تمهيد

لم يكن مفهوم ما بعد الحداثة في بداية ظُهوره يُحيل إلى موقفٍ نظريٍّ محدَّدٍ أو نسقٍ قيميٍّ ما يكشف عن وعيٍ بتحوُّلات جذرية مرَّ بها المجتمع الغربي، بقدْر ما كان يصف بعض التغيُّرات الفنية التي تمثَّلت في معمار فانتيري وجونسون، وموسيقى كايج وفن وارهول ورستشبرج، وروايات بنشن وبالارد، وأفلام مثل «المخمل الأزرق» Blue Velvet (١٩٨٦م) وميتركس Matrix (١٩٩٩م).

لكن هذه التحوُّلات سرعان ما أخذت تبحث عما يمكن أن يُمثِّل شكلها الواعي، ليُوحِّدها نظريًّا، ويؤسسها فلسفيًّا. وقد استطاعت أن تجد في فلسفة كلٍّ من نيتشه وهيدجر ما يُمكن أن يكون تأصيلًا لحركتها. إلا أن مُنظِّري ما بعد الحداثة، على اختلاف مشاربهم، ظلُّوا مُتمسِّكين بالتمييز بين صيغتَين مُتباينتَين لما بعد الحداثة؛ صيغة وصَفوها بالصيغة «القوية» اعتبروا أنها تمثَّلت في القراءة ما بعد البِنيويَّة لنيتشه، وصيغة نُعِتَت ﺑ «الرخوة» اعتبروا أنها انحدرت من القراءة التأويلية لهيدجر. وقد اعتبروا أن الصيغة الأولى صيغةٌ تفكيكيةٌ تُركِّز على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما تُركِّز الثانية على إعادة التركيب وعلى محاولة بناء نسَقٍ بديل للقيَم. وعلى الرغم من هذا التبايُن «المفتعل»، فإنه يُمكننا أن نردَّ أُسُس ما بعد الحداثة إلى نظرة إلى الزمان ومفهوم عن تولُّد المعنى نجد أُسُسه في جينيالوجيا نيتشه ونزعته المنظورية التي تُبدي نفورًا كبيرًا من كل نزعة شمولية، وترفض إمكانية استناد المعرفة إلى أيَّة «حكاية كبرى».

من هنا كان النقد اللاذع الذي تعرَّض له مفهوم التمثيل عند هؤلاء، ورفضهم القوي أن تتمكَّن نظريةٌ بعينها من عكس غِنى الواقع، وعدم قبولهم بأن يكون وراء المعرفة ذاتٌ إنسانيةٌ عقلانيةٌ موحَّدة، ووراء المجتمع قوة موحدة وتماسُك يَربط أجزاءه «فلا عجب إذًا أن تَحُلَّ مفهومات التعددية والاختلاف والانفصال والتشظِّي عند هؤلاء محلَّ مفهومات العِلية والوحدة والاتصال.»١ وقد مثَّلت هذه المفاهيم انقلابًا على الفكر الحداثي الشمولي وتوصيفًا لواقعٍ متشابكٍ لا تحكمه قواعدُ منطقية، بل تَحكمه الصيرورة، وأحيانًا الفوضى الخلَّاقة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز G. Delueze.

نحاول عبْر هذا الكتاب أن نَعرض لأهمِّ الأسس الفكرية التي تأسَّس عليها المشروع الغربي ما بعد الحداثي، فنرصد في الفصل الأول الظروف والتحوُّلات المجتمعية التي أدَّت إلى ظهور إطار فكري مختلف عن ذلك الذي كان سائدًا في مرحلة الحداثة، التي يُؤرَّخ لها بالفترة الممتدَّة من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين. كما نسعى في الفصل الثاني إلى التأصيل النظري لما بات معروفًا باسم حركة ما بعد الحداثة؛ وذلك عبْر تتبُّع مصادرها الفكرية ومبادئها التي انطلَقت منها. وفي الفصل الثالث، الذي يَحمل عنوان التجربة الجمالية ما بعد الحداثية، نرصد تجليات ما بعد الحداثة في الفنون المختلفة. ثم نَنتقي في الفصل الرابع أربعة نماذج مختارة من فلاسفة ما بعد الحداثة، كان لهم التأثير الأكبر في بلوَرة أفكار تلك الحركة؛ رولان بارت، وميشال فوكو، وجيل دولوز، وجان بودريار. ثم نختم هذا الكتاب بترجمةٍ لنصٍّ من النُّصوص المُهمَّة التي قدَّمت رصدًا وشرحًا مُتميِّزًا لتلك الحركة، وهو نصٌّ للمفكِّر المصري الأمريكي إيهاب حسن بعنوان سؤال ما بعد الحداثة.

١  عن عبد السلام بنعبد العالي، فلسفة ما بعد الحداثة، «مجلة أوان»، ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤