الناطور
من خطئ إلى نفسه فمن يزكيه؟
***
نام الناطور فهرجت الثعالب ومرجت، وبعثرت المقاثي.
نام الناطور فعاثت بنات آوى في كرمتي، وصيَّرت عناقيدها عماشيش.
نام الناطور فأمست جنينتي مَثعَلة.
يا عابرات السبيل، يا نساء المورد، إن رأَيتن الناطور، فَنَبِّهنهُ!
•••
يا بنات الحي، أين الناطور؟
– ما رأيناه يا عم …
– كم من النهار يا ناس، وكيف يتضحَّى الناطور؟
أسرع يا بنيَّ، أيقظ الناطور، فخَطْبُنا لم يسمع به الدهر، ولا تحدثت بمثله الأيام، و«الثعالب» انتهكت حرمة البيوت، ولو كانت السعالى لهان الأمر …
•••
الناطور، هذا الناطور، جاء الناطور يا أَبي.
– أين عصاك يا ناطور؟ يا ناطور الكروم أين فَخُّك؟ أين قوسك ونشَّابك؟ أين الطَّبَنْجَةُ والبارودة؟
– العصا منشَقَّة، والقوس مكسور، والعيدان بان فيها خَوَر، والطبنجة صدئت، فمنذ سبعين عامًا ما جلوناها، ولا نقلناها، طال عهدنا بها فبتنا نخشى «طلقها».
الناطور ابن البرِيَّة، وبيته المغارة، وأنتم قوَّضتم خيمتي، فأقصيتموني عن أمِّ النهار، وبنات الليل، أرجعوني إلى العراء، انصبوا عرزالي على رفارف الجبال، وفي عبِّ الأرز والسنديان، فريح بيوتكم خبيث، وهواء قصوركم مسموم.
قلدوني شُكَّةَ الناطور أقنص الثعالب، وأصارع الأُسد والنمور، وأجندل الذئاب والضباع.
– هاه، هاه.
خنَّث الترفُ نواطيرنا فتثعلبوا، وهجرنا المنطرة فأكلتنا الثعالب، ونكثت «الديوك» بيادرنا المرشومة، فمتى نجمع أمرنا لنجعل لنا ناطورًا جبَّارًا؟
•••
أقمنا ناطورًا فكان أعمش لا يرى، وأدعرَ لا يُورى، وما امتد الزمن حتى استحال «نُطَّارًا»: ثيابًا منشورة على أعواد، منتصبًا في العراء كاللعين.
هابته الثعالب يوم نصبناه، ثم أَخذت تشارفه على حذر، تشمَّمت أذياله فأنكرت رائحة الحياة فيها، فمزقتها وجرَّرتها على العفر، فصارت جنَّاتنا مثاعل، وامتلأت أزقَّتنا عواءً وهريرًا، وبيادرنا نكشتها الدجاج بقيادة «الديك» الذي يردد قول شاعرنا:
•••
سقط النطَّار فافرحي أيتها الثعالب، وتهللي يا بنات آوى.
ستبكين على القثَّاء فإنها لن تزرع، ستنوحين على الكرمة فإنها ستيبس، يوم تمسي مملكة النُطَّار كأنها من بقايا أمة ذهبوا.
سقط النطَّار ففرغت البواطي، وصفرت الخوابي.
سقط النطار فانقطع الزبيب نقلُ أولادنا، والدبس عسلُ فلاحنا.
لم يبق في كرومنا غير الحطب، وخلا جرابنا حتى من الفتات.
ناحت معاجننا على الخبز، وحنَّت ظهور دوابنا إلى «الحمل» وبكت على الشعير المغربل فامتلأت مخاليها دموعًا.
معاصرنا مهجورة لا نوح فيها، ودواليب (كراخيننا) انقطع غناؤها وأنينها.
أفواه خلايانا صافرة، وملء أحشائها حنين إلى الطحين.
وبيوتنا تنكر الأشباح المتمخطرة فيها مدَّعية أنها من سلالة الجبابرة …
الله! الله! كيف أمست العيدان رمادًا وما أدخنت ولا التهبت؟!
مات الناطور، وسقط النطَّار، فيا طولَ شوقنا إلى القثاء، ويا لهف قلوبنا على العناقيد!
وا حسرتاه على جنينتي، كيف صارت بورًا كاشرًا بعد أن كانت ابتسامة فاتنة.
•••
أَي بني، لا تجعلوا حائط جنينتي مبكى.
انصبوا لجنينتي ناطورًا في حنجرته الرعد، وفي مقلتيه البرق، وفي ساقيه العاصفة، وفي قلبه القضاء والقدر، فلا حياة للبستان بلا ناطور.
أقيموا — يرحمكم الله — ناطورًا لا ينام، أو «نُطَّارًا» كأنه الناطور.