يسبحُ لحنٌ
عليه
وما عاد مركبه زاهيًا
ما عاد فيه شراعٌ يغني
رماد أنا الحق: حلَّاجُ وردٍ
ومعنى
رماد … انزفي يا جروحي السماء
وصُبِّي دمًا فوق هذي الرفوف!
(يقوم أفراد مجاميع الشهداء
بلفِّ رءوس بعضهم بالضماد وأيدي بعضهم بالأشرطة
الحمراء وأجسادهم كذلك دلالةً على جروحهم، ثم
يتناول بعضهم ما تبقَّى من أجساد الشهداء من عظام
محترقة، ويبدون كأنهم يعزفون عليها وينفخون بها
ويبكون … هم يعزفون مرثية العراق منذ
الأزل.)
المرأة
:
هنا كلُّ شيءٍ سيرتِّقُ شيئًا
ويلتصق الجلد بالعظم خوفَ
يفرُّ
وخوفَ غياب السماوات.
كانت ببغداد سنبلةٌ
حَبُّها ذهبٌ
وسقاها المحبُّون فضةَ أقوالهم
وهواهم وروحَ الحرير
كادت تطيح
وكادت تصيح
وكادَ يباغتها وجعٌ فتنوحُ.
الرجل
:
هنا كلُّ شيءٍ يرتِّقُ شيئًا
وترتطمُ العين بالعين
تهتزُّ أرض العراق
مسلاتهُ … شمسهُ … غيمهُ … نخلهُ …
وأغانيه
كان الفرات يشيخُ
وتسقطُ من رأسه غيمةٌ باكية
وكانت ببغداد أطلال ليلٍ
وأطلال معنى وحيد
وقافلة من نجومٍ ممزقةٍ ومطحنةٌ
وحديد
كانت سيوفٌ تمشط.
(ضوء مركَّز على المرأة وهي تمشِّط
طفلتها.)
وكانت يدٌ تسكبُ الدم فوق
العراق.
(يملأ المكانَ بخارٌ
أحمر.)
المرأة
:
العامرة
هدهدت أطفالها في الليل
وابتهلت ونامت في السماء
قمرٌ يبلل شعرها
ويُخيط مَفْرِقها الضياء
حتى إذا ما مسَّها شبح الظلام
وزمجرت فيها الرعود
نزف الدم الفيَّاض من أعماقها
وهوى الهواء
العامرية … قُطِّعت وتدحرجت
وأزالت الأشباحُ ضحكتها
وزمجرت الدماء.
الرجل
:
وطني درعٌ فولاذي
يحمي غرَّة بغداد
كعبة حبٍّ يحرسها الله
كل غزاة التاريخ انهزموا
في بوابتها
صاروا في ذاكرة التاريخ رماد
يتبارى في قوس الشمس دفاعًا
عنها الأسلاف/الأحفاد.
(من قصيدة عبد الوهاب
البياتي)
المرأة
:
والليلة سوف يسيل القمر الميت
خيطُ دمٍ يعلق بالأغصان
والليلة تنبتُ في الملجأ أشجار
الزيتون
ويكتمل البستان
فأصرخ يا ولدي للدنيا
أما أنتم
فانتظروا منتصف الليل
فإن صار القمر المنذور
على سمت الخيل
اتجهوا للباب الشرقي
ودقُّوا فوق جدار القلب
حتى ينهض نصب الحرية ثانية.