من المُطلَق إلى النِّسبي
١
لم يكن يرضى الفلاسفة أن يقِفوا عند هذا العالم المحسوس المتطوِّر المتغيِّر على أنه العالم الحق، بل كانوا يَطمحون دائمًا إلى حقيقة أعلى يكون من صفاتها الثبات والدوام والسكون؛ فيستحيل — مثلًا — أن تكون هذه المثلثات التي نرسمها على الورق بأقلامنا، والتي تتفاوت في دقتها بتفاوت آلات الرسم، أن تكون هي «المثلث» الحقيقي الذي هو المعيار لتلك المثلثات المرسومة؛ فكلما قرب المثلث الرسوم على الورق من ذلك المعيار كان أقرب إلى المثلث الحق؛ ويستحيل أن يكون أفرادُ الناس الذين نُصادفهم في هذه الدنيا الأرضية هم «الإنسان» الحقيقي؛ لأن هؤلاء الأفراد إنما يتفاوتون في تحقيقهم لفكرة الإنسان، فبعضهم أفضل من بعض، هذا إلى أنهم يُولَدون ويَحيَون حينًا حياةً يَعتورها النقص والمرض ثم يموتون، أما «الإنسان» باعتباره جوهرًا فلا بد أن يكون كاملًا وثابتًا لا يتغيَّر ولا يَمرض ولا يموت. وهكذا كان الفلاسفة يَنفُذون بأبصارهم وبصائرهم خلال الجزئيات المتغيرة الفانية لعلهم يُدركون وراءها عالمًا آخر هو العالم الحقيقي النموذجي الذي ما جاء هذا العالم الأرضي بكائناته إلا ليكون صورة منه، وهي صورة تقرُب أحيانًا وتبعُد أحيانًا عن درجة الكمال في تصويرها لما جاءت تُصوِّره.
ولئن كانت الحواس هي أداة المعرفة للجزئيات المحسوسة المتغيِّرة، فليست هي أداة المعرفة للعالم النموذجي الثابت. وكيف تكون وذلك العالم الثابت لا يُدرَك بالبصر ولا بالسمع ولا باللمس؟ فهو «فكرة»، وسبيل إدراكها هو العيان العقلي. تلك كانت فلسفة أفلاطون في صميمها، وهي فلسفة المثاليين جميعًا على ما بين هؤلاء من أوجه الاختلاف في طريقة عرضهم للمذهب.
ولقد شهد القرن التاسع عشر أحد الشوامخ الذين حملوا المذهب المثالي على عواتقهم، وأعني به هيجل، الذي بلغ من الخطر في تاريخ الفلسفة حدًّا جعله مصدرًا لمعظم الاتجاهات الفلسفية المعاصرة إما بالتأييد أو بالتفنيد؛ ذلك أنك لا تكاد تجد من فلسفات القرن العشرين فلسفة لا تبدأ من هيجل، مناصرةً له في أقل الأحيان، معارضةً له في أكثرها؛ فلم يقتصر تأثيره على «الماركسية» و«الوجودية» و«البرجماتية» — وهي اتجاهاتٌ ثلاثة من أهم اتجاهات الفكر المعاصر — بل شمل كذلك الحركات الفلسفية الأخرى التي هي من شأن مُحترفي الفلسفة ولا تُجاوِزهم إلى حيث سواد المثقَّفين ثقافة عامة، وأعني بها «الوضعية المنطقية» و«الواقعية» و«الفلسفة التحليلية»؛ فأئمة هذه الاتجاهات كلها من أمثال «كیركجارد» و«كارل ماركس» و«جون ديوي» و«برتراند رسل» و«جورج مور» كانوا جميعًا في مرحلة من مراحل حيواتهم أتباعًا لهيجل.
ومؤدَّى المذهب الهيجلي هو أن الكون كله بجميع مَن فيه وما فيه، إن هو إلا تعبير عن «روح العالم» أو «الفكرة المُطلَقة»، أو إن شئت فقل «المُطلَق» على سبيل الاختصار؛ فهذا «المُطلَق» الروحاني في جوهره إنما يتبدَّى ويكشف عن نفسه في مظاهر العالم كما تقع لحواسِّنا؛ فلئن كان العالم المحسوس متطوِّرًا من مراحل أدنى إلى مراحل أعلى، فما ذاك إلا تطوُّر في كشف «الروح المطلق» عن نفسه كشفًا متدرِّجًا، كأنما هو الشريط المُنطوي يبسط نفسه بسطًا ليبدو منه ما قد كان خافيًا. وليس الكون على هذا المذهب بمختلف عن كائن عضوي حي ذي روح ورغبات وأهداف؛ فكما تستطيع أن تُفسِّر سلوك الكائن الحي إذا عرفتَ رغباته وأهدافه، فكذلك تستطيع أن تُفسِّر كل ظواهر الكون وتغيُّرات التاريخ وتطوُّرات الأنظمة إذا عرفت الروح الكوني كيف يكشف عن نفسه وإلى أي هدف يتَّجه.
فلئن كان هيجل، كأفلاطون وأرسطو، يذهب إلى القول بحقيقةٍ روحانية عُليا وراء هذا العالم المحسوس بما فيه من كائنات جزئية، إلا أنه يختلف عنهما في أن الحقيقة الروحية عنده متطوِّرة في الكشف عن نفسها، على حين أن الفيلسوفَين القديمَين كانا يَرَيان أنها حقيقة ثابتة ساكنة؛ فلا عجَب أن رأينا المنطق الأرسطي — والمنطق هو المرآة المُصوِّرة لطرائق الفكر ومبادئه — قائمًا على أساس ذلك الثبات والسكون؛ فالأنواع والأجناس في ذلك المنطق ذوات تعريفات ثابتة لأنها ذوات جواهر لا يطرأ عليها تغيُّر، وبناءً على ذلك المنطق مُحال أن تجتمع الصفة ونقيضها في شيء واحد وفي وقت واحد؛ فإذا كانت «أ» متَّصِفة بصفة «ب» في لحظةٍ ما، فيستحيل أن تكون متَّصِفة في تلك اللحظة نفسها بصفة «بَ»، فإما أن تكون «أ» متَّصِفة بالصفة «ب» أو بنقيضها «بَ» ولا ثالث لهذين الوضعين. أمَا والحقيقة الكونية متطوِّرة عند هيجل، فلا بد أن يتغيَّر تصوُّره للمنطق تبعًا لذلك، فلم يعُدْ يُرضيه المنطق الأرسطي الصوري السكوني؛ لأنه لا يُصوِّر الحقيقة المتطوِّرة، واستبدل به منطقًا تطوريًّا يقابل به الحقيقة كما تصوَّرها؛ فإذا كان شيءٌ ما «أ» سیتغيَّر بحيث يصبح شيئًا آخر «ب»، فلا بد أن تكون عناصر «ب» كائنة في «أ» لیمكن خروجها منها، وإذَن فقد كانت «أ» محتوية على شيء غيرها؛ أي محتوية على نقيضها؛ وبهذا يجتمع النقيضان في كائنٍ واحد على خلاف المبدأ الأرسطي. كيف يمكن — مثلًا — للشجرة أن تَخرُج من البذرة إذا لم تكن البذرة محتوية على ما ليس بذرة؟ وكيف يمكن للرجل أن ينشأ عن الطفل إذا لم يكن الطفل محتويًا على ما ليس طفلًا؟ وهكذا.
كان هذا المنطق التطوري، أو الجدلي كما يُسمُّونه، هو محور الفلسفة الهيجلية، فهي فلسفة مثالية تطورية، أو مثالية جدلية، تذهب إلى أن في الكون روحًا مُطلَقًا يكشف عن نفسه على طرازٍ تطوُّري أو جدلي، وهو طراز قوامُه أن تكون الخطوة الأولى — ويمكن تسميتها بالوضع — كاشفةً عن صفةٍ ما، ثم تتلوها خطوة ثانية — وهي نقيض الوضع — كاشفة عن نقيض الصفة الأولى، وأخيرًا تجيء مرحلة ثالثة — هي التِقاء الطرفين — تدمج الوضع ونقيضه في كائن واحد، ثم يصبح هذا الدمج «وضعًا» يتلوه «النقيض»، فدمجٌ جديد، وهلمَّ جرًّا. وقد جاء ماركس واستغلَّ هذه الفلسفة التطورية الهيجلية، بعد أن حوَّلها من «مثالية» تتناول الأفكار في تطوُّرها، إلى «مادية» تتناول الأوضاع الاجتماعية كما شهدها التاريخ؛ فالنظام الرأسمالي — مثلًا — فيه وضعٌ ونقيضه؛ إذ فيه صاحب رأس المال والعُمَّال الذين هم بغير مال، ويستحيل قيام الجانب الأول بغير الجانب الثاني؛ ومن ثَم يقوم الجانبان معًا في نظام واحد، لكنهما نقیضان؛ وإذَن فلا بد من صراعٍ بينهما ينتهي إلى مرحلة يلتقي فيها الطرفان، بحيث يصبح العامل هو نفسه صاحب المال.
ولو غضَضْنا البصر عن هذا التحول للفلسفة الهيجلية على يدَي ماركس، وهو تحوُّل أبقى على الجانب التطوري منها ثم استبدل بالجانب المثالي جانبًا ماديًّا، فإننا مع ذلك نستطيع أن نرى كيف كانت تلك الفلسفة مُلتقى شتَّى اتجاهات عصرها؛ مما أكسبها رَواجًا عجيبًا جاوزَت به حدود أرضها فعبَرَت بحر المانش إلى إنجلترا، وعبَرَت المحيط الأطلسي إلى أمريكا، وأصبحت هي الفلسفة السائدة هنا وهناك فترةً من زمان. وحسبُها أن تكون فلسفة تُهيِّئ للمتديِّن أساسًا لتديُّنه بعد أن هدَمه هيوم في إنجلترا، وعصرُ التنوير في فرنسا، وكانْت في ألمانيا؛ وتُهيِّئ مَنفذًا لمن أراد الخروج من الحتمية المُحكَمة التي اقتضاها علم الطبيعة النيوتوني. أضِف إلى ذلك كله أنها فلسفة وجدت من العلم المعاصر لها ما يُعزِّزها؛ فقد كان هنالك إلى جانبها «دارون» ينشر نظريته في تطوُّر الأحياء، فكأنما كان ذلك بمثابة إعلان المصالحة بين طرفين ظُنَّ أنهما ضدَّان لا يلتقيان، وهما الدين والعلم؛ فما كان أيسر على المُتحمِّسين للدين أن يُوحِّدوا بين «المطلق» الهيجلي وبين الله عند المسيحيين، كما وجد المُتحمِّسون للعلم في الفلسفة الهيجلية مَعينًا يرجعون إليه في نظرتهم التطورية التي حاولوا أن ينظروا بها إلى شتَّی ميادين المعرفة.
كان هذا المَعِين الزاخر — مَعِين الفلسفة الهيجلية — مصدرًا لتيَّارات الفكر كلها في القارَّة الأوروبية وفي إنجلترا وأمريكا على السواء، حتى حين كانت تلك الفلسفة موضعًا للهجوم والنقد. وإنه لَممَّا يستلفت النظر حقًّا أن نرى الطبائع القومية المختلفة قد أخذت من الفلسفة الهيجلية ما يتَّفق وتلك الطبائع؛ فلم يكن أثرها على القارَّة الأوروبية هو نفسه أثرها على الناطقين بالإنجليزية في إنجلترا وأمريك؛ ومن ثَم انشعبَت الفلسفة المعاصرة في اتجاهات مختلفة على الرغم من أن مصدرها واحد؛ فقد رأيت كيف أخَذ ماركس فلسفته عن الفلسفة الهيجلية بعد تحوير، وكذلك فعل كيركجارد الوجودي حین ثار على هيجل ونسقِه الذي يجعل الوجود كله كائنًا عضويًّا واحدًا؛ فقد أفزعه — على حد قوله — أن يرى نفسه فقرة من فقرات هذا الكائن الكبير، لا يتفرَّد وحده بوجود خاص به يُمارس فيه إرادته الحرة وشخصيته المستقِلَّة. وهكذا استقى ماركس وكيركجارد من مَعِين الفلسفة الهيجلية نواحيها التاريخية والسياسية والأخلاقية والدينية.
لكنَّ هنالك ضربًا آخر من الثائرين على الفلسفة الهيجلية، الذين لا يكفيهم أن يرفضوا القول ﺑ «المُطلَق» مضمونًا للفلسفة ثم يحتفظوا بأسلوب تلك الفلسفة من حيث طريقة التعبير وطريقة البناء النسقي، بل هم يثورون على المضمون وعلى الأسلوب معًا، ومن هؤلاء «رسل» و«مور» و«وتجنشتين» والوضعيِّين المنطقيين والواقعيين؛ فهؤلاء يُنكرون أن تكون مهمة الفلسفة إقامة بناء نسَقي يشمل الوجود بكل ما فيه من كائنات ومن علم وفن وأخلاق ودین وسیاسة. ولو استثنَينا من هؤلاء «رسل» وحده، وجدناهم جميعًا ممن لا يتعرَّضون بعملهم الفلسفي لمشكلات الإنسان في حياته الخاصة والعامة، ومن المشكلات الفكرية الأخرى التي كانت من تقليد الفلسفة أن تتناولها بالبحث؛ لأن هذه كلها من وجهة نظرهم أمور لا تدخل في مجال عملهم الفلسفي الذي يَرَونه مقتصرًا على التحليل المنطقي وحده.
لم يعُدْ فيلسوف هذا العصر يحلم ببناءٍ نسَقي يشمل الكون بأسره، لا لأنه حُلمٌ بعيد المنال متعذِّر التحقيق إلا على العباقرة القادرين، بل لأنه حلم وكفى، لا يتعلَّق به إلا الحالمون الواهمون؛ فالعالَم كثرة لا وحدة، فيه مجموعة من وقائع، ولكل واقعة عبارة تَصدُق عليها، دون أن يتحتَّم لشتَّى العبارات الواصفة للوقائع أن تنصبَّ في نسقٍ استنباطي واحد؛ لأن الوجود نفسه الذي جاءت العبارات لتصِف أجزاءه متغیِّر متعدِّد الجوانب.
تحطَّم «المُطلَق»، ضالة الفلسفة المثالية المنشودة، وحلَّ محلَّه مسائلُ جزئية محدودة، يشتغل الفيلسوف بواحدة منها أو بطائفة قليلة، لكنه في كل حالة يَقنَع بمسألة واحدة يصبُّ عليها تحليله؛ فليس بين الفلسفات المعاصرة كلها على اختلافها، الوجودية والبرجماتية والواقعية الجديدة والوضعية المنطقية، ليس بين هذه الفلسفات المعاصرة فلسفةٌ واحدة تبحث عن الحقيقة الروحانية الواحدة المُطلَقة من حدود الزمان والمكان، بل هي جميعًا — على عكس ذلك — تبحث في الفرد الواحد، وفي الموقف الجزئي الواحد، وفي الشيء الواحد، وفي الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة.
٢
إن من أهم ما جاءت الفلسفة التحليلية المعاصرة لتؤكِّده، هو أنه ليس في مُستطاع العقل الاستنباطي الصِّرف، الذي يضع لنفسه المقدمات ثم يستدل منها النتائج، أن ينسج من جوفه نسيجًا نظريًّا فإذا هذا النسيج الداخلي يُطابق الواقع الطبيعي الخارجي؛ فقد كان ذلك الزعم هو محور الفلسفة الكانْتيَّة؛ إذ لم يشكَّ «كانْت» في أن العقل بطبيعته يصوغ أحكامًا ضرورية يقينية عن الطبيعة، ثم يسأل نفسه بعد ذلك: كيف أمكن ذلك؟ كيف أمكن مثلًا — من وجهة نظر كانْت — أن تكون الهندسة الإقليدية من نِتاج العقل الصِّرف، ثم تكون في الوقت نفسه مطابِقةً للمكان الخارجي كما هو كائن في الطبيعة؟ وإنما جاز ﻟ «كانْت» أن يسأل سؤالًا كهذا لأن العلم كما كان يراه عصره (القرن الثامن عشر) قائم على أُسُس نیوتن، ومؤدَّاها جميعًا هو أن القوانين العلمية مُطلَقة لا يتوقف صِدقها على مكان معيَّن أو زمان معيَّن أو شروط خاصة.
لكن العلم قد تغيَّر في هذه الناحية تغيرًا جوهريًّا إبَّان القرنَين التاسع عشر والعشرين، ولم يعُدْ يقول العلماء عن قوانين العلم إنها مُطلَقة الصِّدق رياضية اليقين، بل يقولون إنها نِسبية؛ فقوانين علم الطبيعة النيوتوني — كقانون الجاذبية مثلًا — إن تكن صادقةً على محيطنا الأرضي المحدود، فهي غير صادقة على الأبعاد الفَلكية من جهة، ولا على الذرَّة الصغيرة من جهة أخرى. ولكي نشمل بأحكامنا العلمية هذين الجانبين أيضًا فلا مندوحةَ لنا عن قوانين أخرى غير التي صاغها نیوتن، والتي أقام كانْت فلسفته على أساسها. وهذا وحده كافٍ للدلالة على أن القوانين العلمية إنما تتغيَّر لِتُقابل الظروف المتغيِّرة، وليست هي بالمُطلَقة يُمليها العقل الصِّرف إملاءً.
وعِلم الهندسة في تطوُّره الحديث هو خير مثل يُوضِّح لنا كيف تم الفصل بين ما يبنيه العقل وحده غير معتمِد على تجرِبة خارجية، وبين ما هو واقع في الطبيعة؛ فقد لبِثَت هندسة إقليدس منذ عصر اليونان لا يُنافِسها مُنافِس في ميدانها، ولم يشكَّ أحدٌ طوال القرون في أن نظريات تلك الهندسة الإقليدية — رغم كونها استدلالات عقلية صِرف — فهي مع ذلك وصفٌ للطبيعة كما هي قائمة. ومن ذا كان يتردَّد في أن كل مثلث في الطبيعة إنما يتَّصِف بما تقول الهندسة الإقليدية إن المثلث النظري يتَّصِف به، كأن يكون مجموع زواياه قائمتين وما إلى ذلك؟ كلا، لم يكن أحد لِيَشكَّ في أن هندسة إقليدس صحيحة من الوجهة الرياضية النظرية ومن الوجهة الطبيعية التطبيقية على حدٍّ سواء، بل لم يكن أحد لِيَظنَّ أن هذا التطابق بين نِتاج العقل وواقع الطبيعة أمرٌ يُثير الدهشة أو يحتاج إلى برهان. والفضل يرجع إلى عمانوئيل كانْت في أن الأمر يستوقف النظر ويستوجب البحث. نعم إن كانْت نفسه لم يشكَّ في قيام هذا التطابق بين الجانبين، لكنه على الأقل نبَّه الأذهان إلى أنه يحتاج إلى تفسير، وكان تفسيره هو نفسه مرتكِزًا على ما أسماه بالقضية «التركيبية القبلية»، وبتحليله لكيفية تكوين هذا النوع من القضية التي يعتمد مضمونها على التجربة، ومع ذلك يحكم الإنسان بصدقها بغضِّ النظر عن التجربة.
بهذا تنشأ المشكلة التي تهمُّنا فيما نحن الآن بصدده، وهي إذا كان من الجائز رياضيًّا أن نبنيَ عِدَّة هندسات، ثم إذا كانت إحدى هذه الهندسات فقط هي التي تُطابق الطبيعة الخارجية، فأيُّها يكون؟ افرض مثلًا أن زوايا المثلث مجموعها في إحدى الهندسات يُساوي قائمتين، وفي هندسة أخرى يُساوي أكثر من قائمتين، وفي هندسة ثالثة يُساوي أقل من قائمتين، فكيف نعرف أيَّ هذه الهندسات الثلاثة هو الذي يصِف المكان الطبيعي الخارجي حين تُحدِّده ثلاثة أضلاع؟ أهو العقل الذي يهدينا أيُّ هذه الهندسات ينطبق على الطبيعة؟ كلا؛ فالهندسات الثلاثة من بناء العقل على حدٍّ سواء، إنما هي المشاهَدة التجريبية التي تُقرِّر لنا ما ينطبق من نظريات الرياضة البحت وما لا ينطبق.
لكن كيف تتم هذه المشاهدة التجريبية؟ أتقول — مثلًا — إنها مشاهَدة لعمليات قياسية نقوم بها، فنقيس الأطوال والأبعاد والمساحات على الطبيعة لنرى ما هنالك؟ نعم، غير أن المشكلة هنا أعقَدُ مما تظن، فكيف تقيس البعد بين نقطتين — مثلًا — على الطبيعة؟ أتقيسه بوحدة قياسية كالمتر أو الميل أو ما شئت؟ لكن كيف تعلم أن الوحدة القياسية — المتر مثلًا — لا يُغيِّر طوله حين تنقله من مكان إلى مكان؟ كيف تعرف أنك إذا قِستَ به طولًا هنا على الأرض، ثم حدثَ أن قِستَ به طولًا هناك على سطح القمر، ظلَّ ثابتًا في كلتا الحالتين لا يَنقُص ولا يزيد؟ ألا يجوز أن يكون انتقال الوحدة القياسية من مكان إلى آخر عاملًا على تغيُّر طولها، أم تقول إنك ستستوثق من ثبات الوحدة على حالها في الظروف المختلفة بأن تلجأ إلى ضبطها بوحدةٍ أخرى؟ لكن هذه الوحدة الضابطة تقع في نفس المشكلة من جديد؛ لأنك ستضبط بها طول المتر هنا، ثم تنقلها معك لتضبط بها طول المتر هناك، وفي انتقالها هذا قد تتعرَّض لنفس ما كانت الوحدة القياسية الأولى قد تعرَّضَت له من تغيُّر في طولها بسبب التغير في مكانها.
كلا، إنه مُحال علينا أن نعلم على سبيل اليقين المُطلَق بأن بُعدَين في مكانين مختلفين مُتساويان؛ لأن انطباق وحدة قياسية معيَّنة عليهما في مكانَيهما المختلفَين لا يَضمن لنا هذا التساوي؛ إذ — كما قلنا — قد يكون من شأن الوحدة القياسية أن تُغيِّر من طولها في انتقالها من مكان إلى مكان، وليس ثَمَّة وسيلة لضبط هذا التغير ومقداره، فما حيلتنا إذَن؟
لا حيلةَ لنا سوى أن نفرض فرضًا اتفاقيًّا بأنه إذا انطبقت الوحدة القياسية المعيَّنة على بُعدَين في مكانين مختلفين، عدَدْناهما متساويَين بحكم الاتفاق لا بحكم الحقيقة الواقعة المُطلَقة. افرض أنك قِستَ ارتفاع شخص فوجدته مترًا وثلاثة أرباع المتر، ثم افرض أن كل ما في العالم قد زاد خمسة أمثاله بنسبة واحدة، فهل في وُسعِك أن تعلم ذلك؟ كلا؛ لأنك ستقيس الشخص نفسه بالمتر وستجده كما كان بالأمس مترًا وثلاثة أرباع المتر، وليس هنالك من ضابط يُبيِّن لك إن كانت الوحدة القياسية قد تغيَّرَت أم لبِثَت على ما كانت عليه بالأمس؛ لأن الوحدة الضابطة نفسها سيطرأ عليها التغير نفسه؛ وإذَن فمُحال على الإنسان أن يعلم إن كانت الأشياء اليوم محتفظة بنفس أطوالها وأبعادها بالأمس، أم زادت كلها بنسبة واحدة أو نقصت كلها بنسبة واحدة؛ وإذَن فلم يبقَ أمامه سوى أن يفرض على سبيل الاتفاق أن أطوال اليوم هي نفسها أطوال الأمس.
ونعود إلى سؤالنا: كيف يمكن — إزاء الهندسات الكثيرة القائمة — أن نعلم أيُّها ينطبق على الطبيعة الخارجية؟ والجواب هو: إن العلم بذلك علمًا مُطلَقًا مُحال، والأمر بعد ذلك متوقِّف على اختيارنا نحن؛ فإذا قِسنا زوايا مثلث في الطبيعة، أضلاعه أشعة ضوئية، وأركانه أجسام فَلكية فسيحة الأبعاد بعضها عن بعض، ثم وجدنا مجموع الزوايا مُنحرفًا عن قائمتين إما بالزيادة أو بالنقص؛ فلا فرقَ عندئذٍ بين أن تقول إن هندسة إقليدس هي التي تنطبق على العالم، وما انحراف مجموع زوايا المثلث الذي قمت بقياسه إلا نتيجة لتغيُّرات تطرأ على أشعة الضوء وعلى وحدات القياس، أو أن تقول إن الهندسة اللاإقليدية هي التي تنطبق على العالم؛ لأن أشعة الضوء ووحدات القياس لا تتعرَّض للتغير؛ فكِلا هذين القولين سواء. وإنه لَممَّا يجدُر ذِكره في هذا الصدد أن أينشتين — بنظريته في النِّسبية العامة — يجعل هندسة الأبعاد الفَلكية هندسة لا إقليدية، وهندسة الأبعاد الأرضية هندسة إقليدية؛ لأن الانحراف في الأبعاد الأرضية يبلغ من الصِّغَر حدًّا يستعصي على الملاحظة وعلى القياس؛ وإذَن فمن الممكن إهماله؛ فإن كان المثلث — مثلًا — مرسومًا على الأرض، جاز لنا أن نُطبِّق عليه هندسة إقليدس ونقول إن زواياه تُساوي قائمتين، وأما إن كان الثلث مكوَّنًا من أشعة ضوئية فسيحة الأبعاد، فالانحراف عن هذا المقدار عندئذٍ يَبلغ حدًّا لا يمكن تجاوُزه؛ وبالتالي يتحتَّم أن نُطبِّق عليه هندسةً غير هندسة إقليدس.
ومؤدَّى ذلك في تصوُّرنا للمكان هو ألا نجعل المكان ترتيبًا ثابتًا مُطلَقًا للأشياء الطبيعية بحيث يمكن الحكم عليه بحكمٍ ثابت لا يتغيَّر، كلا ولا هو بالحقيقة الذاتية التي تَنبُع من نفس الإنسان، بل هو أمر يتوقف على المشاهدة وعلى اتفاقات يتواضع عليها رجال العلم في قراءة تلك المشاهَدة، وللرياضي بعد ذلك أن يبنيَ بعقله المحض ما شاء من بناءٍ هندسي، لكن عالم الطبيعة مضطرٌّ ألا يأخذ بتلك الهندسة العقلية والرياضية كما هي بحذافيرها، ويتصوَّر العالم الطبيعي قائمًا على أساسها هي وحدها؛ وإذَن فليس صِدق الهندسة على الطبيعة أمرًا مفروغًا منه كما ظنَّ «كانْت»، بحيث راح يُنفِق جهده كله في تفسيره دون أن يتشكَّك فيه.
ولقد ضربنا بالهندسة مثلًا لشدة الصلة بينها وبين الفلسفة في تاريخها الطويل، حتى لَيَجوز لنا أن نقول إنه لو كانت الهندسة قد تغيَّرَت لتغيَّرَت الفلسفة تبعًا لها؛ فما أكثر الفلاسفة منذ اليونان، الذين اتخذوا من علم الهندسة نموذجًا يحتذونه في بناءاتهم الفلسفية، ولمَ لا يفعلون وهُم من ذلك العلم الرياضي بمثابة من يقف إزاء حقيقة لا يتطرَّق إلى صِدقها شك، وهي ليست حقيقةً عقلية نظرية فحسب، بل هي أيضًا حقيقة طبيعية؛ ومن ثَم كانت قوة الفلاسفة العقليين في تاريخ الفلسفة وكان هزال الفلاسفة التجريبيين؛ لأن الأولين إنما كانوا يَنسُجون على غِرار علم ثابت ويقيني، وأما الآخرون فكانوا يعتمدون على مشاهدة الحواس، وهي ليست بمثل هذا اليقين ولا ذلك الثبات. ولم ینكشف موضع الخطأ في هذا كله إلا حين تبيَّن في عصرنا الحديث أن صِدق الرياضة صِدقٌ تحلیلي صِرف، ولا شأن له بالطبيعة وكيف تكون؛ فإذا كان في مُستطاع الرياضي أن يستند في إقامة البرهان على نظرياته إلى بديهيات، فليس في مُستطاعه أن يُبيِّن أن هذه البديهيات نفسها صادقة على أمور الواقع؛ وإذَن فلْتكفَّ الرياضة عن التحدث عن الطبيعة، ولْيُترَك هذا للتجرِبة وحدها؛ وبهذا فقدَ الفلاسفة العقليون حليفهم القوي، وزال من طريق الفلاسفة التجريبيين أكبر عائق كان يعترض سبيلهم.
ولو حدث هذا الكشف أيام اليونان لتغيَّر التفكير الفلسفي كله منذ ذلك الحين، ولم يكن مستحيلًا أن يكون بين تلاميذ إقليدس شابٌّ من قبيل «بولیاي» يعترض على أستاذه قائلًا: ألا يجوز أن نُغيِّر من الفروض فتتغيَّر النظريات تبعًا لذلك؟ فعندئذٍ كان لا بد أن يؤدِّي بهم البحث إلى أن صِدق نظريات إقليدس معتمِد على قيام فروضها، وأنه لا يجوز — بناءً على ذلك — أن نقول عنها إنها الهندسة التي لا هندسةَ سِواها في وصف العالم الواقع.
لو كان شيء كهذا حدث في عهد اليونان، لما طفِق أفلاطون يبحث عن الحقائق الثابتة التي تُقابل الحقائق الرياضية الثابتة، ولَمَا تشكَّك المُتشكِّكون في صِدق المعرفة التجريبية لعدم تحقُّق اليقين الرياضي فيها، ولَمَا جاهَد فلاسفة العصور الوسطى لتأييد اللاهوت ببراهين عقلية تُشبِه البراهين الرياضية، ولَمَا أخرج سبينوزا كتابه المُسمَّى «أخلاق» مُقِيمًا لبنائه على غِرار المنهج الهندسي بلا تحوير ولا تغيير، ولَمَا لَقِي «كانْت» ما لَقيَه من عناء في «نقد العقل الخالص» ليُبيِّن به كيف تكون قوانين العلوم عقلية يقينية من جهة وتجريبية تطبيقية من جهة أخرى؛ لأنه كان سيعلم أن مثل هذا الاقتران غير قائم؛ وبالتالي فهو بغير حاجة إلى سؤال.
•••
ويُكمل هذه النسبيةَ في المكان نسبيةٌ في الزمان؛ فما وسيلتنا إلى الحكم على فترتین زمانيتين بأنهما متساويتان بغضِّ النظر عن الحالة النفسية عند من يقيسهما؟ إننا نحكم على فترتَين بالتساوي بناءً على ساعاتنا، وهذه الساعات نضبطها على ساعة في المرصد مثلًا نتَّخذها معيارًا لنا نرجع إليه، ولكن كيف تُضبط ساعة المرصد؟ يضبطها الفَلكيُّون على مواضع النجوم وحركاتها؛ لأن هذه الحركات وتلك المواضع هي التي تعكس لنا حركة الأرض في دورانها حول نفسها وحول الشمس؛ وإذَن فدوَران الأرض هو في النهاية الساعةُ القياسية، ولكن ماذا يضمن لنا أن يكون دوَران الأرض من الاطِّراد والانتظام بحيث نجزم أن فترات انتقالها من موضع معيَّن إلى نفس هذا الموضع مرةً أخرى هي فترات متساوية فتَصلح أن تكون مرجعًا في القياس الزمني؟ إننا إذا جعلنا اليوم هو الفترة الممتدَّة من نقطة الزوال إلى نقطة الزوال الذي يليه، كانت الأيام غير متساوية الطول؛ وبالتالي فهي لا تَصلح وحدات زمانية متساوية، والذي يُحدث اختلافًا في أطوال هذه الوحدات هو أن فَلك الأرض حول الشمس بيضيُّ الشكل؛ فالأرض تكون في بعض مواضعها أقرب إلى الشمس منها في بعض مواضعها الأخرى، ولهذا أثرُه في دورانها. والفلكيُّون على علم بهذه الانحرافات؛ ولذلك تراهم لا يَتَّخذون من الزمن الشمسي مقیاسهم الأخير، بل يَلجئون إلى نجمٍ أكثر بُعدًا من الشمس، وهذا البُعد الشاسع يجعل اتجاه الأرض بالنسبة له ثابتًا نسبيًّا، ولكنا إذا أردنا الدقة المُطلَقة فالزمن النجمي نفسه ليس مُطلَق الثبات ولا كامل الاطِّراد؛ لأن محور الأرض في دورانها لا يَثبُت على اتجاه واحد، بل يميل هنا وهناك كما يتذبذب محور الخُذْروف وهو يدور.
ومن المشاكل المنهجية في هذا الصدد أن علماء الطبيعة إذ يَهمُّون بصياغة قوانين الحركة وسرعة الأجسام، إنما يعتمدون بطبيعة الحال على قياسٍ ثابت للزمن، لكننا إذا عُدنا فسألْنا: وكيف عرفت أن هذا القياس الزمني ثابت؟ كان الجواب: هو ثابت لأنه هو القياس الذي تَصدُق عليه قوانين العلم الطبيعي. وفي هذا دَوْر؛ فمعرفة قياس ثابت للزمن تتوقف على معرفته قوانين الطبيعة، ومعرفة قوانين الطبيعة بدورها متوقفة على معرفة قياس ثابت للزمن.
ولا مَخرَج من هذا الدَّور إلا بالاعتراف بأننا إذ نقول عن فترتين من الزمن إنهما متساويتان، فلسنا بذلك نزيد على قولنا إننا قد اتفقنا على أن يكون معنی التساوي الزمني هو كذا وكذا، ولا حاجة لنا بعد ذلك بأن نسأل إن كان هذا التعريف الاتفاقي هو وصف للحقيقة الواقعة المُطلَقة أو ليس كذلك؛ لا يجوز لنا أن نسأل: هل الوحدة الزمنية التي يستند إليها الفلكيُّون في قياس الزمن هي مطَّرِدة حقًّا؟ إذ نكتفي بأن يكون ذلك على سبيل التعريف الذي نأخذ به. نعم يكفينا أن نتواضع معًا على نوع من الزمن نختاره، كظهور نجم معيَّن مرَّتَين متتاليتين مثلًا، ونجعله معيارًا نقيس إليه سائر الفترات الزمنية؛ وإذَن فالزمن قياسه نِسبي لا مُطلَق؛ إذ يُقاس على وحدة معيارية نحن الذين جعلناها معيارًا فرَضْنا فيه الثبات.
ولْنَترك الآن مشكلة قياس الزمن لِنَسأل سؤالًا آخر عن ترتيب لحظات الزمن ترتيبًا يجعل منها ما هو سابق وما هو لاحق؛ فكيف نعرف أن حادثة أسبق في الزمن من حادثة؟ لا تقُل إننا نلجأ في ذلك إلى ساعاتنا؛ لأن هذه الساعات أدوات لقياس الزمن، ولا بد أن يكون الزمن مستقِلًّا عن أدوات قياسه، فلا بد أن تكون هناك وسيلة أخرى نستدل بها على تتابُع لحظات الزمن. إنه لَيُقال أحيانًا إن في الظواهر الطبيعية نفسها ما يدل على نوع من الترتيب الزمني؛ فنُموُّ البذرة في شجرة وتفاعُل العناصر الكيماوية في مركَّب واحد وأمثالها، تُبيِّن اتجاهًا في السير لا ينعكس؛ فالشجرة لا تعود فتصبح بذرة من جديد، والمركَّب الكيماوي لا يعود من حالة التركيب إلى حالة التحليل، ولكننا ينبغي أن نتذكَّر هنا أن حُكمَنا على هذه الظواهر كلها باتجاه واحد في سيرها إنما هو نتيجة المشاهدة، وليس هناك ضرورة عقلية تحتم أن يكون هذا وحده هو طريق السير؛ وإذَن فإذا قلنا عن لحظات الزمن إنها مرتَّبة سابقًا فلاحقًا، وإن هذا الترتيب لا ينعكس، مُهتدين في ذلك ببعض الظواهر الطبيعية وطريق سيرها، فإنما نقول شيئًا نسبيًّا، ينسب الأمور بعضها البعض، دون أن يكون لها ما يفرض علينا صدقها بصورة مطلقة.
ومن المشكلات الهامة التي أثارها أينشتين في نِسبية الزمن، تحديد «الآنيَّة» ما هو؛ ماذا نعني حين نقول عن حادثتين وقَعتا في مكانَين متباعدَين إنهما وقعَتا في آنٍ واحد؟ إنهما تكونان كذلك إذا لم تكن إحداهما لا قبل ولا بعد الأخرى، ولكن ما وسيلتنا إلى معرفة ذلك؟
إنك لكي تعرف أن حادثة وقَعت في مكان بعيد عنك، لا بد لك من رسالة أو إشارة تأتيك من هناك لِتَدُلك على أن تلك الحادثة قد وقعت، كما يأتي صوت الرعد وضوء البرق، لكن وصول هذه الإشارات إلى حواسِّك لم يكن في نفس اللحظة التي وقع فيها الحادث؛ إذ لا بد للإشارة الصوتية أو الضوئية من زمن تستغرقه في الانتقال من مكان وقوع الحادثة إلى مكان استقبالها، فكيف تقيس سرعة انتقال هذه الإشارات؟ ولنَحصُر سؤالنا فنقول: كيف نقيس سرعة الضوء؟ هل نُرسل إشارةً ضوئية من مكان إلى مكان آخر، ثم نُسجِّل زمن صُدورها وزمن وصولها لنعرف المدة المُستغرَقة في انتقالها، ونقسمها على المسافة بين المكانين فتكون السرعة؟ لكن ذلك يقتضي أن تكون هنالك ساعتان؛ إحداهما عند مكان الإرسال وأخرى عند مكان الوصول، ولا بد من ضبط الساعتين إحداهما على الأخرى لنعرف أنها يَدُلان دلالةً واحدة على طول فترة من الزمن، وهذا نفسه يقتضي أن نعرف كيف نُحدِّد الآنيَّة لحادثَين يَقعان في مكانَين متباعدَين. وهكذا نقع في الدَّور، أردنا أن نُحدِّد معنى الآنيَّة فلجأنا إلى قياس سرعة الضوء، ثم أردنا قياس سرعة الضوء فلجأنا إلى الآنيَّة.
هنا قد يُقال: ولماذا نستخدم ساعتين لتسجيل وقت إرسال الإشارة الضوئية ووقت وصولها؟ لماذا لا نستخدم ساعة واحدة، فنُرسل شعاعًا من الضوء من مكانٍ ما ونجعله ينعكس على مرآة في المكان الآخر فيَرتدُّ إلينا؟ وبهذا فمن نقطة واحدة نستطيع أن نُسجِّل بساعة واحدة لحظةَ الإرسال ولحظة وصول الشعاع المرتد، ونقسم المدة بين اللحظتين نِصفين، فيكون نِصف المدة قد استُغرق في وصول الإشارة الضوئية من مكان إصدارها إلى مكان وصولها؛ وبهذا نستخرج سرعة الضوء. قد يُقال هذا، ولكنَّ في هذا افتراضًا بأن سرعة الضوء في الذهاب هي نفسها سرعتها في الإياب، مع أنه لا وسيلة لدينا لمعرفة ذلك، ولو أردنا معرفة تَساوي السرعة في الاتجاهين فلا بد من ساعة ثانية تُوضَع في مكان الوصول؛ ومن ثَم نعود إلى المشكلة التي اعترضَتْنا منذ حين.
إننا إذ نرى لمعة البرق نفرض في شيء من التجوز أن لحظة استقبالنا للمعة الضوء هي نفسها لحظة إرسالها، معتمِدين في ذلك على أن الضوء أسرع جدًّا من أن یكون لزمن انتقاله من موضع السحاب إلينا أثرٌ ملحوظ؛ فإذا أردنا بعد ذلك أن نقيس سرعة الصوت — صوت الرعد — حسَبْنا الفترة بين رؤيتنا للمعة ضوء البرق وبين سمعِنا للصوت، وجعلناها هي الفترة التي استغرقها الصوت في انتقاله من السحاب إلينا، وقسمنا الزمن على المسافة فيكون لنا بذلك سرعة الصوت؛ أي إننا نعتمد في حساب سرعة الصوت على وصول إشارة الضوء إلينا.
ولو كان في الطبيعة نوعٌ آخر من الإشارات أسرع من الضوء نفسه بدرجة كبيرة، بحيث إذا جاءتنا إشارةٌ منها من مصدر بعيد جازَ لنا أن نُهمِل زمن انتقال الإشارة من مصدرها إلينا، وأن نجعل زمن وصولها هو نفسه زمن انبعاثها، أقول لو كان هنالك إشارات كهذه أسرع من الضوء لأمكن أن نقيس سرعة الضوء إليها، لكن الضوء هو أسرع ما في الطبيعة؛ وإذَن فليس هنالك ما نقيس إليه سرعة الضوء، بحيث لو فرضنا أننا أرسلنا إشارة ضوئية إلى المرِّيخ ثم انعكست إلينا، ثم لو فرضنا أن الإشارة في ذهابها وإيابها قد استغرقت عشرين دقيقة مَقِيسةً بساعاتنا على الأرض، لَمَا استطعنا أن نعرف معرفةً مُطلَقة الصدق متى وصلت إشارتُنا إلى المرِّيخ؛ إننا لا نستطيع ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نقول إنها ذهبت في نصف المدة وعادت في نصف المدة الآخر؛ إذ لا يجوز لنا أن نفرض أن سرعة الضوء في ذهابه هي نفسها سرعته في إيابه؛ ومعنى ذلك أن لحظة الوصول إلى المرِّيخ قد تكون أيَّ لحظة في العشرين دقيقة؛ فقد يكون الذهاب قد تم في خمس دقائق والإياب في خمس عشرة، وقد يكون الذَّهاب في عشر والإياب في عشر، وقد يكون الذهاب في خمس عشرة والإياب في خمس وهكذا؛ فليس إذَن في وُسعِنا أبدًا أن نقول عن أية حادثة مما قد وقع على الأرض خلال العشرين دقيقة إنها متآنية مع لحظة وصول الإشارة الضوئية إلى المرِّيخ؛ وهذا هو ما يُسمِّيه أينشتين بنسبية الآنيَّة. وخلاصة القول أنه ليس في الكون زمنٌ مُطلَق بحيث نقول عن الكون كله معًا إنه في لحظة زمنية واحدة؛ أي إنه كله في آنيَّة؛ لأن هذه الآنيَّة نفسها نِسبية.
المكان والزمان كلاهما نِسبيان، فليس هذا ولا ذاك كائنًا مُطلَقًا ذا حقيقة ثابتة، بل وليسا نسبيَّين بمعنى أنهما ذاتيَّان يُحسُّهما كلٌّ منا على نحوٍ خاص به، بل هما نِسبيَّان بمعنًى آخر، وهو أنه من الممكن عقلًا أن نُرتِّب الحوادث على عِدَّة صور زمنية وعدَّة نسَقات من الترتيب المكاني، أما أيُّ هذه الصور والنسقات هو الذي يُطابِق الواقع فعلًا، فأمرٌ موكول للتجرِبة وحدها.
٣
حلَّ الاحتمال محلَّ اليقين في العلوم الطبيعية (راجع الفقرة ٤ من الفصل السابع)، وأثبت التحليل الحديث أن يقين الأحكام الرياضية ناشئٌ من كون هذه الأحكام تَكرارية لا تُضيف شيئًا في النتائج عما كان متضمَّنًا في المقدمات (راجع الفصل السادس). وأظهرَ التطور أن العالم متغيِّر أبدًا؛ فهو فِعل دائب وليس هو بالحالة السكونية التي تخيَّلها أفلاطون في عالم المُثل. وجاءت النسبية والطبيعة الذرِّية في عصرنا الحديث فقضَت على كل تصوُّر يجعل من الكون حقيقةً مُطلَقة في طبيعته أو في مكانه وزمانه.
وكذلك الأمر في عالم القِيَم الجمالية والأخلاقية؛ فقد زال عنه سراب اليقين الرياضي الذي كان الفلاسفة يلتمسونه فيه، وكشفَ التحليل المنطقي للأحكام الدالة على قِيَم أنها ليست من المعرفة إطلاقًا، فضلًا عن أن تُوصَف بما يُوصَف به أدقُّ أنواع المعرفة من يقين.
وأوَّل من حاوَل من الفلاسفة أن يَسلُك الأخلاق مَسلَك العلوم الرياضية اليقينية هو سقراط، الذي لم يدَّخِر وُسعًا في بيان الجانب العلمي من الفضيلة؛ فليست هي بالأمر الذاتي الذي تُشكِّله الأهواء كيف شاءت، بل هي — كعلم الهندسة سواءً بسواء — يمكن استدلالها استدلالًا منطقيًّا من البديهيات كما قد فعل إقليدس في الهندسة؛ فالفضيلة عنده علم والرذيلة جهل؛ بمعنى أنك تستطيع أن تُعرِّف الشجاعة — مثلًا — كما تُعرِّف المثلث، ومن التعريف تستخرج كل ما يترتَّب عليه، وحيث يقع الخطأ في هذه العملية العقلية يكون الضلال عن الجادة المستقيمة ويكون ما نُسمِّيه بالرذيلة، أما إذا استقام المنطق من أول الشوط إلى آخره فيَستحيل ألا يؤدِّي بصاحبه — في الأخلاق وفي الرياضة على السواء — إلى نظريات صحيحة؛ وبالتالي إلى سلوكٍ صحيح. وكما أن النظريات الهندسية الصحيحة صحيحةٌ بالنسبة للبشر أجمعين أيًّا ما كان زمانهم ومكانهم، فكذلك النظريات الخلقية الصحيحة صحيحة بالنسبة للبشر أجمعين في كل مكان أو زمان.
لكن الفضل يرجع بعد ذلك ﻟ «كانْت» في إبراز مشكلة هذه البديهيات نفسها، كيف أمكن للإنسان أن يحكم بصدقها على الواقع؟ إنه إذا كانت النظريات التي ينتهي إليها الاستنباط تستند في برهان صِدقها على الأصل الذي استُنبطَت منه، فماذا نقول في هذا الأصل نفسه؟ وهنا يُجيب «كانْت» جوابه المشهور بأن بدیهیات الأخلاق هي كبدیهیات الرياضة وعلم الطبيعة على السواء، «تركيبية قبْلية» معًا؛ أي إنها تُخبِر عن العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه يكون صِدقها ضروريًّا عند العقل. وقد كتب «كانْت» كتابه «نقد العقل الخالص» ليُبيِّن هذه الحقيقة بالنسبة لعلمَي الرياضة والطبيعة، ثم كتب كتابه «نقد العقل العملي» ليُبيِّنها بالنسبة للأخلاق؛ ففي هذا الكتاب يُوضِّح الفيلسوف كيف ترتدُّ الأفعال الخلقية إلى بديهية أوَّلية هي التي يُطلَق عليها اسم «الأمر المُطلَق»، وهو: «افعل بحث يَصلح فِعلك أن يكون مبدأً لتشريعٍ عام.» أي إن الأمر المُطلَق يقضي بأن يفعل الإنسان أفعاله بحيث لو فعل كل البشر أفعاله هذه لَمَا ترتَّب على هذا التعميم شيء من تناقُض؛ فبناءً على ذلك — مثلًا — لا يجوز لإنسان أن يكذب؛ لأنه لو كذَب الناس جميعًا لانتفى أن يسمع أحدٌ لأحد أو أن يثق أحدٌ في أحد؛ وبالتالي يَبطل المجتمع من أساسه. وليس لنا أن نسأل: ولماذا نُطيع هذا الأمر المُطلَق؟ والجواب هو: لأن طاعته هي نفسها طاعتنا للعقل؛ إذ إن الخروج على الأمر المُطلَق هو في الوقت نفسه وقوعٌ في نتائج متناقضة، والعقل يأبى التناقض. الأمر المُطلَق في الأخلاق هو في منزلة البديهيات في الرياضة وفي علم الطبيعة، يرى العقل صِدقها بحدسه، فيرى ذلك الصدق فيها أمرًا ضروريًّا.
وهكذا يَبلغ تشبيه الأخلاق بالعلوم، والتِماس الأحكام اليقينية المُطلَقة فيهما معًا على حدٍّ سواء، حدَّه الأقصى على يدَي «كانْت»، ولكن فات «كانْت» وغيره من الآخذين بضرورة الأحكام الخُلقية أن هذه المُماثَلة بين الأخلاق والعلوم سينتهي بها الأمر إلى وبالٍ على الأخلاق نفسها؛ فقد عرَضْنا على القارئ خلال هذا الكتاب كيف أظهر التحليل المنطقي الحديث استحالة أن تكون الجملة الواحدة تركيبية وقبْلية في آنٍ معًا؛ لأنها إذا كانت تركيبية — أي إخبارية — فيستحيل أن تكون عندئذٍ ضرورية الصدق، وهي إذا كانت قَبْلية — أي ضرورية الصدق — فيَستحيل أن تكون في الوقت نفسه حاملةً خبرًا عن العالم؛ فإن كانَت قضايا العلوم الطبيعية تُخبرنا عن العالم كيف تقع ظواهره، فليست تلك القضايا بضرورية الصدق؛ بمعنى أن العقل يمكنه أن يتصوَّر قیام نقيضها؛ وإن كانت قضايا العلوم الرياضية ضرورية الصدق بمعنى أن العقل لا يُمكنه تصوُّر نقيضها، فهي لا تُخبِر أبدًا بشيء عن العالم؛ وبناءً على ذلك فإن المبدأ الأخلاقي إن كان شبيهًا بقضايا العلوم الطبيعية فليس هو ضروري الصدق، وإن كان شبيهًا بقضايا العلوم الرياضية في ضرورة صدقها فليس هو بالقائل عن عالم السلوك شيئًا؛ وفي كلتا الحالتين لا يكون لمبادئ الأخلاق ما أراد لها الفلاسفة من صدقٍ يقيني مُطلَق يفرض نفسه على كافَّة أفراد البشر في كل مكان وفي كل زمان.