مؤتمر أبنَاء العمِّ
الجلسة الأولى
بعد عناءٍ مُرٍّ وجوع فضَّاح افترس الأسد نعجة سمينة فكان عشاء سرِّي لم يحضره يوضاس، وأتخم السيد حتى استرخى وافترش الأرض.
رأى في أحلام يقظته الحمراء عرشًا أطول من سلَّم يعقوب، وتاجًا يشعُّ كعليقى موسى، فسره أن يكون ملكًا يأكلُ رعيته بفتوى، ويلتهمها بقانون، فيأتيه رزقه رَغَدًا.
ساء الأسد أن يكون سيدًا قرمًا يروِّع أبناء جنسه، فيقسُّوا قلوبهم إن سمعوا صوته، ويتواروا إن أخذوا ريحه، فحبل دماغه بأمل ظامئ صار في لحظة جنينًا، وكاشف اللبؤة بنيَّتِه فأكبرتها، وتمثلت لها أبهة الملكات، فصار الشكُّ إِيمانًا والظنُّ يقينًا.
استوى الأسد على التلة وأَقعى يزأَر كمرشد يضرع، وواعظ يبتهل.
دعا وحوش البر إلى مؤتمر عام، وعاهدهم جميعًا على حسن الجوار، وحالف أمراء وزعماء القبائل والعشائر محالفة هجوم ودفاع، والحيوانات إن حالفت صدقت وإن عاهدت وفت …
وطار خبر المؤتمر العام في عالم الوحوش فأقبلت ذوات الآذان الطويلة والقصيرة، والأذناب المعطاء والأسيلة فسدتِ الوفود الوادي، وكان مؤتمر خطير حضره مندوبو الإخوان في الجنسية، فقام الأسد فيهم خطيبًا وقال:
سيداتي، آنساتي، سادتي:
كلنا إخوة وأبناء عم، توحدنا الأصلاب وتجمعنا الأرحام، أمُّنا الشمس وأبونا القمر، وقد ميزنا الله فخلَّصنا من الخطيئة الأصلية، وأَحبَّنا فأراحنا من عذاب جهنم، وسعادة الجنة.
عشنا حصَّة من الزمن مع ابن عمنا الإنسان، والمصيبة توحِّد، فبقينا معًا في تابوت نوح حتى انقضى الطوفان، ما كان أحلاها أيامًا لو دامت!
توهم الإنسان الجاهل أن الله سلطه علينا وأحل له دمنا، فافترقنا في تلك الساعة، وأَوى وأوينا إلى المغاور والكهوف، وكانت حرب دائمة بيننا، وبين أبناء المرحوم عمنا، ثم ما بيننا على اختلاف الأنواع والفصائل، فبتنا لا عهد لنا ولا ميثاق، ولا ذمة ولا دين، شريعتنا الظفر والناب، ودستورنا الغدر والفتك، زعيمنا منبوذ، وسيدنا مخوف، وقوينا يأكل ضعيفنا.
فلنتق الله أيها الإخوان، فقد بدا لي أن الله انحرف صوبنا، أوحى إليَّ أَمسِ أنِ ادعُ إخوانك إلى عبادتي، وأنا أسلطكم على الناس الذين عصوني وتمردوا عليَّ، فإن آمنتم بي كنتم أسيادًا في الأرض وقديسين في السماء.
فهل لنا أيها الإخوة أن نتحد ونعيش بحرية وإخاء ومساواة، وننسى الثارات والدم؟ فنبني لنا هيكلًا نعبد الرب فيه ويكون بيتًا وحصنًا لنا نأوي إليه في النوائب والشدائد؟ ما نعمَ الناس واستراحوا إلا حين تحضَّروا وتعبَّدوا، اعملوا مثلهم تتقوا شرَّهم الذي لا يحلم به وحش يجري في عروقه دم الشرف.
فَعَلَا التصفيق الحاد، وعَرَّ أحدهم هاتفًا: يعيش ملكنا الأسد، يا …
فردد الجميع: يعيش، يعيش، يعيش!
وازبأرَّ النمر فأرعب المحفل، ولولا العهد لخلا الوادي.
وظنَّ الأسد بالنمر شرًّا فاحمرَّت عيناه، فشزره النمرُ كأنَّهُ يقول له: لا تخف فأنا لا أنقض عهدًا، ولا أحنث في يمين ثم قال: اجتمعت بأخي الأسد الذي انتصر من سبط رئبائيل، وآمنت إيمانًا ثابتًا بما أُنزل عليه.
إن الأسد العظيم لا يبغي إلا رقيكم معشر الحيوان، وقصده تخفيف ويلاتكم، وحمل أوجاعكم.
فطقطقت الحوافر استحسانًا وضجَّ المؤتمرون، وحمحم البغل: الأسد مليكنا والنمر وزيرنا!
وتهيَّأ الأسد للكلام ثم قال: لا سعادة لنا ولا اطمئنان إذا لم نبنِ الهيكل الأعظم، فلنبن هيكلًا نأوي إليه شتاءً وصيفًا كإخوتنا البشر، فنصلي به إلى الله في ضيقتنا وشدائدنا، وسليمان الذي يفهم لساننا يكون شفيعنا لدى الله، فهل تريدون أن تتحدوا وتعملوا يدًا واحدة؟
فعَلَت أصوات ناحية اليمين: متحدون متحدون!
وهتف الجميع: فلنعمل، فلنبن الهيكل!
فقال الحمار: لكم عليَّ أن أهندسه!
وقال الفيل: وأنا أنحت الحجارة وأقصِّبها، فيدي طوع.
وقالت السلحفاة: أنا أنقل الكلس والماء إلى ظهر الجبل.
وقالت الغنم: نحن ننقل الحجارة.
وقال الجمل: وأنا أبنيه، أنا عمَّار أستاذ، خفيف رشيق كما تعرفوني!
فتناظر الأسد والنمر وصبرا.
فقال القرد: وأنا أحمل الزوايا الضخمة ولو بلغ طولها قامة أخي الإنسان.
وقال الدبُّ: وأنا أعدُّ لكم آلات البناء من الفادن حتى الإزميل والذراع.
وقال التيس: وأنا أطيِّنه.
وقال الضبع: أنا أنجِّر أبوابه وشبابيكه.
وقال الأرنب: وأنا أحرسه وأرد عنه هجمات الأعداء.
وقال الظربان: وأنا أعدُّ له البخور.
فكشر الأسد ضاحكًا وقال: ومن يحرسه حتى يتم بناؤه؟
فعوى الثعلب: أنا يا مولاي.
فانتفخ الأسد من الغيظ حتى كاد ينشقُّ، وصرخ بهم: تخيبوا يا حمير! ما أتعس أمةً حمارها مهندس، وسلحفاتها حمال، وجملها عمَّار، وثعلبها ناطور!
جلسة ثانية
انفضَّ مجمع «آب» وكرَّ أبناء العم إلى منازلهم يعبِّرون بآذانهم المسترخية وشفاههم المتدلدلة عن خيبتهم، أما الزعماء فلم يقنطوا، وهبُّوا لعقد مؤتمر آخر دعوا إليه الإخوان تلفونيًّا، فجاؤوا من كل فج عميق، وكان الحديث.
قال الأسد: عدلنا أيها الإخوان عن بنيان الهيكل، فما ابتلى الناسَ ربُّهم إلا يوم كلَّم موسى وعلَّمه طرق العبادة وأساليبها، قد أخرجه في «سفر الخروج» من بين أمم الأرض، ولواه في سفر «اللاويين» عن العالم أجمع، وعدَّه في سفر «العدد» ربًّا أرضيًّا لجميع المخلوقات، ثم أبرم في سفر «التثنية» ما سن لبني إسرائيل واشترع.
فحرك الحمار أذنيه وزمَّ بأنفه، وقال للأسد: ما قولك يا مولانا في النبي داود الذي قال في ابن عمنا الإنسان: «بالمجد والبهاء كللته، وعلى أعمال يديك سلطته، جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم، والبقر جميعًا، وبهائم البرِّ أيضًا، وسمك البحر السالك في سبيل المياه.»
فما اكتفى هذا المخلوق المكلل بالمجد والبهاء — ضحكٌ من مقاعد اليمين — والذي أراني أجمل من كثيرين من بني نوعه — قهقهةٌ من كل صوب — بما لفقه أبو سليمان بل قسَّمنا نحن الحيوانات إلى نجس وطاهر كما فعل الهنود بأنفسهم.
فتبسم حيوان خبيث أظنه الثعلب وقال له: اشكر ربك يا حمار، ارضَ بحصتك، فأنت تعيش العمرَ كله، لا جلدك يُلبس مثل جلدي، ولا لحمك يؤكل كلحم أخي الديك.
فشفتر الحمار حردًا، وقال الجمل: سائل المجرِّب، ولا تسأل الحكيم، يظهر أن الإنسان مسلط علينا كما قال داود، فولد صغير يقود أربعين خمسين جملًا مثلي، والأنكى أنه يقطرنا إلى جحش «قرَّادي».
فانشقَّ الحمار من الغيظ، ولم يطق السكوت فمدَّ صوته الرخيم قائلًا: مساواة، أخوة، كلام فارغ …
فأومأ إليه الرئيس فأطبق فكيهُ وأرخى شفته التحتانية احتجاجًا على هذه الإهانة الموجهة إلى النوع كله.
أما الجمل فشقشق وأرغى، وكاد يخرج كيسه الأحمر، فطيَّب الأسد خاطره بنظرة منبسطة، فهدئ ورجع إلى حديثه فقال: والإنسان مع ذلك يقول: لا كبير في عيني إلا الجمل!
فاحتد الثور وقال: ما ترك الله الإنسان، ولو تخلى عنه ساعة لأريتكم كيف أفزر بطنه بهذا القرن، امتيازات، خلود، سعادة أبدية، كلها للإنسان، الغرض ظاهر مثل عين الشمس، ومع كل هذا ما قصر أخوكم أبدًا، أخذت الربوبية دهورًا، وفركت أنف موسى في برِّية سينا، وما همني قول داود: حينئذ يقرِّبون على مذابحك العجول.
فمعا الجدي فتحولت إليه الأبصار فقال: صدق عمي الثور، تذكروا دمغ أبواب العبرانيين بدم جدْيٍ بريء؛ لأن الرب نوى أن يقتل جميع أبكار المصريين انتقامًا لأحفاده أبناء إسرائيل.
فبقبق التيس وقال: على تيوسيَّتي لا أفهم كيف أن الرب لا يعرف الأبواب، وهم يقولون عنه: ضابط الكل، ما يرى وما لا يُرى.
فقال الخنزير: وكم أرسل ملائكته لينصروا الإنسان الذي ينحرني بلا شفقة، فملاك واحد قتل ١٨٠٠٠٠ رجل.
وكم من مذبحة دبرها هذا الرب، الصياورت الدموي.
فقالت النعجة: أنا لا أعتب على البشر بعد هذا، ولكن عتبي على ربهم، لماذا أحبَّ لحمي ولحم العجل، دون الحيوانات كلها؟ ولماذا لم يحب لحم الطير، ولا يستطيب السمك؟
فهدرت حمامة، فردت النعجة إلى الصواب وقال النغل: عقلي لا يصدق هذه الأقوال فاعذروني يا سادة.
فاحمرت وجوه الإناث؛ لأنه لم يقل (سيداتي) أيضًا.
أما النغل فما بالى وأردف: الناس خلَّاطون ما لنا ولهم؟! كلهم يقولون إنهم أبناء الله، وإنه خلقهم على صورته ومثاله، ولا يختلفون إلا عليه، وكل واحد يدَّعي أن الله من حزبه، فمن يحل لنا هذه المشكلة، وكيف نتقرب من هذا اﻟ «الله»؛ ليكون في عوننا؟!
فعنق الحصان وحمحم فنصت له جميع الإخوان فقال: يظهر أن الدين قرَّب الناس من الله، فالأفضل لنا أن نصير طائفة يعرف لها وجه رب، حتى يعترف أبناء عمنا البشر باستحقاقنا الحرية، ويكفُّوا عن تسخيرنا ويريحونا من الحزام واللجام، والبرذعة والجلال.
فوقف البغل قائلًا: رخِّص لي بكلمة يا خال، هل أمنَ الناس لبعضهم لِنَأمنَ لهم؟ كلهم يقولون إنهم أصحاب كتب منزلة تعلِّم الرحمة والسلام، وألسنتهم خناجر، وأيديهم سيوف، وأصابعهم ديناميت.
فقهقه القرد فاستمال الوجوه صوبه، وإذ رأى أنه لا يُرى، ركب ناقة كما كان يفعل قس بن ساعدة، وصاح: اسمعوا لي كلمة، لا تفكروا بشيء من هذا، ما هذا يا هو؟! كأنكم لا تقرأون ولا تسمعون، أكبر علماء البشر الذين يسمونهم عبا … مبا … فصاحت الببغاء: من على الشجرة: عباقرة.
وحكَّ القرد صلعته وقال: نعم نعم، عباقرة، كل هؤلاء العباقرة يتقربون اليوم من أخيكم الحقير، ويقولون إنني أنا جدهم …
فعرَّ الدب وقال: وكيف ترضى بأولاد من هذا الشكل؟!
فأجابه القرد: المهم أيها الرفيق ألَّا نفكر نحن بالرجوع إلى وراء، كل أنبياء الناس ورسلهم الأطهار ما هذَّبوهم فلا تترجَّوا أنتم الخير من المذاهب والطائفية، ما هي إلا سلَّم لبعض الأفراد ليركبوا على ظهوركم.
وانحدر عن المنبر الشاهق بين طقطقة الحوافر والنهيق، فغاظت الأسد همرجتهم، فأسكتهم بزمجرة اقشعر لها جلد الوادي، وكان سكوت أرهب من ظلمة الكسوف التام.
وأقعى القرد المحنَّك على صفة، فشقت عجوزه الجموع وصافحته مهنئة قائلة: لا تصدِّق يا ابن عمي كلام الناس، ما انحلت مشكلتهم «فوق» فجاؤوا يحلونها في مغارتنا، مساكين البشر ما قتلهم إلا ربهم الذي علَّم موسى المكائد والحيل، فضرَّ أولاده جميعًا، نحن لا نعمل مثله، لا نعلم أولادنا حتى يتحرشوا بإخوتهم ويقاتلوهم، ولا نقول لهذا غير ما قلناه لهذاك.
فجمجم السامعون وكان كلام لم أتبينه لأنقله إليك.
وظلوا مطرقين حيارى حتى ظهرت بينهم السعلاة فجأة، فاستغربوا حضورها وهي غير مدعُوَّة. أما هي فحيَّت المحفل بحني الرأس وقالت: سعادتكم في تقسيم أراضيكم، قسموها تستريحوا من التناحر، كل الخير في القسمة.
فصاح الغول: اسكتي يا مرا، كيف جئت إلى هنا؟! لا تصدقوها يا إخوان، هذه مرأة عقلها محدود، ما أراحت القسمة الناس، كل أموالهم واقفة على الحدود، وطائرة في الجو، وسابحة في البحر، الأحسن أن تظلوا هكذا، كل واحد وشطارته، فأضعف الطير وأحقر الحيوانات تشارك الملوك في قصورهم وأبراجهم حتى معاجنهم.
لا تصيروا مثل الناس طوائف وشيعًا يبغض الجار جاره ليتبع رجلًا «غريبًا» لا يعرف قرعة أبيه، لا، لا، لا، أكبر غلط، اخترعوا مثلهم واستريحوا.
فنهض كثيرون للرد، فقال الفرس: دستوركم يا جماعة الخير، الجواب عندي، يا حضرة الغول العظيم، جلالتك لا تعرف ضرر الاختراعات ولا تحسُّ بها، اسمح لي أذكرك بواحد فقط، يتأبط شرًّا، أما كان قتلك قبل الاختراعات؟ فماذا تعمل اليوم لو لاقاك واحد مثله؟
مثله؟ أصبع واحدة من اختراعاتهم تطحطح ألف غول، اسأل من وصل الموسيُّ إلى ذقنه، ما أهلكنا وقلَّل قيمتنا وقطع رزقنا ورزق الناس إلا الاختراعات.
فقال القرد: وشر اختراعاتهم تفرقهم باسم الدين.
وخاف الأسد تطرف القرد الهدام، فأظهر رغبته في الكلام؛ فصمتوا جميعًا وانتصبت الآذان كرؤوس الحراب فقال: هذه جلسة بيَّضت وجه الحيوانية، فباسم ذوات الأربع، وذوات الأذناب أشكركم من صميم الفؤاد، وأعلن بالفخر الجزيل ختام هذا الاجتماع الحافل بالتفكير العميق، وسندعوكم إلى اجتماعات أخرى تظهر فيها عبقريتكم الفذة، الحق يقال، فينا بلغاء ومفكرون، وأصحاب عقول كبيرة مع قلة كلام … هيوا بنا الآن نأكل ما نسند به قلوبنا؛ فاللحم ينمي الأدمغة ويقوِّيها.
فقاموا إلى سفرة عليها العيش الكثير، فاشمأز بعضهم وأنفوا وسألوا الأسد أن يعاهدهم على الكف عن أكل لحوم الحلفاء، فمدَّ يدهُ الحمراء وأقسم لهم …
والتفتُّ فرأيت جحشًا يهزُّ برأسه ويضحك، والثور يغمزه ليسكت، ولكنه يغمز حمارًا ابن حمار …