الكلمات ومدلولاتها
١
الكلمات التي نتحدث عنها الآن هي رموز اللغة أو ما يقوم مقامها، حين لا يُقصَد بها أبدًا أن تُشير فيما تُشير إليه إلى شيء مما يختلط بالجانب الوجداني من حياة الإنسان، فهكذا يُراد للكلمات أن تخلو من شحنتها العاطفية الشعورية كلها حين يُراد لها أن تكون أداة في نقل المعرفة العلمية، أو المعرفة الإخبارية التجريبية بمعنًى أوسع، وفي هذا المجال العلمي وحده نسوق الآن الحديث.
فإذا نظرنا إلى الكلمات هذه النظرة التي نريدها، لم تكن إلا أحداثًا كأي أحداث أخرى مما يقع في عالم الحس؛ فالكلمة المسموعة هي صوت كأي صوت آخر، والكلمة المكتوبة هي قطرة من مِداد أو من غير المِداد من المواد التي قد تكون الكلمة مكتوبة بها؛ الكلمة — مسموعة أو مرئية — حدثٌ يحدث في الطبيعة كأي حدث آخر، وتكون وسيلة إدراكها هي الحواس التي هي نفسها وسيلة إدراك سائر أحداث الطبيعة، فليس للكلمة المعيَّنة «سر» إلا ما يُضيفه إليها الإنسان باتفاقه واختياره.
على أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة» إلا على سبيل التجوز؛ فكلمة «قلم» — مثلًا — وهي منطوقة إنما تخرج من فم المتكلم موجات من هواء، وعندئذٍ تكون كأي موجات هوائية أخرى، كائنًا فيزيقيًّا تُقاس طول موجاته ويُوزَن الهواء المُكوِّن له، ويُحلَّل إلى عناصره الذي هو مُركَّب منها وهكذا، ثم تَطرُق الكلمة أذن سامعها، وعندئذٍ تتحوَّل إلى كائن آخر ذي طبيعة أخرى؛ لأنها عندئذٍ ستكون اهتزازًا — لا في الهواء الخارجي — بل في أسلاك العصب وذرَّات المخ، إنها عندئذٍ فقط تكون «صوتًا»؛ لأن الهواء الخارجيَّ لا يكون له صوت حتى ينتقل إلى حركة في الأعصاب وخلايا المخ؛ فالكلمة باعتبارها صوتًا مسموعًا هي في الحقيقة حدثٌ كغيره من الأحداث التي تطرأ على أجهزة الجسم؛ وبالتالي فهي إن اتُّخذت موضوعًا للبحث كانت من شأن علماء وظائف الأعضاء. والمهم هنا هو أن نُشير إلى الفارق الكبير من حيث طبيعة التكوين بين الكلمة وهي «منطوقة» وبينها وهي «مسموعة»؛ فالحوادث الفيزيقية التي تحدث في العالم الطبيعي حين ينطق الناطق بكلمة «قلم»، ليست هي بذاتها الحوادث الفسيولوجية التي تحدث في الجهاز العصبي حين يسمع السامع صوت هذه الكلمة.
أما إذا كتبتَ على الورق كلمة «قلم» كنت في مجال آخر مختلف عن المجالَين السابقين كل الاختلاف؛ لأنك عندئذٍ تكون بصدد علامة من المِداد، وليست ذرَّات المِداد المُتجمِّعة على الورق في كلمة «قلم» شبيهةً أدنى شَبَه باهتزاز الهواء في حالة نطق الكلمة أو بحركة الأعصاب في حالة سمعها؛ وإذَن فاللفظة «المكتوبة» نوع من الحوادث الفيزيقية يقع في عالم الطبيعة كأشباهه من الحوادث التي تنتج عن تجمُّعات للذرَّات المادِّية في هذا الجسم أو ذاك؛ فإذا وقعَت عليها عين الرائي بحيث أصبحت «مقروءة» نشأت مجموعةٌ أخرى من الحوادث في الجهاز العصبي وذرَّات المخ، بادئةً هذه المرة من العين؛ فللكلمة «الواحدة» — إذَن — أربع صور، وكل صورة منها مؤلَّفة من مجموعة معيَّنة من حوادث الطبيعة أو الجهاز العصبي. على أن هذه المجموعات الأربع تختلف إحداها عن الأخرى اختلافًا بعيدًا، بحيث لا يمكن أن يُقال عن إحداها إنها هي نفسها الأخرى إلا على سبيل التجوز وبمقتضى اتفاق خاص بين من يستخدمون هذه الرموز في التفاهم، وإلا فهل تُحتِّم البداهة أن يكون الهواء المُتموِّج عند نطق كلمة «قلم» مُقابلًا لقطرة المِداد التي أخطُّ بها على الورق كلمة «قلم» بهذه الصورة المعيَّنة؟ ولكن التلازم الشديد المُطَّرد بين «نطق» الكلمة و«كتابتها» أو بين «سمعها» و«رؤيتها»، قمينٌ أن يخدعنا عن حقيقة الموقف بحيث نحسب أنها شيءٌ واحد بعينه لا يتغيَّر؛ فهو هو الكلمة الفلانية المعيَّنة سواءٌ جاءت نطقًا أو ترقيمًا على الورق، سمعًا بالأذن أو رؤيةً بالعين.
قارن بين الكلمة «الواحدة» في حالتَي النطق بها وكتابتها، تجدها في الحالة الأولى مجموعةً من حوادث (اهتزازات في الهواء) تتعاقب على فترة معيَّنة من الزمن، بحيث إذا حدث آخر جزء من الكلمة كان أولها حدثًا ماضيًا، وأما الكلمة في حالة الكتابة فهي مجموعة من ذرَّات مادية تجمَّعت في حيزٍ معيَّن من المكان؛ فلئن كان «الزمن» جانبًا هامًّا في الكلمة المنطوقة ﻓ «المكان» جانب هامٌّ في الكلمة المكتوبة؛ الكلمة المنطوقة لا تكون أبدًا قائمة معًا في لحظةٍ واحدة، وأما الكلمة المكتوبة فتكون كلها قائمة معًا في حيِّزٍ مكاني واحد. العلاقة الكائنة بين أجزاء الكلمة المنطوقة هي علاقتا «قبل» و«بعد»، فتقول عن حدث من حوادثها إنه يقع في «الزمن» قبل حدث آخر أو بعده، وأما في الكلمة المكتوبة فالعلاقات بين أجزائها مكانية، فتقول عن جزء إنه «على يمين» جزء آخر أو «على يساره» أو «فوقه» أو «تحته». أرأیت إذَن أن الكلمة المنطوقة كائن طبيعي يختلف عن الكلمة المكتوبة التي هي أيضًا كائن طبيعي؟
على أن هذه الوحدانية المزعومة للكلمة «الواحدة» تَمَّحي حتى في كل صورة على حِدة من الصور الأربع التي ذكرناها؛ أعني أننا لو أمعنَّا النظر في الكلمة وهي منطوقة فحسب، وجدناها أبعدَ ما تكون عن «الكلمة الواحدة». وخُذ مرةً أخرى كلمة «قلم» مثلًا؛ فأولًا ليست هي حدثًا واحدًا بسيطًا يعزُّ على التحليل الطبيعي إلى ما هو أبسط منه، بل النطق بهذه الكلمة مرةً واحدة هو في الحقيقة مجموعة من حركات يهتزُّ بها اللسان والحلق والأحبال الصوتية، هي مجموعة من حركات مُتتابعة كما تكون القفزة — مثلًا — مجموعة من حركات، وكما يكون المشي مجموعة من حركات، والأكل مجموعة من حركات، وهكذا.
هذا، والكلمة منطوقةٌ مرة واحدة، ولكن الإنسان الواحد ينطق بها مرَّات عدة، دع عنك الحالات التي لا تُحصى حين ينطق بها سائر الأفراد، أتقول مثلًا إن هنالك في عالم الحوادث قفزةً واحدة أو مشيةً واحدة أو أكلةً واحدة، ما دامت مجموعات الحوادث التي تتكوَّن منها كل قفزة أو كل مشية أو كل أكلة شبيهةً بمجموعات الحوادث التي تتكوَّن منها سائر القفزات والمشيات والأكلات؟ إنني أجمع حالات القفز كلها في كلمةٍ واحدة على سبيل التجوُّز والتيسير، وإلا فكل حالة فردية من حالات القفز مجموعة من الحركات قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلًا أو كثيرًا عن حالات القفز الأخرى؛ قل هذا في كل فعل، بما في ذلك الأفعال التي هي حالات النطق بكلمة معيَّنة، كالنطق بكلمة «قلم»، فها هنا أيضًا تكون كل حالة من حالات النطق مجموعة حركية قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلًا أو كثيرًا عن حالات النطق بها في لحظات أخرى؛ فنحن إذ نقول إن الكلمة المنطوقة «قلم» كلمة «واحدة»، فإنما نعني في الحقيقة أنها أسرة كبيرة من أفرادٍ مُتشابهة؛ فوحدانيَّتها أمرٌ اتفاقي نُراعي فيه تيسير التفاهم والتعامل، ولا نُراعي فيه دِقة التحليل.
وكما أن اللفظة الواحدة «قلم» هي في الحقيقة ملايين الحالات من اللفظ المنطوق ليست هي بالبداهة مُتطابقة تطابقًا ذاتيًّا، بل هي مُتشابهة تشابهًا أجاز لنا أن نقول عنها إنها لفظة «واحدة»، فكذلك قل في الحالات الثلاثة الأخرى للكلمة، أعني حالات «سمعها» و«كتابتها» و«قراءتها»؛ إذ إنها في كل واحدة من هذه الحالات الثلاث ليست «واحدة»، بل هي ملايين الصور التي تتشابه؛ فأنت تسمع كلمة «قلم» سمعًا يختلف كل مرة باختلاف طريقة نطقها، ومع ذلك تراك تتجاهل الفوارق بين هذه المسموعات المختلفة، تتجاهل الفوارق لأن أوجه الشَّبه أقوى من أوجه الاختلاف. وتُعَد هذه المسموعات الكثيرة المختلفة كأنما هي حالةٌ سمعية واحدة، هي ما تُسمِّيه لفظة «قلم». وقل هذا بعينه في حالتَي الكتابة والقراءة؛ فملايين الناس يكتبون كلمة «قلم» على صور تُعَد بالملايين، لاختلاف الناس في طريقة الكتابة حتى في اللغة الواحدة، اختلافًا يُمكِّن الخبراء من معرفة الكاتب بطريقة كتابته كما يعرفونه بملامح وجهه وبصمات أصابعه، ولكن أوجه الشبه بين هذه الصور الكثيرة لكتابة الكلمة أقوى من أوجه الاختلاف؛ ولذلك نعدُّ هذه الصور كلها وكأنما هي صورةٌ واحدة لكلمةٍ واحدة.
كلمة «قلم» — إذَن — ليست كلمة «واحدة» كما يَسهل على الناس أن يظنوا، بل كما يَسهل على الفلاسفة أنفسهم أن يزعموا حين يزعمون أن هنالك كلمة «واحدة» من ناحية، ومُسمَّيات كثيرة هي أفراد النوع المُسمَّى من ناحيةٍ أخرى، ثم يجعلون المشكلة الفلسفية في هذا الصدد هي: كيف أمكنَ لكلمة واحدة أن تُسمِّي أفرادًا كثيرة؟ أو بعبارةٍ أخرى: ما طبيعة الاسم الكلي؟ وهم يقصدون ﺑ «الاسم الكلي» اسمًا واحدًا يُطلَق على أفراد النوع كلها، لكن ها نحن أُولاء قد رأينا أن الاسم في الحقيقة ليس واحدًا، بل هو مجموعة ضخمة من حالات مختلفة من طرائق النطق والكتابة وصور السمع والقراءة، ويُقابل هذه المجموعةَ الكبيرة من ناحية الكلمة مجموعةٌ كبيرة ضخمة من ناحية المُسمَّیات. ونعود إلى مثال «القلم» فنقول إن هنالك في عالم الحوادث الواقعة أُسرتَين كبيرتين جدًّا نجعل الواحدة منها دالَّة على الأخرى؛ فمن جهةٍ هناك أسرةٌ أفرادها هي حالات الكلمة، ومن جهةٍ أخرى هناك أسرةٌ أفرادها هي الأقلام القائمة في عالم الأشياء، وأي فرد من أفراد الأسرة الأولى يكون دالًّا على أي فرد من أفراد الأسرة الثانية؛ فلفظ «القلم» في أي صورة من صوره الأربع (منطوقًا أو مسموعًا أو مكتوبًا أو مقروءًا)، وفي أي حالة من ملايين الحالات التي تتبدَّى فيها كل صورة من تلك الصور، كافٍ للدلالة على أي قلم على كثرة ما هنالك من أقلام وعلى اختلاف ما بينها من صفات.
لكن ما أيسر الوقوع في الخطأ هنا، لا أقول بين عامة الناس، بل بين الفلاسفة أنفسهم، بحيث يظنون أن هنالك كلمة واحدة، هي كلمة «قلم» من ناحية، وأسرة كبيرة من الأقلام من ناحية أخرى، ثم يسألون بعد ذلك هذا السؤال: أين مُسمَّى هذه الكلمة الواحدة؟ افرض أننا أطلقنا على كل قلم من مجموعة الأقلام اسمًا خاصًّا به يميزه من سائر الأقلام — كما نفعل في أفراد الإنسان مثلًا — فها هنا سيكون لكل قلم فرد اسمُه الجزئي الخاص به، فماذا يكون مدلول لفظ «قلم» العام عندئذٍ؟ لا شيء. أيكون لكل اسم جزئي مُسمَّاه، ولا يكون لهذه الكلمة العامة مُسمًّى؟ كلا — هكذا يُفكِّر الأفلاطونيون — بل لا بد أن يكون لهذه الكلمة الكلية مُسمًّى كذلك في العالم الخارجي ليكون شأنها في ذلك — على الأقل — شأن أسماء الأفراد؛ وإذَن فلا بد أن يكون هنالك في العالم الخارجي «قلم» عام يُقابل هذا الاسم العام، وهذا «القلم العام» يختلف عن الأقلام الفردية في اقتصاره على الصفات الرئيسية التي تجعل من القلم قلمًا، واستغنائه عن الصفات العرَضية التي إن وُجدت في قلمٍ ما فقد لا تُوجد في غيره من الأقلام، ويُسمُّون هذا «القلم العام» مثال القلم أو فكرة القلم، ولكن أين نجد هذا المثال أو هذه الفكرة؟ إنها بالبداهة لا تكون في عالمنا الأرضي لأنه عالمٌ قوامُه الجزئيات المحسوسة؛ وإذَن فلا بد أن يكون إلى جانب هذا العالم الأرضي عالمٌ آخر يكون قوامه الأفكار العامة أو المُثُل. وهكذا يؤدي خطأ التحليل لطبيعة الكلمة إلى خطأ في النتيجة التي ننتهي إليها. ولو عرفنا منذ البداية أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة واحدة، بل هي ملايين الحالات لتطابق ملايين الأفراد الجزئية، كل حالة من اللفظ تُقابلها حالةٌ جزئية من أفراد المُسمَّيات، لما اضطُررنا إلى سؤالنا: ماذا عسى أن يكون مُسمَّى هذه الكلمة «الواحدة» العامة، وبزوال السؤال تزول المشكلة ونجتنب الوقوع في الخطأ.
٢
إذا كان الذي بين أيدينا هو مجموعتان من الأشياء — وإن شئت دقةً في التعبير فقل إن بين أيدينا مجموعتَين من الأحداث — فمجموعة منها هي الصور والحالات التي تكون عليها الكلمة، ككلمة «قلم» — مثلًا — ومجموعة أخرى هي أفراد الأقلام، ثم إذا كنَّا قد جعلنا المجموعة الأولى دالَّة على المجموعة الثانية، فلنا الآن أن نسأل: ما الذي يُبرِّر لحدث من أحداث الطبيعة أن يكون «اسمًا» ولحدثٍ آخر أن يكون مُسمًّی؟ إذا كان الاسم ومُسمَّاه من طبيعة واحدة، فكلاهما أحداث طبيعية تطرأ على المادة — وهل هناك فرقٌ جوهري بين الذرَّات المادِّية التي اجتمعت معًا فكوَّنت قلمًا، وبين الذرَّات المادِّية التي اجتمعت معًا في قطرة المِداد التي نكتب بها كلمة «قلم»؟ — أقول إذا كان الاسم ومُسمَّاه كلاهما من طبيعة واحدة لأن كليهما من أحداث، فما الذي يجعل واقعة طبيعية اسمًا دالًّا على واقعة طبيعية أخرى؟
الجواب هو: الاتفاق الصِّرف؛ فليس في أية لفظة في الدنيا سرٌّ خفيٌّ يُحتِّم أن تدل على ما تدل عليه، اللهم إلا ما قد تواضَع عليه الناس من أن يكون «صوت» معیَّن دالًّا على شيء معيَّن، أو أن تكون صورة مِدادية معيَّنة دالَّة على شيء معيَّن؛ فاللفظة المنطوقة هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر، هي صوت كما أن حفيف الشجر صوت، وزمجرة الهواء على صخور الجبل صوت، وخرير الماء أو هديره صوت، وقرقعة الرعد صوت، وهكذا؛ هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر مما يخرج عن حنجرة الإنسان، كصرخة الصارخ وقهقهة الضاحك، فما الذي يميزها من سائر الأصوات بحيث تصبح — دونها — لفظًا ذا مدلول؟ الجواب هو: الاتفاق الصِّرف ولا شيء غير ذلك، وللناس أن يُغيِّروا من اتفاقهم كيفما شاءوا وفي أي وقت شاءوا، إنه لا فرق بين أن يتفقوا على أن تكون كلمة «أحمر» دالَّة على اللون الذي نُطلِق عليه هذه التسمية، وبين أن يتفقوا على أن يكون النور الأحمر في علامات المرور دالًّا على وجوب الوقوف عن السير، في كلتا الحالتين كان يمكن أن يتغيَّر الاتفاق؛ لأنه في كلتا الحالتين ليس في طبيعة «الرمز» شيء يُحتِّم أن يكون دالًّا على ما اتفق الناس أن يدلَّ عليه.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نُفرِّق بين «العلامة الطبيعية» و«الرمز الاتفاقي»؛ فإذا كان البرق علامةً طبيعية تدل على أن صوت الرعد وشيكُ الوقوع في الأسماع، أو كان شحوب الوجه علامةً طبيعية على المرض، وهكذا، فإن أمثال هذه العلامات الطبيعية ليست من صناعة الإنسان ولا رهن اتفاقه، بل إن العلامة ودلالاتها كليهما من الحوادث الطبيعية المُقترنة، سواءٌ أراد لها الإنسان أن تقترن أو لم يُرِد. وأما «الرمز الاتفاقي» فغير ذلك؛ فالناس هم الذين اتفقوا على أن يكون الثوب الأسود رمزًا للحِداد، وأن يكون الأبيض رمزًا للنقاء، وأن يكون صوت جرس معیَّن رمزًا لعربة الإسعاف، وصوت جرس آخر رمزًا لقيام القطار؛ كل هذه رموزٌ اتفاقية لم يكن هنالك في طبائع الأشياء ما يُحتِّم أن نجعلها دالَّة على ما هي دالَّة عليه، ولا ما يمنع أن نستبدل بها رموزًا أخرى تدل على ما هي دالَّة عليه — وكلمات اللغة هي من قَبيل الرموز الاتفاقية في دلالتها، وليست من قَبيل العلامات الطبيعية.
يقول الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»: إن الكلمة المُفرَدة في دلالتها على معناها ليست من إملاء العقل، بل هي محض اتفاق؛ «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدِّي إلى فساد» (ص٣٩). وليس هنالك «صواب» أو «خطأ» في دلالة الكلمة على مُسمَّاها الذي اتفق الناس على أن تدلَّ عليه، وإنما يبدأ الصواب أو الخطأ في استعمال الناس لهذه الكلمة بعد أن تم بينهم الاتفاق على استعمالها؛ فإذا كنا قد اتفقنا على أن يكون لفظ «قلم» دالًّا على هذه الأداة المعيَّنة التي نكتب بها، أصبح من الخطأ أن نستخدم هذه اللفظة لغير ما وُضعت له، إلا إذا نبَّهْنا السامع أو القارئ للتغيير الذي أحدثناه في معناها.
ليس للكلمات من قوة سِوى أنها رموز تدل على ما اتفقنا أن تدل عليه، فليس فيها وراء ذلك سر ولا سِحر، ما دمنا نستخدمها للتفاهم لا لغرضٍ فني أو وجداني آخر. ليس لكلمة «سمسم» في التفاهم إلا أن تكون دالة على البذور المعروفة بهذا الاسم، أما أن يكون لها من السحر ما ينفتح له الجبل الأصم فشيءٌ يُحكى ليُشبِع الخيال لا ليخدم أغراض العقل. يقول لويس كارول في كتابه الفكِه المُمتع الذي يحكي فيه عن مغامرات «ألِس» في أرض العجائب:
قال «هَمْتي دَمْتي»: أرأيت هذا المجد؟
فقالت ألس: لست أدري ماذا تعني بكلمة «المجد»!
فابتسم لها «همتي دمتي» ابتسامة المُزدري، وقال: بالطبع أنت لا تعلمين معناها حتى أدلَّك أنا على هذا المعنى، فقد قصدت بكلمة «المجد» نقاشًا أهزم فيه مُعارضي هزيمةً ساحقة.
فقالت «ألس» مُعترضةً: لكن كلمة «المجد» ليس معناها هزيمة العدُو في المجادلة هزيمةً ساحقة.
فأجابها «همتي دمتي» في نغمة الساخر: إذا استخدمت أنا كلمة لتدلَّ على شيء معيَّن، فإنها لا تعني إلا ذلك الشيء الذي قصدت بها إليه، لا أكثر ولا أقل.
إن هذه السخرية الجادَّة التي أوردها لويس كارول على لسان «همتي دمتي» هي الصواب بعينه؛ فمدلول الكلمة إنما يتحدَّد بعد الاتفاق، ولا يكون إلا ما قد تم عليه الاتفاق. ولقد كان «مارك توين» يتفكَّه فكاهته الحُلوة حين صوَّر آدم وحواء جالسَين تمرُّ أمامهما صنوف الحيوان ليُطلِقا على كل صنف منها اسمًا يُعرَف به بعدئذٍ، ومرَّ حيوان وأخذت آدمَ حَيرةٌ بماذا يُسمِّيه، فسأل حواء: بماذا نُسمِّي هذا الحيوان؟ فأجابته حواء: نُسمِّيه «حِصانًا». فسألها آدم: وفيمَ اختيارك هذا اللفظ دون سِواه؟ فقالت: لأني أرى هذا الحيوان يُشبِه الحِصان. أقول إن «مارك توين» كان يتفكَّه فكاهته الحُلوة بهذه الصورة وهذا الحديث من أولئك الذين قد يتوهَّمون أن للكلمة معنًى أزليًّا سابقًا على اتفاق الناس عليها وعلى ما يكون معناها؛ فالشيء يسبق اسمه في الوجود، حتی إذا ما وُجد ورأی الناس ضرورة الاتفاق على لفظ يُسمِّيه اتفقوا جزافًا على لفظٍ كائنٍ ما كان، وفي ذلك يقول شيكسبير قوله المشهور: «ماذا في اسم؟ إن ما قد أطلقنا عليه اسم وردة كان سيظل على رائحته الزكية مهما يكن الاسم الذي أطلقناه عليه.»
وكأنني أسمع القارئ يهمس لنفسه بأن هذا الذي نقوله إن هو إلا البدائه، وهل هناك من يقول عن اللفظة إنها تعني غير ما اتفق الناس على أن تعنيه؟ مع أن هذا القارئ نفسه — في أغلب الظن — سيكون بين الساخطين الغاضبين الناقمين إذا ما رآني أتطلَّب منه التطبيق الكامل لهذا المبدأ، فإذا وردت في حديثنا — مثلًا — كلمة «عقل» طالبتُه بأن يُحدِّد لي الشيء المُسمَّى بهذه الكلمة والذي بغيره لا يكون للكلمة معنًى، أو وردت كلمة «شعور» أو كلمة «قوة» أو ما إلى ذلك من كلمات، طالبتُه بتطبيق المبدأ، وأغلب الظن عندئذٍ أنه سيغضب من هذه «السفسطة»، فكيف أُطالبه بمدلول لفظة «عقل» والأمر هنا لا يحتاج إلى ريبة؟ إنه لن يُرضِيه مني أن أجعل مدلول هذه اللفظة حركات معيَّنة يتحرَّكها البدن أو يتحركها اللسان إذ هو ينطق بعبارات معيَّنة، أو أن أجعل مدلول هذه اللفظة ذرَّات من مِداد تجمَّعت على ورق أو تجمَّعت من طباشير على سبورة، لن يُرضِيه شيء من هذا؛ لأن هذه كلها — عنده — أمورٌ ظاهرة، وأما العقل فكائنٌ غيبي خفيٌّ قائم وراء هذه الظواهر كلها؛ فليس «العقل» هو العبارات اللغوية، إنما هو الذي يُوحي بها ويُملِيها، لكننا سنُصرُّ على تطبيق المبدأ بحذافيره؛ المبدأ الذي ظنَّه أول الأمر من البدائه التي لا تكون موضع ريبة؛ أعني المبدأ الذي يقول إن الكلمة كائنةً ما كانت ما دامت تُساق لتُسمِّي شيئًا فلا بد أن يكون هنالك الشيء المُسمَّى، وإلا كانت كلمة بغير معنًى. لا بد أن يكون هنالك طرفان؛ طرف الرمز من جهة، وطرف الشيء المرموز إليه من جهةٍ أخرى ليتمَّ للُّغة التفاهم ما جاءت من أجله.
إن من أفحش الخطأ أن يظنَّ ظانٌّ بأن الكلمة من كلمات اللغة هي في حد ذاتها ضمانٌ كافٍ لوجود مدلولها؛ لأن الإنسان — لسوء حظه — قد أكثر في حديثه من الألفاظ التي راح الناس يتداولونها دون أن يكون لها من المدلولات في عالم الأشياء ما يجعلها ألفاظًا كاملة الأداء. وقد تسأل: ومن ذا اضطرَّه إلى خلق رموز لا يكون لها في حياته أشياء يرمز بها إليها؟ ونُجيبك بأنه إنما فعل ذلك ليُعبِّر عن أوهامه وأحلامه، فأطلق طائفةً من الرموز ليُشير بها إلى طائفة من أوهام وأحلام؛ فهو يخاف الوحدة والظلام — مثلًا — ويخاف أن يكون هنالك في جوف الظلام كائنات خفيَّة تتربَّص به؛ وإذَن فليُطلِق أسماءً على هذه الكائنات. ولا غبار على ذلك ما دام المتكلم والسامع على وعي تام عند استخدام هذه الأسماء وما إليها بأنها إنما أُطلقت على أوهام؛ وعندئذٍ يؤخَذ الكلام من زاويته الفنية من حيث استثارته لضربٍ من المشاعر أحسَّها المتكلم وأراد أن يُثير مثلها في نفس سامعه. أما أن ينسى المتكلم أو السامع ذلك، بحيث لا يری فرقًا بين كلمتَي «عفریت» و«مِنضَدة»، ويظن أن كلًّا منهما اسم دالٌّ على شيء، كأنما وجود الاسم بذاته كفيلٌ لنا بوجود مُسمَّاه، فهو بهذا بمثابة من يخلق الصنم ثم يخشاه ويعبده؛ فالكلمات — كما يقول هوبز — وسيلة يستخدمها العاقلون أدوات للحساب والعد، أما الغافلون فيجعلونها هي نفسها النقود التي يعيشون بها وعليها. الكلمات لا تُقصَد لِذاتها (إلا في مجال الفن)، بل تُقصَد من أجل ما تُشير إليه من أشياء، ومن كانت ثروته ألفاظًا لا تُشير إلى شيء كان هو الفقير المُدقِع الذي لا يملك من دهره شيئًا.
٣
على أن الرموز اللغوية التي نستخدمها — بل التي لا بد أن نستخدمها — دون أن تكون بذاتها كفيلة لنا بوجود مُسمَّيات لها، أكثر جدًّا من الأسماء التي نُسمِّي بها كائنات نسَجها لنا الخيال كالعفريت والعنقاء وما إليها، هي أكثر جدًّا من هذا، بل هي توشك أن تكون ألفاظ اللغة كلها إذا استثنينا عددًا قليلًا منها وهو أسماء الأعلام، وسنُبيِّن لك فيما يلي كيف تكون الكثرة الغالبة من ألفاظ اللغة رموزًا ناقصة — بتعبير برتراند رسل — أي إنها رموز وُضعت دون أن تكون بذاتها ضمانًا مؤكدًا لوجود الأشياء التي ترمز إليها.
ولنبدأ أولًا بشرح الرمز الكامل الذي هو الرمز الذي نُطلِقه على مُسمًّى محدَّد جزئي معلوم، بحيث إذا ذُكِر الرمز عُرِف الشيء المرموز إليه في عالم الأشياء معرفةً جازمة حاسمة لا لَبْس فيها ولا ازدواج.
وأول ما يَرِد إلى الذهن من هذا القبيل هو أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي نُطلقها على هذا الفرد من الناس أو ذاك، على هذا النهر أو ذاك، وهكذا، كاسم «العقَّاد» يميز فردًا من الناس دون سائرهم، واسم «النيل» يميز نهرًا معيَّنًا، واسم «المقطَّم» واسم «القاهرة»، إلى آخر هذه الأسماء الجزئية الفردية التي يُقال إنها تُشير بكل واحد منها إلى فرد واحد.
لكنَّ نظرةً تحليلية سُرعان ما تُبيِّن لنا أن ما قد ظننَّاه «فردًا» ليس هو في الحقيقة إلا سلسلة طويلة من حالات جزئية؛ فليس «العقاد» فردًا بمعنى أنه حالة واحدة معيَّنة كانت بالأمس هي نفسها ما هي عليه اليوم وما ستكون عليه غدًا؛ فلقد كان «العقاد» طفلًا فشابًّا فرَجلًا، وكان آنًا مريضًا وآنًا صحیح البدن، كان آنًا في السجن وآنًا طليقًا، هو الآن سائر في الطريق، وكان منذ لحظة جالسًا يقرأ، وسيكون بعد حين مُمسكًا بقلمه يكتب؛ هي سلسلة من حالات لا ينتهي عددها إلى حدٍّ معلوم. وكذلك قل في «النيل» الذي ظننَّاه شيئًا واحدًا من أشياء العالم، إنه يُغيِّر من مائه في كل لحظة، بل في كل مِعشار من اللحظة الواحدة، إن ماءه مُتدفِّق فلا يكون الماء الآن في هذه النقطة المكانية من مجراه هو نفسه الماء الذي كان فيها منذ لحظة، ولن يكون هو الماء الذي سيكون فيها بعد لحظة. وما أصدق الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس حين أشار إلى هذه الحقيقة المُتغيِّرة بقوله إنك لا تضع قدمك في النهر مرَّتَين، مُشيرًا بذلك إلى أن واضع قدمه في الماء إذا ما رفعها ثم غمَسها مرةً أخرى لقيت قدمه في هذه المرة الثانية ماءً جديدًا كأنما هو بالنسبة إليها نهرٌ جدید.
وإذا كان ذلك كذلك، فما تسميتنا ألوف الألوف من الحالات المتعاقبة باسم واحد، فنقول «العقاد» أو «النيل» كأنما نحن مُشيرون بكل اسم منها إلى حالة واحدة من حالات هذا العالم الزاخر؟ إننا لو أردنا مجموعةً رمزية كاملة لنُشير بها إلى حالات العالم واحدةً واحدة، لجعلنا لكل حالة من سلسلة الحالات التي تُكوِّن «العقاد» ولكل حالة من سلسلة الحالات التي تُكوِّن «النيل» اسمًا خاصًّا؛ وعندئذٍ فقط يكون لكل اسم مُسمَّاه الجزئي الواحد، فلا تزدوج المسمَّيات ولا تتعدَّد للاسم الواحد. وشيء كهذا هو ما يصنعه الجغرافيون حين يريدون تحديد نقطة معيَّنة من الأرض، إنهم لا يقولون «القاهرة» — مثلًا — لأن القاهرة مُسطَّح كبير من الأرض، وإنما يقولون التقاء خط طول ۳۲ بخط عرض ۳۰، لكننا إن استطعنا من الوجهة النظرية المنطقية وحدها أن نتصوَّر لكل حالة جزئية في هذا العالم رمزًا لغويًّا يُشير إليها دون سِواها، بحيث لا يُشير الرمز الواحد لأكثر من حالة جزئية واحدة في الشيء الواحد، وبحيث لا يكون هنالك رمزان لغويان مُشيرَين كليهما إلى حالة جزئية واحدة، أقول إننا لو تصوَّرنا إمكان ذلك من الوجهة النظرية المنطقية، فإن إجراءه من الناحية العملية مُتعذِّر أو مُستحيل؛ ولذلك اكتفينا بأن نُطلِق اسمًا معيَّنًا كاسم «النيل» — مثلًا — على مجموعة من الحالات الجزئية والحوادث الفردية قد يكون بينها ما يُبرِّر لنا أن نجمعها معًا في حزمة واحدة لنُطلِق عليها اسمًا واحدًا، ومع ذلك فينبغي أن نكون على استعداد دائمًا إذا ما طُلِب إلينا أن نُشير إلى المُسمَّى الذي أطلقنا عليه اسمًا معیَّنًا، ﮐ «العقاد» أو «النيل» أو «المقطم» أو «القاهرة»، أن نجد الحالة الجزئية التي نُشير إليها قائلين «هذا»، فليطلب مني من شاء أن أعيِّن له الشيء الذي أسميته «النيل» وسأصطحبه إلى مكان معيَّن من نهر معيَّن، حيث سأكون وإيَّاه إزاء إحدى حالات ذلك النهر، وعندئذٍ سأُشير إليه بإصبعي قائلًا «هذا»، فيعلم السائل أن لاسم «النيل» مُسمًّى، وأنه لذلك رمز كامل على سبيل التجوز المقبول؛ إذ إن الرمز الكامل هنا هو كلمة «هذا»؛ لأن هذه الكلمة هي وحدها التي تُحدِّد الشيء المُشار إليه. ولا عَجب أن جعَله «رسل» اسمَ علَم بالمعنى الدقيق لاسم العَلم؛ لأنه يستحيل عليك أن تستخدم اسم الإشارة «هذا» استخدامًا يؤدِّي إلى غرضه دون أن يكون هنالك الشيء الذي تُشير إليه به.
ومع ذلك كله، فحتى إذا عدَدْنا أسماء الأعلام ﮐ «العقاد» و«النيل» وما إليهما رموزًا كاملة على سبيل التجوز، فهذه الأسماء نفسها قلةٌ قليلة بالنسبة إلى سائر الرموز اللغوية التي يستخدمها الناس فيما بينهم من تفاهم واتصال؛ لأن الكثرة الغالبة من هذه الرموز هي ما يُطلِق عليه رجال المنطق اسم «الكلمات العامة» أو «الأسماء الكلية»، مثل «إنسان» و«نهر» و«جبل» و«مدينة» … إلخ، وسنُحلِّل لك فيما يلي هذه الكلمات وأمثالها لنُبيِّن أنها رموز ناقصة ما في ذلك شك؛ أي إن الكلمة منها ليست كفيلةً بوجود مُسمَّاها؛ إذ قد يستخدمها الناس استخدامًا يؤدِّي إلى الغرض المقصود كاملًا، ومع ذلك فقد لا يكون لها مُسمًّى يُقابلها في عالم الأشياء.
الاسم الكلي أو الكلمة العامة التي نُطلقها لا لتدلَّ على فرد بعينه، بل نُطلقها لتدلَّ على مجموعة من الأفراد تجمع بينها صفاتٌ مشتركة، هي في الحقيقة جملة بأسْرها ضُغطت في كلمة واحدة، ولو حلَّلنا مكنونها وأخرجناه لكان لنا بذلك عبارةٌ وصفية مجهولة الموصوف، وقد يكون هذا الموصوف الذي تُشير إليه العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية ذا وجود فِعلي وقد لا يكون له وجود؛ فكلمة «إنسان» — مثلًا — تحليلها هو أن فردًا ما غير مُتعيِّن صفاتُه هي كذا وكذا وكيت مما يجعل الإنسان إنسانًا، لكن من هو هذا الفرد؟ الجواب هو: أي فرد تلقاه مما یُوصَف بهذه الصفات. ولكن ماذا لو بحثت عن فرد يُحقِّق هذه الصفات فلم أجد، كما هي الحال في اسمٍ مثل «عفريت» أو «جبل من الذهب»؟ الجواب هو: إذا بحثت عن فردٍ يُحقِّق الصفات المقصودة من الكلمة الكلية فلم تجد، ظلَّت الكلمة دالة على مجموعة من الصفات لا تجد ما يلبسها من أفراد العالم الخارجي؛ أي إنها تظل كالقالب الفارغ الذي لا يجد المادة المُتعينة التي تملؤه؛ وإذَن فالكلمة الكلية — كما قلنا — هي عبارة وصفية مجهولة الموصوف، فكأننا نقول إذ نقول كلمةً كلية «س يتَّصف بكذا وكذا من الصفات»، دون أن يقتضي ذلك وجود «س». وهذا هو معنى قولنا إن الكلمة الكلية في الحقيقة رمزٌ ناقص لا يدل بذاته على وجود الفرد الذي يُحقِّق مجموعة الصفات التي تدل عليها تلك الكلمة.
فالاسم الكلي العام شأنه في دلالته شأن العبارة الوصفية كائنةً ما كانت، وليس شأنه في الدلالة شأن أسماء الأعلام التي يتحدَّد لكل اسم منها مُسمَّاه. غير أن العبارات الوصفية نوعان؛ فمنها ما ليست تنطبق الصفات الواردة فيها إلا على فرد واحد، مثل قولنا «أول الخلفاء الراشدين»، ومنها ما تنطبق الصفات الواردة فيها على أي فرد من مجموعة معيَّنة، مثل قولنا «خليفة المسلمين»، وفي كلتا الحالتين لا تُحتم العبارة الوصفية بذاتها أن يكون لها مُسمًّى في عالم الكائنات الفعلية، بل تدل على تركيبةٍ وصفية قد تجد وقد لا تجد المُسمَّى الذي يُحقِّقها في الوجود الفعلي.
إنني لا أعرف غلطة في التحليل زلَّت فيها الفلسفة طوال عصورها أفحش من هذه الغلطة؛ لفداحة ما يترتَّب عليها من النتائج الخطيرة؛ فلكَ أن تُركِّب من البناءات الوصفية ما شاء لك خيالك، وأن تُعبِّر عن هذه البناءات بلفظةٍ واحدة أو بمجموعة ألفاظ، لكن الذي ليس من حقك ولا من حق أي إنسان عاقل أن يُجاوِز بناءه الوصفي ليُقرِّر أنه ما دام هذا البناء قائمًا فلا بد أن يكون هنالك الكائن الفعلي الذي تنطبق عليه المجموعة الوصفية، ليس ذلك من حقك إلا إذا أُعطيت حواسك كائنًا فردًا مما يُشار إليه بقولي «هذا»، وترى أن هذا الكائن الفرد يُحقِّق بالفعل ما كانت تدل عليه المجموعة الوصفية التي ركَّبتَها وبنيتَها في رأسك.
الرمز اللغوي — كلمةً كان أو عبارة — إن دلَّ على مجموعة من الصفات، فهو لا يقتضي بالضرورة أن يكون مسمَّاه موجودًا وجودًا فعليًّا؛ إذ قد يكون هنالك المُسمَّى الذي تنطبق عليه تلك الصفات وقد لا يكون؛ فقل — مثلًا — «حِصان أبيض ذو ذيل أصفر وغُرة سوداء» يكن لك بذلك بناءٌ وصفي، لكن هذا البناء الوصفي لا يقتضي بالضرورة أن يكون الكائن الموصوف موجودًا بالفعل أو غير موجود؛ فالحواس وحدها هي التي تدلُّني إن كان لمثل هذا الكائن وجود بین الكائنات أو لم يكن. أيُّ وضوح هو أوضح من هذا المبدأ الذي نُقرِّره — لا تعسفًا — ولكن بحكم طبيعة اللغة ذاتها وبحكم الخبرة التي نُمارسها جميعًا في حياتنا الفكرية والعملية على السواء؟ ومع ذلك فقد أفلتَت هذه الحقيقة الواضحة الجليَّة من أنظار الفلاسفة فلم يرَوها.
إن الرمز الوصفي «أول من وقف على قمة إفرست» مفهومُ الدلالة من حيث الصفات التي يُشير إليها، ومع ذلك فقد لا يكون هنالك من حقَّق هذه الصفات، بل إنه منذ أعوام قليلة جدًّا لم يكن قد صَعِد إلى هذه القمة أحدٌ بعد، فكان يمكن عندئذٍ للعبارة الوصفية أن تقوم دون أن يكون هنالك الفرد الذي تُشير إليه. وإنه لممَّا يَجدُر ذِكره في هذا السياق أن نزاعًا طريفًا قام — ولم يزَل قائمًا — عن الرجل الذي كان له حظ الوصول إلى قمة إفرست قبل أي إنسان سِواه؛ وذلك أن الرحَّالة «هلاري» الإنجليزي كان يستصحب هنديًّا في صعوده الجبل، وكلاهما قد بلغ القمَّة في رحلةٍ صعودية واحدة، لكن من منهما كان السابق ومن كان اللاحق؟ كلٌّ من الرجلَين يدَّعي لنفسه الأسبقية في شهود القمة والوقوف عليها. وأيًّا ما كان الأمر، فالعبارة الوصفية «أول من وقف على قمة إفرست» لا تزال على دلالتها، سواء وُجِد الرجل الذي وقف على القمة أو لم يوجد، وسواء كان هذا الواقف هو الرحَّالة الإنجليزي أو زميله الهندي.
والأمر شبيه بذلك في أي اسم يكون مدلوله مجموعة من الصفات؛ فعندئذٍ قد تجد من يُثبت وجود المُسمَّى وقد تجد من يُنكِر؛ فكم من الباحثين في تاريخ الأدب من يُقرِّر أن اسم «هومر» لا يُسمِّي أحدًا بذاته، وكم منهم من يُقرِّر أنه يُسمِّي؛ ذلك لأن «هومر» — وإن يكن اسمًا على هيئة أسماء الأعلام — إلا أنه في الحقيقة دالٌّ على مجموعة وصفية، منها مثلًا إنشاء الإلياذة ومنها التجوال في القُرى وهكذا، ولكن السؤال لا يزال قائمًا: أتكون هذه المجموعة الوصفية قد تجسَّدت في شخص بعينه هو الذي نُطلق عليه اسم «هومر»، أم تكون مجرَّد بناء وصفي بغير المُسمَّى الواحد الذي تجسَّدت فيه؟ ولقد قامت في مصر مشكلة من هذا النوع بين دارسي الأدب وتاريخه حول امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية؛ فمنهم من ذهب إلى أن امرأ القيس اسمٌ وهمي اختُرع اختراعًا ليُنسَب إليه ما يُنسَب من الشعر، ومنهم من يردُّ هذا الزعم بما ينفيه وما يؤيِّد الوجود التاريخي الفعلي لامرئ القيس؛ فما معنى هذا فيما نحن الآن بصدده؟ معناه أن مجموعة الصفات التي هي كل ما يُقال عن امرئ القيس قد يكون لها — منطقيًّا — من يلبسها من الأفراد وقد لا يكون؛ ذلك لأن البناء الوصفي في حد ذاته لا يقتضي بالضرورة أن يكون هنالك الفرد الذي يُجسِّده؛ فالبناء الوصفي كالثوب تراه مُعلَّقًا، وإما أن يكون للثوب بعد ذلك لابسٌ أو لا يكون.
وانظر بعد ذلك إلى الكلمات الرئيسية التي عليها تدور الفلسفة الميتافيزيقية، ترَها جميعًا من قبيل الرموز الدالة على مجموعات من الصفات، لا من قبيل الأسماء الدالة على أفرادٍ جزئية مما يُشار إليه بقولنا «هذا»؛ فهذه الفلسفة إنما تدور حول «المُطلَق» و«الروح» و«النفس» و«الجوهر» و«الشيء في ذاته» وما إلى ذلك. وواضح أن الكلمة من هذه الكلمات لا ترمز إلى كائن جزئي مما يُشار إليه بالإصبع، ولكن كل واحدة منها تلخيص مضغوط لعدد كبير من الصفات؛ فلو سألت مثلًا: ما المُطلَق؟ أجابك المتكلم لا بالإشارة إلى أحد الموجودات الفعلية، بل بعدد من الجُمل؛ وقفْ عند ما شئت من هذه الجُمل أو مُكوِّناتها اللفظية واسأل، وسيكون الجواب دائمًا بجُمل أخرى وهكذا؛ ومعنی ذلك أن كلمة «مطلق» هي — كما قلنا — تلخيصٌ لفظي لعباراتٍ وصفية كثيرة. وإذا كانت العبارة الوصفية لا تقتضي بالضرورة أن يكون لمسمَّاها وجود فِعلي، كانت الكلمة بالتالي من قبيل الثوب الذي يظل ينتظر من يلبسه؛ فحتى لو فهمنا كل الصفات المتضمَّنة فيه، فهذا الفهم ليس دليلًا على وجود الكائن الموصوف أو على عدم وجوده، إلى أن تأتي خبرة حسية بعد ذلك فتُقرِّر أحد الشِّقَّين؛ فإن كان الكائن الموصوف بحكم وصفه ليس مما يقع في خبرةٍ حسية، ظلَّت أوصافه إلى أبد الآبدين بغير دليل على وجوده.
٤
قدَّمنا لك حتى الآن نوعَين من الكلمات لتبين حدود الدلالة لكل نوع منهما، وهما أسماء الأعلام من جهة والأسماء التي هي في حقيقة أمرها مركَّبات وصفية من جهة أخرى، وقلنا في اسم العَلم بمعناه الشائع كاسم «العقاد» مثلًا، إنه في الحقيقة يجمع تحته أُلوف الحالات التي هي الحالات التي مرَّت مُتتابعةً فكوَّنت تاريخ حياة رجل هو الذي نُطلِق عليه اسم «العقاد»؛ وإذَن فما يُظَن أنه اسمٌ يُشير إلى فردٍ جزئي هو في الحقيقة رمزٌ يُشير إلى سلسلةٍ طويلة من الأحداث، ولو شئنا اسمَ علَم بمعناه الصحيح لجعلنا اسمًا لكل حالة جزئية من حالات العقاد. ولعل اسم الإشارة «هذا» خير ما يدلُّنا على الحالة الجزئية الواحدة؛ فكل حالة نستطيع أن نُشير إليها بقولنا «هذا» أو «هذه» تكون هي الحالة الجزئية الواحدة من حالات الفرد الواحد؛ ومعنى ذلك أننا إذا شئنا أن نتبيَّن إزاءَ اسمٍ ما إن كان اسمًا يُطلَق على فردٍ ذي وجود فِعلي أو لم يكن، تحتَّم أن نتصوَّر لذلك الفرد حالةً معيَّنة جزئية يمكن الإشارة إليها في نقطةٍ معيَّنة من نقاط المكان، وفي لحظةٍ معينة من لحظات الزمن، قائلين: «هذه.»
وكذلك قلنا في الكلمات التي هي في الحقيقة مُركَّبات وصفية، ومنها ما يكون المركَّب الوصفي فيه مُنطبقًا على فرد واحد، كقولنا «العدد الذي يقع بين ٣، ٥»، أو «القائد العربي الذي فتح مصر»؛ ومنها ما يكون المركَّب الوصفي فيه مُشيرًا إلى أي فرد من مجموعةٍ مُتشابهة الأفراد، مثل قولنا «إنسان» و«نهر»؛ قلنا في أمثال هذه الرموز الوصفية إنها لا تقتضي بالضرورة وجود مُسمَّاها وجودًا فعليًّا، فلا يكفي أن يكون الرمز اللغوي قائمًا بيننا لنقول إن له مُسمًّى في عالم الأشياء الواقعة، بل لا بد أن يُضاف إلى ذلك وقوعنا على الفرد الموصوف في الحالة الأولى أو على أحد أفراد المجموعة الموصوفة في الحالة الثانية؛ إذ لا فاصل هنا بين الكائن الوهمي والكائن الفعلي إلا شهادة الحواس.
وننتقل الآن إلى ضربٍ ثالث من الكلمات هو أخطرها جميعًا من الناحية المنطقية، وإن لم تكن كلماته مما يُشير إلى شيء إطلاقًا في عالم الواقع، وأعني به تلك الكلمات التي تصل أجزاء الكلام بعضها ببعض وصلًا تكون له دلالته في الاستدلال العقلي، ولا تكون له إشارة إلى شيءٍ واقع، مثل واو العطف، وكلمة «أو»، وكلمة «إذا»، وكلمة «ليس»، وكلمة «كل»، وكلمة «بعض»، وما إليها؛ فليس في العالم الخارجي شيءٌ بين الأشياء اسمه «أو» أو شيءٌ اسمه «إذا» أو «ليس»؛ فإذا قلت إنني «رأيت البرق وسمعت الرعد»، كان الذي حدث في عالم الواقع حدَثان هما «رؤية» و«سمع»، وأما «و» التي تصل بينهما فلم تكن حدثًا ثالثًا ولم تكن جزءًا من أيٍّ من الحدَثَين. وكذلك لو قلت «الشمس إما طالعة أو غاربة»، كان الذي هو حادث في عالم الواقع أحد أمرَين، ولمَّا كنت أجهل أيهما عبَّرت عن هذا الجهل بقولي «أو»، لكن عالم الأشياء لا تردُّد فيه، إن فيه أمرًا واحدًا، ففيه الشمس طالعة أو فيه الشمس غاربة، وأما التردُّد فحالة عقلية عندي أنا القائل الذي يعلم أن أحد الأمرَين لا بد واقع ثم لا يعلم أيهما يكون.
وهم يُسمُّون أمثال هذه الكلمات بالكلمات المنطقية أو بالكلمات البنائية؛ لأن عملها مقصور على بناء العبارة اللغوية بناءً يجعل منها فكرة، واستعمالها يقتضي وجود كلمات سابقة عليها في الوجود، فلا تستطيع أن تقول «مقعد أو مِنضدة» إلا إذا عرفت أولًا كلمتَي «مقعد» و«مِنضدة»؛ ولذلك ترى أسماء الأشياء يأتي تعلُّمها أولًا في حياة الطفل ثم تأتي بعد ذلك أمثال هذه الكلمات، فيستحيل أن يبدأ الطفل تعلُّمه للُّغة بكلمة «أو» أو كلمة «إذا»، لكنه يبدأ بكلمات مما تُسمِّي كلُّ كلمة منها شيئًا مما يقع في خبرته، ثم يتعلم بعد ذلك كيف يبني من هذه الكلمات الشيئية أفكارًا باستخدامه للكلمات المنطقية التي ذكرناها.
والكلمات المنطقية هي الركائز الثابتة التي تُحدِّد «صورة» الفكرة، بينما تُحدِّد الكلمات التي هي أسماء أو صفاتٌ «مادةَ» الفكرة؛ ففي قولنا — مثلًا — «صيف وشتاء» تستطيع أن تستبدل بكلمتَي «صيف» و«شتاء» كلمتَين أُخريَين فتتغيَّر «مادة» الفكرة، فنقول — مثلًا — «حساب وهندسة» أو «قيس وليلى»، لكنك لا بد أن تحتفظ بالكلمة المنطقية «و» إذا أردت أن تحتفظ للفكرة «بصورتها»، بل تستطيع أن تُسقط الكلمتَين اللتَين تُحدِّدان مادة الفكرة، وتضع مكانهما رموزًا مُتغيِّرة مثل «س» و«ص»، وتحتفظ بواو العطف، فتحتفظ بصورة الفكرة كما هي، والصورة في هذه الحالة هي: ««س» و«ص».» ولعلك تعلم أن تجريد الأفكار عن «مادتها» وإبقاء «صورها» هو مما يبحث فيه المنطق؛ ولذلك فهو كثيرًا ما يُسمَّى ﺑ «المنطق الصوري» لأنه يهتمُّ بالصورة بعد إفراغ مادتها؛ لأن مقارنة الصور الفارغة بعضها ببعض أیسر من مقارنة الأفكار وهي مليئة بمادتها، وهو إنما يهتدي إلى صورة الفكرة لو اهتدى إلى مُتغيِّراتها من جهة وثوابتها من جهةٍ أخرى، فيُسقط الأولى واضعًا مكانها رموزًا، ويُبقي على الثانية فتبقى له الصورة التي هي الإطار الأساسي المُعَد لأي حشو يملؤه، فیُكوِّن هذه الفكرة أو تلك مما يقع كله تحت صورة واحدة؛ فالصورة واحدة في عبارتَي «حساب وهندسة» و«قيس وليلى»، والصورة واحدة في عبارتَي «الأربعاء أو الخميس» و«السينما أو المسرح»، والصورة واحدة في عبارتَي «إذا رأيت البرق سمعت الرعد» و«إذا أمطرت السماء اخضرَّ الزرع»، وهكذا. ولو اهتدى المنطقي إلى مجموعة الصور المختلِفات في فكر الإنسان، اهتدى إلى العناصر الأساسية التي ينحلُّ إليها ذلك الفكر.
إنه إذا اختلف فلاسفة المنطق في عصرَين في تحليلهم للصور التي يَرِد عليها الفكر الإنساني على اختلاف مادة ذلك الفكر، كان اختلافهم ذلك دالًّا على اختلاف في مذاهبهم الفلسفية بصفةٍ عامة، وكان اختلافهم — بالتالي — دليلًا على تغيُّر الجو الفكري كله في أحد العصرَين عنه في العصر الآخر؛ فها هو ذا أرسطو يستعرض الأفكار ويُحلِّلها، مُسقِطًا مُتغيِّراتها مُبقيًا على ثوابتها ليستخرج صور الفكر؛ فإذا بالتحليل ينتهي به إلى أن العلاقة الثابتة في كل فكرة كائنةً ما كانت، وهي العلاقة التي تُحدِّد صورة الفكرة مهما تكن مادة هذه الفكرة، هي علاقة الموصوف بصفته، كأنما كل فكرة يمكن صبُّها في هذا القالب: «س هي ص.» فقُل — مثلًا — «الحصان أبيض»، أو «الإنسان عاقل»، أو «العدد ٣ يقع بين العددين ٤، ٥»، أو «القاهرة أكبر من الإسكندرية»، أو ما شئت من قول، تجد — في رأي أرسطو — أن قولك يرتدُّ إلى موضوع معيَّن تصفه صفةٌ ما؛ أي إن كل فكرة قوامُها موضوع ومحمول كما يقول أهل المنطق؛ وإذَن فلا فرق من حيث الصورة بين فكرة وفكرة مهما بعدت الفكرتان بعد ذلك في مادتهما؛ ففي كل مثَل من الأمثلة السابقة يمكنك أن تُعيد الصياغة بحيث تصبح الجملة «كذا هو كيت».
وإن كان ذلك كذلك، ثم إذا كانت أفكارنا تُنبِئ عن حقيقة العالم، كان قوام العالم أشياء وصفاتها، أو موضوعات ومحمولاتها، أو جواهر وأعراضها؛ وهذه الموضوعات نفسها منها الأعم ومنها الأخص، بحيث تستطيع أن تعلو في سُلَّم التدرُّج من الخاص إلى العام، حتى تنتهي إلى جوهرٍ خالص تأتي سائر الصفات فتصفه فيكون هذا الكائن أو ذاك. وهكذا ترى كيف ينتهي المنطق الذي يجعل صورة الفكرة كائنةً ما كانت هي صورة «الموضوع والمحمول»؛ أي صورة «الموصوف وما يحمل من صفات»، كيف ينتهي بك هذا المنطق إلى نوع من الميتافيزيقا يردُّ الكون إلى جوهرٍ واحد، تختلف أسماؤه عند مختلف الفلاسفة لكن الأساس المذهبي واحد.
قارنْ ذلك بمنطق يُحلِّل الأفكار فلا ينتهي بها إلى صورة واحدة كالتي انتهى إليها أرسطو، بل ينتهي بها إلى كثرة من صور لا يمكن ردُّ بعضها إلى بعضها الآخر؛ فالجملة الدالة على موصوف وصفته، كقولنا «هذا الحصان أبيض»، تختلف في صورتها عن جملة تتناول بالحديث موضوعَين لا موضوعًا واحدًا، أو قل إنها تتناول طرَفَين لا طرفًا واحدًا، ثم تذكر العلاقة التي تربط هذين الطرفين، مثل قولنا «قيس يحب ليلى»، فليلى ليست من قيس بمثل ما يكون البياض من الحصان الأبيض؛ ففي حالة الحصان الأبيض يختفي اللون باختفاء الحصان، وأما في حالة قيس وحبِّه لليلى فلا تختفي ليلى باختفاء قيس. ها هنا موضوعان وبينهما علاقة، لا موضوع واحد وما يحمله من صفة. وقد تجد من العلاقات ما يتطلَّب طرَفَين كما في المثَل الذي ضربناه، وقد تجد منها كذلك ما يتطلَّب ثلاثة أطراف أو أربعة أطراف وهكذا؛ فالعلاقة التي تُمثِّلها كلمة «بين» لا تتحقَّق إلا إذا كان في عالم الواقع ثلاثة أطراف مرتبطة بها، فتقول مثلًا: «العدد ۳ يقع بين العددَين ٤، ٥.» فهنالك أعدادٌ ثلاثة لا بد منها «٣، ٤، ٥» لتكمل علاقة «بين». وهكذا قُل في سائر الجُمل التي تأتي مُصوِّرةً لوقائع ذوات أطراف عدَّة تصلها علاقات من هذا النوع أو ذاك.
إن منطقًا كهذا — وهو المنطق الذي يُعرَف به برتراند رسل وغيره من المعاصرين — لا ينتهي بك إلى واحديَّة الكون في جوهرٍ واحد مُطلَق وما يطرأ عليه من صفات، بل ينتهي بك إلى كثرة من وقائع، لكل واقعة منها خصائصها؛ فواقعةٌ قوامها جزئية واحدة وصفتها، وواقعةٌ قوامها جزئيَّتان والرابطة بينهما، وثالثةٌ قوامها ثلاث جزئیات والرابطة بينها، ورابعةٌ قوامها أربع جزئيات وما بينها من علاقاتٍ تربطها وهلمَّ جرًّا.
إنها اختلافاتٌ بعيدة المدى تلك التي تُفرِّق بين رجلَين، أحدهما يجري في تفكيره على المنطق الأرسطي، والآخر يُحلِّل الأمور على نحوِ ما يُحلِّلها برتراند رسل؛ فالأول سيتعقَّب «الجوهر» الذي هو موضوع لكل أفكارنا؛ إذ كيف يفهم فكرة إذا لم يفهم موضوعها؟ فإذا قال قائل عن الإنسان — مثلًا — إنه يتَّصف بالحياة وبالعقل، كانت هاتان الصفتان — بالبداهة — كائنتين في طبيعة الإنسان نفسه؛ وإذَن فما على الباحث إلا أن يُمعِن النظر في «الإنسان» ليُدرِك «جوهره»؛ فيُدرِك بالتالي صفاته التي تصفه فتجعل منه إنسانًا، ولكن في أي إنسان يُمعِن الباحث نظره؟ أيُمعِن نظره في زيد أو في عمرو أو في خالد؟ كلا، بل يُمعِن نظره في «فكرة» الإنسان، أو في «مفهوم» الإنسان، أو في «تعريف» الإنسان، أو في «صورة» الإنسان، أو في «مثال» الإنسان، أو ما شئت من هذه الكلمات التي تتردد على أفواه الفلاسفة. إنه لا يبلغ العلم الثابت عن الأشياء إذا هو اقتصر على ملاحظة الجزئيات العابرة في هذا الفرد أو ذاك، بل يبلغ العلم الثابت إذا أدرك «الجوهر». ولمَّا كان «جوهرُ» شيءٍ ما هو بدوره مُرتبطٌ بجوهر شيء آخر، فالإنسان — مثلًا — فرع عن الحيوان، ولا يفهم جوهره على حِدة إلا إذا فهم جوهر الحيوان؛ فإن الأمر كله سينتهي بالباحث إلى وجوب تصوُّر العالم كله كائنًا واحدًا عضويًّا، بحيث يكفي أن تفهم أي جزء منه لتفهم سائر الأجزاء، وبحيث لا يمكن أن تفهم أي جزء منه إلا إذا فهمت سائر الأجزاء.
وأما ثاني الرجلين، وهو الآخذ بمنطق الكثرة، فسيردُّ العالم إلى وقائع من جهة وقضايا نَصِف بها تلك الوقائع من جهةٍ أخرى، بحيث تكون الواقعة الواحدة مُكوَّنة من جزئيةٍ واحدة أو أكثر مرتبط بعضها ببعض بعلاقات، وبحيث تعتمد معرفة الواقعة الواحدة — لا على غيرها من الوقائع — بل على إدراك جزئياتها التي تكون منها بمثابة الأطراف الموصولة بهذه العلاقة أو تلك، لكن الجزئية الواحدة لا تُدرَك إلا بالاتصال الحسِّي المباشر؛ وإذَن فنهاية الشوط هي الارتكاز على هذا الاتصال الحسِّي المباشر بالجزئيات الذرية التي منها تتكوَّن الواقعة الواحدة، ثم من مجموعة الوقائع يتكوَّن العالم.
والفرق الأساسي بين «الجوهر» الذي هو أساس المنطق التقليدي والفلسفة التقليدية، و«الجزئي» الذي هو أساس المنطق المعاصر والفلسفة المعاصرة، هو أن الأول مزعوم له الثبات والدوام، والثاني مفروض فيه التغيُّر والزوال، حتى لَيُقال عن الجزئي إنه حادثة تحدث ثم تزول؛ الأول يجعل المعرفة مطلقة والعالم ساكنًا، والثاني يجعل المعرفة نسبية والعالم مُتحرِّكًا مُتغيِّرًا.
يقول المنطق المثالي والفلسفة المثالية إنك لا تستطيع أن «تفهم» طبيعة الجزئي الواحد إلا إذا «فهمت» سائر الكون؛ فلا تستطيع أن «تفهم» هذا القلم الذي أُمسكه بيدي الآن إلا إذا «فهمت» الكون كله. لماذا؟ لأن القلم جزء منِّي، وأنا جزء من الغُرفة، والغُرفة جزء من البناء، والبناء جزء من القاهرة، وهذه جزء من الكرة الأرضية التي هي جزء من المجموعة الشمسية، وهلمَّ جرًّا. وبعبارةٍ أخرى، فإن القلم سيَرِد في مجموعة كبيرة من القضايا التي تُقال عن أشياء أخرى في العالم؛ وإذَن فلا يمكنك «فهم» طبيعته إلا إذا فهمت تلك القضايا جميعًا.
والأمر في هذا القول معكوس، والصواب هو أنك لا تستطيع فهم قضية يَرِد فيها ذكر القلم إلا إذا كان هذا القلم قد وقع في خبرتك الحسية المباشرة؛ فمعرفة المركَّب تتوقف على معرفة البسائط التي منها يتركب، وليست معرفة الجزئية البسيطة هي التي تتوقف على معرفة الكون المركَّب. هذا كله من جهة، ومن جهةٍ أخرى فليس من الدقة في استعمال الكلمات أن نقول إننا «نفهم» طبيعة هذا الشيء أو ذاك، إننا لا «نفهم» القلم ولا «نفهم» الكون بأسْره، وإنما ينصبُّ الفهم على «الكلمة» أو على «القضية»؛ أقول إنني قد فهمت هذه الكلمة إذا ما عرفت مُسمَّاها، وفهمت هذه القضية إذا ما عرفت الواقعة التي تُشير إليها؛ فالفهم يكون للُّغة لا للأشياء التي تُشير إليها اللغة.
ونعود إلى موضوعنا الأصلي في هذه الفقرة، وهو الكلمات المنطقية، مثل «و»، «أو»، «ليس»، «كل» … إلخ، فنقول إنها وإن تكن لا تُسمِّي شيئًا من أشياء الواقع، إلا أنها هي الإطار الذي يُحدِّد صورة الفكرة، إنها أدوات يستخدمها الإنسان المُدرِك لينظم بها علمه عن الأشياء المُدرَكة. إن كلمة «أو» — مثلًا — لا تكون شيئًا من الأشياء التي تحتلُّ أجزاء المكان، ولكنها تكون علاقة نربط بها أقوالنا التي نقولها عن تلك الأشياء. إنني إذ أنظر إلى المِنضدة أمامي وأقول «ليس القلم على المِنضدة»، فلا أقول ذلك لأنني أرى «ليس» فيما أراه، بل كل ما أراه هو كتبٌ وأوراق. إنني بكلمة «ليس» لا أُسمِّي شيئًا أراه، وإنما أستخدمها ﻟ «أستدلَّ» نتيجةً مما أراه. إنني أرى ما هو كائن هناك مما تنطبع صورته على حاسة بصري، ولست أرى ما ليس هناك، لكني أستدله؛ وإذَن فيستحيل عليَّ أن أستعمل كلمة «ليس» إلا إذا سبقت لي لغة أصفُ بها ما هو كائن فعلًا؛ وبالتالي لا أستطيع أن أستخدم النفي إلا إذا سبقته معرفةٌ إيجابية هي معرفة ما تنطبع به الحواس.
٥
قد أسلفنا لك القول في ثلاثة ضروب من الكلمات من حيث دلالتها على مُسمَّيات خارجية؛ فهنالك أسماء الأعلام التي يدل كل اسم منها على مُسمَّاه الجزئي، وإنه ليتحتَّم منطقيًّا لاسم العَلم أن يكون له مُسمًّى وإلا فهو لا يُحقِّق تعريفه. على أننا أشرنا في هذا الصدد إلى أن اسم العَلم بمعناه المنطقي؛ أي بمعناه الذي يجعل له مُسمًّى جزئيًّا واحدًا، هو كلمة تدل على حالة واحدة، يُشار إليها بقولنا «هذا» أو «هذه». ولمَّا كان الفرد الواحد من الناس كالعقاد، أو من الأشياء كهذه المِنضدة التي أكتب عليها، هو في الحقيقة سلسلة من حالات مُتتابعة، كان اسم العَلم في هذه الحالة هو اسم الإشارة الذي يُشير إلى العقاد في إحدى حالاته أو إلى المِنضدة في إحدى حالاتها.
وهنالك إلى جانب أسماء الأعلام ضربٌ آخر من الأسماء هو ما يُطلَق عليه «الأسماء الكلية»، مثلَي «إنسان» و«جبل»، وواضح أن كل كلمة من هذه الكلمات لا تقتصر على تسمية فرد بعينه، بل هي تلخيص لمجموعةٍ وصفية إن وُجِد لها فردٌ تنطبق عليه، كان ذلك الفرد واحدًا من الفئة التي تُطلَق عليها الكلمة. على أن النقطة المهمة هنا هي أن المجموعة الوصفية التي تدل عليها الكلمة الكلية، لا تقتضي بالضرورة أن يكون لها فرد تتحقَّق فيه؛ ومن ثَم كانت الكلمة الكلية رمزًا ناقصًا؛ لأنها لا تدل بذاتها على ضرورة أن يكون لها مُسمًّى. والكلمة الكلية في حقيقة أمرها هي عبارة وصفية بأسْرها، لا اسمٌ واحد، غير أن تلك العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية الواحدة عبارة ذات ثغرة؛ أعني عبارة مجهولة الفرد الذي تنطبق عليه، ولا يتم تكوينها إلا إذا وضعنا مكان الثغرة اسم علَم يملؤها؛ فكلمة «إنسان» تحليلها «س تتحقَّق فيه صفات أ، ب، ﺟ»، وقد نجد بعد ذلك فردًا مُعيَّنًا نضع اسمه مكان س فتصبح العبارة الناقصة جملةً كاملة، وقد لا نجد فردًا تتحقَّق فيه الصفات المذكورة، فتظل العبارة على نقصها، لا تدل وحدها على معنًی كامل؛ أي لا تدل وحدها على وجود ما ترمز إليه بين كائنات الوجود الفعلي.
والضرب الثالث من الكلمات هو ما أسميناه بالكلمات المنطقية، مثل «إذا» و«ليس» و«أو» وما إليها، وهي كلها كلمات لا تدل على مُسمَّيات في الخارج، ولكنها ضرورية لربط الأسماء ربطًا يجعل منها جملةً ذات فكرة مُعيَّنة؛ فالكلمة من هذه الكلمات المنطقية هي التي تخلع على الجملة صورتها، وهي التي تُحدِّد لها حالات صِدقها أو عدم صِدقها؛ فمثلًا إذا قلت جملة كهذه: «إذا قرأت أهل الكهف أدركت قدرة الحكيم الفنية.» كانت كلمة «إذا» هنا مُحدِّدة لأربع حالات من حالات الصدق والكذب، هي: (۱) أن تقرا أهل الكهف وأن تُدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تَصدُق الحالتان معًا. (۲) ألا تقرأ أهل الكهف ومع ذلك تُدرك قدرة الحكيم الفنية (من قراءة كتاب آخر مثلًا)؛ أي أن تكذب الحالة الأولى ولكن تَصدُق الحالة الثانية. (۳) ألا تقرأ أهل الكهف ولا تُدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تكذب الحالتان معًا. كل هذه الحالات الثلاث تُجيزها كلمة «إذا»، وهنالك حالة رابعة مُستحيلة بحكم استعمال كلمة «إذا»، وهي أن تقرأ أهل الكهف ومع ذلك لا تقدر قدرة الحكيم الفنية؛ فلو كانت هذه هي الحالة كان استعمال المتكلم لكلمة «إذا» خارجًا عن الحدود الجائزة في استعمالها الصحيح.
هذه ضروبٌ ثلاثة من الكلمات: اسم العَلم، والاسم الكلي، والكلمة المنطقية. وليس فيها ما هو رمزٌ كامل يدل حتمًا على وجود مُسمَّاه وجودًا فعليًّا في دنيا الأشياء إلا اسم العَلم؛ أي الكلمة التي تُشير إلى جزئي واحد مُعيَّن.
وبقي أن نُحدِّثك عن ضربٍ رابع من الكلمات، هو الكلمات التي تدل على قيمةٍ خلقية أو قيمة جمالية، أو بصفةٍ عامة، الكلمات التي تدل على أن في المتكلم انفعالًا من نوعٍ معيَّن، لكنها لا تُشير إلى كائن خارجي. ولنضرب مثلًا رجلًا وقف إزاء الشمس الغاربة بما تُخلِّفه وراءها من أصباغ، فقال: هذا جميل. وقد يقولها في أي صورة شاء؛ إذ قد يُخرج لفظًا مُعيَّنًا في تنغيمٍ مُعيَّن، مثل لفظة «الله»، أو لفظة «يا سلام»، ويريد بها نفس ما يريده إذ يقول: هذا جميل. فأين مدلول هذه الكلمات؟
إن كلمة «جميل» وما يدور مدارها من كلمات، لا تُشير إلى شيء قائم في عالم الأشياء الخارجية، بل تُشير إلى حالةٍ نفسية يُحسُّها قائلها؛ فليس في الشفق «الجميل» إلا سحابٌ مصبوغ بألوان يمكن تحديدها بأطوال موجاتها الضوئية، وإنما «الجمال» فيها هو من نفس رائيها؛ وإذَن فكلمة «جميل» دالة على حالة ذاتية عند فرد مُعيَّن بحيث لا يكون ثَمة تناقضٌ بين شخصَين يقفان أمام الشفق الواحد، ويقول أحدهما إنه «جميل» بينما يقول الآخر إنه «خِلو من الجمال»، أقول إنه لا تناقض في هذا؛ لأن الحُكمَين لا ينصبَّان على حالة واحدة أو على شيء واحد، بل هما حُكمان كلٌّ منهما يُشير إلى حالة غير الحالة التي يُشير إليها الحكم الثاني، ولا فرق في ذلك بين هذين الرَّجلَين اللذين يحكمان حُكمَين مختلفين على وقعِ الشفق في نفس كلٍّ منهما، وبينهما إذ يقول أحدهما إنه يشعر بعضَّة الجوع بينما يقول الآخر إنه لا يشعر بها، أو يقول أحدهما إنه يشعر بنشوة الحب إزاء فتاة معيَّنة بينما يقول الآخر إنه لا يشعر إزاءها بشيء من ذلك.
إن قُصارى ما يستطيعه من يرى جمالًا في الشفق إزاء زميله الذي لا يرى فيه الجمال، هو أن يُشير له إلى دقائق في المنظر لعله قد عميَ عنها، أما إذا استنفد كل ما يستطيع ذكره من دقائق المنظر، وظل الزميل على موقفه مُنكِرًا أن يكون في الشفق جمال، فلا حيلة بعدئذٍ إلى التقاء وجهتَي النظر، اللهم إلا أن تُعاد تربية أحدهما بحيث ينصبُّ في قالبٍ شبيه بالقالب الذي انصبَّ فيه الآخر؛ حتى يمكنه أن يری ما يراه ويُعجَب بما يُعجَب به.
إنه مهما تعدَّدت الآراء في تحديد معنى الجمال، فهي جميعًا على اتفاق بأن جزءًا من المعنى — على الأقل — هو في التأثر الداخلي الخاص الذي يتعرَّض له من يشهد شيئًا جميلًا، لكن اختلاف الآراء يظهر بعد ذلك في تحديد الجانب الخارجي الإدراكي من معنى الجمال؛ فماذا يكون في الشيء الجميل نفسه — بغضِّ النظر عن تأثُّر الإنسان المُدرِك — من عناصر بحيث تكون هذه العناصر هي ما تُشير إليه كلمة «جمال»؟ إن الأشياء التي تُوصَف بالجمال كثيرة مُنوَّعة؛ فالبحر والجبل والغروب والصورة الفنية والتمثال والطائر والمرأة وقصيدة الشعر وقطعة الموسيقى كلها يتَّصف بالجمال، فما هي إذَن تلك العناصر الخارجية التي تُسمَّى بكلمة «جمال» والتي توجد في هذه الأشياء جميعًا؟ لقد طرح أفلاطون مثل هذا السؤال، وأجاب عنه بقوله إنه لا بد أن يكون هنالك ما تشترك فيه هذه الأشياء الجميلة كلها، وإلا لما جاز لنا أن نُطلِق عليها اسمًا واحدًا، وعنده أن موضع الاشتراك بينها هو أنها كلها تُشارِك «مثالًا» واحدًا، أي «فكرة» واحدة؛ وذلك جريًا على مذهبه في المُثل، ومُؤدَّاه أن كل ما نراه على هذه الأرض من كائنات محسوسة جزئية إنما جاءت على نحو ما جاءت عليه لأنها صِيغت على نمطٍ عقلي كان موجودًا منذ الأزل؛ فالمثلث — مثلًا — قد جاء على صورته المألوفة له؛ لأنه صِيغَ على غِرار فكرة المثلث التي كانت قائمة منذ القِدم؛ وهكذا قل في كل شيء. ومن بين الأفكار الأزلية هذه فكرة «الجمال»؛ فقد كانت هناك قائمة قبل أن يظهر إلى الوجود أي شيء جميل، وبعدئذٍ أخذت الأشياء الجزئية المحسوسة تظهر إلى الوجود، فما كان منها شبيهًا بمثال الجمال، أي ما كان مُجسِّدًا لفكرة الجمال، عدَدْناه جميلًا؛ وإذَن فلو سألت أفلاطون وأتباعه؛ كلمة «جمال» ما مدلولها؟ أجابوك بأن مدلولها هو مثال الجمال الكامن بين المُثل.
ومعنى ذلك أن الفلسفة الأفلاطونية وما يجري مجراها تذهب إلى أن للجمال وجودًا موضوعيًّا خارج وجود الإنسان ومستقِلًّا عنه، وأن كلمة «جمال» في هذه الحال تكون اسمًا يُطلَق على ذلك الوجود الخارجي، شأنها في ذلك شأن سائر الأسماء التي تُسمِّي الموجودات الفعلية مثل «إنسان» و«نهر» … إلخ، ولكننا في الحقيقة لا ندري كيف يمكن أن يكون لمثل هذا الكلام معنًى؛ فأولًا لیس هنالك من الأسماء ما يدل على موجودات فعلية إلا أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي تكون مُسمَّياتُها حالاتٍ جزئيةً محدَّدة المكان والزمان، بحيث يُشار إلى الحالة التي هي مُسمًّی لكلمة باسم الإشارة «هذا» أو «هذه»؛ فكما قلنا في الفقرات الأولى من هذا الفصل، إن أي كلمة كلية مثل «إنسان» هي في حد ذاتها رمزٌ ناقص لا يرمز إلى شيءٍ مُحدَّد، إلى أن يُعرَف الفرد الجزئي الذي يتَّصف بمجموعة الصفات التي تدل عليها هذه الكلمة. وكذلك نقول في كلمة «جمال»؛ فهي ليست كلمةً واحدة كما قد يبدو، ولكنها مجموعة من صفات لا يكون لها مدلول فِعلي إلا إذا وقعنا على الفرد الجزئي الذي تتمثَّل فيه تلك الصفات؛ أي إن هذه الكلمة في حقيقة تحليلها ليست اسمًا لشيء محدَّد معيَّن.
وثانيًا، فحتى لو فرضنا أن كلمة «جمال» اسم لفكرة معيَّنة نراها مُتمثِّلة في كل الأشياء التي نقول عنها إنها جميلة، فنحن نسأل: ما هذه الفكرة الواحدة التي تكون في الشفق وتكون في قصيدة الشعر في آنٍ واحد؟ فلئن كان جمال الشفق في لونه فليس لقصيدة الشعر لون، وإن جمال القصيدة من الشعر في صور ترسمها أو في لفظها الموزون المُنغَّم؛ فليس للشفق صور ولا لفظٌ موزون مُنغَّم. قل ما شئت في العنصر الذي تراه مصدر الجمال في شيءٍ ما، تجد أن هذا العنصر غائب في أشياء أخرى مما تصفه بالجمال. ويزيد الأمرَ تعقيدًا أن هذا العنصر الواحد المعيَّن الذي قد تراه مصدر الجمال في شيءٍ ما، تعود فتراه هو نفسه قبيحًا في سياق آخر؛ فما كل لون أحمر — مثلًا — جميل مهما اختلف السياق الذي يَرِد فيه، بل إنك لتراه جميلًا هنا قبيحًا هناك. وفي هذا يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: «هل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النَّظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها؟» (ص٣٦).
قد يُقال إن المُسمَّى الموضوعي الخارجي الذي تُشير إليه كلمة «جمال» حين يُقال عن شيءٍ ما إنه جميل، هو الوحدة العضوية التي تكون بين أجزائه، وأن هذه الوحدة العضوية هي العنصر المشترك بين الأشياء الجميلة كلها؛ فهي في قصيدة الشعر وفي الزهرة وفي المرأة وفي الجبل وفي شفق الغروب؛ أي إن موضع الجمال في كل هذه الأشياء هو أن كل جزء من الشيء الجميل موضوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء، بحيث يجيء في موضعه ذاك سندًا ضروريًّا لا غَناء عنه في إحداث الأثر الذي يتركه الشيء الجميل في نفس رائیه أو سامعه، ولو عمدتَ في الشيء الجميل إلى تغيير جزء من أجزائه زال الأثر الأصلي أو تغيَّر تغيرًا جوهريًّا؛ ففي الفنون المكانية كالنحت والتصوير والبناء تكون الوحدة العضوية في اتِّساق الأجزاء واتِّزانها، وفي الفنون الزمانية كالموسيقى والشعر تكون الوحدة العضوية في النمو الذي يحدث كلما أضفت نغمةً جديدة أو بيتًا جديدًا؛ أقول إن الوحدة العضوية في الشيء الجميل قد يُقال عنها إنها هي العنصر الموضوعي الخارجي الذي تشترك فيه الأشياء الجميلة كلها، وعندئذٍ تكون هي المدلول الذي تُشير إلينا كلمة «جمال»، ولكنا نعود فنسأل: إنه على فرض أن الوحدة العضوية شرط لا بد من توافُره في كل شيء جميل، فهل تكون هذه الوحدة العضوية قائمة في الشيء أم إنها صفة نخلعها عليه نحن حين ننظر إليه من وجهة نظر تجعله بالنسبة إلينا كائنًا ذا وحدةٍ عضوية؟ لماذا يكون التماثل في أجزاء البناء — مثلًا — علامة اتساق وتناغُم وجمال؟ أليس ذلك لأنه شبيه بالإنسان في تكوينه المتماثل؛ وإذَن يكون التماثل في البناء جميلًا لأن نظرة الإنسان الخاصة هي التي جعلته كذلك؟
إنك مهما حلَّلت المدلول الموضوعي لكلمة «جمال» وجدته في النهاية يرتدُّ إلى أمرٍ ذاتي عند الإنسان المُدرِك؛ مما يجعلنا نُقرِّر أن معنى هذه الكلمة لا يكون في الخارج، إنما يكون في الحالة النفسية الباطنية. وقُل هذا في كل كلمة أخرى تدل على قيمة أو تُعبِّر عن انفعال؛ فقولنا عن شيءٍ ما إنه جميل ليس من قبيل قولنا عنه إنه مُربَّع؛ لأن التربيع صفة يمكن ترجمتها إلى مقاييس موضوعية لا يتدخَّل الإنسان فيها بميوله الذاتية إلا بالحد الأدنى الذي يجعل عملية القياس مُتأثِّرة بحواس الإنسان، وأما الجمال فصفة لا يمكن ترجمتها إلى شيء من هذا. نعم قد تجعل تعريف الجمال في بعض الأشياء الجميلة أن تتحقَّق فيه مقاييس معيَّنة، كأن نُحدِّد أطوالًا معيَّنة لأعضاء الجسم الإنساني الذي نقول عنه إنه جميل، وأوزانًا معيَّنة لأجزاء القصيدة التي نقول عنها إنها شِعرٌ جميل، وهكذا، ولكن الأمر في ذلك كله مرهون بالأذواق المُتغيِّرة من زمان إلى زمان ومن بلد إلى بلد، فضلًا عن اختلاف المقاييس المُقرَّرة في مختلف الأشياء الجميلة؛ فهي في بيت الشعر غيرها في جسم المرأة، وليس لها وجودٌ في الشفق والجبل. إن الشيء لا يكون مُربَّعًا وغير مُربَّع في آنٍ واحد بالنسبة لرَجلين مختلفين؛ لأن تساوي الأضلاع أمرٌ مَردُّه إلى قياسٍ موضوعي، وأما الجمال فقد يوجد في الشيء لهذا وينعدم فيه لذلك، حتى لَيقول الرَّجلان المختلفان عن الشيء الواحد في اللحظة الواحدة إنه جميل وغير جميل؛ جميل لأحدهما وغير جميل للآخر، ولا تناقض عندئذٍ في القول؛ لأن الكلمة في كلٍّ من الحالتين تُشير إلى أثرٍ نفسي غير الأثر النفسي الذي تُشير إليه في الحالة الأخرى؛ كما لا يكون تناقضٌ في أن يكون أحد الرجلين مُبصرًا والآخر كفيف البصر، أو أن يكون أحد الرجلين سليمًا والآخر عليلًا.
لذلك يُقال عن الكلمات الدالة على قِيم إنها نِسبية في مدلولاتها؛ أي إن الكلمة منها — مثل كلمة «جميل» — لا يكون لها معنًى إلا بالنسبة إلى فرد معيَّن من الناس، فإذا قلت عن شيء إنه جميل، لم يكن لقولك معنًى إلا إذا أكملته بإضافة اسم الفرد أو الجماعة التي تراه جميلًا؛ جميل عند من؟ هو جميل عند فلان أو عند فئة معيَّنة من الناس؛ ومتى كان الشيء الجميل جميلًا عند من يقول عنه إنه جميل؟ إنه كان جميلًا في أعين المصريين القدماء أو هو الآن جميل في أعين سكان الصحراء، وهكذا.
كلمة «جميل» وأشباهها من ألفاظ القِيم، هي كالكلمات الدالة على علاقات لا تُفهَم وحدها ولا تُفهَم مع أحد الطرفَين المرتبطين بالعلاقة دون الطرف الآخر؛ العلاقة التي تدل عليها كلمة «أكبر من» أو «على يمين» ليس لها وحدها معنًی، كلا ولا يتم معناها إذا قلت عبارةً ناقصة كهذه «س أكبر من»، أو «س على يمين»، ووقفت عند هذا الحد من القول، أكبر من ماذا أو على يمين ماذا؟ وهكذا قُل في العبارة التي نقول فيها عن شيء إنه جميل، جميل عند من؟ ومتى وفي أي سياق كان الجميل جميلًا؟
ولا يُقلِّل من نِسبية الجمال وما إليه من قِيم أن تُجمِع فئةٌ كبيرة من الناس على جمال شيءٍ معيَّن، بل لا يُقلِّل من نِسبيته أن يُجمِع العالم كله على جمال شيء معيَّن؛ لأن الأمر رغم ذلك الإجماع سيظل من الناحية المنطقية عرَضًا قد يزول بغير وقوع في التناقض؛ فليس ما يمنع الناس من تحوُّل تقديرهم للشيء فيَقبُح في أعينهم بعد جمال، أو يجمل بعد قُبح.
وخلاصة القول هي أن الألفاظ الدالة على قيمةٍ جمالية أو قيمة خلقية ليست من قبيل الأسماء التي تُسمِّي شيئًا بذاته في عالم الأشياء كأسماء الأعلام، وليست هي من قبيل الأسماء الكلية التي تدل الواحدة منها على مجموعةٍ وصفية قد تتحقَّق عناصرها في شيء بذاته من أشياء العالم الخارجي، وليست هي من قبيل الكلمات المنطقية مثل «أو» و«إذا» مما لا يكون له مدلول خارجي لكنه يربط أجزاء الجملة ليجعل منها وحدة، بل هي نوعٌ رابع وفريد؛ إذ هي لا تُشير إلى أي مدلول خارج الإنسان الذي يسوقها في كلامه ليُخرِج بها انفعالًا أحسَّ به، وربما أراد أن يُثير انفعالًا شبيهًا به عند سامعه.