وحدات التحليل
١
هذا العالم الذي نعيش فيه قوامه حوادث، وأعني بالحوادث ما تُحسُّه الحواس من لقطاتٍ مُتتابعة، كلَمَعان الضوء ولمسات الأصابع ونبرات الصوت؛ فكل شيء نقول عنه إنه ذو كِيان واحد متصل لفترة من الزمن تطول أو تقصر، كهذا القلم الذي بين أصابعي، وهذه الورقة التي أكتب عليها، وتلك الشجرة، والشمس والقمر، كل شيء من هذه الأشياء ليس في حقيقة أمره كیانًا واحدًا متصلًا كما قد نتوهَّم، إنما هو — إذا ما حلَّلت الموقف إلى عناصره الأوَّلية البسيطة — حادثاتٌ يتبع بعضها بعضًا؛ كل شيء من هذه الأشياء هو سلسلة حالات، أو قل هو سلسلة من ظواهر، والذي يخلع عليه الواحدية هو ما بين تلك الحالات من روابط وعلاقات؛ فهو نفسه الذي يخلع الواحدية على أجزاء المسرحية أو ألحان النغم. لماذا نقول عن المسرحية إنها أثرٌ واحد مع أنها مُكوَّنة من آلاف الكلمات؟ ولماذا نقول عن النغم إنه واحد مع أنه نبرات من الصوت مُتتابعات؟ إنك تقول عن المسرحية أو النغم إنه كِيانٌ واحد لِما بين أجزائه الكثيرة من روابط وعلاقات، وهكذا قل في هذا القلم وفي هذه الورقة وفي الشمس والقمر والنهر والشجرة، بل هكذا قل في الفرد الواحد من الناس؛ فلست أنت بالجزئية الواحدة ذات الكيان الواحد المستمر المتصل، بل أنت تاریخ من حوادث، أنت هو ما قد عشته من دقائق ولحظات، لك في كل واحدة منها حالة تختلف قليلًا أو كثيرًا عن سابقتها وعن لاحقتها. ولا تتوهَّمنَّ أنك أنت شيءٌ قائم بذاته تطرأ عليه هذه الحالات، بل أنت هو حالاتك هذه، ولكنها اللغة نستخدمها في التعبير هي التي تُوهمنا بطريقة تركيبها أن المبتدأ شيء والخبر شيءٌ آخر، أو أن الموضوع شيء ومحمولاته شيءٌ آخر؛ فإذا قلت «البرتقالة صفراء» ظننت أن البرتقالة شيء مستقلٌّ عن لونه الأصفر، مع أن البرتقالة هي هي حالاتها من لون وشكل وما إليها، وقد ارتبطت هذه الحالات بعضها ببعض عند إدراك الإنسان إياها بحيث أصبح بينها واحديَّة في البناء على تعدُّد العناصر التي دخلت في هذا البناء.
وأعود فأقول إن العالم الذي نعيش فيه قوامه هذه الحوادث التي ترتبط في مجموعات، نجعل كل مجموعة منها شيئًا واحدًا، كالعقاد والمقطم والنيل والقاهرة، ومن أشياء هذا العالم الواقعي ألفاظ اللغة وعباراتها؛ فالكلمة أو العبارة — منطوقةً أو مكتوبة — هي كذلك مجموعة من حوادث. الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة»، بل هي ملايين الملايين من حالاتٍ مُتفرِّقة؛ فكل مرة ينطق فيها أحد الأفراد بكلمةٍ ما، وكل مرة يكتب فيها كاتبٌ هذه الكلمة؛ هي حالة من حالات الكلمة. وكذلك قل في العبارة اللغوية التي هي من كلمات، إنني أريد أن أجمع قوَّتي كلها لأؤكِّد بكل ما وسِعني من قوَّةٍ هذه الفكرة التي أسوقها، وهي: إن الكلمة أو العبارة من كلمات اللغة وعباراتها هي من مادة العالم الواقع، لا فرق بين كلمة «كتاب» أنطق بها موجةً من هواء، وبين العاصفة التي تهبُّ وتقتلع الأشجار وتهدم المنازل إلا في الدرجة وحدها؛ ولا فرق بين كلمة «كتاب» أكتبها قطرةً من مِداد — والمِداد مادَّة — وبين جبال الهملايا سوى أن كلمة «كتاب» كومةٌ صغيرة من ذرَّات المادة، والهملايا مُرتفَع شامخ منها؛ فكلمات اللغة وعباراتها — إذَن — من مادة الواقع، هي جزء من الواقع، وقد اتخذنا بعض وقائع العالم لنرمز بها إلى بعضها الآخر؛ إذ اتخذنا من موجةٍ صوتية مُعيَّنة رمزًا يُشير إلى «المقطم»، واتخذنا كذلك من رسمٍ مُعيَّن أخطُّه على الورق رمزًا يُشير إلى ما شئنا أن نُسمِّيَه بهذا الرسم من أشياء؛ وبهذا يصبح الرمز المختار ذا «مدلول» و«معنًی».
إن لكلمة «معنًی» معاني عدَّة، تلتقي كلها في أن شيئًا يرمز إلى شيءٍ آخر، والكلمات والعبارات اللغوية هي واحدة من أنواع الرموز ذوات «المعنى»؛ فقد يُلاحظ الإنسان بين ظاهرتَين طبيعيتين ارتباطًا، بحيث إذا ظهرت إحداهما توقَّع الأخرى، كارتباط البرق والرعد، فإذا رأينا البرق توقَّعنا أن نسمع صوت الرعد، وعندئذٍ يكون «معنى» البرق أنَّ رعدًا سيتلوه، ومعنى السحاب ذي الخصائص المعيَّنة أن مطرًا وشيك الهطول، ومعنى انخفاض الزئبق في البارومتر أن عاصفةً يُنتظَر هبوبها، وهكذا. ولمَّا كان ارتباط السبب بالمُسبَّب هو من قبيل هذا الارتباط الذي يجعلنا نتوقَّع ظاهرةً إذا ما بدت ظاهرة، جعلنا السبب هو «معنى» المُسبَّب؛ فإذا رأيتَ نافذة دارك مكسورة مع أنك قد تركتها مُغلَقة، فلكَ أن تسأل: ما «معنى» هذا؟ ليكون الجواب عن سؤالك هو ذِكر السبب الذي أحدث الظاهرة التي أدهشتك. ومن قَبيل ذلك روبنسن كروسو وهو وحده في الجزيرة، إذ رأی ذات يوم آثار أقدام على الأرض، فكان «معناها» عنده أنه لا بد أن يكون في الجزيرة إنسان سِواه. وظواهر المرض عند المريض لها عند الطبيب الفاحص «معنًى»، وهذا المعنى هو العلة التي عنها حدثت تلك الظواهر.
وكما أن السبب قد يتَّخذ معنًى للمُسبَّب، فكذلك قد يتَّخذ المُسبَّب «معنًى» لسببه؛ فلو رأيت رجلًا يحمل حقائبه ويجري في الطريق، وسألت: ما معنى هذا؟ فقد يكون الجواب: إنه يريد أن يلحق بالقطار. أو أن أرى رجلًا يتحدَّى آخر بكلامه وسلوكه فأسأل: ما معنى هذا التحدِّي؟ ليكون الجواب: إن صاحب التحدِّي يريد أن يستثير القتال. وهكذا.
معانٍ مختلفات لكلمة «معنًى». ومن بينها أن أری رسمًا على الورق (هو رسم كلمة أو عبارة) فأسأل: ما معناه؟ ليكون الجواب إشارةً إلى ما قد جاء هذا الرسم ليرمز إليه. وهكذا ترى أن «المعنى» دائمًا هو أن شيئًا يرمز إلى شيء، وكلا الشيئَين يكونان من كائنات العالم الواقع.
غير أننا ها هنا سنقصر حديثنا على مجموعةٍ واحدة من مجموعات الأشياء الرامزة، وهي مجموعة الألفاظ والعبارات اللغوية، وسنتصوَّر دنيانا الواقعة ذات شِقَّين؛ فالكائنات والوقائع من جهة، واللغة التي ترمز إليها من جهةٍ أخرى. وإذا كانت دراسة الكائنات والوقائع هي من نصيب العلماء كلٌّ فيما يختصُّ به، فإن اللغة باعتبارها رموزًا تُشير إلى عالم الأشياء هي وحدها المجال الذي تجول فيه الفلسفة بالمعنى الذي نريده لها؛ ومن ثَم نفهم ما يُقال الآن عن الفلسفة — على الأقل بالمعنى الذي نريده لها — إنها علم «المعنى».
لكن الفلسفة إذ تجعل «المعنى» موضوع بحثها على وجه التحديد، فهي لا تريد بذلك أن تكتب القواميس لتضع إلى جانب كل كلمة معناها؛ ففرقٌ بعید بين أن يسأل المتعلم عن معنى لفظة أو رمز معيَّن، كأن يسأل: ما معنى «زاوية قائمة» أو «قمر صناعي» أو «اشتراكية»؟ وبين أن يسأل الفيلسوف قائلًا: ما المعنى؟ ما الشروط التي تتوافر في الشيء الذي نقول إنه «معنًى» لشيء آخر مهما كان نوع الشيئَين؟ فالأمر هنا شبيه في عالم الاقتصاد بالفرق بين أن يسأل سائل: «ماذا أستطيع شراءه بهذا القرش؟» أو «بكم تُباع الأُقَّة من اللحم؟» وبين أن يسأل الاقتصادي قائلًا: ما هي القوة الشرائية بصفةٍ عامة؟ بغضِّ النظر عن الثمن المدفوع والشيء المُشترى في الحالات الخاصة من حالات البيع والشراء.
والبحث في «المعنى» ماذا يكون وكيف يكون هو الشغل الشاغل للكثرة العظمى من المُشتغِلين بالفلسفة في يومنا هذا. وليس الأمر جديدًا كل الجِدة؛ فسقراط لم يشغله شيء بمقدار ما شغله تحديد المعنى لهذه الكلمة أو تلك، وكذلك أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته يجعل تحديد المعنى جزءًا هامًّا من عمله الفلسفي، وأرسطو في منطقه قد جعل «التعريف» الذي يُحدِّد معاني الكلمات موضوعًا لبحثه، وكثير جدًّا غير هؤلاء من فلاسفة العصور الوسطى وفلاسفة العصر الحديث قد جعلوا مشكلة المعاني وتحديدها أمرًا جديرًا بالاهتمام والبحث، لكن الموضوع لم يكن قطُّ على نحو ما هو عليه اليوم من حيث يُراد له أن يكون هو موضوع الفلسفة الذي لا موضوع لها سواه؛ ذلك لأن أولئك الفلاسفة الأوَّلين حين كانوا يبحثون في المعاني كانوا من جهة يبحثون في تحليل المُدرَكات بغضِّ النظر عما تُشير إليه، ومن جهةٍ أخرى كانوا يظنُّون أن عمل الفلسفة الرئيسي هو البحث في حقيقة الوجود نفسه؛ فلا بأس — مثلًا — في أن يتحدَّث الفيلسوف عن الفلك وعن التطور كما يتحدَّث العلماء؛ فالفرق بين المعاصرين وأسلافهم من حيث اهتمام الفريقَين بالمعنى هو باختصار — وسنذكُر الأمر تفصيلًا فيما بعد — أن الأسلاف كانوا يجعلون وحدة التحليل هي مفهوم الكلمة الواحدة، فما «الشجاعة» مثلًا وما «الروح»؟ بينما المعاصرون يجعلون الوحدة هي الجملة، أو إن شئت فقل باصطلاح المنطق إنها القضية؛ لأن الرموز اللغوية كلها تكون بغير معنًى إلا إذا وُضع الرمز في قضية، لماذا؟ لأن قوام العالم الخارجي هو كائناته الجزئية وهي مُجتمِعاتٌ بعضها مع بعض في «وقائع»، والواقعة الواحدة لا تُصوِّرها إلا جملة تكون كلماتها مقابلة للجزئيات التي هي أطراف الواقعة، وعلاقاتها مقابلة للروابط التي تصل هاتيك الأطراف فتجعل منها واقعةً واحدة.
وفرقٌ آخر بين المعاصرين والأسلاف في اهتمام الفريقَين بالبحث في «المعنى»، وهو أنه بينما المعاصرون يقصرون أنفسهم على جانب اللغة وحده يُحلِّلونه من حيث قوته الرامزة، ترى الأسلاف يتناولون بالبحث جانب الكون المرموز إليه؛ فبينما عملُ المعاصرين منطقٌ صِرف — أي تحليل للكلام من حيث دلالته ومعناه — نرى عمل الأسلاف يُجاوز المنطق إلى حيث البحث في الطبيعة، بل وفيما وراءها.
٢
وما دُمنا بصدد الخصائص العامة التي تميز الفلسفة المعاصرة عمَّا سبقها، وهي اهتمامها بالبحث في «المعنى» وجعلُها القضية — لا الاسم — هي وحدة الفكر التي ينتهي إليها التحليل، فجدير بنا أن نستطرد قليلًا لنذكُر المراحل الرئيسية التي تطوَّر الأمر خلالها حتى أصبح على ما هو عليه اليوم.
لِيَعجب القارئ ما شاء له العَجب إذا ما عَلِم أن الفلاسفة لم يُفكِّروا تفكيرًا جادًّا في تحديد موضوعهم إلا منذ عهد قريب؛ فلم يكَد واحدٌ منهم يسأل نفسه: ماذا تُحاوِل الفلسفة أن تصنعه مما ليس يصنع مثله العلم الطبيعي أو العلم الرياضي أو اللاهوت؟ ولعل «كانْت» أن يكون أول فيلسوف حديث يُلقي هذا السؤال جادًّا، ويُحاول الإجابة عنه إجابةً يُقرِّر بها أن علماء الرياضة والطبيعة ورجال اللاهوت لهم أن يقولوا ما يريدون أن يقولوه؛ فليس من شأن الفيلسوف أن يُشاركهم القول، ولا أن يحكم على قولٍ معيَّن بالصواب وعلى آخر بالخطأ، ولكنه يتناول هذه الأقوال المختلفة ليبحث عن الشروط التي ينبغي أن تتوافر حتى يمكن إطلاقًا لصاحب القول أن يقول ما يقوله.
على أن المهمة التي تضطلع بها الفلسفة على وجه التحديد، مُتميِّزةً بها عن سائر العلوم، لم تتبلور ولم تستوقف الأنظار بصورة واضحة إلا في أوائل هذا القرن العشرين. وإذا جاز لنا أن نُسمِّيَ البحث في تحديد موضوع الفلسفة «فلسفة الفلسفة» كان لنا أن نسأل مُتعجِّبين: كيف أمكن للفلسفة طوال عصورها أن تُفلسِف شتَّی جوانب المعرفة ولا تُفلسِف نفسها؟ كيف أمكن للفلاسفة أن يتعرَّضوا لكل ما قد تعرَّضوا له من شئون المعرفة والكون ولا تتعرَّض أولًا لرسم معالم طريقها؟
ولعل الخطوة الرئيسية الأولى في الطريق إلى تحديد الفلسفة وتحديد عملها، قد جاءت أول ما جاءت على أيدي فئة من رجال الرياضة، مثل «فريجه» و«هوسرل» و«رسل» الذين أرادوا أن يُخلِّصوا الرياضة من كل شائبة تشوبها مما ليس برياضة في طبيعته؛ أعني أن يُخلِّصوها من كل ما هو تجريبي أو نفسي؛ ذلك لأن المُدرَكات الرياضية كانت حتى «جون ستيوارت مل» في القرن الماضي مُمتزِجةً مُختلِطة بصنوف من المعرفة التي تجيء عن طريق الحواس، أو التي تجيء عن طريق الاستبطان لما يجري في الشعور؛ ففكرة العدد ۲ مثلًا، أو فكرة المثلث القائم الزاوية قد جاءت إلينا من تعميم وصَلْنا إليه خلال ما قد شاهدناه بحواسِّنا من أزواج أو مثلثات، فلا فرق بين الطريقة التي كوَّنت بها فكرتي عن «الشجرة» بصفةٍ عامة والطريقة التي كوَّنت بها فكرتي عن العدد ۲ أو عن المثلث القائم الزاوية؛ فكلٌّ من الطريقين يبدأ من مشاهداتٍ جزئية وينتهي إلى تعميمٍ كلي. هكذا كان يقول «مل»؛ لأنه لم يكن يُفرِّق من حيث الأساس المنطقي بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، كما لم يكن أغلب الفلاسفة من قبله يُفرِّقون، إلا أن اتجاه السير يختلف عنده عنه عندهم؛ فبينما هو يجعل العلوم الرياضية كالعلوم الطبيعية في طريقة تحصيلها لأنها تجريبية مثلها واحتمالية مثلها، كان الفلاسفة السابقون يجعلون العلوم الطبيعية كالعلوم الرياضية في طريقة الوصول إليها؛ لأنها قبْليَّة مثلها، يُدرِكها العقل بغير حاجة ضرورية إلى تجرِبة الحواس؛ ولهذا فهي يقينية مثلها، أو ينبغي أن تكون كذلك.
ثم جاء في النصف الثاني من القرن الماضي هؤلاء الرياضيون يُحاولون تخليص الرياضة مما يخلطها بعلوم الطبيعة؛ لأنهم رأوها مختلفة عنها في أساسها المنطقي نفسه؛ فالرياضة البحتة لا نُحصِّلها بالاستقراء كما نُحصِّل العلم بكائنات الطبيعة، كلا، ولا نُحصِّلها بالاستبطان النفسي كما نُحصِّل العلم بذواتنا الشاعرة؛ فحقائق الرياضة البحتة من صنفٍ فريد، لا هو شبيه بهذا ولا بذلك؛ فمصطلحاتها مُحدَّدة وبراهينها قاطعة، ونظرياتها تَصدُق صدقًا ضروريًّا وشاملًا. نعم، إن المنطق الصوري (وهو جزء من الفلسفة بمعناها في العُرف القديم، لكن ما كلُّ فلسفةٍ منطق في ذلك العُرف) كالرياضة يُحدِّد مصطلحاته، ويقطع في براهينه، وتجيء نظرياته صادقة صدقًا ضروريًّا وشاملًا؛ فلا فرق بين أن تقول في الرياضة إن ۲ + ٢ = ٤، وأن تقول في المنطق الصوري إنه إذا كانت أ هي ب، وكانت ب هي ﺟ، كانت أ هي ج؛ فإذا كانت الرياضة والمنطق الصوري معًا لا يجعلان الكائنات الطبيعية المحسوسة موضوعهما، ولا يجعلان المشاعر النفسية موضوعهما كذلك، فأين يقع ذلك الموضوع؟ أيكون هنالك مجالٌ آخر إلى جانب المجالَين اللذين قد جرى العُرف طوال العصور على قسمة العالم إليهما، وهما الطبيعة من ناحية، والذات من ناحيةٍ أخرى؟ نعم. هكذا أجاب هؤلاء الرياضيون بادئ ذي بدء؛ إذ نهضوا لتخليص الرياضة من شوائب التجرِبة الحسية والمشاعر النفسية في آن معًا. نعم هنالك مجالٌ ثالث إلى جانب الطبيعة والنفس، وكائناته كائناتٌ منطقية خالصة، فلا هي من «مادة» كالطبيعة ولا هي من «وجدان» كالنفس والشعور؛ كائناتها منطقية خالصة، مثل «كل» و«إذا» و«أو» و«حق» و«باطل»، ومثل «الفئات» (أي الأنواع) و«الأعداد» و«استنباط النتائج من مقدماتها» وغير ذلك. ولو قلنا إنه قد تبيَّن أن هنالك مجالًا ثالثًا إلى جانب مجالَي علم الطبيعة وعلم النفس، وأن ذلك المجال الثالث يشمل كائناتٍ منطقيةً خالصة، فقد قلنا بالتالي إن جانبًا من ميدان الفلسفة — جانبًا واحدًا على الأقل — وهو المنطق، قد خرج من نطاق البحث الفلسفي كما كان مفهومًا في عصور التاريخ.
وأعقبت ذلك مرحلةٌ أخرى، حُرِمت فيها الفلسفة من جانبٍ آخر من جوانبها، وذلك حين انتقل علم النفس من ميدان الاستبطان الذاتي إلى ميدان البحث التجريبي والحساب الإحصائي، وبعد أن كان الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية كيف تُفكِّر وكيف تعرف وكيف تُسيِّر الجسم في طريقٍ سلوكي معيَّن، أقول بعد أن كان هؤلاء الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية من شتَّى نواحيها يعدُّون أنفسهم من المُشتغِلين ﺑ «العلوم العقلية»، جاءت التجارِب العلمية في معامل علم النفس الجديد لتتناول بآلاتها ومقاييسها وإحصاءاتها ما كان هؤلاء يتناولونه — وهم جالسون على كراسيِّهم — بالتأمل الحدسي. وها هنا تساءل القوم: ماذا بقي لرجال الفلسفة من موضوعات «المعرفة» و«الأخلاق» و«المنطق» إذا لم تعد هذه الأشياء من الحالات التي يصحُّ فيها القول بمجرَّد التأمل الحدسي؟
ثم جاءت خطوةٌ ثالثة وأخيرة في تطوُّر موضوع البحث الفلسفي، كما كان مفهومًا عند النظرة التقليدية؛ فقد خرج المنطق الصوري ليكون مع الرياضة في مجالٍ مستقل عن مجالَي الطبيعة والنفس، ثم خرج علم النفس ليدخل معامل التجارِب وقوائم الإحصاء مع سائر العلوم الطبيعية، وأخيرًا جاء «برنتانو» (فیلسوف نمساوي كان أستاذًا بجامعة فيينا في أواخر القرن التاسع عشر) ليُبرِز مبدأً استمدَّ أصوله من فلسفة العصور الوسطى، وهو أن الحالات العقلية والعمليات العقلية كلها لا بد أن تُشير إلى شيءٍ خارج حدودها؛ فكما يُقال عن الفعل المتعدِّي إنه يتطلب حتمًا مفعولًا به ليتمَّ معناه، فكذلك يُقال عن أية حالة أو عملية عقلية إنها مُتعدِّية بحيث تتطلَّب طرَفًا خارج كِيانها ليتمَّ معناها؛ فالفكرة من أفكارك لا بد أن تكون فكرة عن شيء، والحالة الوجدانية في لحظةٍ مُعيَّنة من حياتك لا بد أن تكون وجدانًا مُتعلِّقًا بشيء، وعلى الجملة لا بد لكل فِعل شعوري من موضوع ينصبُّ عليه؛ فلا تفكير ولا وجدان ولا إرادة «في الهواء» كما يقولون، بل يتحتَّم أن يكون لهذه الحالات الشعورية كلها أطرافٌ خارجية تتعلَّق بها. إنك إذا قلت إني أرى فلا بد أن تكون الرؤية مُنصبَّة على مرئي، وإذا قلت إني حزين فلا بد أن يكون الحزن ناشئًا عن شيءٍ بعثه في نفسك، وهكذا. وليست الحالة الشعورية من طبيعة الشيء الذي يكون مدارها؛ فقد أتخيَّل — مثلًا — جنِّية لها وجه امرأة وذيل سمكة، فيكون خيالي هذا كائنًا عقليًّا موجودًا وجودًا فعليًّا، مع أن الشيء الذي يتعلق به الخيال — وهو الجنِّية — ذو جسم مُشكَّل على نحوٍ مُعيَّن وليس له وجود. وقد أفرض أنني أسكن قصرًا شامخًا، فيكون الفرض حالةً عقلية موجودة فعلًا في مجری شعوري، على حين أن موضوع الفرض غير ذي وجود. وباختصار فإن الحالة الشعورية أو الفعل الشعوري شیءٌ غير موضوعه الذي يتعلَّق به.
وتبع «برنتانو» اثنان من تلاميذه، هما «مینونج» و«هوسرل»، وذهبا كما ذهب أستاذهما إلى مبدأ «التعدِّي» الذي شرحناه، والذي يشترط لأي فعل شعوري طرفًا يتعلَّق به ليتمَّ معناه. غير أن «مینونج» و«هوسرل» قد اقتصرا في بحثهما على الحالات العقلية الإدراكية دون الحالات الشعورية الأخرى من وجدان وإرادة، وانتهی كلاهما إلى القول بأنه لا بد لكل تصوُّر عقلي، أو حكم، أو تذكُّر، أو استدلال، أو غير ذلك من العمليات الإدراكية، لا بدَّ له من طرفٍ خارجي يُشير إليه ويتعلق به؛ فإذا تكوَّن في رأسي تصوُّر كلي مثل «إنسان»، أو حكم مثل «الإنسان فانٍ»، أو استدلال مثل «إذا كانت الحرارة تُذيب الأجسام فهي إذَن تُذيب الجليد»؛ إذا تكوَّن في رأسي شيءٌ من هذا، فلا بد أن يكون هنالك شيءٌ خارجي يكون هو معنى هذه الأشياء ومُثبِتًا لصدقها، ولكن أين عساها أن تكون؟ إنني قد أفرض ما ليس له وجود في العالم الطبيعي، كأن أفرض — مثلًا — أن شجرةً سمقت بفروعها حتى بلغت عنان السماء، كیف يكون لهذا الفرض معنًى إذا لم يكن هنالك الكائن الفعلي الذي يُصوِّره الفرض؟ لكن هذا الكائن الفعلي الذي يجعل للفرض معنًى ليس له وجود في العالم الطبيعي، كلا ولا وجود له في العالم النفسي؛ لأن الشجرة التي هي من خشب وجذوع وفروع لا تكون داخل الرأس؛ إذَن فأين يكون الشيء الذي يجعل لهذا الفرض معنًى؟ أين يكون المُسمَّى الذي يجعل معنًى لكلمة «إنسان»؟ إنها كلها أشياء لا بد من افتراض وجودها ليكون لكلامنا معنًى؛ وإذَن فلا بد من افتراض مجال ثالث أو عالم ثالث إلى جانب الطبيعة من جهة والنفس من جهةٍ أخرى، هو مجال «المعاني»، وهو هو نفسه المجال الذي تختصُّ به الفلسفة والمنطق لتترك الطبيعة لعلومها والنفس لعلمها؛ فلئن كانت الكائنات الطبيعية من ضوء وصوت وكهرباء وماء ونبات من شأن عِلمَي الطبيعة والحياة، ثم إن كانت أفعال العقل وحالاته من شأن علم النفس، فهنالك مجالٌ ثالث هو ميدان الرياضة والفلسفة والمنطق، وأعني به المجال الذي تكون كائناته هي ما تُشير إليه أفكارنا ومشاعرنا وأحكامنا؛ فالفكرة أو الوجدان أو الحكم ليس ضوءًا ولا صوتًا ولا شجرًا ولا ماءً حتى يكون موضوعًا للعلوم الطبيعية، وليس هو مجرد حالات عابرة يجري بها تيَّار العقل، تظهر وتختفي، ليكون مما يبحثه علم النفس، ولكنها ثوابت، ولا بد أن تكون مُشيرة إلى ثوابت مثلها كائنة في عالمٍ وحدها.
وما إن استهلَّ القرن العشرون بسنواته الأولى، حتى أدرك رجال الفلسفة والمنطق أن مجال نشاطهم ليس هو مجال العلوم الخاصة؛ فليست الفلسفة علمًا يقف إلى جانب العلوم الأخرى من طبيعة وكيمياء وفَلك ونفس، كلا، ولا هي مما يُحصَّل بالاستقراء والمشاهدة وإجراء التجارِب، بل هي تجول في هذا المجال الثالث الذي أشار إليه «مينونج» و«هوسرل»، والذي قوامه معاني ما يطوف بعقولنا من أفكار ومبادئ، وبخاصة في العلوم الصورية التي هي المنطق والرياضة؛ فأين أجد — مثلًا — معنی قانون الذاتية في المنطق الذي يقول إن الشيء يظل هو ما هو؛ أي إن أ = أ؟ وأين أجد معنى العدد صفر أو العدد ۳ أو أي عدد شئت؟ وأین أجد معنى المثلث والدائرة؟ لا تقُل إنك واجدٌ هذه المعاني في دنيا الأشياء الجزئية، فتجد قانون الذاتية — مثلًا — في أن صديقك محمدًا هو اليوم ما كان بالأمس، وتجد معنى الثلاثة في هذه البرتقالات الثلاث، ومعنى الدائرة في هذا القرش؛ لا تقُل ذلك لأن هذه كلها تطبيقاتٌ جزئية للفكرة، وأما معنى الفكرة نفسها فلا بد أن يكون شيئًا آخر غير تطبيقاتها، بحيث لو انعدمت هذه الحالات التطبيقية كلها بقيت الفكرة من جهة ومعناها من جهةٍ أخرى، وأعود فأسأل: أين يكون معناها؟ وجواب «مينونج» و«هوسرل» هو أن المعنى إنما يكون في عالمٍ ثالث غير عالم الطبيعة وعالم النفس.
تلك إذَن أفلاطونية من طِرازٍ جدید؛ فقد كان أفلاطون يفترض إلى جانب العالم الطبيعي والعالم الذهني عند الواحد من الناس، عالمًا ثالثًا قوامه معاني الأفكار الكلية التي تكون في العقل الإنساني؛ فمثلًا هناك جزئيات في العالم الطبيعي، كأفراد الناس من زيد إلى عمرو وخالد، ثم هنالك في عقلي فكرةٌ عامة كلية عن «الإنسان»، وهي فكرةٌ تتمثَّل في زيد وعمرو وخالد، لكن هؤلاء ليسوا معناها؛ إذ قد ينمحي هؤلاء الأفراد وتبقى فكرة الإنسان تتطلَّب معنًى، وأخيرًا هنالك عالمٌ ثالث يفترض وجودَه أفلاطون، هو عالم المُثل، يجعله مقرًّا لمعاني الأفكار الكلية التي في رءوسنا؛ ففكرة «الإنسان» تجد معناها في مثال الإنسان؛ أي في تعريفه أو جوهر حقيقته الذي هو من كائنات العالم الثالث.
أقول إنها كانت أفلاطونية من طِرازٍ جديد؛ تلك التي جاء بها «برنتانو» و«مینونج» و«هوسرل» حين افترضوا عالمًا ثالثًا إلى جوار الطبيعة والنفس يكون هو المجال الذي نلتمَّس فيه معاني أفكارنا. نعم قد كانت لفتةً قوية منهم وجَّهوا بها أنظارنا إلى «المعنى» وضرورةِ أن يكون هو الشاغل الأول للفيلسوف، لكن لماذا نُضطرُّ إلى خلق عالم ثالث ليكون مستقرًّا للمعاني؟ إننا قد نُوافقهم على أن معنى قضيةٍ ما، مثل «إذا كانت أ أصغر من ب، وكانت ب أصغر من ﺟ، كانت أ أصغر من ﺟ»، نُوافق على أن قضية كهذه لا نجد معناها قائمًا بين الأشياء، ولكن هل لا بد للمعنى أن يكون «شيئًا» حتى أُضطرَّ إلى البحث له عن عالمٍ يستقرُّ فيه؟ ألا يجوز أن يكون المعنى هو طريقة أداء أتناول بها ما في الطبيعة من أشياء، فإن وجدتُ أن القضية المذكورة أداةً تُمكِّنني من التصرف العملي في أشياء الطبيعة كانت ذات معنًى وإلا فهي بغير معنًى؟
إنني لو جعلت المعنى هو طريقة الأداء، زالت ضرورة العالم الثالث، عالم المعاني؛ بهذا يكون «المعنى» لا هو من الأشياء الطبيعية ولا هو من الحالات النفسية؛ لا لأنه من كائنات عالم ثالث، بل لأنه ليس كائنًا على الإطلاق؛ أي ليس شيئًا، بل هو طريقة عمل ووسيلة أداء.
الفلسفة هي علم المعاني، ومسائلها — كما يقول وتجنشتين — هي مسائل لغوية؛ بمعنى أنها تنحلُّ بتحليل العبارات التي تُعبِّر عنها، لكنا لا نقصد أن يكون البحث اللغوي هنا من قَبيل النحو أو الصرف أو طريقة النطق أو البلاغة وما إلى ذلك، بل نريد بحثًا ينصبُّ على منطق اللغة من حيث هي أداةٌ ترسم لنا طرائق السلوك إزاء العالم الذي نعيش فيه.
٣
الجملة اللغوية كائنًا ما كان نوعها مؤلَّفة من عدد من الكلمات، ومعناها مستمَدٌّ من معاني كلماتها، ولا بد أن تكون بين هذه الكلمات وحدةٌ تجعل منها رمزًا واحدًا له من الخصائص ما ليس للكلمات المفردة الداخلة في تكوينها.
لقد أسلفنا لك القول في الفصل السابق عن مدلولات الكلمات وهي مُفرَدة، وذكرنا لك منها أربعة أنواع؛ فنوعٌ تكون الكلمة من كلماته اسمًا لمُسمًّى واحد لا يتكرَّر، وهذا الشرط يتحقَّق في اسم الإشارة «هذا»، ويتحتَّم بطبيعة الحال أن يكون لمثل هذا الاسم مسمَّاه، وإلا فقدَ وظيفته التي من أجلها وُجد؛ ونوعٌ ثانٍ تكون الكلمة من كلماته اسمًا لمجموعة أعضاء تجتمع كلها في فئةٍ واحدة لِتَشابه صفاتها، مثل «إنسان»، وفي مثل هذه الحالة لا يتحتَّم أن يكون للاسم مُسمًّى؛ لاحتمال أن تكون الصفات الدال عليها الاسم غير مُتحقِّقة تحققًا فعليًّا في فرد من الأفراد؛ ولذلك عُدَّ هذا النوع من الكلمات رموزًا ناقصة لجواز أن يوجد الرمز بغير المرموز إليه؛ ونوعٌ ثالث كلماتُه بغير مدلول في عالم الأشياء، لكنها ضرورية في بناء الجملة بما تُوجده من الروابط بين كلماتها، مثل «إذا» و«ليس». وأمثال هذه الكلمات يُسمُّونها بالكلمات المنطقية؛ لأنها هي التي تُحدِّد صورة الجملة وتُحدِّد حالات صدقها؛ ونوعٌ رابع وأخير قوامه كلماتٌ دالة على قيمةٍ جمالية أو خلقية أو مُعبِّرة عن انفعال، وأمثال هذه الكلمات يُشير إلى داخل المتكلِّم ولا يشير إلى شيءٍ خارجه، ومن هنا كانت بغير معنًى إذا قصدنا بالمعنى مدلولًا خارجيًّا يشترك في مشاهدته أكثر من شخصٍ واحد.
لكن ما كل صف من الكلمات يكون جملةً ذات معنًى؛ فأول ما يُشترط ليكون للجملة معنًى هو أن تكون بين كلماتها رابطة تُوحِّد بينها في رمزٍ واحد له من الخصائص ما ليس لمفرداته. وكثيرًا ما يندمج التركيب اللغوي اندماجًا يُضلِّلنا عن حقيقة العناصر المُكوِّنة له؛ فلا بد لمن شاء أن يُحلِّل العبارة اللغوية التي يكون إزاءها أن يطمئنَّ أولًا إلى أنها جملةٌ واحدة لا مجموعة من الجُمل مُتداخلٌ بعضها في بعض؛ وذلك لأن ما يعدُّه النحو جملةً واحدة قد لا يكون كذلك من الناحية المنطقية؛ فمن الناحية المنطقية لا تكون الجملة جملةً واحدة إلا إذا كانت دالة على واقعةٍ بسيطة واحدة، ولا يستطيع من يريد مراجعة الكلام ليتحقَّق من صدقه أن يحكم على الجملة بصدق أو بكذب إلا إذا كانت جملةً واحدة تُقابلها واقعةٌ بسيطة واحدة؛ وعندئذٍ يمكنه مراجعة الجملة على الواقعة فيتبيَّن صِدقها أو عدم صدقها؛ فعبارة كهذه «أبو بكر وعمر من الخلفاء الراشدين» ليست جملةً واحدة، بل جملتان هما: «أبو بكر من الخلفاء الراشدين» و«عمر من الخلفاء الراشدين»، ولا يتوقف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وكلٌّ منهما يتطلَّب تحقيقًا يُثبِتها على حِدة. أما قولنا «أبو بكر وعمر مُتساويان في الطول» فهو جملة واحدة من الناحية المنطقية؛ لأن المرجع في صدقها واقعةٌ خارجية واحدة. ونسوق لك مثلًا آخر يُوضِّح الفرق بين ما هو جملة واحدة من الناحية المنطقية وما هو أكثر من جملة؛ فعبارةٌ مثل قولنا «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلًا»، جملتان لا يتوقَّف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وهما «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلًا»؛ فقد يكون صدقًا أني خرجت بالأمس لكن المطر لم يكن عندئذٍ هاطلًا، وكذلك قد يكون صدقًا أن المطر كان بالأمس هاطلًا لكني لم أخرج من الدار. أما قولنا «خرجت بالأمس حين كان المطر هاطلًا» فجملةٌ واحدة؛ لأن تحقيق الشطرَين لا يكون إلا بمراجعةِ واقعةٍ خارجية واحدة، فهل كان في اللحظة الفلانية من لحظات الأمس أن حدث حادثان معًا هما خروجي ونزول المطر؟
ولا تكون الجملة جملةً واحدة من الناحية المنطقية إلا إذا بلَغَت من البساطة حدًّا يستحيل معه انقسامها إلى جملتَين أو أكثر. ولا نبلغ هذه البساطة في التحليل إلا إذا بلغنا مرحلةً تكون فيها الأسماء الواردة في الجملة أسماء أعلام؛ أي أسماء حالات جزئية بالمعنى الذي شرحناه فيما مضى؛ ذلك لأن وقائع العالم الخارجي التي سنُراجع عليها الجملة لنحكم عليها بالصدق أو بالكذب، لا تكون إلا حالات جزئية مُرتبطًا بعضها ببعض بهذه الرابطة أو تلك؛ فقولي — مثلًا — «المصري يتكلم اللغة العربية» ظاهرها بسيط، لكنها ليست كذلك من وجهة النظر المنطقية؛ لأن كلمة «المصري» ليست اسمًا على حالةٍ جزئية واحدة، بل هي كلمةٌ عامة تنطبق على أي واحد من المصريين؛ وبهذا تكون بمثابة عبارة وصفية تُلخِّص مجموعة من الصفات إذا ما توافرت في شخص كان مصريًّا؛ وإذَن فهي بالتالي «رمزٌ ناقص»؛ أي إنها رمز لا يرمز إلى شيء بعينه، وعلى ذلك فلا يمكن تحقيق القضية التي وردت فيها هذه الكلمة إلا إذا أحللت مكان «المصري» اسمًا آخر ذا دلالة جزئية مُحدَّدة مُعيَّنة؛ وبهذا يصبح الرمز الناقص رمزًا كاملًا. تُرى هل إذا وضعت مكانها اسمًا ﮐ «العقاد» بحيث أصبحت الجملة «العقاد يتكلم اللغة العربية»، أكون قد وصلت بذلك إلى جملةٍ بسيطة؟ كلا، ولا هذا؛ لأن «العقاد» ليس حالةً جزئية واحدة، بل هو سلسلةٌ طويلة من حالات، هو تاریخ بأَسره، وحالاته الماضية لم تعد مما يمكن الإشارة إليه باسم الإشارة «هذا»؛ وإذَن فلا بد من تحليل «العقاد» إلى حالاته لأضع إحدى هذه الحالات فقط موضوعًا للحديث، كأن أُحدِّد الحالة المعيَّنة بالتقاء نقطة من المكان مع لحظة من زمان، أو أن أُحدِّدها بالإشارة المباشرة إليها قائلًا: هذا يتكلم اللغة العربية. وإلى هنا نكون قد فرغنا من الوصول بالموضوع وحده إلى المرحلة الذَّرية البسيطة التي تُقابلها في عالم الواقع حادثةٌ ذرية بسيطة كذلك. وبقيَ أن نُحلِّل الصفة الواردة في الجملة مثل هذا التحليل؛ فالعقاد في اللحظة التي أشير إليه فيها لا يتكلم «اللغة العربية» كلها، بل هو ينطق بعبارة منها الآن، وقد نطق بعبارةٍ أخرى في لحظةٍ ماضية، وهكذا؛ وإذَن فكل ما أستطيع الإشارة إليه من وقائع الدنيا فيما نحن بصدده هو إحدى حالات العقاد، وهي حالة نطقه بإحدى عبارات اللغة العربية، ثم أجيز لنفسي بعد ذلك أن أضمَّ سلسلة الحالات كلها التي هي تاريخ حياة العقاد وأجعل منها كائنًا واحدًا أُسمِّيه «العقاد»، ثم أتَّخذ من العبارة الواحدة العربية التي سمعت العقاد ينطق بها إشارةً تدل على أنه يتكلم من هذه اللغة عباراتٍ غير العبارة التي سمعتها منه، بحيث يجوز أن أقول عنه إنه يتكلم اللغة العربية بغير تحديد.
العالم قوامه وقائع، ويُصوِّر كلَّ واقعة منها في كلامنا جملةٌ، أو يمكن أن تُصوِّرها جملة. أما الواقعة الواحدة البسيطة التي لا تنحلُّ إلى ما هو أبسط منها فنقول عنها إنها جملةٌ «ذرية»، وأما الجملة الواحدة البسيطة التي تُصوِّرها فنقول عنها إنها جملةٌ «ذرية» كذلك. والواقعة الذرية الواحدة لا تكون أبدًا من جزئيةٍ واحدة كلمعة ضوء أو نبرة صوت؛ إذ لا بد — لكي تكون واقعة — أن تتَّصف هذه الجزئية الواحدة بصفةٍ ما، أو أن تتَّصل بغيرها من الجزئيات في مُركَّب واحد یكون ذريًّا ما دُمنا لا نستطيع حلَّه إلى أكثر من واقعة واحدة، والجزئي الواحد من جزئيات الطبيعة يُقابله في اللغة اسم العَلم، والصفة التي تصفه في الطبيعة يُقابلها في اللغة كلمةٌ نُسمِّيها باصطلاح المنطق «المحمول»؛ فإن كان بين الجزئي الواحد وغيره من الجزئيات علاقة تربطهما معًا في واقعة ذرية واحدة، كان في اللغة كلماتٌ دالة على هذه العلاقات لتربط بين الأسماء الواردة في الجملة ربطًا يجعل منها جملةً ذرية واحدة.
فلو كان ما أشير إليه من وقائع العالم الخارجي هو هذه الورقة التي أمامي ولونها الأبيض، كانت الجملة التي تُقابل ذلك هي «هذه الورقة بيضاء». هذه قضيةٌ بسيطة، وتحقيقها يكون بالرجوع إلى الواقعة البسيطة التي جاءت القضية مصوِّرةً لها. وفي مثل هذه الحالة نستطيع القول عن هذه الجملة إنها ذات «معنًى»؛ لأن مدلولها هناك يُشار إليه إشارةً مباشرة، وتنطبع به الحواس انطباعًا مباشرًا. قارن ذلك بجملةٍ وصفية أخرى يُظَن أن بينها وبين الجملة المذكورة شَبهًا في الصورة، كقولنا مثلًا «مدنية الغرب علمية»، وانظر هل يكون لهذا الكلام «معنًى» بالمعنى الذي حدَّدناه، وهو أن يكون للقضية مدلول في عالم الوقائع، فاسأل: أین هو الشيء المُسمَّى ﺑ «مدنية الغرب»؟ فإذا أشير لك إليه فانظر هل هو متصف بصفة العلمية، تمامًا كما جاز لك أن تسأل أين هو الشيء المُسمَّى ﺑ «هذه الورقة»، وأن تنظر في صفة البياض التي وُصفت بها. وواضحٌ أنك لن تجد جزئيةً من جزئيات الواقع اسمها «مدنية الغرب»؛ لأن هذه كلمةٌ أُريدَ بها أن تُطلَق على مجموعة كبری من مجموعات ضخمة؛ فهي مجموعة تضمُّ الدين والفن والعلم والحكومة والتربية والاقتصاد … إلخ إلخ، وكل كلمة من هذه الكلمات في ذاتها تعود فتضمُّ ملايين الجزئيات؛ فالدين كلمة تُطلَق على آلاف الجُمل في مئات الصفحات، والفن كلمة تُطلَق على آلاف وآلاف من قِطَع الموسيقى وقصائد الشعر والصور والتماثيل … إلخ إلخ، ويستحيل أن ترجع في العالم الخارجي الواقع إلا إلى مفرد واحد من هذه المفردات ثم تُعقِّب عليه بمفرد ثانٍ فمفردٍ ثالث؛ وعلى ذلك فلو أردنا أن يكون طريق التحقيق لكلامنا ميسورًا، وجب أن ينحلَّ هذا الكلام إلى عبارات لا تشير كل واحدة منها إلا إلى مفردٍ واحد من جُمَل النصوص الدينية أو إلى مفرد واحد من الآثار الفنية، وهكذا؛ وإذَن فليس قولنا «مدنية الغرب علمية» هو من الأقوال ذوات «المعنى» المباشر؛ لأنه قول لا يشير إلى واقعة ذرية واحدة، ولا يكون له معنًى إلا إذا تحوَّل إلى جُمَل ذرية تتحدث كلٌّ منها عن شيءٍ واحد جزئي يمكن الرجوع إليه بالحس المباشر.
قارن هذا التحليل بما قد ذهب إليه أرسطو وأتباعه من أن وحدة التحليل التي لا يمكن للتفكير أن ينحلَّ إلى ما هو أبسط منها هي جملةٌ تتحدث عن نوع بأَسره؛ أي عن فئة بأَسرها من الأفراد، كأن يُقال — مثلًا — «الإنسان عاقل» و«الشِّعر كلامٌ مُقفًّى» وما إلى ذلك. إنه لو كانت كلمة «الإنسان» أو كلمة «الشِّعر» هي الوحدة الأولية التي يُرجَع إليها للتحقق من أنها تتَّصف ما يدَّعي المتكلم أنها تتَّصف به، لوجب أن أبحث عنها — لا في عالم الأشياء الخارجية — بل في رأسي وفي عالم فكري؛ لأنه ليس في عالم الأشياء «إنسان» بصفةٍ عامة، ولا «شعر» بصفةٍ عامة. ولو أخذت بهذه النظرة لانتهيت إلى أن أقبل كلام المتكلم سواء أشار إلى دنيا الأشياء أو لم يُشِر؛ ومن ثَم يستطيع المتكلم أن يتوهَّم ما شاء من كائناتٍ ثم يتحدث عنها بما يشاء، ولا يكون لي الحق — أنا السامع — في مراجعته على دنيا الواقع؛ ذلك لأنني لو جعلت دنيا الواقع هي الفيصل بیني وبينه، لما كان لي بدٌّ من الرجوع إلى أفراد بأعيانها؛ فلا «إنسان» هناك إلا زید وعمرو وخالد، ولا «شِعر» هناك إلا هذه القصيدة المعيَّنة أو تلك.
كلا، لم يُوفَّق أرسطو في تحليله إلى الصواب؛ إذ جعل الأنواع آخر مراحل التحليل، وإذ جعل القضايا التي تكون موضوعاتها كلماتٍ كليةً هي الوحدات البسيطة الأولية؛ فالجملة التي يكون موضوعها فئةً لا فردًا، مثل «الطائر ذو جَناحَين» و«بعض من أتمُّوا دراستهم الثانوية يدخلون الجامعة»، ليست في الحقيقة قضيةً كاملة يمكن الحكم عليها بصواب أو خطأ، بل هي ما يقولون عنه في المنطق الحديث «دالة قضية»؛ أي إنها عبارة ناقصة فيها ثَقبٌ شاغر يحتاج إلى اسم جزئي ليملأه فتَكمُل العبارة وتُصبح صالحةً للتحقيق؛ فبدل قولي «الطائر ذو جَناحَين» أضع مكان «الطائر» اسمَ طائر بعينه يمكن الإشارة إليه، فتصبح العبارة «هذا الببَّغاء ذو جَناحَين»؛ وعندئذٍ فقط يمكن مراجعة القول على الواقعة التي يشير إليها.
أضف إلى هذا النقص في التحليل الأرسطي لوحدات الفكر نقصًا أخطر وأفدح؛ وذلك أنه قد ظن أن كل الأفكار مهما يكن نوعها فهي في النهاية يمكن ردُّها إلى جملة تصف موضوعًا ما بصفةٍ معيَّنة؛ أي يمكن ردُّها — بلغة المنطق — إلى موضوع ومحمول، إلى موضوع وما يحمله ذلك الموضوع من صفات، ولكن هذا النوع الذي ظنَّه أرسطو شاملًا لكل ضروب الفكر إن هو في الحقيقة إلا نوع واحد من أنواع كثيرة أخرى؛ فإلى جانب الجملة التي تتحدث عن موضوعٍ واحد بصفةٍ معيَّنة، هنالك الجملة التي تتحدث عن موضوعَين في آنٍ واحد واصلةً بينهما بصِلة تربطهما، كقولي عن بروتس إنه قتل قیصر؛ فالحديث هنا ليس حديثًا عن بروتس أكثر منه حديثًا عن قيصر، هو حديثٌ عنهما معًا بما قد وصل بينهما من علاقة هي علاقة القتل. واللغة نفسها تُمكِّنك من أن تبدأ الحديث بأي الطرَفَين شئت؛ فلا بأس من قولك «قيصر قُتل بفعلٍ من بروتس»، فتصف بذلك نفس الواقعة التي تصفها بقولك «بروتس قتل قیصر»؛ ومعنی هذا أن ليس قوام هذه العبارة موضوعًا وصفته، بل قوامها موضوعان وما بينهما من علاقة. وقد يكون في الواقعة الواحدة أكثر من طرَفَين، فيكون فيها ثلاثة أطراف مثلًا أو أربعة أو أكثر من ذلك؛ وعندئذٍ تأتي العبارة المُخبِرة عنها ذات ثلاثة موضوعات أو أربعة أو أكثر، بحيث يتساوی عدد الموضوعات في الجملة مع عدد الأطراف في الواقعة التي هي موضوع الحديث. وفي اللغة كلماتٌ أُعدَّت للتعبير عن العلاقة ذات الأطراف الثلاثة والعلاقة ذات الأطراف الأربعة وهكذا؛ فقولي — مثلًا — إن العدد ٣ يقع بين العددين ٢، ٤ هو قول ذو موضوعات ثلاثة هي «٢، ٣، ٤» ربطت بينها كلمة «بين»، وهكذا.
قد تقول: وماذا يترتَّب على هذا التحليل الجديد للفكر مما لم يترتَّب على تحليل أرسطو؟ ما الفرق بين أن أقول إن عبارة «بروتس قتل قیصر» هي قضيةٌ ذات موضوع هو «بروتس» ومحمول هو «قتل قيصر»، وبين أن أقول عنها إنها قضية مؤلَّفة من موضوعَين هما «بروتس، قيصر» ربطت بينهما علاقة؟ ونُجيب لك عن سؤالك هذا بقولنا إن الفرق عميق في تكوين وجهة النظر إلى العالم؛ فالتحليل الأرسطي مُنتهٍ بصاحبه إلى أن الكون حقيقةٌ واحدة وله هذه الصفة أو تلك، وأما التحليل الجديد فينتهي بصاحبه إلى أن الكون حقائق عِدَّة؛ ذلك لأني إذا أخذت بوجهة النظر الأرسطية فسأظلُّ أصعد في سُلَّم الموضوعات من أدناها إلى أعلاها، وفي شتَّى هذه المراحل الصعودية لا يكون لديَّ ما أقوله عنها إلا صفات تحملها تلك الموضوعات، حتى أنتهي في غاية الشوط إلى موضوعٍ واحد يضمُّ كل ما تحته من فروع، ولا يكون لديَّ ما أقوله عن ذلك الموضوع الواحد إلا صفاته التي يحملها. وأما الآخذ بالتحليل الجديد فلن يشترط بادئ ذي بدءٍ أن تكون وقائع الكون من صنفٍ مُعيَّن، بل سينتظر التجرِبة وما تأتيه به من معلومات؛ فآنًا تقول التجرِبة عن شيءٍ ما إنه ذو صفةٍ معيَّنة، وآنًا تقول عن شيئين أو عن ثلاثة أشياء إنها مُرتبطة برباطٍ لا يجعل واحدًا منها أعلى تعميمًا ولا أقلَّ تعميمًا. وأهم من ذلك كله أن التحليل الجديد للفكر يُحتِّم على صاحبه أن يجعل الوقائع الجزئية هي وحدها المرجع الذي يرتدُّ إليه المفكِّر في تحقيق أفكاره وأفكار الآخرين.
٤
تريد الفلسفة التحليلية أن تبلغ بتحليل الفكر إلى حدِّه الأدنى، شأنها في ذلك شأن العلم الطبيعي حين يتناول مادة الأشياء بالتحليل إلى غايته القصوى، فينتهي به إلى الذرَّات الأولية وإلى طريقة بناء الذرة الواحدة من هذه الذرَّات الأولية. وإنما يَنشُد التحليل الفلسفي والتحليل الطبيعي هذه الوحدات الأولية في عالم الفكر أو في عالم الطبيعة؛ أملًا في أن يعرف المركَّب إذا عرف بسائطه الذي يتكوَّن منها.
وقد انتهى رجال التحليل الفلسفي المعاصرون — وعلى رأسهم رسل — إلى ما قد أسمَوه بالقضية الذرية وحدة أوَّلية بسيطة، مُخالفين بذلك أرسطو الذي ظن أن القضية التي تتحدث عن فئة بأَسرها وحدةٌ فكرية أولية. والقضية الذرية الأولية — كما أسلفنا لك القول — هي التي تُقابلها في عالم الأشياء واقعةٌ ذرية أولية، كلٌّ منهما في مجاله لا يقبل التحليل والانقسام؛ فالواقعة الذرية الأولية قد تكون جزئيةً واحدة وصفةً تنعتها، وقد تكون جزئيتَين أو ثلاث جزئیات أو أكثر مع رابطة تصلُ هذه الجزئيات لتجعل منها بناءً واحدًا، بحيث لو انحلَّت الرابطة وانفرطت الأطراف لم يعُدْ لأي طرفٍ منها على حِدة شيءٌ من المعنى الذي كان للبناء وهو متصل. وكذلك القضية الذرية الأولية — على غِرار الواقعة التي تُقابلها — إما أن تكون اسمًا واحدًا وصفةً تنعته، أو اسمَين أو ثلاثة أسماء أو أكثر تصلها كلمةٌ علاقيَّة تجعل من هذه الأسماء وحدةً واحدة، بحيث لو أزلنا كلمة العلاقة وانفرطت الأسماء لم يعُدْ لأيٍّ منها شيء من المعنى الذي كان للقضية وهي بناءٌ متَّصل.
ونريد الآن أن نمضي في التحليل خطوةً أخرى، فنقول إنه حتى الجملة التي تكون مُكوَّنة من اسمٍ جزئي وصفةٍ تنعته مثل «هذا أحمر» التي نقولها مُشيرين إلى بقعةٍ لونية حمراء قائمة أمام الحس (وهذه القضية الوصفية هي أقرب الأنواع إلى القضية كما عرَّفها أرسطو وأسماها القضية الحملية)، أقول إنه حتى هذه القضية الوصفية الأولية يمكن تحليلها لبيان أنها هي الأخرى قضية دالة على بناءٍ ذي أطراف وما بينها من علاقة. ولو تحقَّق لنا ذلك لانتهينا إلى نتيجةٍ عامة، وهي أن كل فكرة من أفكار الإنسان، مهما تكن ذريةً بسيطة أولية، فهي مُكوَّنة من أطرافٍ جزئية وعلاقةٍ تربطها؛ وبهذا نستغني استغناءً تامًّا عن «الصفات» أو عن «الكيفيات»، ولا يعود لدينا من العالم الخارجي من جهة، واللغة أو الفكر من جهةٍ أخرى، سوی جزئیاتٍ ذرية وعلاقاتٍ تربطها.
فما تحليل قولنا «هذا أحمر»؟ إنه قول لا يتيسَّر لنا قوله ما لم يكن قد مرَّ بنا بادئ ذي بدء بقعةٌ لونية أشير لنا إليها ونُطق مع الإشارة بالصوت «أحمر»، فأصبحت تلك البقعة اللونية معنًى لكلمة «أحمر» بالتعريف، حتى إذا ما مرَّت بقعةٌ لونية أخرى «تُشبه» البقعة الأولى قلنا عنها إنها «حمراء»؛ وعندئذٍ يكون تحليل قولنا هذا هو: هنالك بقعتان لونيتان؛ بقعة أ وبقعة ب مُتشابهتان؛ وبهذا يرتدُّ قولنا «هذا أحمر» إلى «أ تُشبه ب»، وهي قضية ذات علاقة ثنائية؛ أي إنها قضية ذات طرَفَين وما يربطهما من علاقة، وليست هي بالقضية التي تصف موضوعًا واحدًا بصفةٍ معيَّنة.
إن الغاية التي نستهدفها بهذا التحليل وأمثاله هي أن يكون القارئ على وعي بما يتضمَّنه الكلام الذي يستخدمه في التفاهم من حصيلةٍ حسِّية، حتى إذا ما زعمنا له بعد ذلك أن الجملة الإخبارية إذا لم يمكن ترجمتها إلى مضمونها الحسي كانت جملةً بغیر معنًی، أدرك ما ينطوي عليه هذا الزعم؛ فكلٌّ منَّا يتحدث الحديث المألوف وهو لا يدري على وجه الدقة من أي جذور نشأ المعنى الذي يُراد للسامع أن يفهمه من ذلك الحديث، ومهمة الفلسفة التحليلية هي إبراز هذه الجذور الأساسية الخفية؛ لأنها إذا ما انكشف عنها الغِطاء وسُلِّط عليها الضوء، ازددنا قدرةً على نقد الكلام وتمييز ما له معنًى مما ليس له معنًى.
فقد يقول قائل «الورد أحمر» ويظنُّ أنه بذلك إنما يقول عن خبرةٍ بسيطة مباشرة، على حين أن «الورد» اسمٌ كلي يدل على مجموعةٍ وصفية ولا يدل بذاته على ضرورة أن يكون لهذه المجموعة الوصفية جزئيةٌ معيَّنة تلبسها؛ وإذَن فلا بد أولًا من أن نستبدل بهذه الكلمة اسمًا جزئيًّا ليكون للعبارة معنًى، فتصبح «هذه الوردة المعيَّنة حمراء»، ثم تأتي بعد هذه الخطوة التحليلية خطوةٌ أخرى، وهي أن ننسب «هذه الوردة» إلى بقعةٍ لونية سبقت رؤيتها وسبق ربطها بكلمة «أحمر»، لنرى أن «هذه الوردة» و«تلك البقعة» شبيهتان، فيتمُّ التحليل ويتحقق المعنى مُستنِدًا إلى الخبرات الحسية الماضية والحاضرة؛ فالذي يجعل عبارة «الورد أحمر» ذات معنًى، ويجعل عبارة «الجن أحمر» غير ذات معنًى، هو أننا نستطيع أن نمضي بتحليل العبارة الأولى إلى آخر مراحله، على حين أننا لا نستطيع ذلك بالعبارة الثانية.
هكذا تتفاوت العبارات في درجة تعقيدها وصعوبة تحليلها، لكنها جميعًا ترتدُّ — كما ترى — إلى حالاتٍ جزئية يمكن التعبير عنها بجُملٍ ذرية بسيطة أولية؛ وبهذا التحليل الذي يردُّها إلى أصولها البسيطة نُدرك مضمونها الحسِّي الذي منه يتولَّد معناها؛ وهنا ننتقل إلى «الوحدة» التي لا بد منها في الجملة الواحدة لتربط أجزاء المضمون الحسي في حقيقةٍ واحدة هي التي جاءت القضية لتُعبِّر عنها. إنه من الواضح أن معنى القضية الواحدة ليس هو حاصل جمع معاني مفرداتها؛ بدليل أنك قد تُغيِّر من ترتيب المفردات فيتغيَّر المعنى الجملي مع أن حاصل جمع معاني المفردات لا يتغيَّر؛ وإذَن ﻓ «الوحدة» التي تربط أجزاء الجملة ربطًا يُكسِبها معناها ذات صلة ﺑ «الترتيب»، أو إذا شئت مصطلحًا رياضيًّا فقل إن «وحدة» الجملة ذات صلة ﺑ «التسلسل» الذي يكون بين مفرداتها، كأنما الجملة عددٌ ذو أرقام، تتغيَّر قيمته بتغيُّر ترتيب أرقامه. وعلى الرغم من أن العدد تتوقف قيمته على قِيم أرقامه، إلا أن قيمته لا تكون بالطبع هي حاصل جمع تلك القيم المفردة.
لكن هذا «الترتيب» أو «التسلسل» الذي يخلع على الجملة معناها الموحَّد لا يزال بحاجة منا إلى تحليل، فماذا عساه أن يكون؟ إنه يرتدُّ في النهاية إلى تسلسلٍ زمني؛ أي إلى تتابع في لحظات الزمن، بحيث إذا كان التتابع في اتجاهٍ معيَّن هو الذي يدل على المعنى الصواب، كان اختلاف الاتجاه دالًّا على خطأ؛ فقولي إن «بروتس قتل قیصر» لا يعتمد في معناه الجملي على معاني الفئات الداخلة في تكوينه، وهي: (١) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكوَّن المجموعة التي نُسمِّيها «بروتس». (۲) فئة الحالات الجزئية التي تكون كل حالة منها حالة قتل مفردة، ومن مجموعها يتكوَّن معنى كلمة «قتل». (٣) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكون المجموعة التي نُسمِّيها «قيصر». أقول إن المعنى الجملي لقولي «بروتس قتل قيصر» لا يتكوَّن من مجرد حاصل جمع هذه المجموعات، بل لا بد أن يقع النطق باسم المجموعة الأولى سابقًا على النطق باسم المجموعة الثانية، وهذا بدوره سابق على النطق باسم المجموعة الثالثة.
وهنالك من حيث التسلسل الذي من هذا القبيل أنواعٌ ثلاثة؛ فمنها التسلسل الذي لا يجوز فيه الاتجاه العكسي بحيث نحتفظ للجملة الواحدة بمعناها الأصلي، وتُسمَّى العلاقة التي تربط الأجزاء في هذه الحالة بالعلاقة اللاتماثلية، ومن قَبيل ذلك قولنا: «أ أكبر من ب»، «أ والد ب»، «أ قبل ب»، «أ قتل ب»، وهكذا. ومنها ما يجوز فيه الاتجاه العكسي مع بقاء المعنى الأصلي على حاله، وتُسمَّى العلاقة في هذه الحالة بعلاقة التماثل، ومن قبيل ذلك قولنا: «أ تُساوي ب»، «أ تُشبه ب»، «أ تختلف عن ب»، «أ نقيض ب»، وهكذا. ومنها ما يلتبس فيه الأمر، فلا يُعرَف من الجملة نفسها إن كان الواقع الذي هو معنى الجملة مما يمكن فيه الاتجاه العكسي أو مما لا يمكن فيه ذلك، ومن هذا القبيل قولنا: «أ يحب ب.» فعندئذٍ لا ندري من الجملة وحدها إن كان «ب» يحب «أ» كذلك أو أن الأمر غير ذلك.
ومهما يكن من أمر، فهذا التسلسل بين أجزاء الجملة هو الذي يخلع على الجملة وحدتها، ووحدتها هي التي تجعل لها معنًى غير مجموع معاني مفرداتها. وإنه لمن عبقرية اللغة أن تكون ألفاظها الدالة على علاقاتٍ دالةً في الوقت نفسه على نوع التسلسل الذي ينبغي أن يتحقَّق بين المفردات ليتمَّ للجملة معناها؛ فالأمر حين أنطق لسامعي بعبارة «قامت الدولة الأموية ثم قامت الدولة العباسية»، أقول إن الأمر هنا لا يقتصر على أن تقع لفظتا «الدولة الأموية» في أذن سامعي قبل أن تقع فيها لفظتا «الدولة العباسية»، وإنه بهذا الترتيب الزمني يعرف كيف كان ترتيب الحوادث الخارجية في الوقوع، بل إن كلمة «ثم» تُحدِّد له نوع التتابع بحيث يعرف منها معرفةً إضافية أن أسبقية الاسم في العبارة اللغوية دالة على أسبقية وقوع مدلوله في دنيا الحوادث كذلك.
ونُلخِّص فنقول إن مهمة الفلسفة كما نراها هي تحديد المعاني، غير أن الوحدة التي نُحدِّد لها معناها هي الجملة، بحيث لا نكتفي بتحديد الكلمات التي منها تتكوَّن الجملة الواحدة؛ إذ إن للجملة معنًى غير معاني مجموعة كلماتها، ويُحدِّد لنا معناها هذا وحدتُها التي تنشأ من نوع الترتيب الذي ينظم مفرداتها.
ولكن تحديد المعنى في الجملة الواحدة يقتضي تحليلها لنتبيَّن وحداتها البسيطة التي منها تتكوَّن، وما هذه الوحدات البسيطة إلا القضايا الذرية التي تندمج في كِيانها، وبغير إبراز هذه القضايا الذرية لا يمكن إدراك العلاقة بين الكلام من ناحية والعالم الخارجي الذي عنه قد قيل الكلام من ناحيةٍ أخرى. أما إذا تكلَّم المتكلم بحيث لم يُرِد بكلامه أن ينصرف إلى عالم الواقع، وبحيث يكفيه أن تكون أجزاؤه متَّسقةً بعضها مع بعض؛ فعندئذٍ تتكوَّن ضروبٌ أخرى من البناءات الرمزية لا يكون المدار فيها مراجعة الرمز على مُسمَّاه، بل يكون المدار مراجعة الرمز على رمزٍ آخر في البناء الذي أقمناه، ومن أهم هذه البناءات الرمزية المُكتفية بذاتها، غير المعتمِدة في معانيها على وقائع العالم الخارجي، بناءُ المنطق وبناء الرياضة البحتة؛ فكلاهما صوريٌّ، يُحافظ على ألا يكون بين أجزائه تناقُض، دون أن يتوقف صدق البناء كله على مطابقته أو عدم مطابقته للعالم الخارجي.