منطق جديد
١
لبثت الفلسفة أمدًا طويلًا وهي تقترن في الأذهان بنوع من العبارات يختلف عما ألِف الناس في حياتهم العلمية وحياتهم اليومية على السواء؛ فلم يكن على الفيلسوف من حرَج أن «يتأمل» بخالص فكره هذا الكون الذي نعيش فيه، بُغية الوصول إلى «حقيقته»، غیر مُستنِد في ذلك إلى عين أو أذن، حتی إذا ما حدَس الحقيقة المنشودة حدسًا أخرجها للناس في طائفة من ألفاظ اللغة يسلكها في عبارات لغوية، كما يفعل سائر عباد الله حين ينطقون أو حين يكتبون ليصِفوا خبراتهم، إلا أن سائر عباد الله يردُّونك — إذا شئت — إلى المصادر الحسية التي استقَوا منها تلك الخبرة التي جاءوا يصفونها في عباراتهم، أما الفيلسوف فيأبى أن يكون ذلك شأنه؛ إنه يزعم لأقواله الصدق، فإذا ما أردتَ أن تتبيَّن موضع الصدق فيها وسألته أين عساك أن ترى أو تسمع أو تلمس هذه الحقائق التي يزعمها لك مؤكِّدًا صدقها، أجابك بأنه لا يستند إلى ما يستند إليه سائر الناس — ولا فرق هنا عند الفيلسوف بين عامة الناس وعلمائهم — لأنه ليس كهؤلاء يستمدُّ أحكامه من خبرة حواسه، بل هو «فيلسوف» من شأنه أن «يتأمل» بالفكر الخالص ما يريد أن يتَّخذه موضوعًا لتفكيره؛ ولذلك فهو يری ما يراه عن حقيقة الكون بعين بصيرته لا بعينَيه المفتوحتين في جبهته. وما دام أمره كذلك فلا يجوز لك أن تُطالبه بما تُطالب به غيره من الناس؛ لأن أداته إلى المعرفة ليست كأدواتهم. وبعبارةٍ مُوجَزة، ليست الفلسفة — عند فلاسفة التأمل — علمًا يقوم على مشاهدة وتجريب حتى تخضع لما يخضع له العلم من طرائق الإثبات.
كلا، ولا يريد الفيلسوف التأمُّلي لعباراته أن تخضع لتحليل يُفكِّك أوصالها ويُحلِّل خيوطها؛ لأنه في حقيقة أمره أقرب في تعبيره إلى لغة الشاعر منه إلى لغة العالِم؛ فالعالِم الطبيعي — مثلًا — يرى ما يراه أولًا، ثم يطلق على هذا الذي رآه اسمًا يتَّفق عليه مع زملائه العلماء؛ فهو يُشاهد في الطبيعة صفةً مُعيَّنة أو صفات، ثم يختار لها — اختصارًا — مصطلحًا يدلُّ عليها؛ ولذلك فهو على استعداد دائمًا أن تقف به عند أي مصطلح شئت لتسأله: علامَ أطلقتَ هذا المصطلح؟ فيُحدِّد لك على وجه الدقة ما تستطيع أن ترجع إليه من كائنات الطبيعة مما قد يكون مُسمًّى للمصطلح الذي تسأل عن معناه، أو هو يُعرِّف الكلمة تعريفًا من شأنه أن تستنتج منه النتائج التي إذا ما طابقتَ بينها وبين الواقع وجدتها صحيحة، أما الفيلسوف فشأنه غير هذا؛ لأنه يبدأ بلفظة مُعيَّنة لم تسبقها مشاهدة، ثم يتورَّط في هذه اللفظة، فيأخذ في الحديث عنها حديثًا يطول مداه أو يَقصر، وليس هو على استعداد زميله العالِم بأن يردَّك إلى أشياء الطبيعة المحسوسة لتلتمس بينها ما عساه أن يكون مُسمًّى لتلك اللفظة التي جعلها مدار حديثه، أو ما عساه أن يكون ناتجًا عن تعريفها؛ فالفيلسوف التأمُّلي — مثل الشاعر وعلى خلاف العالِم — يقول كلامًا مَرجعُ الصدق فيه إلى ما يدور في نفس المتكلم، لا ما يحدث على مسرح الطبيعة الخارجية من حوادث.
ها هنا نضع أصابعنا على فرقٍ هامٍّ بين أقوال الفلاسفة وأقوال العلماء؛ فبينما الفلاسفة — وأعني فلاسفة التأمل — ينصرفون إلى بواطن نفوسهم ليقولوا ما يقولونه، يتجه العلماء إلى خارج نفوسهم إلى حيث الطبيعة وظواهرها ليُقرِّروا عنها ما يُقرِّرون من قوانين، لكن إذا كان الأمر كذلك، فما بال أولئك الفلاسفة المُتأمِّلين في ذوات أنفسهم، يتوهَّمون أنهم إنما يصفون «الحقيقة» الكونية كما تقع فعلًا؟ إن كان الفلاسفة والعلماء كلاهما يصفون العالَم الواقع الحقيقي، فما الفرق بين وصف ووصف؟ وجوابنا عن هذا السؤال هو أن العلماء إذ يتحدثون عن ظواهر الطبيعة فإنما يتحدثون بلغة «القوانين العامة» التي هي نتيجة ما قد شهدوه أو أجرَوا عليه التجارِب، وأما الفلاسفة فهم — على خلاف ذلك — يصفون العالَم قياسًا على ما رأوه في أنفسهم؛ فلئن كان منهج العلماء استقراءً يتقصَّى الأمثلة الجزئية ليَخلص منها إلى قانون عام يصف ظاهرة بعينها، فمنهج الفلاسفة التأمليين «تمثيل» — باصطلاح المناطقة — أي تشبيه العالَم بالإنسان ثم الحكم على العالَم بما نحكم به على الإنسان.
فإذا قلتُ إن الحرارة تُمدِّد الأجسام، قلتُ بذلك علمًا؛ لأنني بمثابة من يقول إنه حيثما يتعرَّض جسم للحرارة فإنه يتمدَّد. هذا حكمٌ عام استخلصناه من ملاحظاتنا وتجارِبنا، ونحن على استعدادٍ أن نُثبِته لمن يريد ذلك بالرجوع إلى ملاحظات وتجارب، ولا دخل هنا لحالاتنا النفسية في الأمر، فلنكن في حالة من النشوة أو في حالة من الأسى، لنكن في حالة من طمأنينة النفس أو اضطرابها، فلا نزال في كلتا الحالتين نُلاحظ ونُقرِّر أن الحرارة تُمدِّد الأجسام.
وتعليل ظاهرة مُعيَّنة تعليلًا علميًّا معناه أن نطويَها تحت حكم عام مما نعلم، فلماذا تهبُّ الرياح على مصر من الشمال؟ تعليل ذلك هو انضواؤه تحت قانون الحرارة وتَمدُّد الأجسام؛ فالهواء على أرض مصر تزید حرارته، فيَتمدد، فيَخف، فيَعلو، فتسنح الفرصة لهواء أكثر برودة أن يهبَّ من جهة البحر ليحلَّ مكانه؛ بهذا يتمُّ التعليل في رأينا، ما دمنا قد نسبنا الظاهرة المراد تعليلها إلى قانونٍ أعمَّ منها.
لكن قارِن ذلك بفيلسوف يقول: «العقل عنصر لا نهائي يكمن وراء ظواهر الكون جميعًا، الطبيعي منها والروحي على السواء، وهو العنصر الذي تستمدُّ منه جميع الأشياء وجودها.» فأول ما تُلاحظه هنا هو أن اللغة المستخدَمة في هذه العبارة قد سيقت على نحو فيه كثير من الغرابة، وهي نفسها الغرابة التي قد يضيق بها من لم يتعوَّد الفلسفة ولغتها، وأما من تعوَّد هذه اللغة وألِفها فسيقرأ العبارة مُطمئنًّا لها راضيًا بها؛ فإن فَهِمها كان بفهمه سعيدًا، وإلا فالذنب ذنبه هو؛ لأنه لم يُدرِّب نفسه بعدُ على الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة الأغوار. وإذَن فلنترك هذا الذي قد أعماه الإلف فلم يَعُد يرى في الغريب غرابته، ولنتصوَّر عالِمًا من علماء الطبيعة — مثلًا — قد أراد نفسه على فهم هذه العبارة. إنه نشأ نشأةً تُحتِّم عليه أن يكون الكلام مُرتَّبًا على نحو يجعل لكلماته معنًى مما يرتدُّ إلى هذه الحاسة أو تلك، إنه بحكم نشأته العلمية لا يخشى الفكر المجرَّد؛ لأن قوانينه العلمية كلها تجرید، كلا ولا هو يخشى طول البراهين ودقتها؛ لأنه قد تعوَّد في مجاله العلمي أن يتتبَّع البرهان العلمي في شوطه الطويل ذات المراحل الكثيرة والتفصيلات الدقيقة، وهو حريصٌ أشد الحرص على ألا تُفلت منه دقيقة من دقائق الفكرة؛ لأنه يعلم أن شيئًا كهذا كفيلٌ أن يُفسِد البرهان من أوله إلى آخره. عالِمنا — إذَن — ليس أقل حرصًا على دقة الفهم ودقة الفكر من صاحبنا الفيلسوف قائل هذه العبارة المراد فهمها، وليس أقل قدرة منه على التعميم والتجريد، فماذا عسى أن يفهم العالِم الطبيعي من عبارة كهذه؟
تقول العبارة: «العقل عنصرٌ لا نهائي.» والعالِم الطبيعي يألف هذه الألفاظ كلها، لكنه لم يألف أن تُرتَّب هذا الترتيب. إنه يعلم أدقَّ العلم ماذا يكون «العنصر» حين يُقال له إن الماء مُركَّب من «عنصرَين». وهو على دراية تامة بمعنى كلمة «عقل» حين يُقال له — مثلًا — إن العالِم يستخرج نظرياته العلمية بعقله غير مُتأثِّر بعواطفه. وكذلك قل في لفظ «اللانهائي»؛ فما أكثر ما يستخدم الرياضيون هذه الكلمة وهم على علم دقيق بما يريدون لها من معنًى. لا صعوبة إذَن في الألفاظ مأخوذة فُرادی، لكن الصعوبة تبدأ حين تضمُّ هذه الألفاظ بعضها إلى بعض على هذا النحو العجيب، فكيف يكون «العقل» «عنصرًا» إذا كان «العقل» صفة تصِف جانبًا من السلوك الإنساني، و«العنصر» كلمة تُسمِّي المادة حين لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط تركیبًا؟ ثم يمضي الفيلسوف في عبارته السالفة، فيقول إن «العقل يكمن في شتَّى ظواهر الكون». فهل يمكن للعالم الطبيعي أن يفهم لهذا الكلام معنًى؟ إن أجسام الحيوان والنبات والجبال والأنهار كلها من ظواهر الكون، أفتكون هذه «الأجسام» «عقلًا»؟ العقل طريقة سلوك مُعيَّنة، بحيث أصِف به جانبًا من سلوك الإنسان دون جانب؛ فالذي يستدل النتيجة من مقدماتها يسلك سلوكًا «عاقلًا»، أما الذي يهضم الطعام أو يتثاءب مللًا فليس ذلك منه «عقلًا»، أفيكون هذا الجبل أو هذه الشجرة أو ما شئت من «أجسام» حية وجامدة «عقلًا»، ثم يكون لهذا الكلام معنًی مفهوم؟
كلا، إن فيلسوفنا لم يُقِم حكمه ذاك على مشاهدات أو تجارب، إن العالِم حين سأله هذا السؤال، فاته أن منهج الفيلسوف غير منهج العلم؛ ذلك أن منهج الفيلسوف في صميمه هو أن يخلع ما بنفسه على العالَم الخارجي؛ أليس يُحِسُّ الإنسان في نفسه قوة تدفعه إلى غايات معيَّنة فيسلك إلى هذه الغايات سُبلها الموصلة؟ إذَن فلينظر إلى الكون كله بمِنظار نفسه ليراه — كما يرى نفسه — مدفوعًا إلى غايات ومُلتمسًا إلى تلك الغايات سُبلها، وإذَن فهو كونٌ يَسوده عقل ويُسیِّره عقل كما يسود العقلُ الإنسان ويُسيِّره.
هكذا يصِف الفيلسوف التأملي العالَم بما يجده في نفسه هو، بل إنه حتى في هذا الوصف الذاتي يستخدم الألفاظ على نحوٍ لا يجعلها واضحة المعنى؛ ولذلك قلنا عنه إنه أقرب إلى الشاعر منه إلى العالِم، إلا أن الشاعر رجلٌ يعرف حدوده، وأما الفيلسوف فعلى كثير من ضلال؛ وذلك لأن الشاعر يخلع حالاته النفسية على الطبيعة الخارجية وهو على وعي بذلك، فإن قال — مثلًا — عن زهرة إنها ضاحكة، فهو على وعيٍ تامٍّ بأن الضحك والنشوة في نفسه هو، خلَعهما على الزهرة حین مزجها بنفسه، وأما صاحبنا الفيلسوف حين يخلع حالاته النفسية على العالَم الخارجي فإنه يتجاهل ذلك أو يجهله؛ فلو قلتَ للفيلسوف الذي رأى في نفسه عقلًا فخلع العقل على الكون كله، لو قلت له «هذا منك تشبيه»، رَكِب رأسه وأصرَّ على أنه إنما يقول عن العالَم حقًّا لا شبهة فيه، وأنه مُفكِّر موضوعي ينظر إلى الخارج بغضِّ النظر عن ذات نفسه، حتى وإن اتخذ من ذات نفسه وسيلةً لمعرفة ما يُجاوزها.
لو اعترف الفيلسوف التأملي بأنه من فصيلة الشعراء، يُحسُّ دخيلة نفسه ثم يُعبِّر، لقَبِلنا عباراته على هذا الأساس بصدرٍ رحب، ثم أحَلْناها على نقَدة الأدب ليقولوا رأيهم فيها؛ أهي من الأدب الجميل أم إنها خِلوٌ من الجمال الأدبي فتُلقى بين المهملات، لكنهم يأبَون على أنفسهم إلا أن يكونوا من أصحاب الفكر الموضوعي الذين لا ينطقون عن عاطفة وهوًى؛ فالفيلسوف الذي زعم لنا في عبارته التي أسلفناها أن جميع الأشياء تستمدُّ من «العقل» وجودها، وأن «العقل» عنصر كامن وراء ظواهر الكون كلها، المادِّية منها والرُّوحية على السواء، هذا الفيلسوف إنما يقول ما يقوله لا على أساس أنه مُجرَّد تشبيه للكون بالإنسان تشبيهًا هو أقرب إلى الأدب منه إلى العلم، بل على أساس أنه «الحق» في ذاته، وهو يَسخر من العلم إذا زعم له أن حقيقة الكون مادِّية لا عقلية؛ إذ إن الكون المادِّي — في رأيه — هو نفسه أحد المظاهر التي عبَّر بها «العقل» عن نفسه؛ هذا العالم المادِّي — في رأيه — قوامه «العقل»، كما أن هذا الكتاب الذي بين يدَيك قوامه الورق، واضحكْ بعد ذلك ما شئت، فأنت أنت الجاهل الذي لم يرَ «الحق» كما رآه الفيلسوف صاحب الرأي المذكور.
هكذا يبدأ الفيلسوف التأملي بالتشبيه، تشبيه الطبيعة بنفسه، ثم ينسى أنه تشبيه، فيمضي في تفكيره كما لو كان ذلك التفكير مُرتكِزًا على واقع حقیقي ملحوظ. إنه يتحدث بلغة «الصورة» ويظن أنه يتحدث بلغة الأفكار المُجرَّدة، أو أنه يُجسِّد الفكرة المُجرَّدة في خياله تجسيدًا يُوهمه بأنها قد أصبحت كبقية الأجساد، كصاحبنا هذا الذي جسَّد فكرة «العقل» حتى انقلب «العقل» بين يدَيه مادةً يُصنَع منها الكون.
ويطول بنا الحديث لو طفِقْنا نتتبَّع الفلسفات التأملية الكبرى، كفلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة سبينوزا وفلسفة هيجل ومن إليهم؛ لنُبيِّن أنها في صميمها قائمة على «التشبيه»؛ تشبيه الكون بالإنسان، أو تشبيه ما هو مُجرَّد بما هو عینيٌّ محسوس، فلنترك الحديث في هذا الآن لنعود إليه في مواضع مُتفرِّقة من هذا الكتاب.
٢
كلا، إننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يُورِّط الفلاسفة فيما لا شأن لهم به من شئون العلم، ولكننا نحب لهما أن يقترنا بعدَّة معانٍ أُخَر؛ أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، التزامًا يُقرِّب الفيلسوف من العالِم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية، فإذا كان العالِم يُحدِّد على وجه الدقة ما يريده حين يقول «جاذبية» و«ضوء» و«صوت» … إلخ، فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الأمانة نفسها وبهذه الدقة نفسها في استخدامه لألفاظه الأساسية الهامة، فلا يقول — مثلًا — كلمة «نفس» أو كلمة «عقل» أو كلمة «خير» … إلخ، إلا وهو على أتمِّ العلم بحدود معناها، بل إنه لا يكفي أن يُحدِّد الفيلسوف معاني هذه الألفاظ تحديدًا يشترطه لها اشتراطًا لكي يمضي في حديثه على أساس هذه المعاني التي هي من صُنعه؛ فلا يكفي — مثلًا — أن يقول سبينوزا في بداية بحثه: «إنني أُعرِّف «العنصر» بأنه ما يوجد في ذاته ويمكن تصوُّره بغير الاستعانة بأية فكرة أخرى.» أقول إنه لا يكفي أن يُعرِّف الفيلسوف ألفاظه على هذا النحو، ثم يستدل من هذا التعريف نتائجه التي تترتَّب عليه، وبعد ذلك يظن أن هذه النتائج التي وصل إليها تُطابِق العالَم الحقيقي الواقع؛ ذلك لأن تعريفه لكلمة «عنصر» — وهو المثل الذي سُقناه — لا يزيد على كونه شرحًا للطريقة التي يستخدم بها الكلمة، فمهما تكن النتائج التي يمكن استدلالها بعد ذلك من هذا التعريف، فهي نتائج تَستخرج مضمون التعريف وفحواه، ولا تُجاوز حدوده إلى حيث العالَم الواقع، أما إذا أراد الفيلسوف أن يُحدِّد معاني ألفاظه تحديدًا يُعينه على دقة التفكير، فخيرٌ له ألا يبدأ بالكلمة ثم يُعقِّب عليها بتعريف، بل أن يبدأ بالصفة أو مجموعة الصفات التي يُلاحظها ويريد لها اسمًا يُميِّزها، ثم يُطلِق هذا الاسم آخر الأمر على ما قد لاحظه؛ وبهذا يصبح تعريف الاسم هو الصفات التي كانت وقعت في حدود المشاهدة؛ فإذا ما استخرجنا بعد ذلك من هذا التعريف نتائج مُترتِّبة عليه، كانت هذه النتائج مُتطابقة مع حوادث الواقع المشهود.
إننا لا نستطيع أن نترك هذه النقطة الهامة دون أن نُشير إلى الأثر العميق الذي تركه أرسطو في ثقافة العصور الوسطى، وما يُشبِه تلك الثقافة حتى في بعض الأمم القائمة في عصرنا الراهن، بسبب نظريته في «التعريف»؛ فقد كان من رأي أرسطو — كما هو معلوم لكل من درس منطقه — أن تعريف أية كلمة إنما يكون بذِكر «الجوهر» الذي منه يتألَّف معناها؛ ومُؤدَّى ذلك أن تبدأ بكلمة تُصادفها وتريد أن تُحدِّد تعريفها، ثم تُحاول بعد ذلك أن تبحث عمَّا يؤلِّف لها معنًى. وكثيرًا جدًّا ما تكون الكلمة التي بين يديَّ اسمًا زائفًا أُطلقَ على غير مُسمًّى، لكنني — لو سِرتُ على نهج أرسطو — فلا يجوز أن أسأل عن الكلمة التي أريد تعريفها قبل محاولة تعريفها؛ هل هي أولًا كلمة حقيقية لها ما تُسمِّيه في دنيا الأشياء؟ فإن كانت اسمًا حقيقيًّا كان عليَّ أن أُحدِّد صفات الشيء المُسمَّى بها، فيكون ذلك هو تحديد دقيق لمعنى الكلمة المُراد تحديد معناها.
ألا إنها لَنكبةٌ ثقافية كبرى تُصاب بها الأمة إذا سادت بين قادة الرأي فيها عادةُ التفكير على النهج الأرسطي الذي أسلفناه؛ لأنهم عندئذٍ سيغوصون في بحر من الثقافة اللفظية الفارغة، إنهم سيتمسَّكون بكل ما في أوراقهم ودفاترهم ومجلداتهم من «ألفاظ»، ثم يصبح مجهودهم الفكري بعد ذلك هو أن يشرحوا هذه الألفاظ، ثم يشرحوا الشروح، ثم يضعوا لهذه الشروح هوامش شارحة يُعلِّقون عليها بمجلدات في إثر مجلدات، مع أن «الألفاظ» الأُولى التي بنَوا عليها هذا البناء الهشَّ كله قد تكون زائفة بغير معنًى؛ فافرِض — مثلًا — أن «المفكِّر» من هؤلاء اللفظيِّين قد بدأ تفكيره بكلمة «نفس»، فها هنا سيجد نفسه إزاء لفظة لا يتردد في أنها من ذوات المعنى، فيأخذ في تعريفها على أسلوب أرسطو بأن يحاول تحديد صفاتها الجوهرية، وقد يجد أن هذه الصفات بحاجة إلى شرح، فيمضي في شروحه إلى آخِر ما تُسعِفه الكلمات التي حَفِظها من دراساته السابقة، لكن هل سأل بادئَ ذي بدءٍ إن كانت الكلمة اسمًا حقيقيًّا تُسمِّي شيئًا مُعيَّنًا أو لا تُسمِّي؟
إذَن فتحدید ألفاظنا الفلسفية مثل هذا التحديد الذي لا يدَع أمامنا كلمةً بغير مُسمًّى مما يمكن تعقُّبه بالحواس، هو أول ما نريده حين نُطالِب بأن تكون الفلسفة «علمية» في منحاها ومنهجها، ثم نريد لها بعد ذلك أن تحصر بحثها في مشكلات جزئية مُحدَّدة؛ فبدل أن يُحاول الفيلسوف مُستحيلًا ببحثه عن «مبدأ» يضمُّ الكون كله بما فيه ومن فيه، يَقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم كمفهوم «السببية» مثلًا، يتعاون في تحليله مع زملائه الفلاسفة كما يتعاون العلماء في المعمل على تحليل مادة من موادِّهم؛ وبهذا يستفيد بعضهم من بعض ويُكمل بعضهم بعضًا، وتنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموًّا تدريجيًّا يجعل آخره أقرب إلى الصواب من أوله.
لقد مضى عهد «الشوامخ» في عالم الفكر كما مضى عهد الأباطرة المستبدِّين، وجاء عهد التعاون الفكري مع الديمقراطية في نظام الحكم؛ فلم يكن الفرق بعيدًا بين حاكمٍ فاتح كالإسكندر الأكبر يريد أن يُسيطر على العالم كله بكلمة منه، وبين الفيلسوف التأملي كأفلاطون أو أرسطو يريد أن يخضع الكون كله لمبدأ واحد من عنده، وكذلك ليس الفرق بعيدًا بين جماعة الأفراد في أمة تريد أن يكون الحكم قسمةً بينهم وأن تكون التبعة مشتركة، وبين جماعة الأفراد في طائفة علمية مُعيَّنة تتعاون كلها على مشكلة بعينها حتى تظفر لها بحلٍّ يُرضی؛ فلا عجَب أن تری أعلام الفلاسفة فيما مضى يقفون وأتباعهم من حولهم كالعناقيد، ثم تتوالى عناقيدهم عنقودًا بعد عنقود، على حين تدور بناظرَيك في عصرنا فتجد الفلاسفة جماعاتٍ جماعات، تكاد تتعادل بين أعضائها القامات، فلا نبي ووراءه الحواریون، ولا أستاذ وحوله التلاميذ الصغار، بل هم كأعضاء الندوة يسمرون ويتبادلون الرأي تبادل النِّد مع النِّد، أو ما هو قريب من ذلك.
الفيلسوف المُعاصِر ذو النزعة العلمية مُتواضِع، يُرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجُمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحادیثهم الجارية، فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يُفصِّل مكنونها تفصيلًا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئًا، ويُخرجه إلى العلن بعد أن كان مُتضمَّنًا مطويًّا في ثنايا الحديث، حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للُّغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينًا أن يخلُق المتاعب ويُثير المشكلات. وحسبُك أن تعلم في هذا الموضع من الحديث أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة، لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية حتى تبيَّن لهم في وضوح أن لا إشكال، وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيَّل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل ولا حلَّ هناك؛ فهل النفس خالدة أم فانية؟ هل يكون هذا العالَم المحسوس قائمًا وحده أم إن وراءه عالمًا عقليًّا آخر؟ هل الموجود الحقيقي هو الأفراد الجزئية أم الحقائق الكلية التي تُعبِّر عن نفسها في تلك الأفراد؟ وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأسئلة التي لم يزَل الفلاسفة التأمليُّون يُلقونها ويُحاولون الجواب ولا جواب؛ فيتناول فيلسوف التحليل هذه العبارات نفسها ليفضَّ مغاليقها اللفظية، وإذا هي فارغة لا تنطوي على شيء، وإذا هذه المشكلات المزعومة الموهومة تذوب ثم تتبخَّر في الهواء وتختفي.
الفيلسوف المُعاصِر ذو النزعة العلمية مُتواضِع، يترك الخبز للخبَّاز يُنضِجه على النحو الأكمل، فيترك الفَلك لعالِم الفَلك، والطبيعة لعالم الطبيعة، والإنسان لعالم النفس أو عالم الاجتماع، إنه لا شأن له ﺑ «شيء» من أشياء الوجود الواقع، بل يحصر نفسه في «الكلام»، كلام هؤلاء العلماء؛ ليُحلِّل منه ما قد تركوه بغير تحليل، وبخاصة إذا كان في العبارة «لفظ» يُثير المشكلات ويكون مدار الاختلاف، وقد تسأل: ولماذا لا يترك هذه المشكلات نفسها لأصحاب العلوم كذلك؟ أليس هؤلاء أدرى بما يقولون؟ والجواب هو أن هذا ما ينبغي أن يكون لو استقامت الأمور، بل هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان، فترى من علماء الرياضة من تستوقفه بعض المُدرَكات الرياضية الغامضة، فتستهويه بالوقوف عندها حينًا ليُلقيَ على مكنونها الضوء، وعندئذٍ يكون «فیلسوفًا» رياضيًّا بالمعنى الذي نريده لكل فيلسوف، وهكذا قل في علماء الطبيعة وغيرها، لكن هذا التحليل المنطقي قد يستهوي كذلك غير المختصين في العلوم المختلفة، فيختصُّه بجهده وفكره؛ لأن التحليل المنطقي لعبارةٍ ما، هو في حقيقة أمره شيءٌ مستقلٌّ عن مضمون العبارة وفحواها؛ إذ يتناول صورة التركيب وما فيها من علاقات، ويُفرِّغ من العبارة فحواها؛ وإذَن فليس ثَمة خطرٌ حقيقي إذا ما تصدَّى لمثل هذا التحليل غير العلماء المختصين في هذا العلم أو ذلك؛ لأن القدرة المطلوبة هي قدرة على التفريغ والتجريد.
لكن القارئ من حقه هنا أن يسأل: ماذا نعني على وجه الدقة بكلمة «تحليل» حين نسوقها في هذا السياق الفلسفي؟ إننا نتصوَّر في غيرِ عُسرٍ ماذا يكون معنى التحليل حين ينصبُّ على شيء مادِّي، فليس من العسير أن نتصوَّر «تحلیل» الماء إلى عنصرَيه أكسجين وهيدروجين، أو تحليل دم الإنسان إلى هذا وذلك من العناصر وهكذا، فهل تعني شيئًا كهذا حين تقول إن عمل الفيلسوف المعاصر ذي النزعة العلمية هو أن يُحلِّل العبارات اللغوية، وعبارات العلم منها بوجهٍ خاص؟ هل يتناول الفيلسوف عبارة فيقول إنها مُركَّبة من كذا لفظًا وكذا حرفًا، أو إن المِداد الذي كُتبت به ينحلُّ إلى كذا وكذا من العناصر، وكذلك الورق الذي خُطَّت عليه؟
كلا، فذلك تحليل «مادِّي» للعبارة، والمقصود «تحلیل منطقي» لها، أو إن شئت فقل «تحلیل عقلي»، لكن السؤال ما يزال قائمًا، وهو: ماذا تعني بهذا النوع من التحليل؟ وجوابنا هو أن هذه الكلمة في هذا السياق، هي كغيرها من كلمات هامَّة كثيرة، ككلمة «العلم» و«الفن» وما إليهما، ليس عليها اتفاق حاسِم بين من يستعملونها حتى من المُختصِّين، إنها ليست بعدُ في دقة استعمالها كالكلمات المُشيرة إلى مُسمَّيات محسوسة، فلا خلاف — مثلًا — بين علماء الطبيعة على مدلول كلمة «أحمر»؛ لأنهم يتفقون اتفاقًا قاطعًا على مدى الموجات الضوئية التي يُدخلونها تحت هذه التسمية، ومع ذلك فكلمات «التحليل» و«العلم» و«الفن» وما إليها، إن تكن قد فاتَتها هذه الدقة في تحديد المعنى، إلا أنها ليست خِلوًا من كل تحديد؛ إذ إن كلًّا منها ما يزال ينطبق على مسمَّيات إن تكن مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف، فهي كذلك مُتشابهة تشابهًا يُبرِّر جمْعَها تحت اسم واحد من هذه الأسماء، كأفراد الأسرة الواحدة، بينهم اختلافات في الشكل والشخصية، لكنهم مع ذلك يُكوِّنون أسرة واحدة، فكذلك قُل في المعاني المختلفة التي يأخذ بها الفلاسفة المعاصرون في معنى «التحليل» المنطقي الذي يريدون له أن يكون هو الفلسفة وعملها، فهذه المعاني على اختلافها، تتشابه بغير شكٍّ وتتجه كلها وجهةً واحدة، بحيث تكون أفرادًا من أسرة هي التي نُطلِق عليها اسم «التحليل المنطقي».
إنه لخيرٌ لنا في تحديدنا لمعنى «التحليل» أن نعتمد على الاستعمال الفعلي لهذه الكلمة بين الفلاسفة المُشتغلين به؛ فلسنا نقول إن التحليل المنطقي «يجب» أن يكون بهذا المعنى أو ذلك، بل نقول إنه فعلًا بهذا المعنى عند فلان وفلان، وبذلك المعنى عند فلان وفلان، وفيما يلي سنتعقَّب الخيوط الرئيسية للاتجاهات المختلفة في مدرسة التحليل.
٣
لفظتا «تحليل» و«تركیب» شائعتان معروفتان في التفكير الفلسفي، والمقصود بهما هو معناهما المباشر الذي يتبادر إلى الذهن من استعمالها المألوف في لغة الحديث الجارية؛ فالفيلسوف «تحليلي» إذا جعل مهمته استخراج المقوِّمات أو استنتاج النتائج مما يتصدى لتحليله، سواء كان هذا «شيئًا» أو «عبارة لغوية»، وهو «تركیبي» إذا لم يكتفِ بمجرد تفتیت ما يتناوله — شيئًا كان أو عبارة لغوية — بل هو يُضيف من عنده أحكامًا عن الوجود، كله أو بعضه؛ فإذا راح فيلسوف، مثل هیوم، يُحلِّل الفكر إلى عناصره الأولية لينتهي إلى أن تلك العناصر الأولية هي إما انطباعات أو أفكار، حين يكون معنى «فكرة» باصطلاحه انطباعًا حسيًّا غاب مؤثِّره وبقي في الذهن صورةً تتفاوت درجة وضوحها ونصوعها، كان بذلك فيلسوفًا تحليليًّا، وأما إذا تبرَّع الفيلسوف بأحكام إيجابية من عنده يصفُ بها الوجود، كأن يقول أفلاطون إن هناك عالمًا عقليًّا قوامه أفكار إلى جانب هذا العالم الحسي الذي نعيش فيه والذي قوامه أفراد جزئية، كان فيلسوفًا تركيبيًّا. الفيلسوف التحليلي يبدأ بموضوع المشكلة، كالطبيعة أو الإنسان مثلًا، ثم يُحاول ردَّه إلى وحداته الأولية التي منها يتركَّب ذلك الموضوع، والتي لا يمكن بدورها أن تنحلَّ إلى ما هو أبسط منها، كما يفعل برتراند رسل حين يُحلِّل الطبيعة إلى وحدات أولية هي «الحوادث» بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة عنده؛ فلمعة الضوء الآتية إليَّ من هذا المكتب الذي أمامي الآن «حادثة»، ولمسة القلم الذي بين أصابعي «حادثة»، وهكذا، أو كما يفعل برتراند رسل أيضًا حين يُحلِّل الكلام إلى قضايا أولية يكون موضوع الواحدة منها دائمًا حادثة من حادثات الطبيعة بالمعنى الذي أسلفناه، وأما الفيلسوف التركیبي فعلى خلاف ذلك، يُحاول أن يبني الوجود في خياله بناءً قوامه العناصر البسيطة التي يفترض وجودها، كما يفعل سبينوزا مثلًا حين يفترض بسائط أولية ثم يبني منها الكون كما تقتضيه بداهة عقله وقوة خياله.
دعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة ينبغي أن تكون تحليلًا صِرفًا، تحليلًا لقضايا العلم بصفةٍ خاصة؛ لكي نضمن لها أن تُسايِر العلم في قضاياه، وأن تُفيد في توضيح غوامض تلك القضايا، دون أن تتعرَّض للضرب في مَجاهل الغيب. والتحليل الذي ندعو إليه — وإن يكن قد سبق إليه فلاسفةٌ كثيرون فيما مضى؛ إذ ما أكثر الفلاسفة الذين استخدموا التحليل في عملهم إما بصفةٍ غالبة أو بصفةٍ طارئة — إلا أنه قد اتخذ في عصرنا الحاضر لونًا خاصًّا يختلف عن كل تحليل فيما مضى من تاريخ الفلسفة، وأصبح ذا طابع واضح مُتميِّز هو الذي يطبع الفلسفة التجريبية العلمية المعاصرة، وأعني به الطابع الذي تراه عند «جورج مور» و«برتراند رسل» و«لدفج وتجنشتين» وكل من لفَّ لفَّهم، وإنهم لكثيرون، نخصُّ بالذِّكر منهم جماعة سنُفرِد للحديث عنها فصلًا خاصًّا، هي جماعة فيينا، التي أنشأت وطوَّرت ما يُسمَّى بالوضعية المنطقية.
لقد مرَّت الفلسفة في أوائل هذا القرن العشرين بمرحلة من مراحل تاريخها، طرأ عليها خلالها من التغير في وجهة النظر ما يبلغ حد الثورة، إذا جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة السياسية في مجال التفكير الفلسفي. وليس المراد هنا بكلمة «الثورة» مجرد تغيُّر في المذهب السائد؛ لأن مِثل هذا التغير لا يُحدِث «ثورة»، فلسنا نقول — مثلًا — عن فلسفة أفلاطون إنها جاءت بمثابة الثورة على فلسفة أستاذه سقراط على الرغم مما بينهما من اختلاف بعيد، وكذلك لا نقول عن فلسفة أرسطو إنها كانت ثورة على فلسفة أفلاطون رغم ما بينهما من اختلاف بعيد كذلك، لكننا نقول عن فلسفة سقراط بالنسبة لسابقيه إنها «ثورة»، لماذا؟ لا لأن بين سقراط وسابقيه اختلافًا في الرأي وكفى، بل لأن الاختلاف يتناول السؤال نفسه المطروح للإجابة؛ فإذا ألقيتَ سؤالًا مُعيَّنًا، كقولك: ممَّ صُنعت الطبيعة؟ ثم جاءك عشرون فیلسوفًا كلٌّ منهم بجوابٍ خاص به، فهذا يقول إنها صُنعت من كذا وذلك يقول إنها صُنعت من كيت، فإن هؤلاء الفلاسفة العشرين جميعًا يُكوِّنون مدرسةً فكريةً واحدة، ولا يُعَد الواحد منهم ثورة على زميله على الرغم مما بينهما من اختلاف في الرأي بالنسبة للسؤال المطروح. أما إذا جاءك فيلسوف آخر يُغيِّر من السؤال ذاته ليطرح سؤالًا جديدًا هو في رأیه أولی بالاهتمام من السؤال الأول، أو قد يكون ذلك لأن السؤال الأول قد استنفد الإجابات الممكنة كلها ولم يعد لقيام المشكلة أمام الأذهان غَناء، كأن يسأل — كما فعل سقراط — عن الأساس العقلي للأخلاق الإنسانية، فذلك يكون بمثابة الثورة الحقيقية في مجرى الفكر؛ لأنه حوَّل الانتباه من مجال قديم إلى مجال جديد.
وكذلك كان تحوُّل الفلسفة منذ أوائل هذا القرن العشرين «ثورة» بهذا المعنى نفسه؛ أي بمعنى أنها نقلت اهتمامها من مجال إلى مجالٍ تراه أجدر بالعناية؛ فبعد أن كان اهتمام الفلاسفة مُنصبًّا على حقيقة العالم وحقيقة الإنسان، انتقل إلى شيء آخر هو تحليل العبارات؛ فليس موضوع البحث الآن «أشياء»، ولكنه «جُمَل»؛ ليس موضوع البحث الآن هو «الكون»، بل هو هذه العبارة المُعيَّنة أو تلك؛ ما تحليلها وما مضمونها وما مكنونها؛ بهذا يربط الفلاسفة أنفسهم بدنيا العلم ودنيا الحياة اليومية، بدل أن يتعالَوا على هذه الدنيا على أساس أنها باطلة، بحثًا عن عالَم «حقیقي» وراء هذا العالم المحسوس! وبهذا تصبح الفلسفة منطقًا صِرفًا كما يقول برتراند رسل في محاضرته التي نشرها عام ١٩١٤م بعنوان «المنطق هو صمیم الفلسفة» فصلًا من كتابه «عِلمنا بالعالَم الخارجي».
هذه الثورة، أو إن شئتَ تواضعًا في التعبير فقل هذه الحركة الجديدة في عالم الفلسفة، كان مركزها الرئيسي جامعة كيمبردج بإنجلترا، حيث أنشأها زعيماها الأولان وهما «مور» و«رسل»، ثم تَبِعهما «وتجنشتين»، وبعد ذلك أخذ الأتباع يزدادون في القارَّة الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وهم ما يزالون في ازدياد حتى يومنا هذا، لكن الثورة التي تجتثُّ كل صلة بالماضي ضربٌ من المُحال، فلا بد من خيوطٍ تصل العهد الثائر بالعهد الذي سبقه ليُمهِّد له حتى وإن لم يكن جزءًا منه، فها نحن أُولاء إزاء هذه الحركة الفلسفية الجديدة التي بدأت مع بداية هذا القرن العشرين على وجه التقريب، لكننا نتعقَّب جذورها الأولى فنراها ضاربةً في أرض المدرسة المثالية نفسها، التي جاءت هذه الحركة الجديدة لتثور عليها وتَقلِب أوضاعها.
فقد كان أنصار المدرسة التجريبية في إنجلترا منذ «لُك» و«هيوم» يَجْرون على سُنة التحليل الذي يتناول المعرفة الإنسانية ليردَّها إلى وحداتها الأولية، وكانت هذه الوحدات عندهم هي دائمًا عناصر أقرب إلى الذرَّات، كل ذرَّة منها قائمةٌ وحدها، ثم ترتبط هذه الذرَّات المعرفية بعلاقات فتنشأ منها الأفكار المُركَّبة؛ فالوحدات البسيطة الأولى عندهم هي إحساسات يقوم كل إحساس منها كأنما هو كائن مستقلٌّ عن سائرها؛ فهذه — مثلًا — لمعة من الضوء على شبكية العين، وتلك رنَّة صوت في الأذن، أو لمسة جسم صلب أو ليِّن على الأصابع وهكذا. تلك — على وجه الإجمال — هي الخيوط الأولية التي ينسج منها العقل أفكاره مهما بلغت تلك الأفكار من درجة التركيب.
واجتاحت إنجلترا موجة من المثالية الهيجلية في القرن التاسع عشر، حيث امتدَّت من أول القرن إلى آخره، فمالت بأنصارها إلى الطرف الآخر؛ إذ عجبوا لهؤلاء التجريبيين كيف يُفتِّتون المعرفة الإنسانية إلى هذه الخيوط، مع أن معرفة أي جزء على حِدة ضربٌ من المُحال في رأيهم، فلا تستطيع — مثلًا — أن تعرف شيئًا عن لون هذا الكتاب إلا متصلًا بالكتاب، ثم لا تعرف شيئًا عن الكتاب إلا متصلًا بغيره، وهكذا وهكذا. وليس الاستطراد في رأيهم هذا هو موضوعنا الآن، لكن النقطة الهامة عندنا في هذا السياق هي أن قادة الفلسفة الإنجليزية المثالية في أواخر القرن التاسع عشر — مثل برادلي — قد وضَّح توضيحًا لا يدَع للشك سبيلًا، أن الوحدات الأولية للمعرفة يستحيل أن تكون مُدرَكاتٍ فُرادی؛ لأن المُدرَك الواحد لا يكون فكرًا ولا يكون معرفة بأي معنًى من المعاني، إنما تبدأ المعرفة حين يبدأ الحكم، ولا يكون حكم إلا إذا تكاملت لنا قضية فيها محكوم عليه ومحكوم به ورابطة تربط بين الطرفَين؛ فقولي «قلم» ليس فكرًا، وقولي «أسود» ليس فكرًا كذلك، أما قولي «القلم أسود» فوَحدةٌ فكرية؛ لأنه تعبير عن حكم قد يُصيب وقد يُخطئ.
الحق أن هذه كانت نقطةَ ضعفٍ ظاهرة في تحليل التجريبيين للمعرفة، فكانت بالتالي هدفًا لهجمات مُعارضيهم من الفلاسفة المثاليين، بل كان هذا هو أعمق فارق بين «هیوم» من جهة، و«كانت» من جهةٍ أخرى؛ فالأول يجعل الانطباع الحسِّي الواحد أو الفكرة الواحدة المُتخلِّفة بعد ذلك الانطباع هي وحدة التفكير، فإذا ما تجاورَت فكرتان في الذهن لم يكن بينهما من علاقةٍ سِوى علاقة التجاور؛ ولهذا لم يجد بين السبب ومُسبَّبه من علاقةٍ سِوی ما بينهما من تلازُم في الوقوع؛ وأما «كانت» الذي يقول إن دعوی هیوم هذه قد أيقظته من سُباته، فيرى أن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه هيوم هو أن جعل الفكرة الواحدة فكرًا، على حين أن الحد الأدنى للفكر هو القضية التي تربط فكرتَين على أقل تقدير.
ونعود إلى الموقف في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا، لنری «برادلي» الفيلسوف المثالي يُوضِّح لنا بدَوره هذا الاتجاه في تحليل المعرفة إلى أوَّليَّاتها، وجاء «برتراند رسل» وغلبت عليه في نهاية الأمر نزعَتُه التجريبية، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يستفيد بما قاله «برادلي» في نقده للتجريبيين، فلم يتردد في أن يُقِيم فلسفته التجريبية على أساس منطق جديد يتلافی به أوجه النقص التي كانت تؤخذ على سالفيه «لُك» و«هیوم» وأمثالهما، وما هذا الأساس المنطقي الجديد في صميمه إلا أن يجعل «القضايا الأولية» — لا المُدرَكات المُفرَدة — هي الوحدات البسيطة الأولى في تحليل المعرفة. ولم يكن «رسل» وحده في هذا الاتجاه، بل سار معه فيه زميله «مور» وتلميذه «وتجنشتين»، ثم تَبِعهم في ذلك بقية الأتباع.
فالمعرفة الإنسانية — عند «رسل» و«وتجنشتين» بصفةٍ خاصة — يمكن تحليلها إلى ذرَّات أولية، والذرَّة الواحدة منها هي قضيةٌ أوَّلية، يكون موضوعها فردًا واحدًا لا جماعة من أفراد. وماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح أن يكون موضوعًا للقضية الذرية؟ أتَصلح لذلك كلمة مثل «إنسان» و«شجرة» وسائر هذه الكلمات الكلية؟ أئذا قلنا — مثلًا — «الإنسان كائن عاقل» كان هذا القول ذرَّة فكرية بسيطة لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها؟ هكذا ظن أرسطو، وما هكذا يظن «رسل» وأتباع مدرسته التحليلية؛ فكلمة «إنسان» عند أرسطو مُدرَك أوَّلي بسيط من الناحية المنطقية، وأما عند «رسل» وأتباعه فهذه الكلمة وحدها — وإن بدت كلمةً واحدة — إلا أنها عبارة بأسرها ضُغطت في هذا اللفظ الواحد.
فأنت لو فكَّكت كلمة «إنسان» إلى أجزائها الأولية وجدتها كلمةً تحتوي في جوفها كل أفراد البشر، من مضى منهم ومن هم قائمون اليوم ومن سيظهرون في الوجود إلى آخر الدهر، إنها اسم لم يُخلَق ليكون اسمًا خاصًّا لي أو لك كأسمائنا التي سُجِّلت في شهادات ميلادنا لتميز الواحد منا عن بقية الناس؛ وإذَن فليست هي بالاسم الجزئي الخاص بفرد واحد، كلا، بل ليست هي بالاسم في حقيقة أمرها، إنها عبارة بأسرها، هي عبارة وصفية في تحليلها، أُريدَ بها أن تصف هذا الفرد أو ذلك بمجموعة مُعيَّنة من الصفات، أُريدَ بها أن تصف العقَّاد والمازني وهيكل وطه والحكيم وسائر أفراد البشر، بأن كل واحد منهم فيه طائفة من صفات معيَّنة معلومة تجعله ينتمي إلى فئة من الكائنات خاصة. إن كلمة «إنسان» يستحيل أن يكون لها معنًى وحدها، بل لا بد لكي يكمل معناها أن يوجد إلى جوارها اسمٌ آخر — كالعقَّاد مثلًا — بحيث يمكن أن يُقال بعد ذلك «العقاد إنسان» فيكمل معنى كلمة إنسان، لكن افرض جدلًا أنني خلقت في اللغة هذه الكلمة «إنسان» دون أن يكون في العالم فردٌ واحد مما عساه أن ينتمي إلى هذه الفئة التي أردت أن أطلق عليها هذه الكلمة؛ إذَن فماذا يكون معناها؟ إنها عندئذٍ تظل مُعلَّقة بغير مدلول ولا معنًى، حتى يظهر في عالم الوجود فرد يصحُّ أن ينطوي تحتها، وعندئذٍ فقط يبدأ معناها في الظهور.
ونعود إلى سؤالنا من جديد: ماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح موضوعًا لقضية ذرية من النوع الذي يقول عنه «رسل» إنه الوحدات البسيطة الأولية لكل تفكير؟ لقد أوضَحْنا أن الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«شجرة» ليست بهذه البساطة المزعومة؛ لأن الواحدة منها تعود فتنحلُّ إلى مجموعة من الأفراد أو المفردات؛ أفيكون الفرد الواحد إذَن صالحًا لذلك، كاسم «العقاد» مثلًا؟ أئذا قلنا عبارة كهذه «العقاد إنسان»، كنا بذلك قد ضربنا مثلًا للقضية الذرية البسيطة؟ كلا، ولا هذه أيضًا؛ لأن كلمة «العقاد» هي أيضًا لفظة تُطلَق في الحقيقة على مجموعة كبيرة من المفردات، وهذه المفردات هي الحالات الكثيرة التي يكون عليها العقاد في لحظات حياته المُتتابعات؛ فقد تقع عينك على العقاد ألف مرة، وقد تسمعه يتحدت ألف مرة، دون أن يكون المرئي منه أو المسموع هو هو بعينه في حالتَين اثنتين من هذه المرَّات الألف جميعًا، لكننا نضمُّ هذه الحالات كلها، وما سبقها وما سيلحق بها، لنُطلِق عليها اسمًا واحدًا هو اسم «العقاد»؛ وإذَن فما هذا الاسم بالبساطة التي ليس بعدها تحليل، وإنما هو اسم يأتي بعده تحلیل وتحليل.
وأما إذا جعلنا موضوع القضية التي نقولها حالة واحدة من تلك الحالات المتعاقبة للفرد الواحد من الإنسان، كأن أتحدَّث عن لونه في لحظة معيَّنة، أو صوته في حالة واحدة مما يصحُّ أن أشير إليها بقولي «هذا» لمن أتحدَّث إليه، فتلك هي القضية الذرية الأولية البسيطة التي لا تحتمل بعد ذلك تحليلًا؛ تلك هي الوحدة التي يتألف منها ومن مثيلاتها فكر الإنسان مهما بلغ بعد ذلك من التعقيد والتركيب.
لكني لا أستطيع أن أشير لمن أتحدَّث إليه بقولي «هذا» مُشيرًا إلى الحالة الواحدة الفردة التي أجعلها موضوع حدیثي، إلا إذا كانت تلك الحالة مما يمكن أن يتلقَّاها بإحدى حواسه؛ وبالتالي يستحيل أن يكون لكلامي معنًى إلا إذا حلَّلته إلى مفردات أوَّلية، كل مفرد منها قضية ذرية، موضوعها حالة جزئية تُدرَك بإحدى الحواس.
قارِن هذا الأساس المنطقي الجديد بمنطق أرسطو ترَ الفرق شاسعًا بعيدًا من حيث الإطار الفكري في كلٍّ من الحالتَين؛ فالوحدات البسيطة عند أرسطو — وعند العصور الوسطى كلها من بعده، وعند كل من لا يزال يفكر على هذا الغِرار — هي القضايا التي موضوعاتها كلماتٌ كلية؛ فإذا سألته عن كلمةٍ كلية مثل «إنسان» ما معناها، راح يُحلِّلها لا على أساس مدلولاتها الحسية، بل على أساس مُقوِّماتها العقلية. نعم، لو سألته عن معناها انصرف إلى داخل رأسه لا إلى الدنيا العريضة من حوله، ليرى ماذا يكون داخل رأسه هو من «مفهوم» لتلك الكلمة، حتى لو لم تكن الكلمة دالَّة أبدًا على أي شيء محسوس من أشياء الطبيعة الخارجية، فلا فرق عنده أن تسأله عن معنى «إنسان» أو عن معنى «مَلَك» أو عن معنی «غول»؛ لأنه في شتَّى هذه الحالات جميعًا سينصرف إلى داخل رأسه باحثًا عن «مفاهيم» تلك الأسماء، ولا عِبرة عنده بعد ذلك أن تكون أو لا تكون؛ هنالك في العالَم ملائكة وغيلان كما أن فيه أفرادًا هم بنو الإنسان، لا عِبرة عنده لشيء من هذا؛ لأن العبرة هي بالمفهوم العقلي للَّفظ لا بمُسمَّياته الفردية الجزئية التي تُدركها هذه الحاسة أو تلك.
كان التفكير في العصور الوسطى — في أوروبا وفي الشرق الإسلامي على السواء — قائمًا على أساس من المنطق الأرسطي، وفي اعتقادي أن تجدید التفكير لا يمكن أن يتمَّ على صورة وافية إذا اقتصر التغيير على الطوابق العليا وحدها، بل لا بد من تغيير الأساس، لا بد من إقامة البناء على منطق جدید؛ فإذا كان أرسطو والأرسطيون يكفهم الجَوَلان داخل رءوسهم، فلا مناص لنا نحن الذين نريد التجديد من الخروج إلى حيث العالم المرئي المسموع. كان أرسطو بل وكثير غيره من الفلاسفة الأقدمين يُفرِّقون بين «المعرفة» من جهة و«الظن» من جهة أخرى، وعندهم أن ما تجيء به الحواس «ظنٌّ» لا يقين فيه، أما «المعرفة» بمعناها الصحيح فلا بد أن ترتكز إلى يقين، ولكن كيف؟ إن ذلك اليقين المنشود لا يتحقق عند أرسطو وأتباعه وأشباهه إلا إذا كانت الفكرة نتيجةً حتمية لمقدِّماتٍ سبقتها، وهذه المقدمات بدَورها لا تكون يقينًا إلا إذا كانت نتائج لمقدِّماتٍ سبقتها، وهكذا دوالَيك حتى تصل في الطرف الأعلى من بناء المعرفة إلى ما يُسمُّونه المبادئ الأولى. وكيف أعرف هذه المبادئ الأولى؟ تعرفها بالحَدْس؛ أي بالعِيان العقلي المباشر، فلعقلك ما يُشبِه العين ترى الحقائق العقلية رؤيةً مباشرة كما هي الحال في العين التي في رأسك، غير أن هذه تُدرِك محسوسات وتلك تُدرِك معقولات؛ وعلى ذلك فلا يقين عندهم إلا إذا كانت الحقيقة حَدْسية — وتلك هي المبادئ الأولى — أو إذا كانت حقيقة أُقيمَ عليها البرهان القياسي الذي يُبيِّن من أيِّ المقدمات جاءت. و«المبادئ الأولى» في كلتا الحالتَين هي الأساس، أو قُل هي المعرفة الأصيلة، ولكن هذه المبادئ الأولى هي نفسها «جواهر» الأشياء في رأي أرسطو، وجوهر الشيء هو نفسه تعريفه عند أرسطو كذلك؛ فما معنی ذلك كله؟ معناه أنك إذا أقمت بناءك الفكري على أساس منطق أرسطو، فما عليك إلا أن تعرف الأشياء من حيث جوهرها العقلي، لا من حيث مظهرها الحسي، ومن هذه التعريفات تبني بناءك صاعدًا أو هابطًا، فلك أن تصعد منها بأن تضمَّها بعضها إلى بعض فيما هو أعم حتى تصل إلى قمة الوجود في مبدأ واحد، أو أن تهبط منها إلى ما يترتب عليها من نتائج قياسية؛ وبهذا يُتاح لك أن تعلم حقائق الكون كله وأنت قابع في عُقرِ صومعتك، لا حاجة بك إلى رؤية أو سمع.
٤
كان المنطق الأرسطي تحليلًا للفكر العلمي الذي ساد أيام اليونان، وساد بعد أيام اليونان قرونًا طويلةً شمل العصور الوسطى وما بعدها، حتى طرأ على التفكير العلمي تغيُّر جوهري، استلزم أن يتغيَّر معه المنطق الذي إن هو إلا تحليل للتفكير العلمي.
كان التفكير الذي ساد أیام اليونان رياضيًّا في صورته ومبناه وإن لم يكن كله رياضيًّا في مادَّته وفحواه؛ بمعنى أنه كان دائمًا يسير من مبدأ مفروض إلى النتائج التي تتولَّد من ذلك المبدأ. وكان علم الهندسة — مُمثَّلًا في هندسة إقليدس — هو خير ما يُصوِّر ذلك الضرب من التفكير الذي يبدأ بالمسلَّمات والبدائه لينتهي منها إلى النظريات التي تستمدُّ يقينها من يقين مقدماتها؛ فإذا ما نهض أرسطو فيلسوف المنطق اليوناني ليرسم طريق السير للفكر الصحيح، كان طبيعيًّا أن يترسَّم خطوات التفكير الرياضي، ما دام هذا التفكير الرياضي ينتهي بصاحبه إلى النتائج اليقينية؛ وراح يُحلِّل هذا الضرب من التفكير النموذجي ما وَسِعه التحليل، حتى خرج على الناس بمنطقه المعروف الذي مؤدَّاه أن الوحدة الأولية لكل تفكير هي «القضية» التي لا بد أن يكون قوامها «موضوعًا» نحكم عليه بصفةٍ ما، و«محمولًا» يكون هو تلك الصفة التي ننسبها إلى الموضوع؛ فإذا ما ضمَمْنا قضيَّتَين من هاتيك القضايا الحملية بحيث تتوافر فيهما شروط خاصة، أمكن أن نستنتج منهما نتيجةً يقينية على نحوِ ما يحدث في التفكير الرياضي.
وجاءت العصور الوسطى بطابعها الديني، فوجدت هذا المنطلق الأرسطي أداة طيِّعة نافعة لخدمة أغراضها؛ فها هو ذا كتاب أو كتبٌ نزل بها الوحي؛ وإذَن فكل ما فيها صادق، ويمكن اتخاذ هذا العلم الصادق مقدمات لا سبيل فيها إلى الشك، فننتهي من تلك المقدمات إلى نتائجَ يقينيةٍ كذلك. وما يزال هذا الضرب من التفكير أداة يستخدمها كلُّ من أراد أن يرتكز على سند يزعم له اليقين ليستدلَّ منه ما استطاعت قدرته أن يستدل.
كان الافتراض الكامن وراء المنطق الأرسطي كله هو أن العلم الذي هو جدير بهذا الاسم، لا بد أن يبلغ درجة اليقين، وما ليس يبلغ اليقين فهو «ظن» لا يجوز الأخذ به، لكن هذا اليقين المنشود إذا جاز لنا أن نلتمسه في الرياضة وما يجري مجراها من ضروب التفكير، فلا يجوز أن يكون هدفنا إذا كانت «الطبيعة» هي مجال البحث؛ ذلك لأننا في الرياضة لا نزيد على استخراج نتيجة كانت كامنة في مقدماتها فأبرزناها، وأما في التحدث عن الطبيعة فالأمر مختلف، فها هنا نُنبئ عن الظواهر أنباءً قد نُصيب فيها وقد نُخطئ؛ ومن ثَم فلا مندوحة لنا في هذا المجال الطبيعي عن اصطناع منهج فكري آخر؛ أي عن اصطناع منطق آخر، يكون عماده الترجيح لا اليقين، ما دام مجال القول هو النبأ الجديد لا مجرد تَكرار النتيجة لما كان مُتضمَّنًا في مقدماتها.
غير أن هذا المنطق الجديد الذي تُلزمنا به ضرورة اتساع مجالات الفكر والقول لا يأتي على أنقاض المنطق القديم، بل هو يبني إلى جوار المنزل القديم منزلًا جديدًا؛ لأن مجال التفكير الذي من أجله نشأ المنطق الأرسطي ما يزال ولن يزال قائمًا، وكل ما في الأمر أن أُضيفَ إلى القديم جديدٌ من الفكر، يستوجب أن يُضاف إلى المنطق القديم منطق جديد يسدُّ حاجة هذا الفكر الجديد.
كان علم الهندسة في الرياضة لا يعرف سوى الهندسة الإقليدية التي أنشأها إقليدس، والتي ألمَمْنا بطرَف منها أو أطراف أثناء دراستنا الثانوية، لكن «هندسات» جديدة نشأت إبَّان القرنين التاسع عشر والعشرين إلى جانب هندسة إقليدس؛ فلئن كان إقليدس يبني علمه الهندسي على أساس استواء المكان، فهذه الهندسات الجديدة «اللاإقليدية» تبني بناءاتها على أُسسٍ أخرى؛ فواحدة منها تبني بناءها على أساس انحناء المكان كما هي الحال على سطح الأسطوانة؛ فإذا ما كنتَ إزاء سطح صغير نسبيًّا، كسطح هذه المِنضَدة التي أكتب عليها، جاز لك أن تفترض أنه مُستوٍ لا انحناء فيه؛ وبالتالي لا تُخطئ إذا استخدمت هندسة إقليدس بالنسبة لما عساك أن ترسم عليه من مثلثات ودوائر، ولكنك لا تستطيع ذلك إذا ما تصدَّيت لرقعة كبيرة من المكان، كالمكان الممتدِّ بين الشمس والأرض، فها هنا يتحتَّم عليك أن تُقلِع عن افتراضك استواء المكان؛ لأنه يُسلِمك عندئذٍ إلى نتائجَ خاطئة، ولا بد لك من افتراضٍ آخر يتمشَّى مع حقائق العلم الجديد، وهو أن المكان مُنحنٍ، بحيث تسير أشعة الشمس فيما يُشبِه الأقواس لا في خطوط مستقيمة. وخلاصة القول هي أن هندسة إقليدس ما تزال صالحة ولكن في مجالٍ محدود، ولا بد فيما عدا ذلك المجال المحدود من هندسات «لا إقليدية».
وكذلك الحال في فيزيقا نیوتن؛ فإذا كنت إزاء أجسام عادية تسير بسرعات عادية، فلا حرج عليك أن تستخدم علم الطبيعة كما عرفه نیوتن، وكما لا نزال نعرفه في مجال الحياة العلمية التي تتناول الأشياء المادية كأشياء، دون أن تتعرَّض للذرَّات الصغيرة التي هي قوام تلك الأشياء المادية؛ فالمهندس الذي يُقيم جسرًا أو بناءً يكفيه علم الطبيعة النيوتوني في معالجته للمواد التي يستخدمها، أما إذا كان مجال البحث هو الذرة الصغيرة، فها هنا سنجد أنفسنا إزاء «طبيعة» أخرى، أجسامها ليست هي نفسها أجسام الأشياء كما نألفها، وسرعاتها ليست هي السرعات التي نألفها في تلك الأجسام؛ ولذلك اضطُرِرنا اضطرارًا إلى علم طبيعي «لا نيوتوني» إلى جانب علم الطبيعة النيوتوني؛ أما أولهما فللطبيعة الذرية، وأما الآخر فللطبيعة بمعناها المألوف.
وشيء كهذا لا بد أن يحدث للمنطق — والمنطق هو دائمًا تحليل التفكير العلمي — فلئن كان المنطق الأرسطي صالحًا لأنواع التفكير الاستنباطي كما عرفها اليونان وكما عرفَتها العصور الوسطى بعد اليونان، بل كما عرفتها العصور الحديثة حتى القرن التاسع عشر، فلا بد إلى جانبه من منطقٍ آخر «لا أرسطي» على غِرار الهندسة «اللاإقليدية» والفيزيقا «اللانيوتونية» ليُواجِه التفكير العلمي في تطوُّره الأخير.
ولْنضرب بعض الأمثلة المُوضِّحة؛ يقوم المنطق الأرسطي على دعائم أولية يعدُّها «قوانين» للفكر لا بد من سريانها في كل عملية فكرية، وأول تلك «القوانين» قانون الذاتية، الذي يرمزون له بقولهم «أ هي أ»، وهم يريدون بذلك أن الشيء المعيَّن يحتفظ بذاتيَّته مهما تغيَّر السياق من حوله؛ فهذه المِنضَدة التي أكتب عليها هي نفسها التي كانت بالأمس، على الرغم مما قد تغيَّر من التفصيلات المحيطة بها، وأنا اليوم هو نفسه الذي كان أمس على الرغم من أنني قد ارتديت ثيابًا أخرى وأتحدَّث حديثًا غير حديثي بالأمس، وهكذا. يقوم النطق الأرسطي أول ما يقوم على افتراضِ أن الشيء الواحد المعيَّن يحتفظ بذاتيَّته، وقد يكون هذا الاقتراض هو نفسه ما تنطوي عليه حياتنا العملية؛ ولذلك فلا بأس من تطبيق المنطق الأرسطي حيث يقوم هذا الافتراض.
ولكن ماذا تكون الحال إذا ما تحدَّثنا بلغة العلم الحديث، فقلنا إن هذه المِنضَدة التي تبدو للعين المجرَّدة «شيئًا واحدًا بذاته» إن هي في الحقيقة إلا كومة هائلة من الذرَّات الصغرى التي لا تنفكُّ مُتحرِّكة مُغيِّرة من أوضاع كهاربها؟ إنها وإن تكن قد حافظت على الإطار الخارجي لشكلها محافظةً نسبية، إلا أن حشوها في تغيُّر دائب لا ينقطع، إنها في حقيقتها سلسلة من «حالات» أو من «حوادث»، أفنكون على صواب إذا قلنا للعالِم الطبيعي الذرِّي «تمسَّكْ بأهداب المنطق الأرسطي، واحسب هذه المِنضَدة «شيئًا واحدًا بذاته» حتى لا تُجاوز «قانون الذاتية» لأنه قانون من قوانين الفكر»؟ كلا، إنه لو أخذ بنصحنا كان خائنًا لعلمه. كانت دنیا أرسطو سكونية مؤلَّفة من «أشياء» كل شيء منها ثابت على طبيعة بعينها؛ ولذلك أمكن تصنيف هذه الأشياء أنواعًا أنواعًا؛ وعلى هذا الأساس قام العلم الأرسطي كله. أما دنیا عِلمنا الراهن، فذات حركة مستمرة وصيرورة دائبة، لا يمكن تصنيفها «أشياء» كما يُصنِّف البقَّال بضائعه في صناديق ورفوف؛ لأنها سير وحركة لا يحتفظ الشيء فيها بذاتية واحدة، إن «أ» لن تكون دائمًا هي «أ»، بل سرعان ما يتحوَّل تركيبها الذري، ومهمة العلم الآن لم تَعُد كمهمة العلم الأرسطي، وهي أن يُدرِك «طبائع الأشياء» لأنه لا أشياء ولا طبائع، بل مهمة العلم الآن هي أن يرصد مجرى الحوادث ليَلقف منه الاطِّرادات في سَير تلك الحوادث، وكلما وقع على اطِّراد وقع بذلك على قانون من قوانين العلم؛ فلئن كان القانون العلمي عند المنطق الأرسطي رمزه هو «كل أ هي ب»؛ أي إن «أ» من طبيعتها كذلك أن تكون «ب»، كأن نقول «كل إنسان فانٍ»، فيكون معنى ذلك أن الإنسان من طبيعته الفناء، فإن القانون العلمي عند المنطق الحديث رمزه هو «إذا وقعت أ لازمَتْها ب»، دون أن يكون معنى ذلك أن «طبيعة» أ تستلزم بالضرورة أن تُلازِمها ب، بل معناه أن ملاحظة الحوادث في مجراها الدائب المتغيِّر قد دلَّت على أن أ، ب قد اطَّرد حدوثهما مُتلازمَين، وكذلك «يُرجَّح» أنه إذا حدثت «أ» مرَّة أخرى حدثت «ب» كذلك. هكذا تغيَّرت وجهة النظر إلى العالَم، فتغيَّرت أُسسُ العلم؛ وبالتالي وجب أن يتغيَّر منطق التفكير.