مناجذ
ورثتُ جنينةً عرفتُ من تاريخها أنها بعد المسيح.
دبَّ الخرفُ في أشجارها فتقلصت الجذوع وتفسخت الجلود.
مَن لجنينتي الشائخة، فغصونها مضروبة بالقروح، وفي ورقها ثآليل، وثمارها كشاعر عوص.
كانت ملهى يزم فيه النحل، ويزغرد الحسون، وترقص الفراشة الصامتة ولا تطلب رأسًا في طبق.
ما دهى جنينتي فصارت بعد أجيال قريةً للزنابير، ومدينة للعقارب «وأولاد الأفاعي» وعاصمة للغربان الصعاليك.
عالجتها بالحرث والتسميد فلم تنتج إلا كعابير.
فمن لجنينتي العجوز المصابة بالبرداء، وحُمى الرِّبع!
تقنَّعَتْ بمآزر العناكب، ونامت بين أذرع أبناء صموئيل.
فتحتُ قلبها لأفْقأ دماملها فانبعثت نتانة قوم لوط، ورجس راحاب وتامار.
ترك الجدود في جنينتي شجرات برية، فسرقتِ الغذاءَ ونازعت أخواتِها البقاء.
قلت: لأقتلعنَّ هؤلاء البربريات من جنينتي المتمدنة، فرأيت الجذور متآخية متعانقة.
تحت التراب شبكة حية، وفي الفضاء شراك منصوبة تقتنص الحياة.
«أمُّنا» الأرض لا تفرق بين سليمان وأبيشالوم، فلا قايين ولا هابيل، ولا بكرية تباع بأكلة عدس.
•••
عجز المسبَر فعدت إلى العقاقير، وصبرت كالناصري أعوامًا، فصارت تورقُ ولا تزهر، وإن نوَّرت فلا تثمر.
فقمت إلى الفأس والمنجل والمعول، وأجهزت على الشجر المحتضر.
فصاح بنو عمي: مجنون، أبله، يخرب ما عمَّر آباؤنا.
مجنون أبله، كذا قلنا عنه صبيًّا، وقد خرف اليوم ولم يبلغ السن.
المنجل تولول، والفأس تشخر، والناس يصيحون: مجنون أبله!
والتفتُّ حولي فرأيتهم يضحكون مني فضحكت مثلهم، وقد يضحك الغد مني ومنهم.
نكَّستُ رأس جنينتي ونصبتها أغراسًا جديدة، عرفها الأجداد، وأنكرها الأولاد.
أغراسًا غريبة وجدتها في الجثمانية، وعند الأبواب الدهرية، وبين قبر راحيل ومذود بيت لحم.
أطلق الجيران مواشيهم فيها فرعتها.
وظلوا يرعون ويخربون، وثبتُّ على الغرس حتى أعيا الأمر عليَّ.
وتذكرت اجتهاد اللاهوتيين فقلت يومًا للناس: جنينتي وقفٌ على الكنيسة، فتوقاها المؤمنون وتجنبوها، وحكموا بسلامة عقلي.
وأعلن كاهنهم أنني رجل تقيٌّ أخاف الله.
فاطمأنت جنينتي واستراحت من جميع المواشي إلا حمار الخوري وعنزاته.
قلت له: يا أبانا، جنينتي وقفٌ للسيدة عليها السلام، فاستضحك وقال: وأنا يا ابني خادم المذبح …
وكان للخوري ولد ضُحْكَةٌ، فأخذ يقتلع من جنينتي كل غريبة.
مشت يده فيها، وأراد أن يغرسها على هوى أبيه فسيَّجْتُها بأسلاك مكهربة.
وأذعتُ في القرية أن ملاك بلعام يحرس جنينتي، وقد صرع حمار الخوري ولم ينطقه.
جاء ابن الخوري ليأخذ بثأر حمار أبيه فصرع، ونحا أبوه نحوه فاقعنسس.
فاسترحت من الجميع وصارت جنينتي مفزعة.
جنينة مسحورة يُصَلِّبُ الناس إن مرُّوا بها.
فدعوت قومي وقلت لهم: يا إخوتي، يدخل جنينتي كل من أسلحه بعصاي هذه.
قضيب أرميا، خشبة خرطتها في فجر الشك، وصبغتها بظلمة الإيمان.
قبض عليها نفر فعبر الجنة المختومة آمنًا شر الملاك.
•••
مرت ثلاثة أعوام وجنينتي ظافرة، تمتلئ كل يوم صحة وعافية.
عششت في جيوبها الببغاء، ورقص على سواعدها القرقذون، واسترحنا من الغربان.
زرعت فيها نباتات حولية، فنبت فريق ونما، وفريق نبت وذبل.
المناجذ، المناجذ، انتشرت في جنينتي انتشارًا راعبًا، المناجذ لا ترى ولا تُرى، طاردتها في سبلها المعوجة الخفية فعجزت عن إدراكها … المناجذ تقضم الجذور والبذور، فما الحيلة بهذا العدو السميع الأعمى؟
سألت شيوخنا كيف يبيدون الخلد؟ فهزُّوا رؤوسهم قائلين: عدوٌّ خفي.
واستشرتُ الخوري فأرشدني إلى قديس يطرد المناجذ والجرذان، وصلى على ماء ورشَّ.
وبعد ثلاثة أيام «غير كاملة» انتصب كالناطور قبالة جنينتي، فرأى المناجذ تبني أهرامًا جديدة، فاكفهر وجهه وقعد يكشُّ الذبان، وراح يتمتم: هكذا تعمل قلة الإيمان!
طاردت المناجذ في أنفاقها فأدركت واحدة، فما رأت النور حتى ارتعدت، فقلت لنفسي: أهذه الفأرة العمياء عدوك يا قليلة العقل!!
ليتها ظلت تقرض وتأكل، ليتني لم أرها على وجه الأرض، فقد كنت أحسب لها حسابًا.
اللص لا يصلح خصمًا وإن بصيرًا، فكيف به إذا كان أعمى؟
إن تقرض هذه اللصة العمياء نباتاتي الحولية فهي عاجزة عن الأشجار الدهرية.
إن تقرض ضعيفات جنينتي، فهي تخرج تربة نقية، من قلب أمنا الأرض، البريئة من كل دنس.
فما أكثر المناجذ التي تعيش في الأنفاق، وهل تكون الدنيا الحمراء بلا مناجذ؟!