ناسكان
ومرت على أثرها غانية، وبابتسامة اتبعتها بغمزة مديدة، قالت: ما رأيت في حياتي أحلى من ناسكين يتشاتمان …
ومرَّ جذع فقال: ضرب الخناجر أسلم عاقبة من كلام هذين الناسكين، فماذا خلَّيا للفتيان؟
ومرَّ معلم بتلاميذه فقال إذ سمع الحديث: العلماء يتحاجُّون، والزهاد يتجادلون، والذين في الجنة على سُرُرٍ متقابلون، لا تخلو مجالسهم من حديث، امشوا يا أولاد …
ومر واعظ فقال: كثيرًا ما سمعت ناسك هذا «الغور» يتضرع «لربِّة الوادي» لتداويه وتشفيه، وكثيرًا ما رأيته يوزِّع من جرابه «بذورًا للزارعين» كالحكومة في السنين الضيقة …
وكم سمعت ناسك ذلك «الجبل» يرى اللذة في الأَلم، والمصلوب كالصالب، فما باله لم يتلذذ ساعة بآلام كلام أخيه؟!!
لقد صرخ حين شكَّته شوكة، فردَّ الكيل كيلين، فماذا كان يعمل لو ضُرب سكينًا؟
وقال صحفي: الأدب أَخْذٌ وردٌّ، والزهد يدعو المتعمقين الذين بدأوا «يشاهِدُون» إلى النقاش، فليسمع الناس وليتعلموا، فهتر النساك بركة، وتصارعهم لذيذ …
وقال واحد ما عرفت لونه، ولولا بعض ما قال لأكَّدت أنه كاهن:
أيختلف هذان الناسكان على عجائب «ناسك» مضى وراح؟
أنحن في عصر الطبيعتين والمشيئتين؟! عاش كالناس ومات كالناس، تاركًا للبشر كلمات لو عملوا بها لما كانوا يكسرون المزهر والناي والعود لينزعوا من جوفها أسرار أنغامها …
إن الناسكين المتناقشين كليهما يسعيان إلى «الطوبى» عن طريق هذا الطوباوي الراقد بالفن، ويحاولان الصعود إلى السماء، كاليشاع على رداء إيلياء …
•••
فلتسكن العاصفة ولتمت الريح، فليل الناسك الأعظم قد تدهور، وكلُّ ما توسَّخ به من تجاريب طهرته منها خيبته وآلامه.
لقد انعدم في «الذات العظمى»، ولن ينفصل عنها فيما بعد ليعود كما توهم … فلا يتعلل «ميخائيل» بالرجعة، ولا يؤمن «أمين» بالردة … فليخرجا للناس «آثار خالدة» قبل أن تلتقي الساقية بالبحر فيبتلعها، وينقطع خريرها قبل أن تضل الزوبعة طريقها في السحاب.
أخويَّ، إن هذه الكتب «المفتوحة» التي يلغط بها الناس تستيقظ مع شروق الشمس وتنام مع غروبها، إن شهرتها لبنت الموت.
فلنكتب ولو بضعة أسطر للخلود، فالأدب الرفيع خير وأبقى.
إنَّ تشاتُمَ الأدباء مسجَّلٌ، فلا نسجل علينا ما تديننا به الأجيال الآتية.