يَهدف هذا القسم إلى تتبُّع التغيرات التدريجية التي لحقت بمفهومَي الفني والاستطيقا،
وعلاقة ذلك
بالتأملات النظرية الجمالية لفلاسفة ما بعد الحداثة، وخاصة دولوز.
(١) معادلة بودلير
في أوائل الستينيات من القرن العشرين، نشر ليونارد ماير
L. Mayer دراسته الشهيرة «نهاية
عصر النهضة» التي قال فيها إنَّ مفهومًا جديدًا للجمال يُولد آنئذٍ، هذا المفهوم يتنكَّر
لمبدأ
الغائية ويكرِّس فنًّا لا يهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يَعُدِ
الإنسان هو
المعيار الذي تُقاس به الأشياء والموجودات؛ لأنه ببساطة لم يَعُد مركز الكون، كما ذهب
فلاسفة
الحداثة، ولهذا فإن علينا أن نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات
الجيد للحياة؛ الاستمتاع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشَّرَ
بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يُذيب الجُدُر الغليظة بين الثقافة العليا
high culture وثقافة الجماهير
mass culture، وبوسعه تفكيك الاستقلالية النُّخبوية للحَداثة. وفي نفس السياق
أيضًا يقول رايموند ويليامز
R. Williams: «في أواخر القرن العشرين، كان من الضروري للمرء أن
يلحظ مدى بُعد الشُّقَّة بيننا وبين أهم حِقَب الفن الحديث.»
٣
ما يدعو إليه ماير — وآخرون — هنا يُشير إلى تغيُّر كلي في مفهوم الفن وفي تصوُّر
الجَمال، تغيُّر
تُجسِّده عبارة بيوز
Beuys
«إنَّ مجرَّد إزالة قشرة البطاطس يُمكن أن يكون عملًا فنيًّا لو اتسم بالوعي.»
٤ كيف حدث هذا التحوُّل؟ وما هي طبيعته وأسبابه؟
كان الفن في العصور الوسطى جزءًا لا يَتجزَّأ من كلٍّ يحتويه؛ فكان تعبيرًا عن الروح
الدينية
التي كانت تُهيمِن على هذا العصر. وتظهر تجليات هذه الرُّوح في كل نواحي الحياة، في السياسة
والعلم والفلسفة … إلخ؛ لذا فإن الفن آنذاك كان فنًّا دينيًّا
art sacré. ولم يكن العمل
الفني عملًا بالمعنى المفهوم، بل كان حرفةً أكثر منه أي شيء آخر، ولم يكن أسلوب الإنتاج
فرديًّا؛ فلم يكن الفنان ينظر إلى نفسه بوصفها ذاتًا مستقلة مبدعة، بل جزءًا من فريق
يهدف
لإتمام سقف كنيسةٍ ما أو لوحة جدارية أو ترنيمة كنسية. وكما كان أسلوب الإنتاج يغلب عليه
الطابع الجماعي، كان أسلوب التلقِّي أيضًا يتم بصورة جماعية؛ فمُشاهدو هذا الفن أو مستمعوه
كانوا مجموعة من رواد الكنيسة الذين يَستهدِفونها لأداء صلواتهم. أما الأدب والمسرح فلم
يختلفا كثيرًا عن باقي الفنون، فكانت المسرحيات ذات الصبغة الوعظية
morality plays وتلك
التي تقوم على فكرتَي «اللغز» و«السر»
mystery plays — والتي تستمد جوهرها من حكايات من
الكتاب المقدَّس — هي المنتشرة آنذاك. أما الشعر فقد كان يستمدُّ موضوعاته كذلك من نفس
التراث،
ويظهر ذلك في ملحمة حكايات كانتربري
Canterbury Tales للشاعر الإنجليزي جيفري شوسر
Geoffrey
Chaucer (١٣٤٣–١٤٠٠م) وبعض الأشعار الأخرى الأقل أهمية لشعراء آخرين. ومن هذا الفن انبثق
نوعٌ آخر؛ وهو فن البلاط الملكي
courtly art. وقد استبدل هذا الفن موضوعات أخرى بالموضوعات
الدينية، وهي تُمثِّل حياة البلاط الملَكي وعظمة الأمير أو الملك وحياة الحاشية المحيطة
به.
تحوَّل الفن إلى جزء من حياة الطبقة الأرستقراطية ورواد البلاط الملَكي. وعلى الرغم من
أن
الفن — رغم تغيُّر موضوعاته — ظلَّ مرتبطًا بمفهوم الوظيفة، إلا أن هذه النقلة في طبيعة
الموضوعات
المُتمثِّلة، انعكست على رؤية الفنان لذاته؛ إذ لم يَعُد الفنان «حِرَفيًّا يؤدي وظيفة»،
بل أصبح
«فنانًا» يتصف بصفة الإبداع. وقد ظهر هذا التغيُّر بقوة مع مايكل أنجلو
Michael
Angelo (١٤٧٥–١٥٦٤م) الذي على الرغم من أن نحوتاته ظلَّت مُخلِصة للموضوعات الدينية المُستمَدَّة
من قصص الكتاب
المقدَّس، إلا أن وعيه الذاتي بكونه فنانًا، قد تجسَّد عبْر توقيعه على أعماله، مما يعني
أن إحساس
الفنان بذاته، وبقيمة ما يُقدِّمه، قد بدأ بالفعل في التغيُّر.
٥
سرعان ما بدأت مكانة الإنسان «الفرد» في الرسوخ مع عصر النهضة، الذي يُعَد بحق عصر النزعة
الإنسية، والعودة لكل ثقافةٍ مركزُها الإنسان؛ فلقد شيَّد الفن في عصر النهضة ذاته على
فكرة
العودة للماضي اليوناني والروماني، في محاولة لإبطال مفعول التوجُّهات الدينية لكل مناحي
الحياة، والبحث عن مصدر أكثر ثراءً لحياة الإنسان، ولكنه في عودته تلك كانت عينه على
المستقبل الذي يَصير فيه الإنسان مركز العالم وبؤرته. وعلى الرغم من بقاء الموضوعات الدينية
في برنامج الأعمال الفنية (أعمال يوهن باخ Bach (١٦٨٥–١٧٥٠م)، على سبيل المثال)، إلا أنه
بدأ مع عصر النهضة النزوع للخروج إلى تصوير الطبيعة واتخاذها موضوعًا للفن، وكذلك العمل
على
معالجة الموضوعات الحياتية الأخرى. ولم يكن هذا التحوُّل مُمكنًا، إلا من خلال الافتراض
المسبق
بأنه من وراء الذات والموضوع تقبع مجموعة من القوانين العامة لنظامٍ كونيٍّ راسخ، والصالحة
بشكل غير مشروط، حين تستقي منها كل قاعدة فنية، وبالتالي يُعتَبر فهْم هذه القواعد والشروط
والقوانين من صلب النظرية الفنية في عصر النهضة. وقد كان النزوع نحو الدراسة المتأنية
للطبيعة، بوصفها مقدمة ضرورية لتحقيق الصدق الفني؛ يُعطي المشروعية لفناني هذا العصر
بحيث
يصير إبداعُهم مؤسَّسًا على الدراسة والعلم، إلى جانب المَلَكة الإبداعية والخيال الحر
الخلاق،
حتى لا يَصير الفن مجرَّد صيغة أو حرفة، يمكن لأي أحد أن يَمتهنها، أو مجرَّد نتاج لشطحات
ميتافيزيقية لا يمكن الوقوف فيها على محدَّدات تمكِّننا من فهْم الفن على نحو إنساني
محض.
ومع ظهور كتاب ألكسندر بومجارتن
A. G. Baumgarten «في الاستطيقا»
Ästhetik في منتصف القرن
الثامن عشر، ستبدأ الجماليات تخطو خطواتها الأولى نحو الاستقلال. وحين استبدل
جان جاك روسو
Rousseau «أنا أشعر»
Je me sens ﺑ «أنا أفكر»، فهو «إنما يُؤشِّر إلى تحوُّل حاسم من استراتيجية
عقلانية خالصة إلى استراتيجية جمالية أكثر وعيًا في تحقيق أهداف التنوير.»
٦ وفي الفترة نفسها تقريبًا (١٧٩٠م) كان كانط
Kant يَعرف بدقةٍ الحُكمَ الجمالي
ويُميِّزه بوضوحٍ عن الحكم العقلي والحكم العملي، ويجعله جسرًا ضروريًّ — وإن بدا إشكاليًّا
— بين
الاثنين. كان اكتشاف الجماليات كحقل معرفي مُتميِّز منفصل هو الإنجاز الأكبر للقرن الثامن
عشر.
وإذا أضفنا إلى ذلك تنامي «الذاتية» و«الفردية»، والتطوُّرات الاجتماعية والاقتصادية
والعلمية
التي كانت تتصاعَد وتيرتها على شكل طفرات، فإن آثار هذا كله مجتمعًا قد أحدث تغيُّرات
عديدة
على مفهوم الفن، وعلى الممارسة الفنية، وعلى تصوُّر الفنان لذاته ولفنه.
نستطيع أن نرقب هذه التحوُّلات في تعريف بودلير
C. Baudelaire للحداثة في دراسته المهمة
«رسام الحياة الحديثة»
Le Peintre de la vie moderne الصادرة عام ١٨٦٣م يقول: «إن الحداثة هي المؤقت، وسريع الزوال، والجائز، هي نصف الفن؛
بينما الأبدي والثابت هو النِّصف الآخر.» فالفن
وفقًا لبودلير هو استخلاص السرمدي من العابر والزائل. هذا الزائل أو العابر لا يمكن للفنان:
أن يَتجاوزه: «هذا العنصر العابر والمُنفلت، والذي تكون تحولاته جد متواترة، ليس من حقك
ازدراؤه أو الاستغناء عنه. إنك بإلغائه ستَسقُط لا محالة في تجريد جمالي مُستعصٍ على
التحديد … كجمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى.»
٧ ومثلما كان بودلير سريعًا في رؤية ما إذا كان الدفق والتغيير، والتشتُّت
والتشظي، قد شكَّلا القاعدة المادية للحياة الحديثة، فإن تعريفه السابق للفن الحداثي
قد استند
أيضًا، وعلى نحو حاسم، إلى موقع الفنان في هذه العملية؛ ففي وسع الفنان الفرد تحدِّي
الصيرورة
تلك، أو التعايش معها، أن يحاول السيطرة عليها، أو السباحة في مياهها، إلا أنه لا يستطيع،
في كل الأحوال، تجاهُلها. وإذا عُدنا إلى صياغة بودلير، فإننا نجده يعرض الفنان كشخص
قادر على
تركيز رؤيته على الموضوعات العادية للحياة المعاصرة، وعلى فهْم خصائصها المُتغيرة، ويستطيع
مع
ذلك أن يستخرج من اللحظة العابرة كل عناصر الخلود الكامنة فيها. كان الفنان الحداثي الناضج،
وفقًا لبودلير، هو ذلك الذي يستطيع العثور على الكلي الدائم، وأن «يقطر طعم خمر الحياة
المر»
من «أشكال الجمال العابر والزائل في حياتنا اليومية»، وبمقدار ما يَنجح الفن الحداثي
في ذلك،
يُصبِح فنًّا لنا؛ إذ إنه وبدقةٍ «الفنُّ الذي يستجيب لسيناريو فوضانا.»
٨
إنَّ الحداثة في نظر بودلير — ووفقًا لهابرماس
٩ — تَستهدِف الاعتراف باللحظة الانتقالية كماضٍ أصيلٍ لحاضر سيأتي؛ لذا يأخذ بودلير
على فناني عصره حنينهم الدائم للماضي دون الالتفات لما هو راهن «إننا إذا ألقَينا نظرة
سريعة
على ما نُشاهده في معارضنا من لوحات حديثة، فإنَّ ما سوف يصدمنا هو نزعة الفنانين العامة
إلى
إلباس جميع الشخوص ثيابًا قديمة.»
١٠
كانت المواجهة بين الخالد والعابر
١١ حاضرةً في كل النقاشات التي تدور حول الموقف من الحداثة. وتبدو حالة بودلير هنا
نابعة من موقفٍ يسعى للدفاع أكثر عن استقلالية الجمالي وعدم تبعيته، وهو موقف نابع في
الأساس من كانط. التبعية التي نَعنيها هنا، كانت نابعة من داخل تلك النزعات التي كانت
حاضِرة
بقوة على الساحة الفنية في القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن اﻟ ١٩، أهمها النزعة
الرومانسية، التي رأت في العودة إلى الماضي أو تمثيل الطبيعة موضوعات شائقة للأعمال
الفنية. كما كانت نابعة أيضًا من اتجاهاتٍ ترى أن للفن وظيفةً تتجاوز إنتاج الجمالي،
وقد ذهب
ماثيو أرنولد
Matthew Arnold (١٨٢٢–١٨٨٨م) إلى «أن الفن في العصر الحديث يمكن أن يشغل
المكانة التي كان الدين يَشغلها في العصور الوسطى؛ لذا فهو منوط به وظيفة توفير رؤية
كلية
للحياة الإنسانية، تُوضِّح مَوقف الإنسان في الحياة، وتَرسم له صورة ذاتية، وتُضفي الطابع
النظامي
على العالم والتجربة الإنسانية.»
١٢ ومن نفس المُنطلَق يقول تي إس إليوت
T. S. Eliot (١٨٨٨–١٩٦٥م): «كان الناقد يتعامل
مع الأدب دائمًا على أنه وسيلة لاستخلاص الحقيقة أو اكتساب المعرفة، وإذا ما كان الناقد
يتمتَّع بعقلية فلسفية أو دينية، فسوف يبحث عن تلك اللمحات الفلسفية أو الدينية في أعمال
الكاتب الذي يَنتقِده.»
١٣ في مقابل ذلك يدعو بودلير إلى تخلِّي الفن عن أيِّ وضع مُتعالٍ؛ أي يرفض كل وضع يخرج
به من حيِّز إنتاج الجمال إلى أي مسئولية فلسفية أو أخلاقية. ولذا فالفن لن يَضطلِع سوى
بوظيفته
الداخلية
immanent — ألا وهي إنتاج الجمال — وهذا سوف يُؤدِّي بالضرورة إلى فرض معايير جديدة
للحكم على الفن، وهذه المعايير سوف تكون مَعايير داخلية (استطيقية)، لا علاقة لها بالأخلاق
أو بوضعِ الفن في المجتمع.
لكن لكي يتَّضح موقف بودلير وكيفية تجسيده للموقف الحداثي في القرن التاسع عشر، تلزم
الإشارة إلى الأوضاع الطبقية التي جعَلت بودلير، أحد أبرز مُمثِّلي اتجاه الفن للفن،
يُعبِّر عن
تناقُضات الحداثة ومفارقتها. ولعلَّ التصنيف الذي انتهى إليه بيير بوردو Pierre Bourdieu (١٩٣٠–٢٠٠٢م) في دراسته لحقلَي السلطة والثقافة في القرن اﻟ ١٩، يُساعدنا على استحضار
الواقع
الاجتماعي والأيديولوجي الذي ظهَر فيه موقف بودلير؛ لقد أوضَح بوردو في تحليله أن الحقل
الثقافي والفني بين ١٨٣٠م و١٨٥٠م، بل على امتداد القرن ١٩، كان يَتوزَّع ويَنتظِم حول
ثلاثة مواقع:
«الفن الاجتماعي» Social l’art، «والفن للفن» L’art pour l’art، «والفن البورجوازي» bourgeoi l’Art. وكل موقع من تلك المواقع النموذجية داخل الحقل الثقافي يُطابق شكلًا نموذجيًّا
للعلاقة بين الفئة المُسَيطَر عليها، والفئات السائدة. على هذا الأساس نستطيع أن نفهم
مُحدِّدات
مواقف كل اتجاه:
فبينما الفنانون والكتَّاب — يقول بوردو
١٤ — «البورجوازيون»، يَجِدُون في الاعتراف الذي يُقدِّمه لهم الجمهور «البورجوازي»، جميعَ
الأسباب التي تجعلهم يتحمَّلون مسئوليتهم بوصفهم ناطقين باسم طبقتِهم التي يَتوجَّه إليها
إنتاجهم
مباشرة، فإن أصحاب «الفن الاجتماعي» يجدون في ظروفهم الاقتصادية وعزلتهم الاجتماعية،
أساسًا
للتضامُن مع الطبقات المسوَّدة التي تتَّخذ دائمًا مبدأً أوليًّا لها: العداء تجاه الفئات
المسيطرة
داخل الطبقات السائدة، وتجاه مُمثليها في الحقل الثقافي. أما أصحاب «الفن للفن» فإنهم
يَحتلُّون
داخل الحقل الثقافي موقعًا ملتبسًا بِنيويًّا، يجعلهم يَستشعرون بطريقة مضاعفة، التناقضات
اللازمة للوضعية المُلتبسة للفئة المثقفة داخل بِنية فئات الطبقات السائدة، فلكَون موقعهم
داخل
الحقل الثقافي يُرغِمهم على أن يُفكِّروا — على نحوٍ مُتزامِن أو متعاقب (وفقًا للظرف
السياسي) — في
هُويتهم الفنية والسياسية من خلال التعارُض مع الفنانين البورجوازيِّين أو من خلال التعارض
مع
الفنانين الاشتراكيِّين نُظَراء الشعب؛ فإنهم (أصحاب الفن للفن) منذورون لالتقاط صور
مُتناقِضة،
سواء عن جماعتهم الخاصة أو عن الجماعات التي يُعارضونها.
ذلك الوضع المُلتبِس موضوعيًّا هو ما يُتيح فهْم الحداثة التي انتهى إليها بودلير: محاولة
تحويل اليومي (الزائل) إلى الرمزي (الخالد). ومن خلال ذلك العمل على تعميم التجريد في
بقية
أشكال التعبير (الرسم، النحت، الموسيقى …) ورفض النزعة الواقعية التي يَصفها بودلير ﺑ
«أنها
إهانة مُقزِّزة أُلقيَت في وجه كل المُحلِّلين، إنها كلمة غامضة وزئبقية لا تعني بالنسبة
للإنسان
وصفًا دقيقًا للأمور.»
١٥
في هذا الطريق المُمهِّد لاغتراب الإنسان والطبيعة عن الفن، سار الشاعر تي إس إليوت.
لقد أكد
إليوت «أن القصيدة لا تقول شيئًا ما، وإنما هي الشيء نفسه»، وهو يَتتبع تطور الشعر،
واستقبال القراء للشِّعر، على أنه تطور مُستمر نحو زيادة إدراك القارئ بالرمز. وهذه المرحلة
من
التقدُّم هي ما يَعتبره إليوت الحداثة التي بلغها الشعراء الرمزيون الفرنسيون من بودلير
إلى
فاليري
Valéry مرورًا بمالارميه
Mallarmé. فالحداثة هنا تَتميَّز بالاهتمام بالرمز، في مقابل
الاهتمام الأقل بالموضوع الذي يُصبح مجرَّد وسيلة لنقل الهدف أو بلوغه، والهدف بالطبع
الجمال
في حد ذاته. وهذا هو ما يُطلِق عليه كلٌّ من إليوت والفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت
Ortega
Y Gasset (١٨٨٣–١٩٥٥م) «الشعر النقي»
poesía pura، أو الفن الخالص
arte puro. فإذا كان
الجمال جوهر الفن، وإذا ما كان الشكل هو مصدر الجمال، فسيَهتمُّ الفن الحداثي بالشكل
اهتمامًا
تامًّا، ويُحاول تنقيته من الموضوع الذي صار دخيلًا عليه لأنه ليس مصدر الجمال. وهذا
هو جوهر
الحداثة الذي يُميِّزه جاسيت في موسيقى ديبوس
Dubosc ولوحات بيكاسو
Picasso وشعر مالارميه وفاليري
Valery «هناك بلا شكٍّ توجُّه نحو تنقية الفن، وهذا التوجُّه سوف يُؤدِّي إلى عملية محو
متزايدة للعناصر الآدمية السائدة في النتاج الفني الرومانسي والطبيعي
naturalistic. وفي هذه
العملية، يُمكن الوصول إلى نقطة يُصبِح فيها «المضمون» الإنساني ضئيلًا جدًّا لدرجة يمكن
تجاهلها.»
١٦
ما يقصده جاست ﻟ «لا أنسنة الفن» La Deshumanización del Arte هو محو أي أثر لفكرة تقديم
أو تمثيل الحياة representation؛ فالفن ليس محاكاة mimesis ولا تقديمًا للحياة، وإنما هو
نتاج عقلي يهدف إلى الإمتاع. وإذا ما كان الجمال عنصرًا ذاتيًّا وشكليًّا، لا موضوعيًّا؛
أي لا
علاقة له بالموضوع، يَتحوَّل اهتمام الفن الحداثي عن المحاكاة التي تهتم بموضوع الفن،
لا شكله،
إلى الاهتمام بالشكل الخالص؛ أي يَتحوَّل الفن الحداثي إلى رفض صريح وقاطع للواقعية.
ثمَّة سِمَتان هامتان يَتميز بهما الفن الحديث في نهايات القرن اﻟ ١٩: الأولى هي
الدرجة
العالية جدًّا من الوعي الذاتي للفنان بفنِّه على أنه فن وليس موظَّفًا لخدمة شيء آخر
— وتلك هي
المرحلة الثالثة من تصنيف بيتر برجر P. Berger لتطور الفن الحديث. والسِّمة الثانية معتمدة
على الأولى، وهي أن هذا الوعي الذاتي قد دفع الفنان إلى المزيد من الفردية والذاتية،
ومحاولة
خلق أسلوبٍ خاصٍّ به يُميِّزه عن الفنانين الآخرين، سواء المعاصرون له أو السابقون عليه.
من هنا
نلاحظ احتفاء هذا العصر بالأسلوب؛ فالتراث الفني أصبح عبئًا على الفنان وجزءًا من العالم
الخارجي يَسعى لتحرير نفسه منه، وإنتاج فنه بمعزل عنه. وهكذا يُصبِح الأسلوب وسيلةً لتأكيد
الذات مقابل العالم. ويُصبح الأسلوب كنتاج للذات أو للجزء الذاتي أو المثالي في الفنان
تأكيدًا لهذا الجانب مقابل الجانب الموضوعي أو ذلك الذي يَنتمي للعالم. هذا التمرُّد
العنيف
على العالم قد بلغ أوجه مع مقولة أوسكار وايلد Oscar Wilde: «إنَّ الطبيعة هي التي تُقلِّد
الفنان، لا العكس.»
نستطيع هنا أن نَستَنتِج أن تنامي الاتجاه الرمزي والشكلي في هذه الفترة قد أدَّى
إلى صعوبة
لغة الفن وعدم قدرة الكثيرين على فهمه؛ لذا أصبح الفن الحداثي فنًّا لا يَتميَّز بالشعبية،
بل
تحوَّل إلى فن الصفوة L’élitisme وهي القلة القليلة المختارة التي لديها الثقافة الكافية،
والوعي بتاريخ الفن وتطوره.
وإذا عُدنا إلى تحديد بودلير من جديد للفن الحداثي بأنه «التقاط الثابت من المُتحول»
فإننا
نلاحظ أن الفن الحداثي لم يَتخلَّ عن البحث عن الثبات أبدًا. يتَّضح هذا من تحليل الأعمال
الشهيرة التي صدرت آنذاك، فإذا ما كانت «الأرض الخراب»
The Waste Land نموذجًا للتشظِّي، نجد إليوت
١٧ يُعلِّق على عناصر الوحدة في القصيدة قائلًا إنَّ كل الرجال هم رجل واحد، وكذلك كل
النساء، وكل الرجال والنساء يَلتقُون في شخصية تيريلياس الذي يُمثِّل الراوي، والمتحدث
السائد في
القصيدة، والمُمثل لوحدة الخبرة الإنسانية. أما بروست
Proust «فهو يَستجمِع ما لا يُمكن تصويره
من خلال لغة لا تتبدَّل في نحوها وألفاظها، ومن خلال كتابةٍ لا تَزال تنتمي في معظمها
إلى جنس
السرد الروائي.»
١٨ وإذا ما كانت رواية «أوليسيس»
Ulysses لجويس
Joyce تُصوِّر الشتات والفوضى
المُعاصرة، فإن الفن يُضفي شكلًا أو نوعًا ما من أشكال النظام على هذه الحياة، وهذا ما
يقوم
به الشكل الأسطوري للرواية.
بين نهاية القرن اﻟ ١٩ والنِّصف الأول من القرن العشرين، عرفت الحداثة الفنية تحوُّلات
كثيرة
وجذرية، نتجت عن مجموعة التغيُّرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي
سادت
آنذاك. غير أن ظهور ما يُسمى بحركة «الطليعة» Avant-Garde في الفن، كان إيذانًا بتحوُّل كبير
على مستوى مفهوم الفن، وعلى طبيعة الإنتاج الفني.
انتقَدت حركة الطليعة استقلال الفن وانكفاءه على ذاته، وانفصاله عن النشاطات الإنسانية،
والمؤسَّسة الاجتماعية. كان الهدف الرئيس لهجوم الطليعة على الحركات الفنية المُنتشِرة
آنذاك،
ارتباطَ هذه الحركات بالطبقة البورجوازية «الفن باعتباره ملجأً آمنًا وأنيقًا للطبقة
البورجوازية التي تتميَّز بالذوق الرفيع.» وفي المقابل دعَت الطليعة إلى إلصاق الفن بالواقع،
وإزالة الحدود بين ما هو «نُخبوي» وما هو «شعبي»، واستخدام الفن لتوعية الجماهير وتثقيفهم،
وكل هذا لن يَتأتَّى إلا إذا جعل الفنان من موضوعات الحياة العادية موضوعات لفنه.
١٩
وتَتوازى هذه الدعوة التي أطلقَتْها الطليعة مع دخول مُتغيِّر جديد في المعادلة الفنية:
«إنه
تلك اللعنة القديمة؛ المال.»
٢٠ هذا المُتغيِّر كان موجودًا من قبل، بصورة أو بأخرى، لكنه كان يتوارى أمام رغبة
الفنان الصادقة في إنتاج عمل فني حقيقي ومميز. أما في القرن العشرين — ومع دعوة الطليعة
لإزالة الحواجز بين ما هو «شعبي» وما هو «نخبوي» — فقد دخلَت بعض المؤسسات الرأسمالية
ميدان
المُنافسة لتسويق الأعمال الفنية المختلفة. والنتيجة الانتقال التدريجي للفن من عالَمه
إلى
عالم السلعة «ما يُحدِّد الفن الصناعي ليس الإنتاج الآلي، وإنما العلاقة التي غدَت داخلية
مع المال.»
٢١ وبداية ظهور مُصطَلحات من قبيل «تسليع الفن» و«تسليع الثقافة». والمشكلة التي
تنشأ هنا هي أن الذوق ليس بمقولة سكونية، إنه دائم التغيُّر. فقوى السوق المُهيمِنة تبني
الأذواق في الفن كما في سائر المنتجات الأخرى، والهدف النهائي هو كيف تستفيد هذه القوى
من
ذلك كله.
مع دخول التكنولوجيا — التي اعتبرها توينبي قد أخذت مكانة ووظيفة الدين في القرن العشرين
—
اكتمل الثالوث (إزالة الحدود بين الشَّعبي والنخبوي – دخول رأس المال في ميدان الفن –
التطور
التكنولوجي) الذي سيُوجِّه ضربة قاضية للفن الحداثي. وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة مع ظهور
تيارات
فنية جديدة عضَّدت من هذا الوضع:
فقد ظهرت النزعة المُستقبَلية
Futurism والنزعة الدادية
Dada. دعت الأولى على يد الشاعر
الإيطالي فليبو مارينيتي
Fillippo Marinetiti إلى نبذ التاريخ والماضي والتقاليد وإلى البحث
الدائم عن أشكال فنية وفكرية جديدة، وأساليب وتقنيات مُبتكَرة. وبرغم قصر عمر هذه الحركة
الأدبية فإن انتشارها كان سريعًا ومُؤثِّرًا خاصة في فرنسا وروسيا إبان وبعد الحربين
العالميَّتَين. أما الدادئية فقد بدأها هوجو بول
H. Paul في سويسرا عام ١٩١٦م، وكما يقول فالتر
بنيامين
Walter Benjamin: «لقد كان التدني المُتعمَّد والمدروس لقيمة مادتهم من بين الوسائل
التي اتبعوها لتحقيق هذه العبثية واللاجدوى. فكانت قصائدهم عبارة عن «مزيج عشوائي من
الكلمات» يضم معانيَ إباحية، وكل ما تلفظه اللغة من ألفاظ غير مُستساغة. كان هدفهم، وما
حققوه، هو تجريد إبداعاتهم من شذاها. فأمام لوحة رسمها آرابش
Arap أو قصيدة نظمها
شترام
Stram، يستحيل المرء أن يَستغرِق في لحظة تأمُّل أو تقويم كما يَفعل أمام لوحة رسمها
ديران
Durrant أو قصيدة نظَمها ريلكه
Rilke. كانت أعمالهم الفنية تُصيب المشاهد بما يشبه الرصاصة.»
٢٢
في مقالته الشهيرة التي صدرت عام ١٩٣٦م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيًّا»
Das Kunstwerk im Zeitalter Seiner Technischen Reproduzierbarkeit
يتأمل بنجامين — على حد
تعبيره — «تقلُّص» و«ذبول» و«تدمير» ما يسميه ﺑ «هالة الفن»
Glanz der Kunst أو «الإحساس
بخصوصية وتَفرُّد العمل الفني»، مُفترضًا أن هذه الهالة لا يُمكن فصلها إطلاقًا عن كونها
جزءًا
لا يَتجزَّأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية «فأي تمثال قديم لفينوس
Venus، مثلًا، يُمثِّل
بالنسبة للإغريق، الذين يَرون فيه رمزًا للجمال، سياقًا تراثيًّا، يختلف عنه لدى رجال
الدين
في العصور الوسطى ممَّن كانوا يَنظرون إليه باعتباره وثنًا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين
لم يكن يُنكر ما له من تفرُّد أو شذًى.»
٢٣ غير أن معنى العمل الفني راح يَتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث،
فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده
التاريخية؛ ومن ثَمَّ يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرُّد والخصوصية التي
كانت
للأعمال الفنية. هذا بالإضافة إلى أن الظروف والأوضاع التي أصبح يَتلقَّى فيها العمل
الفني قد
تغيَّرت؛ «فالمعرض الفني وقاعة الموسيقى يَفقِدان صفتهما «المقدسة» حيث يُمكن إعادة إنتاج
العمل
الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع.»
٢٤ وعلى الرغم من الروح النقدية التي يَتحدَّث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع
«هالة» الفن إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يُعرَض عليهم من أعمال فنية.
فهالة الفن قديمًا كانت تُشكِّل عائقًا أمام التلقِّي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق
نوعًا من
القداسة للفن، يُطلَق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفَضت الأهمية الاجتماعية
لأحد
الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.»
٢٥
في مقابل ذلك يرى أدورنو أن إعادة النسخ هو عَرَضٌ من أعراض النكوص
regression «فالبشر
يَستهلِكون أفلامهم أو موسيقاهم بطريقة ذاهلة لأنَّ حيواتهم ليست ملكًا لهم، بل تتوقَّف
على
التقيُّد بقيود الشركات الاحتكارية.»
٢٦ وبدلًا من أن تُثير الفكر النقدي، فإنها تجعل الفكر ذاته أمرًا لا ضرورة له.
فالغرض الأساس لصناعة الثقافة — ومن ضِمنها الفن — هو إزالة الفوارق الاجتماعية والأيديولوجية،
وفي الأسواق كل شيء يتساوى، أما الاختلاف الوحيد الممكن فهو أن المُنتجين المُتخصِّصين
يقفون في
جانب، والمستهلكين يقفون في الجانب الآخر. وفيما بينهم تقع أدوات التوزيع الثقافي، ووسائل
الإعلام الجماهيري.
في العصر الإلكتروني، يُصبح المثل الرومانسي الأعلى للإبداع الأصلي، أمرًا مفارقًا، ويصير
مفهوم «الأصالة» وهمًا عبثيًّا في عصر «وسائط الاتصال» وقابليتها اللانهائية للتولُّد
والتعدُّد.
ياوس
في أُطروحته الناقدة «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» ١٩٨٤م
يرى جيمسون
٢٧ أنَّنا ومنذ مطلع الستينيات قد دخلنا حِقبة جديدة بحيث أصبح إنتاج الثقافة مندمجًا
في الإنتاج السِّلَعي عمومًا؛ «فالسَّعي المحموم لإنتاج موجات مُتجدِّدة من سِلَع تبدو
دائمًا مبهرة
(من الثياب إلى الطائرات)، وبأذواق تبدو دائمًا عصرية، هو الآن، وعلى نحوٍ متزايد، الوظيفة
البِنيوية الأساسية للإبداع والتجريب الجماليَّيْن.» هذا التحوُّل يستدعي — فيما يرى
جيمسون —
تغييرًا محدَّدًا في عادات وموقف المستهلك، ودورًا جديدًا في التعريفات والتحديدات الجمالية.
وقبل أن نَعرض لانعكاسات هذه التطورات التي لحقَت بمفهوم الفن على الفنون المختلفة، سنُحاول
أن
نحدِّد بعض السمات العامة التي تشترك فيها فنون ما بعد الحداثة:
- (١)
«إزالة الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الجماهيرية»: فإذا كان الفن قديمًا حكرًا
على طبقة بعَينِها، فإنَّ الفن في الحِقبة ما بعد الحداثية متاح للجميع؛ فالسطحي والعميق،
في
نظر ما بعد الحداثي، كلمتان يَستعملهما النخبويون، لا كحكم جمالي، إنما للتمييز الطبقي.
لذا
تَرفُض ما بعد الحداثة تراتبية الأذواق والثقافات. من هنا يرى روشنبرج أن عالم الفن الشعبي
هو
«عالم الفن المتسع»،
٢٨ في حين يرى دانيال بل
Daniel Bell أن انحلال سلطة الثقافة العليا في الذوق
الثقافي منذ الستينيات واستبدالها بفن البوب
Pop art، وثقافة البوب، والأسلوب العرضي، والذوق
العامي، لا يُمكن النظر إليه إلا بوصفه رمزًا للمتع الغبية في الاستهلاك الرأسمالي.
٢٩ وكما يقول هويسينز: «لقد أصبح البوب الآن هو المرادف لأسلوب الحياة الجديد
للجيل الحالي؛ أي أسلوب الحياة الذي انقلب على السلطة، وأراد التحرُّر من معايير المجتمع.»
٣٠
- (٢)
«تسليع الفن»: وهو ما حاول الحداثيُّون تجنُّبه، ولكن ما بعد الحداثة استطاعت أن تمدَّ
سلطة
السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية ومن ضمنها الفن «هناك ميلٌ مُتنامٍ في المشهد
الأدبي الحالي في الغرب يتَّجه إلى إبراز الفن المشتمل على إنتاج تافه، فأصبح الأدب فرعًا
من
صناعة وسائل الترفيه. وبدلًا من الواقعية الاشتراكية صار لدينا «واقعية السوق»، الذي
أصبح
قيدًا مفروضًا علينا … إنه أدب نتعامل معه كسلعة مقدَّسة ذاتية المحتوى، ذاتية الإشارة.»
٣١ في هذا الاتجاه أيضًا يرى كريمب «أن ما شاهَدناه في السنوات القليلة الماضية
ليس إلا السيطرة الصريحة لمصالح الشركات الكبرى على الفن.»
٣٢ وأيًّا يكن الدور الذي لعبه رأس المال في فن الحداثة، فإن المدى الذي بلَغته
الظاهرة الآن قد تجاوز كل حد؛ فقد غدت الشركات هي الموجِّه الرئيس للفن بكل المقاييس.
- (٣)
«الارتباط بالتكنولوجيا»: فالتكنولوجيا والإعلام الآن هما الحامل الحقيقي للوظيفة
المعرفية. والمشكلة الآن أن التكنولوجيا أضفَت على بعض الفنون عوامل إبهار لا حدود لها،
دون
وجود موضوع فني حقيقي. وأصبح المُتلقِّي العادي يَبحث عن الإبهار والمفارقة في كل ما
يُشاهده،
يقول فوجل
Vogel عن مُشاهد السينما: «إن المتفرِّج يدخل دار السينما برغبة منه ودون ضغط من
أحد — هذا إذا لم يكن بلهفة — مهيئًا نفسه للاستسلام والقبول بما سيحدث، وإذا اكتشف أن
الفيلم
«سيئ» وأن الوهم «لم يُحقِّق غرضه»، فإنه يَستاء كثيرًا.»
٣٣ والواقع أن قول فوجل يَصلُح تعميمه، بحيث إن الربط بين جودة العمل الفني وقدرته
على الإبهار صار شائعًا على مستوى الفن بصوره المختلفة. لقد حلَّت التكنولوجيا الآن محل
الفن
من خلال خلقها ما يُسمى ﺑ «الواقع الافتراضي»
La réalité virtuelle هذا الواقع الذي كان
قديمًا حكرًا على الفن، أصبحت التكنولوجيا تخلقه، ربما بصورة أكثر إبهارًا وجاذبية.
- (٤)
«التشظي»: ثمة خلَل أصاب معادلة بودلير، التي عرضنا لها في بداية هذا الجزء، فتحوَّل
الطرف
الثاني فيها إلى النقيض. تحوَّلت معادلة بودلير من الفن = الخالد، إلى الفن = سريع الزوال.
لم تَعُد
الأعمال الفنية خارج قانون الزمن، بل أصبح هذا القانون يسري عليها بعنف وصرامة «لقد تشظَّت
الممارسات والأحكام الجمالية إلى نوع من «القصاصات الجنونية» المملوءة بأنواعٍ لا تُحصى
من
المداخل الملوَّنة التي لا رابط بينها، ولا يجمعها إطار محدَّد، عقلاني أو عملي.»
٣٤ والتشظِّي كَسِمة أساس في الفكر ما بعد الحداثي، إن كان يعني في عالم الصناعة
والاقتصاد أن تتمَّ صناعة المنتج الواحد في أكثر من بلد حسب توافر الموارد واليد العاملة.
وما
نجده كذلك في الاقتصاد الراهن القائم على الشركات متعددة الجنسيات ذات أصول أموال تدعمها
دول عديدة، فربما يكون انعكاس ذلك التشظي في الأدب — على سبيل المثال — سقوط الجُدُر
الفاصلة
بين الأجناس الأدبية والفنية، وهو ما أُطلق عليه «الكتابة عبْر النوعية»؛ إذ نجد القصيدة
الجديدة وقد كرَّست تيمات السرد وتقنيات المسرح والسينما والتشكيل إلى آخر ألوان الفنون
البصرية والسمعية المتباينة. ويتضح هذا أيضًا في الرواية «تمثِّل الروايات الطويلة التي
تُكتب
اليوم تناقضًا؛ فالبعد الزمني قد تمزَّق إربًا، وبتنا لا نستطيع العيش أو التفكير إلا
في
أجزاء من الزمن، يذهب كلٌّ منها في مداره الخاص ثم سرعان ما يتلاشى. وإذا كان لنا أن
نعيد
اكتشاف استمرار الزمن فإنما في روايات تلك الحِقبة؛ حيث لم يكن على الزمن أن يتوقف، ولم
يكن
عليه بالتالي أن يتفجَّر. حِقبة لم تستمر أكثر من مائة عام.»
٣٥ ما يُحدِّثنا عنه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو
Italo Calvino هنا من تشظٍّ
للزمن والذات، وهو ما جسَّده لنا في أعماله بقوة ﮐ «مدن لا مرئية»
Le città invisibili
وغيرها، هو السمة الأبرز للفن ما بعد الحداثي. لا توجد خصوصية للحظة الحاضرة، الذات نفسها
مشتتة بين الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل؛ لذا لا توجد خصائص أسلوبية مميزة، هناك فقط
استخدام وتوظيف لكل ما أنتجته الحضارة البشرية من قبل «إعادة تدوير»
recyclage و«إعادة
إنتاج»
reproduction بلغة الصناعة، وهي اللغة التي يحتفي بها فنَّانو ما بعد الحداثة. وهكذا
يغدو العقد المؤقت — كما لاحظ ليوتار — في كل شيء، هو العلامة المُميِّزة لحياةِ ما بعد
الحداثة.
٣٦
- (٥)
«الحنين إلى الماضي»: وهي سِمة حاضرة بقوة في معظم الأعمال الفنية ما بعد الحداثية، فما
بعد الحداثة لا تَرفض الماضي وتنبذه، إنما تُعيد توظيفه وإنتاجه، بصورةٍ ربما تبدو للبعض
«مشوَّهة»، تأكيدًا منها على الروح الديمقراطية التي تتعامَل بها مع التراث، وفي نفس
الوقت
محاولة محو الهالة التي كانت تُحيط بالأعمال التراثية الشهيرة، أو حتى السخرية منها (كما
فعل
مارسيل دوشام عندما وضع شارب لموناليزا دافنشي). على أنَّ هذه العودة إلى الماضي ربما
يكون
سببها أيضًا ضعف الطاقات الإبداعية للفنان المعاصر وعدم قدرته على إنتاج الجديد، وهو
حكم
ليس تعميميًّا بطبيعة الحال، ومن ثَمَّ العودة إلى الماضي وإعادة استغلاله وإنتاجه، يقول
جان
بودريار: «منذ هذه اللحظة لم يَعُد هناك تاريخ للفن … فالفن نفسه يرتدُّ في تاريخه، وهذا
هو أحد
مظاهر انعدام قيمتِه … يَستهلك نفسه في تاريخه الخاص بأن يبعث على هذا النحو كل الأشكال
… نوع
من انقلاب الأشياء، ومرحلة لا تنتهي من التكرار … إعادة استخدام لا تنتهي.»
٣٧ وما يقوله بودريار هنا يبدو مُتوافقًا إلى حدٍّ كبيرٍ مع ازدهار ما يُسمى في الغرب
منذ مطلع السبعينيات ﺑ «صناعة التراث»
heritage industry، وهو مصطلح تناوله دوجلاس كريمب
D. Crimp وهويسنز بالتحليل، ويُشير إلى أن التاريخ قد تحوَّل إلى مجرَّد أرشيف كبير «يمكن
استعادتُه جاهزًا واستهلاكه المرة بعد المرة». وهو — أي صناعة التراث — وما بعد الحداثة
على
اتصال وثيق؛ إذ «إنهما تآمَرا على خلق شاشة سطحية تدخل بين حياتنا الحاضرة وماضينا»،
ويُصبح
التاريخ «خلقًا راهنًا أكثر مما هو خطاب نقدي» ويَستنتج هويسنز من هذا «أننا بِتنا محكومين
بطلب التاريخ عبْر صور البوب التي لدينا، وعبْر تلك الصور الزائفة.»
٣٨
هذه هي أهم السمات الحاضرة بقوة في الأعمال الفنية بما بعد الحداثية، وهناك سمات
أخرى
تتفرَّع عنها ربما يكون أهمها: التقطيع
cutting، المزج
collage،
المحاكاة الساخرة
parody، الميل لزخرفة السطوح
surfaces decorated … إلخ.
٣٩ وربما ستَبرُز لنا هذه السمات بصورة أقوى عندما نستعرض التغيُّرات التي لحقت بكل
فنٍّ على حدة، وسنُحاول أن نستعين في ذلك ببعض النماذج التطبيقية. لكن ربما يلزمنا قبل
ذلك أن
نشير إلى تغيُّر حدث في طبيعة مفهوم التمثيل، الذي هو على علاقة رئيسة بالفنون المختلفة،
هذا
التغيُّر كان نتاجًا للتحولات التي تحدثنا عنها فيما سبق، وإلقاء الضوء عليه سيكون مفيدًا
بصورة
كبيرة في فهْمنا لطبيعة الفنون وتحوُّلاتها في القرن العشرين.
•••
الواقع أن مفهوم التمثيل Representation هو أحد المفاهيم الحاضرة في تاريخ الفنون
والنظريات الجمالية حضورًا كبيرًا منذ أفلاطون وحتى القرن العشرين. ويعني التمثيل أن
الوعي
الإنساني يُمثِّل موضوعات العالم الخارجي ويَخلق بداخله صورة ذهنية عنها، هذه الصورة
تتعرض
لتحولات معرفية عديدة بحيث تُصبح مُكوِّنًا رئيسًا من مكونات الإنسان المعرفية، وتتحكم
بالتالي في
رؤيته للعالم، ومن ثَم آراؤه وتصوراته عنه. كانت علاقة الإنسان — قبل ابتكار الصورة وتقنيات
صناعتها — بتلك الموضوعات علاقة مباشرة دون وسيط، وبالتالي كانت الصورة الذهنية مُطابقة
في
واقع الأمر للموضوع الذي تُجسِّده (إذا رمزنا للموضوع الخارجي ﺑ «أ»، فإن الصورة الذهنية
الناتجة عن التمثيل الذِّهني له ستُصبِح «أ» أيضًا) بمعنى أن هناك علاقة هوية بين الموضوع
الخارجي
والصورة الذهنية التي تُمثِّله. على هذا الأساس أسَّس أرسطو لمنطق الهُوية وجعله أحد
القوانين
الرئيسة للعقل الإنساني.
لكن مع اعتماد الصورة كوسيلة معرفية أساسية وخاصة مع ظهور وسائل الإعلام، ستتغيَّر
تلك
المعادلة (لن تصبح «أ» في علاقة هوية مع «أ») ثمة وسيط دخل بين الموضوع وتمثله، وسيترتب
على
دخول هذا الوسيط حدوث اختلالٍ ما في المعادلة التمثيلية؛ فالصورة كوسيط هنا بين الموضوع
والذات التي تتمثله، لا تنقل هذا الموضوع بطريقة محايدة بريئة، كما العين الإنسانية.
فالواقع أنه لا توجد صورة بريئة، تمامًا كما لا توجد كاميرا مُحايدة. وهناك مبدأ معروف
في
الإعلام المعاصر يقول: «ليس المُهم أن تنقل الحدث ولكن الأهم كيف تنقل الحدث.» تحوَّلت
الواقعة
إذًا من كونها واقعة مُحايدة تكون علاقة الإنسان بها علاقة مباشرة، إلى كونها واقعة مجسدة
في
صورة تحمل بداخلها رسالة، وتكون هذه الرسالة فاعلة ومؤثرة في تشكيل الواقع.
ويبدو فن التصوير، عبْر تاريخه، من أكثر الفنون التي ارتبطت بمفهوم التمثيل، وذلك
نظرًا
لطبيعته التي ارتبطت منذ نشأته بتصوير أشياء وموضوعات تَمُتُّ بصلةٍ قوية للعالم الخارجي،
وبالتالي فإن المشاهد، غالبًا، ما يقوم باستحضار الموضوع المناظر للشيء الذي تُجسِّده
اللوحة،
ويبحث في اللوحة عن مدى مطابقتها لهذا الموضوع. ويبدو هنا مدى توافُق منطق الهوية، والبحث
عن
أساس، بالصورة التي تحدَّثنا عنها، مع رؤية المُتلقِّي العادي الذي يبحث عن التشابه والتوافق،
بين ما يُشاهده وبين الأشياء كما يألفها في العالم الخارجي. هنا يَتَّضح أن منطق الهوية
متغلغل
في العقل الإنساني، بوصفه قانونًا من قوانينه. لكن هذا القانون قد عطَّل مسيرة التلقِّي
الجمالي،
بالإضافة بالطبع إلى تأثيره القوي على النظرية الجمالية، والدليل الأكبر على ذلك أنَّ
مشكلة
التمثيل في الفن من أقدم وأهم المشكلات، ولا يُوجد فيلسوفُ جَمال إلا وتعرَّض لها.
ومثل النقلة التي حدثت في الفلسفة من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف، فإن تاريخ فن
التصوير هو ذاته تاريخ الانتقال من النزعة التمثيلية إلى النزعة اللاتمثيلية «إن التخلي
عن
المجاز البسيط هو الحقيقة العامة في الفن الحداثي، كما أنه كان حقيقة فن التصوير ككل،
وفي
كل زمان.»
٤٠ فالتصوير الحداثي يصل بدحض التمثيل إلى أبعد الحدود.
بالإضافة إلى ما أحدثه اكتشاف قوانين المنظور في فن الرسم الكلاسيكي من ثورة على
مفهوم
التمثيل — إذ الحديث عن «رؤية منظورية» للمكان لا يصحُّ إلا عندما يَتجاوز الرسام التمثيل
البسيط الذي يَكتفي «بتقليص» الموضوعات الخارجية، ويعمد على عكس هذا إلى تحويل لوحته
في
كليتها إلى «نافذة»،
٤١ نُلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يُريد أن
يخلقها عندنا الرسام؛ فإن ما أحدثه فن الباروك لا يقلُّ أهمية عن هذا الاكتشاف «لقد ساهم
فن
الباروك
Le baroque مساهمةً فاعلةً في خلق «منظورات خادعة» بفعل القيمة الكبيرة التي منحها
«للخداع البصري»
Les illusions d’optique بعد أن غدت قوة الإيهام والخداع عنده أكثر حقيقية
من الواقع نفسه.»
٤٢ ونَستطيع إجمالًا أن نقول مع فولفلين
Wölfflin بأن الباروك «لا يمثل تقهقُرًا،
مقارنة بالفن الذي ساد في عصر النهضة بقدْر ما يُمثِّل أسلوبًا تشكيليًّا جديدًا سيَرفع
من مكانة الزيف.»
٤٣ وإذا كان الفن الكلاسيكي-النَّهضوي يَميل إجمالًا إلى إعطاء الخصائص التشكيلية
طابعًا ثابتًا بناءً على النموذج المعماري
Le type architectural، فإن فن الباروك يَكتسي طابعًا
موسيقيًّا؛ ولذلك فهو يَميل أكثر إلى إثارة الإدراكات العاطفية-الانفعالية وإلى فتحِ
المجال
أمام ردود فعل حركية؛ إذ إنَّ الانتظام الهندسي الذي طبع النهضة بطابعه الصارم سيتقلَّص
نوعًا ما
ليحلَّ محله اندفاع القوى في حركيتها.
وفي حين مجَّدت رسوم النهضة الأشكال الدقيقة بفعل الأهمية التي كان يَحظى بها
التخطيط designe، فإنَّنا نجد لدى فن الباروك ميلًا صريحًا إلى الأساليب الإيحائية بعد أن أصبح اللون
هو
العنصر الأساس الذي يُولِّد الإيحاء. لقد ردَّ رسامو عصر النهضة جمالية وتناسق الأجسام
إلى مبدأ الوحدة Le principe de L’unité؛
ولهذا نجد عندهم ولعًا بالتماثُلات Les symétries والأشكال
المُنغلقة والمراكز Les centres بنفس القدْر الذي نجد عندهم إطنابًا في تجسيد «المنظورات
المتقاربة» Les perspectives convergentes. أما في الرسوم الباروكية فإنَّ اللجوء إلى
اللاتماثلات Les dissymétries وإلى الفضاءات المتمددة Les espaces expansifs والأشكال
المفتوحة، سيُصبح السمة البارزة؛ ويَسير في موازاةٍ مع هذا كله اهتمامٌ شديدٌ بتصوير
الخدع
البصرية.
والواقع أن ما يَسمح بوجود هذه الاختلافات بين الرسم في عصر النهضة وبين الرسم الباروكي
لا يَنحصِر عند هذه المُعطَيات بمفردها؛ لأن الفن في عصر النهضة يَنطلِق أساسًا من رؤية
شاملة
هدفها الجوهري تحرِّي الحقيقة، في حين يتَّخذ في الباروك مظهرًا بلاغيًّا aspect rhétorique بعد أن
أصبحت غايته، ليسَت هي نقل الحقيقة، بل تَحريفها أو تحويرها. ولذلك فإنَّ ما أصبح يُهمُّ
الرسَّامين
الباروكيين بالدرجة الأولى هي الأشكال البلاغية التي تَظهر عليها الأشياء، وهو ما يسير
طبعًا
بشكل مُنسجِم مع الأسلوب الباروكي الذي يَعتبِر الفنَّ وسيلةَ إيحاءٍ واستهواء، الأمر
الذي سيسمح في
المقابل بجذب التعبير الفني إلى دائرة المظهر والزيف.
نفس المبدأ المُعادي لفكرة التمثيل، هو الذي نجده عند ماجريت، لكن على مستوًى آخَر
لا يقضي
نهائيًّا على مفهوم التمثيل في حدِّ ذاته، بقدْر ما يقضي على فكرة الانعكاس والشفافية
التي
اقترنت دائمًا في الفكر الكلاسيكي وفي فن الرسم التقليدي بأسمى درجات التمثيلية؛ ففي
كثير من
أعمال ماجريت يحضر موضوع المرآة التي لا تَعكس الواقع بل تُنتج ما تشاء دونما التزام
بقواعد
الانعكاسية. إنَّ مرايا ماجريت لا تُعيد إنتاج موضوعاتها وفق مبادئ التمثيلية التي تأسَّس
عليها
فن الرسم الكلاسيكي، بل إنها تعمد إلى خلق عوالمها الخاصة، بما فيها الواجهات الخفية
التي
لا تستطيع المرايا الواقعية التقاطها، مما يُعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بأننا لم
نعد
أمام مرايا تَنسخ الأشياء كما هي ولا أمام تمثيلات حقيقية، بل أمام قوة شيطانية Une force
diabolique تُوالي خلق السمولاكرات، وتُوسِّع الهوة بين موضوعات الرسم وموضوعات الواقع.
لا يتعلَّق الأمر هنا بخدع بصرية كما هو مألوف في الرسومات الباروكية، وإنما يَتعلَّق
بماهية
الرسم التي غدَت تحتلُّ مع ماجريت منزلة مُغايِرة؛ ففي لوحة «المرآة الزائفة» Le faux-miroir (١٩٣٥م)
يُجسِّد ماجريت عينًا وقد ارتسمَت على سطحها مجموعة من السُّحُب فبدَت زرقة العين وكأنها
امتداد
لزرقة السماء. هذه اللوحة كافية بمُفردها لتُبيِّن الدور الكبير الذي لعبته الحركة السريالية
في خلخلة مفهوم التمثيل؛ ففيها رسالة واضحة من ماجريت فحواها «أنَّ عين الرسام هي دومًا
«مرآة
مزيفة» لأنها لا تَنقل الوقائع كما هي، ولا تُمثِّلها كما هي مُتمثِّلة فعلًا بالعين
العادية وإنما
تحرِّفها.»
تلك أيضًا هي القضية التي تَطرحها لوحة «ارتباطات خطيرة» Les liaisons dangereuses (١٩٢٦م)،
في هذه اللوحة يُجسد ماجريت امرأة عارية وهي تُمسِك بمرآة تدير سطحها العاكس جهة المُشاهد.
وبدل أن
تعكس المرآة أطراف الجسم التي تُناسب وضعه أمام المشاهد، فهي لا تُمثِّل سوى الجهة اللامرئية؛
أي ظهر المرأة الذي لا يَستطيع المُشاهد ولا المرآة التقاطه، وكأن ماجريت تَعمَّد بهذا
الإخلالَ بقوانين الانعكاسية حتى يُؤكِّد بأن ثمة جانبًا «لا تَمثيليًّا» في التمثيل.
وتبدو المفارقة في أن ماجريت في رسوماته يَلتزم حرفيًّا بقوانين التمثيل الكلاسيكي؛
لأن
استعادته للأشياء والأجسام هي دومًا استعادة دقيقة. لكن بدلَ أن تعكس المرآة الجسم في
أوضاعه
المناسبة التي تتَّفق مع أوليات عملية الانعكاس، فهي تُنصِّب أعضاءً في غير مواضعها المناسبة؛
وما
ذلك إلا لأنَّ فن الرسم عند ماجريت لم يَعُد يعمل — كما يقول مارسيل باكي — بالكيفية
التي تعمل
بها المرآة المُنفعلة: فهو لا يُكرِّر المظهر بل يُغيِّره ويُحوِّله. وهكذا فإن فن الرسم
لا يُعيد
إنتاج جسد المرأة وإنما يقوم على العكس بإنتاج مظهر جديد وصورة جزئية، مجمدة، مؤطرة
وميتة.
حتى على مستوى فن التصوير الفوتوغرافي، الذي هو في الأساس صورة ضوئية منعكسة لأشياء
العالم الخارجي، احتلَّ مفهوم «السيمولاكرا» موقعه على خارطته، بل إنَّ المُصطَلح نفسه
ساهم في
وضع حجر الأساس لممارسة فنية جديدة باتت معروفة على نطاق واسع في الغرب باسم «النزعة
التشبيهية»
simulationism، التي يَعتبرها هال فوستر
Hal Foster «استثمارًا لمفهوم السيمولاكرا
عند دولوز وفوكو.»
٤٤ وهي حركة وجدت إرهاصاتها الأولى في أعمال بعض الرسَّامين كرينيه ماجريت، وإندي
وارهول
A. Warhol، وما لَبِثت أن انتقلت إلى مجال التصوير الفوتوغرافي على يد
سيندي شيرمان
Cindy Shirman وشيري ليفين
S. Leiven
وباربرا كروجر
B. Kruger وسارة وورث
S. Worss وغيرهم.
وقد حاوَلَ هؤلاء العمل على تخليص التصوير الفوتوغرافي من فكرة التمثيل، وكان سبيلهم
إلى ذلك
التخلُّص من فكرة النموذج المصوَّر عبْر مجموعة من الطرق؛
٤٥ فهذه شيري ليفن تدور معظم أعمالها حول إعادة تجميع أو إنتاج أو دمج لصور سابقة
بحيث تكون النتيجة في النهاية صورةً غير ذات أصل محدَّد. وهذه سيندي شيرمان، تتخذ من
جسدها
مادةً للتصوير الفوتوغرافي، وكلُّ أعمالها تدور حول هذا الموضوع، بحيث تكون النتيجةُ
تصويرَ
الجسد في أشكالٍ وأوضاعٍ مختلفة، وليس بصورته الحقيقية، وبحيث تكون الصورة في النهاية
صورةً
لشيء غير حقيقي أو مزيَّف. يقول الناقد دوجلاس كريمب
D. Crimp عن شيرمان: «إنها تَجعل من نفسها
وسيطًا، و«صورةً» تَسبق هذا الوسيط، وبالتالي فهي نسخة من دون أصل.»
٤٦ وفي نفس هذا السياق تَندرِج أعمال كروجر التي جعلت من الدعاية والإعلانات مادةً
لأعمالها.
ثمَّة إحساس مُتزايد الآن — كما يقول كيفين روبنز — بأننا نَشهد ميلاد حِقبة جديدة،
حِقبة ما بعد
التصوير الفوتوغرافي. وتُمثِّل هذه الحِقبة نوعًا من التطور في التكنولوجيا الرقمية الجديدة
الخاصة بتسجيل ومعالجة وتبادُل وتخزين الصور. وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة من القرن
العشرين نوعًا من التقارب المُتزايد بين تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي وتكنولوجيا الفيديو
والكمبيوتر، وقد أدَّى هذا التقارب إلى تمهيد الأرض لظهور سياق جديد تكون فيه الصور
الفوتوغرافية الثابتة مجرَّد عنصر صغير في ذلك العالم الكبير، الذي أُطلقَ عليه اسم الميديا
أو العليا
hypermedia الفائقة. فالتكنولوجيا الافتراضية بقدرتها على توليد أو إنشاء صور
«واقعية» على أساس بعض التطبيقات الرياضية التي تُحاكي الواقع وتُنمذجه، أسهمت في الرفع
من
شأن التوقعات للتطورات اللاحقة والاستباق لها.
٤٧
يُمكن النظر إلى مفهوم «الواقع الافتراضي»
réalité virtuelle الذي ظهر في بدايات
الثمانينيات، وتَنامى بعد ذلك حتى اتخذ موقعًا هامًّا في الثقافة المُعاصرة، على أنه
شكلٌ من أشكال
الصورة الزائفة أو السيمولاكرا، فالواقع الافتراضي هو واقع غير مُحاكٍ لعالمٍ ما؛ أي
صورة غير
ذات أصل مُحدَّد، لكنها تمتلك قوة الأصل، بل تفوقه من حيث القدرة على الإبهار والتأثير.
ويذهب
بيزني
J. M. Besnier إلى أن «الجهاز المفاهيمي الذي نحته كلٌّ من دولوز وجاتاري يمنح
للتكنولوجيات الجديدة بُعدًا فلسفيًّا غير متوقع، سواء تعلَّق الأمر بمفهوم «انمحاء المكان
والزمان» المرتبط بالسرعة الفائقة التي يتمُّ فيها تبادُل المعلومات، أو «مضاعفة السيمولاكرات»
بواسطة التقنيات الرقمية؛ أو تعلَّق الأمر بمفهوم «الواقع الافتراضي».»
٤٨ كما تَذهب كلير كوليبروك إلى وجود صلة حقيقية بين مفهوم السيمولاكرا وبين
الواقع الافتراضي الذي صار شعارًا لمرحلة الحداثة البَعدية التي يعيشها الغرب الآن.
٤٩
ليس الافتراضي صورة مزيفةً للواقع أو سيمولاكر، بل هو نسفٌ للواقع ذاته وتَخليصُه
من الهالة
التي كان يحظى بها في السابق، على أساس أن الواقع لم يَعُد مبدأً للتحقُّق باعتباره إحالة
مرجعية يتم على إثرها التحقُّق من صدق قضية من القضايا. وبالتالي غدت الإحالة مُعطاة
للافتراضي
بما هو منبع جديد للحقيقة. إنَّ الواقع، كمبدأ للإحالة وكمادَّة خام وكحدث خاص، تلاشت
هيمنته
بفعل التدخل المفاجئ للعالم الافتراضي.
إنَّنا نعيش الآن عالَم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي
والفضاء
اللانهائي الذي يَتحكَّم فيه الكمبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية،
٥٠ عالم الصُّور المُحاكية التي تُشبه الأصل ولا تشبهه، تحاكيه ولا تحاكيه، بل تتفوق
عليه وتفارقه، عالم يُشبه كثيرًا كهف أفلاطون الذي تملؤه الظلال والنُّسخ المزيفة.
أخيرًا تبدو السينما هي المثال الأبرز لفنِّ السيمولاكرا؛ فالسينما هي فن الوهم بامتياز،
سواءٌ كان هذا بسببِ طبيعتها أم لأنها تخلق عالَمًا ليس له أصل أو مرجع، فهي مرجع ذاتها.
إن
الصورة السينمائية لا تُعيد إنتاج عالم، وإنما تَبني عالَمًا مستقلًّا بذاته، مصنوعًا
من انقطاعات
وتفاوُتات، مجرَّدًا من مراكزه كافة. وقد طرَح المُنظِّر السينمائي بيير بورديل
P. Bourdil هذا
السؤال: هل السينما فن الخداع والسيمولاكر؟ وأجاب قائلًا: «مما لا شكَّ فيه أن السينما
هي نموذج
لفن السيمولاكر؛ لأنها تُقدِّم لنا عالَمًا مستقلًّا من الصور يُجسِّد مظهر الأشياء ومعناها
في الوقت ذاته.»
٥١ والواقع أنَّ السينما منذ ظهورها وهي تُثير مثل هذه الأسئلة التي تتعلَّق بطبيعتها
وعلاقتها بالواقع؛ ذلك لأنها أكثر الفنون التصاقًا بالواقع وابتعادًا عنه في الوقت نفسه
أو
كما يقول ميتز
Metz: «هنا سرٌّ آخر من أسرار السينما؛ حيث تَدمج واقعية الحركة في لا واقعية
الصورة، مِن ثَمَّ يَتحقَّق المُتخيَّل أو الخيال إلى درجة لم يتمَّ التوصُّل إليها من
قبل.»
٥٢ وقد ربط العديد من مُنظِّري السينما بين ما تُخلِّقه السينما من إيهام بالواقع، وبين
طبيعة المشاهدة السينمائية التي تتفاعل مع هذا الإيهام لدرجة تجعل منه واقعًا موازيًا
أو
بديلًا للواقع الحقيقي، وقد قال أندريه بريتون: «إنه في السينما يتمُّ الاحتفاء بالطقوس
السرية العصرية.»
٥٣ وهو بذلك يُعبِّر بشكل جيد عن التقاء النقيضَين: التكنولوجيا والميتافيزيقا في شيء
واحد يُسمَّى السينما.
•••
سنُحاول عبْر الصفحات التالية تتبُّع السِّمات ما بعد الحداثية في الفنون المختلفة:
إذا بدأنا بفن العمارة، وهو الفن الذي يرى البعض أنه أولى الفنون تأثُّرًا بصيحات
ما بعد
الحداثة. يقول جيمسون: «ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شعر فيه رجالُه بموت الحداثة
وأعلنوا
عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدَث في فن العمارة.» لقد ذهَب جانكس في كتابه «لغة العمارة
ما بعد
الحداثية»
The Language of Postmodern Architecture إلى أن النهاية «الرمزية»
٥٤ للحداثة يُمكن تحديدها عند الساعة ٢٠ : ٣ من يوم الخامس عشر من يوليو عام ١٩٧٢م
عندما جرى نسفُ مبنى برويت-إيجو
Pruitt-Igoe لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس باعتباره
بيئة غير صالحة للسكن فيها.
٥٥ لقد تهاوَت أفكار لو كوربوزييه
Le Corbusier (كان المبنى قد نال جائزةَ لي
كوربوزييه حول «آلة العيش الحديث») ومُمثِّلين آخرين ﻟ «الحداثة العليا» وأفسحت الطريق
أمام
تقدُّمٍ صارخ لإمكانات مُتعدِّدة. لقد رأى جانكس أن الأهم في هدم مجمع «برويت إيجو» الطريقة
التي
تم بها الهدم وهي (النسف)،
٥٦ والتي أضحَت مثالًا على النسق الفكري، والنموذج الأساس لما بعد الحداثة.
فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تَعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى
الشكل، أن يُحقِّق البناء وظيفتَه على النحو الأتمِّ بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى
تَتعلَّق بشكل
البناء ومكامن الجمال فيه.
٥٧ وكما يقول جين جاكوبس
J. Jacobs في دراسته الهامة «موت المدن الأمريكية الكبرى
وحياتها»: «إنَّ المُسطَّحات الحضرية التي أقامتها الحداثة كانت نقية ومنظمة وناجحة من
الناحية
المادية، أما اجتماعيًّا وروحانيًّا وإنسانيًّا فهي أقرب إلى الموات، وإن زحام وصخب القرن
التاسع عشر هما ما أبقى على الحياة الحضرية المعاصرة.»
٥٨ في عام ١٩٦٥م نشر الناقد المعماري روبرت فنتوري
Robert Venturi مقالة بعنوان
«مُبرِّرات عمارة البوب» في مجلة «الفن والعمارة»
Art and Architecture، قدَّم خلالها مبررات
وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة عوضًا عن المفاهيم التقليدية الموروثة من الحداثة. ثم
أتبعَ
هذه المقالة بكتابَيه «التعقيد والتناقض في العمارة» و«التعلم من لاس فيجاس»، ينتقد فنتوري
في
الكتاب الأول ما أسماه «البساطة الزائدة» في التصميم المعماري الحداثي واصفًا إياه
ﺑ «النقيصة التكوينية»، داعيًا إلى «إثراء الناتج المعماري»، ومبشرًا بميلاد مفاهيم نظرية
جديدة، تخالف وتعارض المناهج المعمارية السابقة وتطبيقاتها البنائية المستقرة. وفي الكتاب
الثاني يُوصينا فنتوري بأن نتعلم جمالياتنا المعمارية من عُرى لاس فيجاس أو من الضواحي
القذرة كما في ليفيتاون؛ لأنَّ الناس باختصار تُحبُّ هذه الأمكنة «وليس شرطًا أن يكون
للإنسان
توجُّه سياسي محدَّد حتى يدعم حقوق متوسِّطي الطبقة الوسطى في جماليتهم المعمارية الخاصة
بهم، وقد
وجَدنا فعلًا أنه يَتشارك في نمط ليفيتاون الجمالي معظمُ مُتوسِّطي الطبقة الوسطى، السود
كما
البيض، الليبراليين كما المُحافظين.»
٥٩
كان المعماري الفرنسي لو كوربوزييه هو الأب الروحي للمعمار الوظيفي الذي ساد إبان
مرحلة
الحداثة. وقد مثَّلت نظريتُه المعمارية مرحلةً رئيسةً ومهمةً من مراحل تطور «العمارة
الحديثة» في
فرنسا، فترة ما بين الحربين. واعتُبرت أطروحاته الأسلوبية وأعماله المعمارية بمنزلة أمثلة
ناصعة للفكر المعماري الحداثي ليس فقط في فرنسا، وإنما في مناطق عديدة من العالم. كان
لو
كوربوزييه شخصيةً مُتعدِّدة الاهتمامات؛ فبالإضافة إلى كونه معماريًّا مجدِّدًا كان مخطِّطًا
للمدن،
ورسامًا وكاتبًا، ومصممًا ومُنظِّرًا، وساهمت اهتماماته المتعددة تلك إلى تكريس حضوره
اللامع في
المشهد المعماري العالَمي. وعلى الرغم من أن الأبنية التي نفَّذها لو كوربوزييه تُعَد
قليلة نسبيًّا
فإنَّ كلًّا منها كان بمثابة خطوة كبيرة في تطوُّر مبادئ «العمارة الحديثة». وتمتاز المباني
التي
صمَّمها بحضور واضح للمعايير للهندسة الخالصة المُعتمِدة على الأشكال الأساسية كالمُكعَّب،
ومتوازي
الأضلاع والأسطوانة، وقد كتَب يقول ذات مرة: «إن مشاكل البناء الحديث الكبرى يُمكن حلُّها
فقط
عبْر استخدام الهندسة المُنتظِمة؛ إذ يتَّجه مُهندسو اليوم نحو إنتاج الكتل ذات الخطوط
الهندسية
الواضحة فيَكتشِفون أشكالًا واضحة وقوية التأثير، تريح الأبصار وتُوفِّر للعقول متعة
النظر إلى
أشكالها الهندسية. كذا هي المَصانع، أولى ثمار العصر الجديد. وهكذا يضع مُهندسو اليوم
أنفسهم
في اتساق مع ذات المبادئ التي طبَّقها أمثال برامنته ورافائيل منذ زمنٍ بعيد.»
يتَّضح من عبارة لو كوربوزييه أن التشبُّه بالآلة وبنتاج المُهندسين الصناعيِّين
لا يُراد به
الوظيفية البحتة Pure Functionalism، بقدْر ما يُراد به التعبير عن إنجازات مُهندِسي العصر
الصناعي في تقنين نماذج نمَطية اعتمادًا على حجومٍ هندسيةٍ بسيطة يسهل التعامل معها ضمن
إمكانيات الصناعة الآلية، وهي في ذات الوقت ذاتُ مظهَر جمالي جاذب.
إن الحِقبة الجديدة في رأي لو كوربوزييه لا بد أن تُعبِّر عن رُوح العصر الصناعي الذي
يعتمد على
التنظيم والنمذجة ضمن مواصفاتٍ ومقاييسَ معياريةٍ تَنسجِم والأهداف المتوخَّاة من الأداة
قيد
التصميم. ومثلما هي الصناعة، أرادها لو كوربوزييه في العمارة. فكلما كان الحل بسيطًا
ومباشرًا كان أقرب إلى الأشكال الهندسية؛ لذا ذهب إلى أنَّ الجمال في التصميم المعماري
رهن
استخدام الحجوم الهندسية البسيطة أو النقية أو التي تُمثِّل الحلول التنظيمية الأنموذجية.
وبالعودة إلى جانكس نجده يَصفُ العمارة ما بعد الحداثية بأنها تُميِّز نفسها عن العمارة
الحداثية «النُّخبوية» من خلال التأكيد على أولويات «الشَّعبوية»، وذلك يعني أنه بينما
سعَت
الحداثة المعمارية الكلاسيكية الأنيقة إلى تمييز نفسها عن بقية نسيج المدينة الأرضي الذي
تَظهر ضمنه، فإن بنايات ما بعد الحداثة تَنهمك، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج
الآخذ في التغيُّر الذي تُشكِّل عناصره الأبنية التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات
السريعة المُنتشِرة على الطرقات السريعة في المدن العالَمية الكبرى. وإذا كانت نصيحة
دانيال بيرن
D. Burne للموجة الأولى للمُصمِّمين الحداثيِّين في نهاية القرن التاسع عشر هي «لا تصنع
تصاميم صغيرة»؛ فإنَّ في وسع مُصمِّم ما بعد حداثي مثل ألدو روس
A. Rosse أن يكون أكثر تواضُعًا
ويتساءل: «ممَّ أستلهم أعمالي إذًا؟» ليُجيب: «من الأشياء الصغرى بالتأكيد، بعدما تبيَّن
أن القدرة
على تحمُّل الأشياء الكبرى كان تاريخيًّا عائقًا كبيرًا.»
٦٠
إنَّ الأبنية ما بعد الحداثية لا ترى ضيرًا مثلًا في مزج الأفكار المعمارية الجديدة
مع
الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصَّدمة والإدهاش، وربما المرح
والتسلية للرائي. وهو ضربٌ من الإيمان بأن الجَمال قد يتولَّد من التنافر مثلما يتولَّد
من
الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولَّد من النظام. لقد انعكس التحوُّل الذي حدث في المجالات
الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريِّين، وساهم كلٌّ منهما في إثراء الفنون
الأخرى؛ لأنَّ الحواجز بينهما قد سقطت «فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة
نحتية
وتشكيلية تَنهَل من طُرُز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريِّين أن التعدُّدية والصخَب
ما هما إلا
تعبير عن تعدُّدية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هي لونٌ من
الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكلِّ معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب
يَحدُّه
أو نموذج يتمثَّله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريِّين أن يفعلوه في السابق.»
٦١ وفي سياق مُشابه يقول جان نوفيل: «لم يَعُد المكان يُعاش بنفس الطريقة، ولم تَعُد نفس
الأشياء موجودة بالداخل؛ فاللَّعِب بالمقياس يتمُّ بطريقة مختلفة، ويتمُّ تغيير معناه،
فنتمكَّن
انطلاقًا مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبْر انحرافات مُتعاقبة،
من
إعادةِ خلقٍ وتجديدٍ لم يكن باستطاعة أي أحد تخيُّل أنها ممكنة.»
٦٢
سيطرح دولوز مفهوم «المدينة الكولاج»
collage city٦٣ ليصف نوع المعمار السائد في الغرب في الحِقبة ما بعد الحداثية،
والذي يتَّخذ من «الانتقائية» قاعدة أساس له. والانتقائية — التي يَعُدُّها دولوز السمةَ
الأبرز
للحياة المُعاصرة — تعني «الجمع» و«المزج» بين العديد من «الطُّرُز» و«الأساليب»، كما
تعني أيضًا
«الانفتاح على الماضي» والحنين إليه.
٦٤ والمثال الجلي الذي يَستخدِمه المعماريون عادةً لشرح مفهوم «الانتقائية» كما
تتجلَّى في فنِّ المعمار، هو مبنى مؤسسة
At&t (مبنى سوني
Sony الآن) الذي صمَّمه فيليب
جونسون
P. Johnson في مدينة نيويورك؛ إذ تُعَد هذه البناية الأكثر جدلًا في النطاق المعماري
كونَها تجمع ما لا يجتمع معماريًّا؛ فهي ناطحة سحاب مبنية على الطراز الحداثي الوظيفي
الُمتقشِّف
الخالي من الزخارف والحليات التي لا وظيفة لها، فيما تعلو قمَّتها مقصورة مثلثة الشكل
على
الطراز القديم المُميِّز للقرن السابع عشر الذي يتَّسم بوفرة الزخارف والتفاصيل الشكلانية
التي
لا تخدم وظيفةً بعَينها سوى تحقيق المتعة الجمالية. هذه الانتقائية أو المزج أصبحت هي
لغة
العمارة ما بعد الحداثية، فأصبح من الطبيعي أن نجد بنايةً شديدةَ الحداثية محمولة على
أعمدة
بيزنطية أو رومانية مُوغلة في القدم. وكما يقول بودريار «فإن العمارة تُترجِم عالَمًا
بأكمله.»
٦٥ إن هذه الانتقائية هي انعكاس لعالم يَسودُه التشظِّي والتعدُّدية «فيستمع الفرد إلى
موسيقى الريجاي ويُشاهِد أفلام رعاة البقر ويتناول أطعمة مكدونالد على الغداء وطعامًا
محليًّا
على العشاء، ويضع عطور باريس في طوكيو ويَرتدي أزياء «ريترو» في هونج كونج …»
٦٦ فالتجاور وتزامُن الأنماط والقِيَم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات
والحضارات، هما ما يئولان إلى ما يَسِمُه جينكس «القرية الكونية»
Global Village. ولما كانت
القرية تعني ما هو محدود ومحلي ومُتجانس، في حين تُشير الكونية إلى ما هو كبير ومُتعدِّد
ومُتباعِد
الأطراف ومختلف وغير مُتكافئ، فإن لقاء هذين الحدَّين يعني تجاور قيمهما وواقعهما، بحيث
نحصل
على إنتاج انتقائي مُتبادل التأثُّر والتأثير. وباختصار فإن «التشظي، والكولاج، والانتقاء،
والمزج، مع الإحساس بالعرضية والفوضى، هي الأطروحات الأساسية، ربما، التي تُهيمِن اليوم
على
ممارسات العمارة والتصميم المديني.»
٦٧ وهو ما يَجمعها بالتأكيد مع مُمارسات مشابهة في حقول أخرى، مثل الرسم والأدب
والسينما والاجتماع وعلم النفس والفلسفة.
يذهب إيان بوكانان
Ian Buchanan إلى أن دولوز وجاتاري في كتابهما «ألف ربوة» يُقدِّمان
تقسيمًا للمكان يُميزان فيه بين «الأمكنة الملساء»
espaces lisses و«الأمكنة المُخددة»
espaces
striés؛ ويُجاري هذا التقسيم التمييز الذي يُقيمانه بصفة عامة بين«فن الرحل»
L’art nomade
الذي يَميل أكثر إلى الأمكنة الملساء، و«الفن الحضري»
L’art sédentaire الذي يُناسِب إلى حدٍّ
كبير الأمكنة المُخدَّدة. ووفقًا لدولوز يتعلق الأمر بنوعَين من الرؤية؛ أولًا:
«الرؤية القريبة»
La vision rapprochée التي تُساير «المكان اللمسي»
L’espace Tactile (أو بالتحديد الفضاء
الذي يُمكن أن يكون في آنٍ واحد لمسيًّا ومرئيًّا)، وهي الرؤية التي تَنطبق بشكلٍ دقيق
على «الأمكنة
الملساء»، وتتوافَق في طبيعتها مع فنِّ الرحَّل. ثانيًا: «الرؤية البعيدة»
La vision éloignée
التي تُساير «المكان البصري»
L’espace optique (أو بالتحديد الفضاء المليء بالطيات، والذي
يكون قابلًا للرؤية فقط) وتَنطبِق إلى حدٍّ كبير على «الأمكنة المخدَّدة» لتكون بذلك
خاصية مشتركة
لأنماط الفن الحضري.
٦٨
ولا يحصر دولوز وجاتاري تمييزهما بين هذَين النوعين من الأمكنة في فن الرسم والهندسة
المعمارية فقط، بل يتعقَّبانه في النموذج التكنولوجي والموسيقي والجُغرافي والرياضي
والفيزيائي. وإذا كانت الأمكنة المخدَّدة توازي من الناحية الفنية المكان البصري وتنسجم
بشكل
مُناسب مع فن العمارة الكلاسيكي في عصر النهضة حيث التداخل الكبير بين العمق والشكل،
وحيث
الحضور الجلي لمفهوم الحجم والمنظور، فإنَّ الأمكنة الملساء توازي فن العمارة ما بعد
الحداثي؛
حيث لا قيمة لفكرة المنظورية ولا اعتبار للمركز والعمق، بعد أن فقدت المعالم نموذجها
البصري Les repères
الذي كان يُوحِّدها في صنف ثابت معين أمام المُلاحظ الذي يقع خارج المشهد «إذ لا
خط يفصل ما بين الأرض والسماء، فهما يمتلكان نفس المادة. كما أنه لا وجود للأفق ولا للعمق
ولا للمنظورية ولا للحد ولا للتَّخَم أو الشكل والمركز.»
ووفقًا لبوكانان فإن العمارة المعاصرة قد ساهمَت في إبداع أمكنة ملساء بعد أن أصبح
التصميم
مُتضمِّنًا لاتجاهات مُتغيِّرة دون أن يعين التخوم ويحدد الأشكال، أو إذا شئنا استعمال
لغة ميكائيل
فرييد
Michaël Fried — التي يَستعيرها كلٌّ من دولوز وجاتاري — لقُلنا معه «لقد أصبحنا ها هنا
أمام خطوط تشكيلية متعدِّدة الاتجاهات، بلا عمق ولا خارج، بلا شكل ولا قعر، لا تحدُّ
أي شيء ولا
تُمثِّل أي تخم؛ فهي لا تملأ إلا مكانًا أملس.»
٦٩
ومن نفس المُنطلَق يُقارن بوكانان، في موضعٍ آخَر، بين هذا التصور الدولوزي للمكان
وبين
التحليل الذي قدَّمه جيمسون لفندق بونافنتور
Bonaventura hotel، يخلص جيمسون من تحليله للطراز
المعماري للفندق إلى أنه يُجسِّد «التجلِّي المعماري لمفهوم سقوط سلطة الإنسان وهيمنتِه
على
الوجود؛ إذ لم يَعُد هو محور الحياة ومركزها.» وقد كرَّس المعماريُّون ذلك المعنى عن
طريق عمل
واجهات زجاجية مرآوية عاكسة ضخمة، بحيث يَقف الرائي عند مدخل البناية فيرى انعكاس العالم
والأبنية المُقابلة للمبنى، ويرى صورته كذلك فيجد نفسه ضئيلًا موغلًا في التقزُّم والتشظِّي
وسط
العالم والضجيج المنعكس أمامه. وبحسب جيمسون، فإن واجهات الزجاج العاكس للفندق إنما تهدف
إلى «طرد المدينة خارجيًّا»؛ لإبقاء الرائي بعيدًا من أن يرى، وجعل صلة الفندق بالجوار
أقرب
إلى «القطيعة الخاصة من دون مكان» (وهو طردٌ تُماثله النظارات الشمسية العاكسة التي تجعل
من
المُستحيل على محدثك رؤية عينيك، مما يَمنحك أفضلية وسلطة عليه). يمنح الزجاج العاكس
للفندق
أيضًا انفصالًا عن الوسط المحيط به، فما نراه عندما نقف في مواجهته صورٌ مشوَّهة ومفتَّتة
للمباني المحيطة التي تَنعكِس على واجهته.
٧٠
في سياق مُشابه يجد أندرو بالنتين
Andrew Ballantyne في مفاهيم دولوز عن التعددية
والتجاور والانتقائية علاقةً وثيقةً بالتطور المعماري المعاصر، وعلى سبيل المثال يقارن
بالنتين بين مفهوم الجذمور
rhizome عند دولوز
٧١ وبعض النماذج المعمارية التي تَنتمي إلى الطراز ما بعد الحداثي: فالجذمور — ذلك
المصطلح الذي يُشير إلى اللامركزية واللاتحدد — يُعَد مدخلًا لفهْم العديد من الطرز المعمارية
المعاصرة، وعلى سبيل المثال «فإن مدينة بورتمان
Portman city صُمِّمت بطريقةٍ لا يُمكن للناظر
إليها أن يرى أي مدخل لها، فهي أشبه بالتيه الذي يصعب تحديد نقطة بداية أو نهاية له.»
٧٢ ومن نفس المُنطلَق يقارن جرانت كيستر
Grant Kester بين بعض مفاهيم دولوز،
كالتشظِّي والتجاور والطية والأمكنة الملساء والجذمور، وبين بعض الطرز المعمارية المعاصرة
«إن
قوة نموذج دولوز تكمن في قدرته على الحفاظ على تنظيمات متعدِّدة بشكل متجاور وآني، وهكذا
ففي
مشروع آيزنمان
Eisenman لمركز ويكسنر
Wexner center نجد أن البرج والشبكة لا يشتملان على أي تناقض.»
٧٣
في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تكرَّس مصطلح العمارة التفكيكية، كتعبير رمزي ونظري
في
آنٍ واحد عن وصف مجمل تجارب تصميمية ترسخت في الممارسة المعمارية العالمية وقتذاك. وبحسب
دريدا لا تُعَد العمارة التفكيكية نمطًا معماريًّا، بل هي طريقة لجعل كل عنصر من عناصر
التصميم
المعماري أشبه بالمجاز بصرف النظر عن الوظيفة التي يؤديها. وبمعنًى آخر تركز العمارة
التفكيكية على الصور والعلامات، وتُسقِط من حساباتها تمامًا أغراض الوظيفة والمنفعة.
ويُضيف
دريدا بأنَّ التفكيكية ليست بالضرورة تقويض المباني المبنية، وإنما خلق تضارُب بين ما
بات أمرًا
عاديًّا ومألوفًا لدى المرء في إدراك اللغة والمعنى، وبين مَن يراه أو يُشاهده.
٧٤
إنَّ العمارة التفكيكية هي نوع من التحدِّي المعماري، تحدٍّ يُمكن صياغته في الأسئلة
الآتية: هل
بمقدور العمارة أن تتخلَّى عن هيمنة أقانيم علم الجمال الكلاسيكي؟ هل بإمكانها أن تتنصَّل
عن
النفعية؟ عن الوظيفية؟ هل ثمة مفاهيم راسخة تُحدِّد النظام أو اللانظام؟ هل بالإمكان
تشييد
مبنًى بالتخلِّي عن تلك المبادئ الأساسية المتعارف عليها والمألوفة لخلق عمارة (التوازن،
الخطوط الأفقية والعمودية، التدرج … إلخ)؟ في محاولته للإجابة عن تلك الأسئلة يرى دريدا
أنه
يتعيَّن أولًا التخلُّص من المفاهيم التقليدية القديمة عن العمارة، ومن ثَمَّ ابتكار
أشكال جديدة
تتحرَّر من التصورات الجمالية الكلاسيكية. فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تَعتمد في
الأساس
على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل؛ أي أن يُحقق البناء وظيفته على النحو الأتم
بصرف
النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلَّق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه. إنَّ الحداثة هي العقل
والعلم والمنطق، من هنا نستطيع أن نتفهَّم لماذا لجأت العمارة الحداثية في تصاميمها إلى
الأشكال الهندسية الصارمة التي خلَعت عليها شكلًا نمطيًّا واحدًا، دون أدنى التفات إلى
متطلبات
الشكل والجمال.
وعلى الرغم من أن أوجه التشابُه بين العمارة التفكيكية والنمط المعماري ما بعد الحداثي
كثيرة (التقطيع – التصاميم غير الخطية – الاعتماد على الهندسة اللاإقليدية – إبراز
التناقضات …) إلا أنَّ بعض المُنظِّرين قد رأوا أن ثمة اختلافات جزئية بين الاثنين؛ فعمارة
ما بعد الحداثة لا ترى غضاضة في استدعاء الماضي وإدخال بعض التعديلات عليه أو مزجه مع
أَنمِطة معمارية أخرى. في حين أن العمارة التفكيكية تسعى إلى تحقيق القطيعة التامَّة
مع التاريخ
والتقاليد الراسخة في المعمار، بالإضافة إلى أن العمارة التفكيكية لم تَرتبط بالنزعة
«الشعبوية» الواضحة التي يسعى مُصمِّمو ما بعد الحداثة دومًا لإبرازها في شكل المباني.
إحدى خصائص المعمار التفكيكي، وفقًا لدريدا، أن يأتي مُتجنِّبًا الوصول بالمكان إلى
حالة
التشبُّع. فيجب أن يَبقى المعمار مفتوحًا أمام فرصةِ تحوُّلٍ آتٍ «بمعنى التخلِّي عن
العُلوِّ المُطلَق؛ أي
أن تلامس المدينة السماء، والعمل وفق ما قد يُسمِّيه المَناطِقةبداهة النقص
Axiome
d’incomplétude. فالمدينة كلٌّ يجب أن يبقى غير مُتشبِّع بنيويًّا، وأن يبقى منفتحًا على إمكانية
التحوُّل، وعلى الإضافات البسيطة التي تُغيِّر أو تُحدِث إزاحة في ذاكرة تراث المدينة.
يجب أن تبقى
المدينة مُنفتحةً لحقيقة أنها لا تعرف بعدُ ما سوف تكون عليه، ومن الضروري ترسيخ عدم
اليقين
هذا في العناصر المعمارية وفي علم تخطيط المدن، كما لو كان رمزًا. وإلا فما هذا الذي
سيقوم
به المرء سوى تنفيذ بعض المخطَّطات وإتمامها وإشباع المدينة وخنقها؟»
٧٥ وقد ذكر دريدا مثال معبد إيسي في اليابان، والذي يتمُّ تفكيكه وإعادة بنائه كلما
مرَّ عليه عشرون عامًا، كمثالٍ على هذا الانفتاح المعماري.
إنَّ الأفكار النظرية التي نادى بها دريدا وجدت صداها القوي لدى بيتر آيزنمان. كان
آيزنمان
من أشهر معماريِّي الاتجاه التفكيكي، آمنَ بأفكار دريدا حول علاقة الميتافيزيقا بالمعمار.
وقد
رأى أن فلسفة الحضور قد تجسَّدت عبْر مفهومين مُزدوجين هما: الوحدة والأصل. هذه المفاهيم
بالنسبة له ناجمة عن الرغبة والحنين لدى الإنسان لمعرفة من أين أتى وما هو موقعه في هذا
العالم. لذا فالإنسان يحتلُّ موقعًا مركزيًّا ضمن إطار العمل المعماري. أما المفاهيم
الأخرى مثل
الجمال والوظيفة، فهي كلها خاضعة للبُعد البشري الذي يَعتبر الإنسانَ حقيقةَ الكونِ المركزية.
بالإضافة لذلك رأى آيزنمان أنَّ إنسان ما بعد الحداثة يتطوَّر في عالَم لا يَحتوي نموذجًا
مثاليًّا
موحدًا بل مُتعدِّدًا ومقطَّعًا. وانطلاقًا من هذه الحقيقة رأى آيزنمان أن التساؤل الديني
حول الأصل
لم يَعُد مُتطابقًا مع عصرنا ويجعل الإنتاج المعماري منغلقًا في أفكار مسبقة كالمركز
والنسق
والتنظيم والوظيفة، وهي كلها تعمل على تساوي التعبيرات المعمارية.
٧٦
من هنا رأى آيزنمان أنَّ الهندسة الإقليدية والأفلاطونية لا يُمكن أن تُعبِّر وبسبب
نقائها
الجوهري عن حالة التعقيد والتقطيع التي تُميِّز إنسان هذا العصر. لذا فلا بد من القيام
بثورة
على «العمارة الحديثة» بُغية تفكيكها وإعادة بنائها من جديد وفقًا لتلك المُتغيِّرات.
كتب
آيزنمان قائلًا: «الكتل الأفلاطونية التي عمل عليها لو كوربوزييه لم تَعُد مناسبةً لفهْم
الظواهر
الحالية. التناظُر غير قادر على أن يتكلَّم عن علاقاتنا مع المحيط؛ إنها أشياء أصبحَت
من الماضي.»
٧٧ ويرى آيزنمان أنه يجب التخلُّص من مفهوم الوحدة والأصل كيما تَتحرَّر العمارة من
الميتافيزيقا التقليدية، وهي «فلسفة الحضور» بمُصطلَح دريدا؛ وذلك لإسقاط النموذج الكلاسيكي
للعمل المعماري. وسيَغدو التفكيك عند آيزنمان بمثابة تمرُّد على كافة الصيغ التقليدية
للتفكير
ولفهم الأعمال المعمارية.
ومثل آيزنمان كانت المُصمِّمة العراقية زها حديد من أشهر المعماريِّين الذين تأثَّروا
بالتفكيكية.
لكنها قامت بمزج التفكيكية بالأسلوب المعماري العربي، خاصة الخطوط العربية المائلة والأشكال
الدائرية التي تعكس دلالات التكرار واللانهائية. بالإضافة لذلك احتوت أعمالها على جرأة
كبيرة في كسر القوالب الهندسية التقليدية. أعمالها تعكس حالة من القلق وعدم الاستقرار
نابعة
من توزيع الكتلة في الفضاء الخارجي بشكل لا متناهٍ، واستخدام الخطوط المتموجة التي تحل
محل
الزخارف التقليدية التي لم تستخدمها العمارة التفكيكية. ثمَّة أيضًا خاصية مُميِّزة لأعمالها
تتمثَّل في تحطيم الفروق بين الرسم والنحت وإعادة خلطها في قالب معماري واحد. إنَّ الجمال
في
أعمال زها حديد يَنبع من توزيع العلاقات الشكلية بين الكُتل والفراغات بطريقة لا يمكن
توقُّعها،
إنه الجمال النابع من الفوضى المنظَّمة، أو لو شئنا لقلنا إن أعمالها تؤسس لما يُمكن
أن نُطلِق
عليه «جماليات التيه»
Aesthetics of Labyrinth.
٧٨
أما فرانك جيري فقد قامت أعماله على فكرة استقلالية المبنى وعناصره؛ حيث يرى أن المبنى
يجب
أن يكون مُستقلًّا بذاته لا يُحدُّه مبانٍ أخرى تفسده وتقطع الصلة بمكوِّناته. كما تميَّز
بجرأته في
استخدام الألوان والخامات الجديدة، يقول جيري: «لقد وجدت في الفن شيئًا جديدًا، طالَما
بحثتُ عنه
في العمارة. لقد اكتشفتُ أهمية مواد الإنشاء الجديدة لمُحاولة تجسيد الشعور والروح داخل
التكوين، ساعيًا بذلك إلى إيجاد كِيان لمفهومي الخاص.»
٧٩
أخيرًا يرى جيمسون أن عمارة ما بعد الحداثة هي عَرَض من أعراض اضمحلالٍ حضاري مزمن،
إنها
«ليست إعادة بناء للمدن، وإنما موت لها»؛ فانتشار ما يُسمى ﺑ «الصناديق الزجاجية المُترهِّلة»
بمعظم المراكز المدنية في العالم، يشهد على ما يبدو بأن «الحداثة العليا قد ماتَت ودُفنت
للأبد، وأن إبداعاتها التشكيلية قد نفدت نفادًا كاملًا، وأن أحلامها الأفلاطونية غير
قابلة للتحقُّق.»
٨٠ ويواصل جيمسون: «المُدهش في التكوينات المعمارية الجديدة حول باريس وفي بقاع
مُتعدِّدة من أوروبا هو أنها جميعًا لا تُقدِّم أي «منظور» محدَّد على الإطلاق. القضية
ليست فقط في
أن الشوارع بمفهومها المعروف وقِيَمِها الضمنية قد اختفَت تمامًا من هذه التكوينات المعمارية،
بل في أن كلَّ الحدود المعروفة للشكل المعماري قد تلاشَت أيضًا. ذلك مُذهِل ومُربك إلى
حدٍّ كبير.
وفي ظل هذا الارتباك الوجودي المُدمِّر، الذي تُمارسه ما بعد الحداثة على فضائها المكاني،
يظهر
لنا تشخيص نهائي وأخير لمدى عجزنا عن طرح أنفسنا في المكان وتعريفه بصورة تعكس وعيًا
حقيقيًّا به، وهو الأمر الذي يُفسِّر بدوره ظهورَ التوجُّه الداعي لثقافة عالمية مُتعدِّدة
الجنسيات
تذوب فيها الهويات فتَصير مُفتَّتة عاجزة عن موضعة ذواتها.»
٨١
•••
كان فنُّ الرسم المعاصر أكثر تأثُّرًا — مقارنة بالفنون الأخرى — بالقيم ما بعد الحداثية،
ربما
يعود ذلك إلى قابليته السريعة لاستيعاب التغيُّرات المتلاحقة، وربما أيضًا لكثرة مدارسه
وتنوُّعها، وقدرتها الكبيرة على التفاعل مع الجديد. والحال أن سمات ما بعد الحداثة يمكن
ملاحظتها في فترة مُبكِّرة عند النزعة المستقبلية والدادية. ولعل أعمال مارسيل دوشام
Marcel
Duchamp تُعطينا نموذجًا جيدًا للإرهاصات الأولى لتيار ما بعد الحداثة في فن التصوير. اشتهر
دوشام (١٨٨٧–١٩٦٨م) بالنزعة العدمية، التعبير عن اللاشيء، أو كما يقول بودريار: «لقد
تمثَّل فعل دوشام في تقليص الأشياء إلى اللامعنى.»
٨٢ وكان يُراهن في فنه على أن الفنان لديه القدرة على تغيير أذواق المُتلقِّين، وكانت
قولته الشهيرة «نستطيع أن نجعل الناس تتقبَّل أي شيء» هي المُحرِّك له، والسر الذي يَكمن
خلف كل
أعماله الفنية الصادمة وغير المُستساغة. قام بإدخال ما يُسمى ﺑ «الأشياء جاهزة الصنع»
ready-made إلى مجال الفنون التشكيلية، وهي أشياء كان يقوم بتصنيعها بنفسه أو بمُساعَدة
آخرين، ثم يُضيف عليها بعضًا من لمساته، وتُعرَض كما هي في صالات العرض. من أشهر هذه
الأعمال،
العمل الذي عُرض في أحد معارض السريالية في باريس ١٩٣٦م وحمل اسم
«الاستخفاف، نعم ولمَ لا؟»
Pourquoi ne pas éternuer? فهذا العمل عبارة عن عدة تناقضات مُتجاورة، لم يسعَ دوشام نحو
تقديم أي تفسير لها: قفص طيور زينة قديم له شكل مُستطيل ويُمكن أن يُحمل باليد، يحوي
مجموعة من
الأشياء … مكعَّبات من الرخام الأبيض المحتشدة والتي تبدو كقطع السكر، وترمومتر، وهيكل
سمك.
القفص يبدو للرائي خفيف الوزن، لكن عندما تحمله فسوف تتعجَّب بالوزن الثقيل غير المتوقع
…
الترمومتر ليقيس درجة حرارة الرخام؟ (الاستخفاف، نعم ولمَ لا؟) فرغم توقُّعك لخفة وزن
القفص (الرخام ثقيل جدًّا)، ورغم أَمَلِكَ الخاص في تذوُّق السكر (فهناك قِطع سكر مُزيَّفة)،
وأيضًا
لا توجد حرارة ودفء (وهذا يظهر على الترمومتر الذي لا يرتفع زئبقه، بالإضافة إلى ارتباط
هذا
القفص بصوت عصفور يُغنِّي … إلخ. والنتيجة كل هذه الأشياء مجتمعة تضعُنا في عالم من الارتباك
واللاتحدُّد؛ فهي لا تلتقي في صفة مشتركة من حيث الشكل أو المضمون، لكن باجتماعها معًا
تَشترك
جميعها في صفة «كسر التوقع»، وكأن دوشام يريد أن يقول لنا «هذا الذي يَبدو لك، ليس على
النحو
الذي يبدو عليه.»
٨٣
وعلى كلٍّ، فقد برع دوشام في تحويل كل ما هو ليس مألوفًا إلى مفردات فنية تدخل في
تركيب
أعماله الفنية.
٨٤ وقد تنامى هذا التيار على يد إندي وارهول
Andy Warhol (١٩٨٢–١٩٨٧م)، الذي بدأ
حياته كفنَّانِ دعاية، لكن وارهول كان يستخدم الشاشة الحريرية والتصوير الفوتوغرافي لعرض
الأشياء جاهزة الصنع. اشتُهر بشعاره «أريد أن أكون آلة»، وهو شعار يُعبِّر عن حالة من
الخواء
وعدم الانفعال. والمسألة هنا لا تتعلَّق بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يمكن تلخيصها
في
عبارة وارهول «ما لا يُمكنك التغلُّب عليه، فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقَك،
فلا بد أن
تكون انعكاسًا له.»
٨٥ ولم يدَّخر وارهول جهدًا من أجل تنفيذ هذه المقولة. (على سبيل المثال رأى
وارهول أنه قد استغرَق طوال عشرين عامًا في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء
— «وهو
حساء كامبيل
Cambil»؛ لذا جاء أحد أعماله نسخًا عن طريق تقنية الشاشة الحريرية لإحدى عبوات
هذا الحساء). وقد رأى وارهول «أن المحلات الكبرى تحتوي على العديد من مفردات العمل الفني»؛
لذا ينظر لها وارهول على أنها نوع من «المتاحف» لدرجة أننا — في رأيه — من المُمكن أن
نعكس
العبارات فتُصبح «أحب روما للغاية، فهي نوع من المتحف، مثل محلات بلومينجد إل الكبرى.»
٨٦ في عام ١٩٦٧م يقول وارهول: «لا أرى أن الفن للنخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.»
ولكن السؤال هو كيف يُمكن للمرء أن يُمثِّل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس
بمقولة
سكونية؟ رأى وارهول أنه من المُمكن أن يتمَّ هذا بالتعبير عن الأشياء التي تُمثِّل قاسمًا
مشتركًا
بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل، عبوات المياه الغازية،
صور
مشاهير النجوم)
٨٧ غايته؛ لذا كانت موضوعًا لأعماله منذ ١٩٦٣م حتى وفاته، وقد لاقَت نجاحًا جماهيريًّا
كبيرًا.
لقد قال بير بوردو عن هذا التيار الذي يُمثِّله دوشام ووارهول: «إنَّ الفنان الذي
يضع اسمه على
قطعة جاهزة الصُّنع فيَمنحها قيمة تجارية لا تُقاس بمقدار كلفة الصنع، إنما يَدين بالفاعلية
السِّحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يَعترف به ويَمنحه الشرعية، ولن يكون فعله هذا،
سوى
إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية، لو لم يُساندها حشد من المحتفين والمؤمنين المستعدين
لتقديمه كما لو كان عبقريَّ المعنى والقيمة.»
٨٨ وفي مقابل رؤية بوردو يربط دولوز بين تيمة التكرار الحاضرة في أعمال وارهول
وبين مفهوم السيمولاكر (الصورة غير ذات الأصل) والذي يَدحض، في رأيه، فكرة التمثيل في
الفن.
فالتكرار الذي تعمده وارهول في لوحاته، مهما بدا مُتطابقًا، يُولِّد أقصى درجات الاختلاف،
وقد
رأى دولوز أن هذا هو إنجاز فن البوب، وإندي وارهول، الذي تستخلص أعماله المسلسلة تفردات
من
عاداتنا الاستهلاكية والتدميرية، يقول دولوز في الاختلاف والتكرار
Différence et Répétition:
«ليس هناك إشكالية استطيقية أخرى، خلاف تلك الخاصة بإدراج الفن في الحياة العادية. وكلما
تبدو حياتنا اليومية قاسية، نمطية، وخاضِعة لإعادة إنتاج مُتصاعدة لموضوعات الاستهلاك،
توجَّب حقن الفن فيها لكَي يَنتزع منها ذلك الاختلاف الضئيل الذي يلعب بشكلٍ آنيٍّ بين
المستويات
الأخرى من التكرار.»
٨٩ إنَّ اهتمام وارهول بالسطوح، وعبارته التي يقول فيها: «لو كنتَ تُريد أن تعرف كل
شيء عن إندي وارهول، فكل ما عليك أن تنظر إلى سطح لوحاتي وأفلامي وأنا نفسي، وعندها ستجدني.
فلا شيء يَختفي خلف ذاك السطح.»
٩٠ ستجد اهتمامًا من نوع خاص عند دولوز، خاصة أنها تتفق واهتمامه بمفهوم
الوجهية
Visage وبما يتشكل على السطح.
في مقالته «على أنقاض المتاحف»
On the Museum’s Ruins يرى دوجلاس كريمب
D. Crimp أن المزج
والتقطيع والحنين إلى الماضي هي الصفات الأبرز في فن التصوير المعاصر. وهو يُقدِّم لنا
أمثلة
عديدة على ذلك: فأولمبيا
Olympia مانيه
Manet، إحدى أشهر لوحات بدايات الحركة الحداثية،
إنما أُسِّست على موديل فينوس
Venus of Urbino لتيتان
Titian. لكن الأسلوب الذي استخدم يُشير
إلى انقسام في الوعي بين الحداثة والتقليد، والتدخُّل الفاعل للرسام في إحداث هذا التحوُّل
من
خلال إدخال تعديلات جوهرية على العمل الذي تأثُّر به، بحيث يمكن القول إن المسألة لا
تتعدَّى
مجرَّد الإيحاء. أما عند فناني ما بعد الحداثة، فإن الأمر يختلف، ينشر روشنبرج
Rauschenberg،
أحد فناني الحركة، صورتَي «فينوس روكبي»
Rokeby Venus لبلاثكث
Velazquez و«فينوس في
حمامها»
Venus at Her Toilet لروبنز
Rubens في سلسلة من لوحاته في الستينيات، إلا أنه يستخدم
الصورتين بطريقة مختلفة تمامًا؛ حيث يَجري تصوُّر رسم الأصل على شاشة من حرير
silk screen،
بالإضافة إلى أرضية من خليط فيه كل شيء (شاحنات، طوافات، مفاتيح سيارات، أطباق). ما يفعله
روشنبرج هو ببساطة إعادة إنتاج
reproduction للأصل، لكنه إعادة إنتاج سطحي. أما مانيه فكان
ينتج بالفعل، وهذا هو الفارق «الذي يدعونا» بحسب كريمب «إلى اعتبار روشنبرج فنانًا ما
بعد
حداثي. أما «شذا» الحداثة لدى الفنان كمنتج فلم يَعُد له من مكان.»
٩١
ومن نفس المُنطلَق يقول جيمسون: «لستُ أعرف كيف يمكن رؤية قيمة أعمال روشنبرج، لكنني
كنتُ قد
شاهدت معرضًا كبيرًا لأعماله في الصين، أشياء لماعة براقة تَطرح الكثير من خبرات ما بعد
الحداثة وتجاربها، إلا أنها تنتهي انتهاءً كاملًا بمجرد أن ينتهي حدث الرؤية، بمجرد أن
ينتهي
المعرض ويَخرج المُشاهِدون … إن ما ينتجه روشنبرج ليس عملًا فنيًّا.»
٩٢ وعلى النقيض من ذلك يرى دولوز أن قوة أعمال روشنبرج تكمن في أن لوحاته مكتفية
بذاتها؛ أي أنها لا تحيل إلى شيء خارجها «من خلال أعمال روشنبرج تحديدًا يُمكن أن نقول
إن
السطح يتوقَّف عن أن يلعب دور النافذة المطلَّة على العالم ويصير الآن شبكة معلومات معتمة
… تلك
الشبكة التي تُدوَّن عليها الخطوط والأعداد والخصائص المتغيرة.»
٩٣ ويَستشهد دولوز بمقولة كيدج
Cage التي يقول فيها إن أعمال روشنبرج «تبدو متنوعة
وقابلة للنفاد كأي من أعمال سابِقيه الحداثيين بشرط أن نتعلم فقط كيف نراها.»
٩٤
في مجال التصوير الفوتوغرافي يُمكن اعتبار «سيندي شيرمان» إحدى الشخصيات البارزة
في حركة
ما بعد الحداثة؛ إذ هي قد جعَلت من نفسها موضوعًا لكلِّ صورها، فقط في كل مرة تُغيِّر
من شكلها
باستخدام وسائل التجميل والأقنعة المختلفة، بالإضافة إلى تغيير الأوضاع والخلفيات «ولن
تَكتشف إلا من خلال الكُتيِّب المرفق في المعرض أنها مَشاهد لامرأة واحدة، هي الفنانة
نفسها.»
٩٥ إنَّ مرونة الشخصية الإنسانية من خلال طواعية تحولات المظاهر والسطوح والواجهات،
هي من المقولات الهامة لما بعد الحداثة.
وترى هوتشيون
Hutcheon في كتابها «سياسات ما بعد الحداثة»
Politics of Postmodernism «أن
التصوير الفوتوغرافي عند مُصوِّري ما بعد الحداثة يُضمِر التمرُّد ما بعد الحداثي على
السلطة
المهيمنة بكل أشكالها، بما فيها سلطة الطبيعة والواقع.»
٩٦ لذا لجأ التصوير الفوتوغرافي، مُتأثِّرًا في ذلك بفن الرسم، إلى التحرُّر من تصوير
وتمثيل الواقع كما هو، عبْر مجموعة من الطرق والأساليب.
•••
المجال الفني الثالث الذي تَبرُز فيه مقولات ما بعد الحداثة بقوة هو «السينما»؛ «فالسينما»
هي الفن الذي يتمتع بشعبية لا محدودة، وهي بصورة أو بأخرى مرتبطة بالمنطق الرأسمالي —
سواء
على مستوى الإنتاج أو التوزيع، كما أنها تَستخدم التقنيات الحديثة بصورة تفوق استخدام
كل
الفنون الأخرى لها، مما يجعلها في حالة تطور وتحول مستمرَّين. وبصفة عامة، نستطيع أن
نلحظ
حضور التيمات ما بعد الحداثية في السينما المعاصرة على مستويين؛ الأول: أفلام أراد صانعوها
التعبير من خلالها عن قيم المجتمع ما بعد الحداثي، كالتجاور والاختلاف والتعدُّدية، وعن
التغيُّرات المُتلاحِقة التي أصابت المجتمع ما بعد الصناعي. والثاني: أفلام تَنطلِق من
رؤى ما بعد
حداثية للعالم، رؤى مفكَّكة ومُتشظِّية، تستند في الأغلب على الانتقاء، والمزج، والرؤية
غير
المنفعلة بالعالم، وغالبًا ما تَعتمِد هذه الأفلام على توظيف التاريخ وتحويره لخدمة السياق
العام للفيلم.
في نفس الوقت الذي كانت سينما الحداثة تُمثِّل فيه اتجاهًا جديدًا يُحاول الهيمنة
على الواقع
السينمائي بدلًا من سينما هوليود، بدأت مظاهر ثقافة ما بعد الحداثة في الظهور، وكانت
إحدى
معالِمها الأساسية الثقافية الجماهيرية التي شملت التليفزيون وانتشار أفلام من نوع B؛ أي
قليلة التكاليف، وموسيقى الروك آند رول، وأفلام الكارتون والمسلسلات التليفزيونية، وعرض
أفلام
هوليود القديمة على شاشة التليفزيون، وازدهار الإعلانات.
وقد مثَّلت هذه الثقافة إضافةً إلى تاريخ سينمائي حافل، الخلفية الأساسية لمُخرِجي
ما بعد
الحداثة. وبدلًا من أن يسعى المُخرجون الجدد إلى هضم كل هذه المظاهر وخروج كلٍّ منهم
بفكر خاص
وأسلوب مُتميِّز، لجئوا إلى الاستعارة المباشرة من الأفلام الأمريكية والأجنبية، ومزج
الأنواع
المختلفة للفيلم، وابتعدوا إلى حدٍّ كبير عن الغموض الشديد الذي كان يُميِّز أفلام الحداثة،
وأصبحوا على اتصالٍ أقوى بالجمهور العريض.
من المُتغيِّرات الجديدة التي كان لها تأثير في ظهور سينما ما بعد الحداثة، ظهور نظرية
استجابة القارئ، التي تقول إنَّ كل مُتفرِّج أو قارئ يقرأ الفيلم بطريقة تختلف عن الآخر
وأيضًا
عن الفكر الأصلي لصانع العمل، وبالتالي فهناك شبهُ استحالة في أن يصل المتفرج إلى ما
كان
يقصده المُخرج أو صانع الفيلم بدقة. فهنا نرى أن ثقافة ما بعد الحداثة قد نقلت الاهتمام
من
المُخرِج إلى المُتفرِّج.
إذا حاولنا أن نرصد أهم سمات سينما ما بعد الحداثة، فيُمكن تحديدها في الآتي:
- (١)
المعارضة أو الاقتباس والكولاج من أعمال أخرى. فعلى سبيل المثال يَستعير المُخرج
الأمريكي ديفيد لينش فيلم ساحر أوز كمرجعية أساسية في مُعظم أفلامه. كما يقوم بمزج الأنواع
الفيلمية مثل الفيلم الأسود، وأفلام الطريق، والرعب، والميلودراما، والخيال العلمي، والأفلام
السريالية، بالإضافة إلى الاقتباس والكولاج من أعمالٍ أخرى.
- (٢)
النوستالوجيا أو الباروديا أو المحاكاة الساخرة وهم حالتان مُتناقضتان تنتابان المشاهد
عند مُشاهدة أفلام ما بعد الحادثة نتيجةً لاستخدام المعارضة أو التضاد، بمعنى محاولة
استعادة
تقاليد السينما الكلاسيكية بما تَحمله من قِيَم أخلاقية وإنسانية، ووضعها في زمنٍ معاصر.
بالإضافة إلى ذلك تَنتج الباروديا عن مقابلة أنواع فيلمية مُتضادَّة مثل الكوميديا والميلودراما
أو إعادة تقديم مَشاهد قديمة بشكل ساخر.
- (٣)
محو الحواجز بين الماضي والحاضر بحيث يُصبح من المتعذر تحديد الزمن الذي تدور فيه
الأحداث، وذلك من خلال استخدام ديكورات وملابس وسيارات وأدوات تَنتمي إلى عقود زمنية
مختلفة
مما يَجعلُك تشعر وكأنك تعيش في حلم تراه في الحاضر. ونرى ذلك بوضوح في فيلم
«المخمل الأزرق» Blue Velvet لديفيد لينش، وقد استخدم لينش أيضًا في فيلمه الطريق السريع المفقود Lost High way
هذه الفكرة إلى أقصى الحدود بإدخالها في التركيب السردي للفيلم.
- (٤)
الكرنفالية، وهو
مفهوم طرحه باختين أحد رواد المدرسة الشكلانية الروسية، وتبنَّاها مُفكِّرو ما بعد الحداثة
مثل
إيهاب حسن، والتي تشتمل على مقاومة التسلسل المنطقي للأحداث واستخدام الشخصيات غير السوية
والأحلام والغرام بفكرة الازدواجية، وتَشمل الكوميديا والتراجيديا، وإظهار التفكُّكية.
ويرى جيل دولوز أن التطوُّر الأبرز في السينما المعاصرة هو تفكُّك المونولوج الداخلي
monologue intérieur للفيلم وفقدانه وحدته الداخلية أو الكلية؛ فالطريقة التي يُرى بها
المؤلِّف، والطريقة التي تُرى بها الشخصيات، والطريقة التي يكون العالم بها مرئيًّا،
تُشكِّل وحدة
دالة (ذات دلالة أو معنًى)، تعمل عبْر الرموز. لكن في السينما المعاصرة انهارت هذه الوحدة
وتحطَّم المونولوج إلى شظايا فاقدة الملامح؛ وذلك هو التحوُّل — يقول دولوز — الذي كان
دوس باسوس
J. Dos Passos٩٧ قد أدخله إلى الرواية، من خلال استناده إلى وسائل سينمائية. على
أن ذلك، وبحسب دولوز، لم يكن سوى الوجه السلبي لتحوُّلٍ إيجابيٍّ أكثر عمقًا، وأكثر أهمية؛
فقد
أخلى المونولوج الداخلي المكان للصورة، وأصبحت الصورة لها مُطلَق السيادة والاستقلالية،
بحيث
تَكتسب الصورة قيمتها في ذاتها من خلال ما يَسبقها وما يلحقها. لم يَعُد ثمة تناغمات
كاملة و«مستقرة»، ولكن فقط تناغُمات غير متطابقة أو انقطاعات لا معقولة، أصبحت الصورة
مُتحرِّرة من
القيود السردية التقليدية. كما أصبحت الصورة مكتفية بذاتها لا تُحيل إلى شيء خارجها واختفى
منها كل مجاز أو رمز. ذلك، في نظر دولوز، يفتح إمكانات غير عادية للفيلم السينمائي ويجعله
أكثر قدرةً على التواصُل، وأكثر استقلالًا واعتمادًا على تقنياته الداخلية «إذا كان الثوريون
يَقِفون حقًّا على أبوابنا، ويُحاصروننا، مثل أكَلة لحوم البشر، فينبغي إظهارهم وهم يأكلون
اللحم
البشري، إذا كان رجال المصارف قتلة، وكان الطلاب سُجَناء، وكان المُصوِّرون الفوتوغرافيون
قوَّادين، إذا كان العمال مُستلَبِين من قِبَل أرباب العمل، فينبغي إظهار ذلك وليس تحويله
إلى صورة
مجازية؛ إذ لم يَعُد الأمرُ أمرَ مَجازٍ وإنما برهنة وإثبات.»
٩٨
السمة الثانية البارزة لأفلام ما بعد الحداثة هي «الحنين إلى الماضي»، ليس إعادة
تقديم
التاريخ برُؤى مختلفة أو «وجهات نظر»، إنما إقحام للتراث أو للماضي للتأكيد على إمكانية
«التجاور»، ربما بصورة تبدو هزلية في أحيانٍ كثيرة، وكما يقول جيمسون «فيلم الحنين إلى
الماضي في عصر ما بعد الحداثة هو مجموعة من الصور المُستهلَكة يُميِّزها المشاهد في الغالب
عن
طريق الموسيقى والموضة وتصفيفة الشعر والمركبات أو السيارات.»
٩٩ وقد ربط دولوز بين هذا الحنين إلى الماضي وبين ما أطلق عليه السقوط في «الكليشيه»
Cliche١٠٠ أي الصورة النمطية المكرَّرة.
السمة الثالثة هي «التشظِّي والفوضى والبِنية اللامعقولة للفيلم».
١٠١ وقد اهتمَّ ستيفن كونور
S. Connor.
١٠٢ بتحليل موجة أفلام الخيال العلمي، لا سيما تلك التي تهتمُّ بالمخلوقات
الغريبة القادمة من كواكب أخرى
aliens وعلى رأسها سلسلة (حروب النجم)
Star Wars لجورج لوكاش
G. Lucas، ورأى أنها تحمل معنى العزوف عن تقديم أية رؤية بصدد المشكلات الاجتماعية الراهنة
في الغرب، وهو ما يَعني الانفصال عن العالم. وقد أشار بودريار إلى أن هذا النمط من الأفلام
يُفضي إلى ما أطلق عليه «نشوة الاتصال»
Extase de la communication؛ أي فعل المشاهدة التي
يَنتفي منها أي غرض غير المُشاهدة، الصورة الخاوية من المعنى، أو على حدِّ وصف بودريار
«انتصار
لرغبة الإنتاج على رغبة تقديم المعنى.»
١٠٣
•••
أما عن الأدب ما بعد الحداثي، وبخاصَّة الرواية، فإنه من السمات البارزة فيه محاولة
استخدام تقنيات السينما في السرد الروائي مثل «القطع، المزج، تداخل الأزمنة، تشظِّي الزمن».
كما يُمكن إضافة المحاكاة الساخرة للواقع، وعدم انفعال شخصيات السرد بالإحداث … إلخ.
من هذا
المُنطلَق يُشير آلان روب جرييه إلى تمسُّكه بنوع من الرواية أسماه ﺑ «العمل الفني غير
الإنساني»
تلك الرواية التي ترتمي فيها عيون الشخصية الرئيسة على الأشياء «دون إسقاط أو تخريج ذاتي»،
وبالتالي، يرى البطل الأشياء، ولكنه يَرفض تقويمها أو تشكيلها بنفسه، يرفض أن يفرض عليها
أي
فهْم مُحتمل، أي تآمر عليها؛ فهو لا يطلب منها شيئًا البتة، حاسة النظر عنده راضية باتخاذ
أبعاد هذه الأشياء فقط، وعواطفه بالمثل تَرتمي على سطحها دون محاولة منها لاختراق هذا
السطح؛
وذلك لأنه لا شيء يختبئ تحت السطح. وقد رأى دولوز أن أعمال جرييه، سواء الروائية أو
السينمائية، تَشي بقوة من نوع خاص … قوة تزييف الواقع، أو قوة المُختلَق حسب وصف دولوز.
١٠٤
ويَبدو التشابه بين مبادئ روب جرييه وما يَطرحه بارت في مقالة «موت المؤلِّف» واضحًا.
فبارت
مثل روب جرييه، يرى أن الناقد عليه أن يتخذ «أبعاد» النَّص والكتابة دون محاولة منه للنفاذ
فيما تحت السطح. فالكتابة كما يراها بارت — على نحو ما سنرى — تسمح «لكل شيء أن يَنحلَّ،
لا أن
تُحلَّ شفرته وتُفكَّ رموزه»؛ فهو «فضاء يجب أن يُحجَب، لا أن يُخترق أو يُثقب». لذا
فليس من المدهش
إذًا أن يعجب دولوز وبارت بأعمال روب جرييه الروائية فيَنظرا إليها بوصفها «معكوس» الكتابة
الشِّعرية تمامًا، فهي «لا تحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطح الأشياء تتأمَّلها
بحيادية.»
١٠٥ وهذا في نظرهم مكمن قوة في النَّص لا ضعف. ومن نفس منطلق روب جرييه يقول كيدج:
«أعمل الآن أيضًا في عمل جديد أُسميه بوروبيرا، وهو عبارة عن أوبرا بدون نصٍّ أوبرالي،
أو حبكة
مزيج من العناصر المسرحية كلها، ليس بينها اتصال متعمَّد، وأعتقد أن ما سيحدث في عملية
توالي
هذه العناصر وتلقائيتها يمكن أن يكون مدهشًا وغير مألوف.»
١٠٦ والواقع أن تصنيفات من قبيل الأنواع شبه الأدبية
para littérature، والآداب
الهامشية
litteratures périphériques، والأدب الجماهيري
littérature de masse، والأدب سريع
الزوال
Le fiction fragile ستحتلُّ موقعها في النقد الأدبي المعاصر.
•••
أما موسيقى ما بعد الحداثة فهي مزيج مِن موسيقات إثنية
ethnique مختلفة، سواء على مستوى
الآلات أو الأصوات، لخَلق هوية موسيقية جديدة مُتعدِّدة الثقافات، والأمثلة على ذلك كثيرة
في
محاولة إدماج موسيقى الريجي
Reggae، والراب
Rap،
والهيب هوب
Hip Hop،
وموسيقى البوب الأمريكية والأوروبية فيما يُسمى بالروك الفني
art rock
تمييزًا له عن موسيقى الروك التقليدية.
١٠٧ وبالإضافة للمغزى السياسي والثقافي لهذا النوع من التداخُل أو الكولاج (إظهار
أن العالم قرية صغيرة، الدعوة لسلام عالَمي … إلخ)، فإن فناني الباستيش
pastiche الموسيقي
يَرفُضون تقسيم الموسيقى إلى جادة وهزلية، أو راقية وشعبية، وهم يَتبنَّون اتجاهًا رافضًا
لأن تُعبِّر
الموسيقى عن نزعة جادة للحياة. وهو ما نجد جذورًا له فن موسيقى التمرد
punk في السبعينيات.
١٠٨
•••
في ظلِّ هذا الوضع الملتبس للفنون في المرحلة ما بعد الحداثية. هل يمكن الحديث عن
علم
للجمال؟ أو نظرية للفن؟ أو حتى ما هو معياري؟
إنَّ بعض النُّقاد، من أمثال فريدريك جيمسون وتيري إيجلتون وديفيد هارفي، يرون أن
هناك
صعوبات عديدة أمام إمكانية تأسيس نظرية جمالية تُواكب التطورات التي لحقت بمفهوم «الفن»:
خلخلة مفهوم الإبداع والتجربة الجمالية مع تفشِّي القيم الاستهلاكية والتطور التقني،
وتكنولوجيا الواقع الافتراضي وتغليب عناصر الشكل على المضمون (عناصر الإبهار في الصورة)،
بالإضافة إلى مُحاولة تقديم عمل فني يَفهمه الجميع، ويخلو من الرمز حتى يحقق الانتشار
المطلوب،
مع الوضع في الاعتبار مفهوم «موت المؤلِّف» وآثاره على النظرية الجمالية، والاحتفاء بالنَّص،
وفقدانه لخصوصيته من خلال مفهوم «التناص». كل هذه التغيُّرات سيصطدم بها أي مُنظِّر للفن
يحاول
الحديث عن تجربة جمالية للمبدع أو للمُتلقِّي. ويرى جيمسون أن نهاية الحداثة تعني بالتالي
نهاية الجمالي نفسه أو علم الجمال بصفة عامة؛ إذ هو يَرهن وجود علم للجمال باستقلال وذاتية
العمل الفني، لكن أن يُصبح العمل الفني مزيجًا أو امتزاجًا لأعمال أخرى، فإن العمل الفني
نفسه
سينحلُّ إلى صور مُتعدِّدة، صور ثقافية مختلفة عن التصور التقليدي لمفهوم الفن، ويستنتج
جيمسون
من ذلك أن «انجذاب علم الجمال المعاصر للفن الزائف واليومي، مناورة أيديولوجية وليس موردًا
للإبداع.»
١٠٩
على الرغم من وجاهة رأي جيمسون السابق، إلا أننا لا نعدم وجود تأملات بالفعل حول
مفهومي
الفن والجمال، حقًّا أن هذه التأملات قد اختفت منها بعض المباحث التقليدية التي كانت
موضوعًا
حاضرًا في أي نقاش استطيقي، كخبرتَي الإبداع والتلقِّي، إلا أنه في النهاية لا يوجد نموذج
ثابت
لا يتغيَّر؛ فكل فكر وكل عصر يستدعي نموذجَه الملائم وفقًا لطبيعته الخاصة. بالإضافة
إلى أنه لا
يُمكن القول، بإطلاق، إنَّ اتجاه ما بعد الحداثة يرفض «كل ما هو معياري»، فقط هم رفضوا
القواعد
الجاهزة المعدة سلفًا، والتي هي، في رأيهم، تُقَولِب العمل الفني، وتَلغي تعدديته، وفي
هذا يقول
رزبرج: «إنَّ الفنان أو الكاتب ما بعد الحداثي يلعب دور الفيلسوف؛ فالعمل الذي ينتجه
أو النَّص
الذي يكتبه ليس محكومًا بعدد من القواعد أو المقاييس التي وُضعت بصورة مُسبقة، ومن ثَمَّ
لا يمكن
الحكم على هذه الأعمال وفقًا لتصور مُسبق من خلال تطبيق صيغ أليفة أو جاهزة على النَّص
أو العمل.»
١١٠
ثمَّة إجماع من معظم مُنظِّري ما بعد الحداثة على المعارضة الحاسمة لفكرة امتلاك
العمل الفني
لنوع من الوحدة العضوية أو الشكل المُتماسك الذي «يحميه من الرياح العاتية للتغير الثقافي
والاجتماعي والتاريخي» بتعبير هارفي، ويشير ذلك إلى تحوُّل واضح من التركيز الماركسي
الأكثر
تقليدية على «السياق الأصلي للإنتاج» إلى الاهتمام «بمختلف السياقات الخاصة بالاستقبال».
١١١ لقد ذهب بارت ومِن بعده دولوز ودريدا إلى أن اللغة الواحدة في حالة تدفق دائم،
ولا يوجد ما نُسمِّيه المعنى في النَّص … لا توجد أية سلطة نهائية تُقرِّر معنى النَّص،
كما لا يوجد
معنًى نهائيٌّ مقترِنٌ بالعلامة. فالعلامات تتغيَّر دومًا حسب السياق. من هذا المنطلق
يرى دولوز أن
التركيب بين المتضادات، والأشياء التي على غير ذات صلة، هو وظيفة الفن في كل العصور.
كما
يرى دريدا أن الكولاج/المونتاج هو الشكل الأساس في الخطاب الفني ما بعد الحداثي.
والتنافر الداخلي داخل العمل الفني (سواء أكان رسمًا أم نصًّا أم معمارًا) هو الذي يمنحنا،
نحن متلقِّي العمل، الحافزَ لإنتاج دلالة (ليست أحادية أو مستقرة).
١١٢ فالعمل الفني يخلق التعدُّدية … تعدُّدية المعنى والدلالات … عودة المعنى كاختلاف
وليس كتطابق، ولذلك لا يُمكن إخضاعه لتفسير أو تأويل إنما فقط كل ما نملكه أمام العمل
الفني
هو تفجيره … وهذا ما يَضمن خلوده لأنه لا يفرض معنًى وحيدًا على أناس مختلفين وإنما لكونه
يوحي بمعانٍ مختلفة لإنسان وحيد. إن العمل الفني — وبالأخص النَّص — يُقرأ في تَعدُّده
وفي تناميه،
في اختراقه، وفي فاعليته … باختصار، كما يقول دولوز، يُمكن أن نستعيد عبارة كافكا «ليس
عندي
ما هو جاهز.»
١١٣ أو كما يقول إيتالو كالفينو: «أتفق معكم على أن كتبي قد تُفسَّر من وجهات نظر
مختلفة، قد تُفسَّر في ضوء الوجودية، أو البنيوية، أو المفاهيم الماركسية، أو الكانطية
الجديدة
أو الفرويدية أو مذهب يونج، بالرغم من كل هذا؛ يسرني عدم وجود مفتاح واحد لفتح جميع أقفال
قصصي وحل رموزها.»
١١٤
في العام ١٩٦٨م أصدر رولان بارت مقالته الأشهر «موت المؤلِّف»
La mort de l’auteur ليَقلِب
حال النظرية الأدبية المعاصرة» رأسًا على عقب، وليضع بذلك أحد المُصطَلحات البارزة والمؤثِّرة
في
النقد الأدبي المعاصر. لقد قال بارت: «إنَّ النَّص من الآن فصاعدًا على كافة مستوياته
وبجميع
أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يَظهر بشكل يغيب فيه المؤلِّف غيابًا كاملًا.»
١١٥ ويَدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة «مؤلف» لنحلَّ محلها «الكاتب»
Le
scripteur، والكاتب — وفقًا لبارت — ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا
«انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمدُّ منه كتابة «نشاط لفظي»
لا
يُمكن أن ينفد أبدًا. ويَعترف بارت بأن الحياة الخاصة للكاتب من المُمكن أن تكون ذات
جاذبية
حكائية كبيرة جدًّا، ويُمكن أن تفسِّر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيِّز الوجود، وغالبًا
ما تفعل
ذلك … لكنها ليست ذات أهمية بالنسبة للقيمة الأدبية لكتبه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة
الشخصية لعالم الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بِنيَة
الذرة.
وفي هذا السياق أيضًا يقول دولوز: «إن العمل الفني مستقل تمامًا عن مبدعه.»
١١٦ ومن هنا أيضًا دعوة فوكو إلى أن يُصدر المؤلِّف كتابه دون أن يضع اسمه عليه؛
«فمعرفة الاسم لا تفيد في شيء، والأفضل قراءة الكتاب لذاته.»
١١٧ المؤلِّف دوره ينتهي بكتابة النَّص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية
القراءة … عبء اقتناص المعنى في تعدُّديته واختلافه. وهذا ما يجعل القارئ مشاركًا في
عملية
إنتاج النَّص. فدور القارئ لا يقلُّ أهمية عن دور المؤلِّف، ولا يُمكن فصل عملية القراءة
عن
الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يُقرِّر معنى النَّص من خلال استرشاده بالعلامات
التي يستخدمها المؤلِّف، لكنه لا يتقيَّد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النَّص، للمعنى
الذي
تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يُمكن أن يتغيَّر من يوم لآخَر ومن قارئ لآخَر. على
أن الكاتب —
في رأي بارت — لا بد أن يُساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم ذلك عن طريقين؛ الأول:
ألا
يقدِّم نصًّا مغلقًا محملًا بالأحكام القاطعة، ذاخرًا بالنتائج النهائية، والتي عادة
ما تقوم
على وهمٍ مبناه أن المُؤلِّف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المُطلَقة. وأن يقوم على العكس
من ذلك
بتقديم نص مفتوح (وهو ما عبَّر عنه إيكو بالأثر الأدبي المفتوح
Apri Letteraria Impatto؛ أي انفتاح النَّص على عوالم عديدة يَصعُب حصرها). ومعيار انفتاح النَّص عند بارت هو
الغموض
والالتباس والإيحاء بالمعنى دون تحديده. والطريق الثاني: ألا يتدخَّل الكاتب في عملية
القراءة
بأي صورة من الصور، كأن يؤيد وجهة نظر على أخرى أو معنًى على معنًى آخَر أو يقول «لست
أقصد هذا
بالضبط» … إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعدُّدي.
يَرتبط مفهوم «موت المؤلِّف» عند بارت بفكرة أخرى أشار إليها ضمنًا — ولم يُعطِها
اصطلاحًا —
عندما وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النَّص «ما هو إلا تعدُّدية
لنُظُمه،
وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.»
١١٨ وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا
J. Kristeva مصطلح «التناص»، ويعني أن أي
نصٍّ في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخُل مع نصوص أخرى سبقَتْه؛ أي أنه في «فضاء
النَّص
تَلتقي مجموعة من الملفوظات المأخوذة من نصوصٍ أخرى، ويُبطِل أحدها مفعول الآخر.» ويُوضِّح
شلوفسكي
١١٩ هذا بقوله: «كلما سلَّطتَ الضوء على حِقبةٍ ما، ازددتَ اقتناعًا بأن الصور التي
تَعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبًا.»
فلا يوجد نصٌّ أصلي، إنما النَّص هو تلاقٍ بين النُّصوص، وكل نصٍّ هو امتصاص وتحويل لنصٍّ
آخَر. وفي ضوء
ذلك، يكون هدف التفكيك — بحسب دريدا — البحث عن نصٍّ داخل نصٍّ آخَر، وإحالة نصٍّ على
نصٍّ، وبناء نصٍّ
من نصٍّ آخَر … إلخ.
١٢٠
إحدى النتائج الهامة التي يُمكن استخلاصها من موقف بارت وفلاسفة ما بعد الحداثة،
بخصوص
النَّص ودور المؤلِّف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البِنيوية أن الحقيقة
قائمة وراء
نصٍّ ما أو داخله، فإن ما بعد البنيوية تُبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنَّص في إنتاج
الدلالة
العامة لأي نصٍّ؛ وهكذا أصبحَت القراءة إنجازًا مبدعًا، بعد أن كانت مجرَّد استهلاك أو
تلقٍّ سلبي.
لكن المشكلة أن منحَ القارئ هذه الأهمية لم يكن يَتطلَّب بالضرورة «تهميش المؤلِّف» واعتباره
«آلة
ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلِّف هو في الأصل تهميش للإنسان … لوجوده وفاعليته … النَّص
أُنتج في
غير زمان ومكان ومؤلف … تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي. لقد تمَّ التعامل
مع المؤلِّف وكأنه مُنتِجٌ لمجموعة من المُنتجات الاستهلاكية التي لا يعني مستهلكيها
مَن الذي
أنتجها وما ظروف إنتاجها. يتحوَّل المؤلِّف إلى مُنتِج ثقافي يُنتج المواد الخام فقط
(الأجزاء
والعناصر)، تاركًا العمل مفتوحًا للمُستهلِكين لإعادة تجميع هذه العناصر وبالطريقة التي
يرغبون. النتيجة افتقاد التواصُل والاستمرارية … التواصُل مع المؤلِّف، والاستمرارية
داخل النَّص؛
«ففي وسع أي عنصر، في أي موضع، بحسب دريدا، كسرُ استمرارية أو خطية الخطاب، فيقود بالتالي
إلى قراءة مزدوجة: قراءة للجزء مدرَكًا في علاقته بالنَّص الأصلي، وقراءة أخرى له وقد
خلط في
كل جديد ومُختلف. أما نتيجة ذلك فهي إخضاع أوهام الأنظمة الثابتة كلها للمساءلة والنقد.»
١٢١ يَتفرَّع عن هذه النقطة، نقطةٌ أخرى تتعلَّق بنظرة ما بعد الحداثيين لمعايير الحكم
الجمالي باعتبارها معايير سلطوية؛ فهم يرفضون عملية التقييم للعمل الفني، ويرون أنها
ليست
من مهام الناقد الأدبي المُعاصر، مهمة الناقد الكشف عن مُستويات مختلفة للقراءة، أما
عملية
التقييم فهي ممارسة للسلطة: «أنا لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول: إنَّ هذا لجيد، وإن
هذا
لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلَّب دائمًا هدفًا
تكتيكيًّا، واستخدامًا اجتماعيًّا، كما يتطلب دائمًا نمطًا خياليًّا، وأنا ليس في مقدوري
توقُّع
أو تصوُّر النَّص كاملًا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.»
١٢٢
إن هذا الفهْم لعملية الكتابة ودور المؤلِّف والقارئ عضَّده دريدا في استراتيجيته
التفكيكية.
فحين تصدَّى جاك دريدا للكشف عن نقاط التناقض والضعف في شرح فرديناند دي سوسير للطريقة
التي
تعمل بها اللغة وتؤدي وظائفها، قدَّم مفهومًا أو تصوُّرًا للغة ترتَّب عليه القول بأن
المعنى لا
يَتحقَّق أبدًا بصورة كاملة. فنظرية سوسير في علم اللغة تعتمد على فكرة أن اللغة تعمل
كنظام
قائم بذاته، ونسق مُستقِل يتكون من مجموعة من الدوال، وأن هذا النسق هو الذي يُحدِّد
هوية ووظيفة
عناصره الفردية. لقد عارض سوسير مفهوم اللغة كظاهرة يتحكَّم فيها التاريخ ويحكم مسار
تطورها،
وتتكوَّن من إجمال العناصر والقواعد التي اكتسبت المعنى على مرِّ الزمن، وقدَّم في مقابل
هذا
المفهوم القديم للغة مفهومًا جديدًا يرى في اللغة نظامًا مستقلًّا بذاته. ويقصد بالاستقلال
هنا
أن اللغة تعمل باستقلال تامٍّ عن الإطار التاريخي الذي نشأت فيه. ويعتمد هذا المفهوم
الجديد
بصورة رئيسة على التمييز بين الجانبَين اللذَين يتكوَّن منهما أي نظام لغوي وهما: الكلام Parole واللغة Langue. واللغة وفق سوسير تُفصح عن نفسها دائمًا في صورة الكلام؛ أي في صورة استخدامٍ
محدَّد خاص لعناصر معيَّنة. لكن هذا الاستخدام يعتمد بدوره دائمًا على اللغة؛ أي على
مجموعة
القواعد والعلاقات التي تُشكِّل النظام اللغوي. والتي يَنطوي عليها أي استخدام لأي عنصر
من
عناصر اللغة. وفي إطار تلك العلاقة بين الكلام واللغة يعيد سوسير مراجعة المفهوم التقليدي
لبناء العلامة، الذي كان يَنظر للعامة على أنها تتكوَّن من جانبين: الدال والمدلول، وعن
طريق
اتحاد الدال والمدلول تتكوَّن العلامة وتظهر كوحدة دال. غير أن سوسير في مراجعته لهذا
المعنى
ذهب إلى أن العلاقة بين أي دالٍّ ومدلوله غير مرهونة بصلاحية كلٍّ منهما للآخر، بل ينتجها
النظام اللُّغوي ببنيته المستقلة المكتفية بذاتها.
ويَخلُص دي سوسير من تأملاته اللغوية إلى نتيجتَين رئيستَين فيما يتعلق بنشاط اللغة
ونظام
عملها؛ أولًا: إذا كان الرابط بين الدال والمدلول هو نتاج لما تقوم به الأبنية اللغوية
التقليدية المكتفية بذاتها، سيكون ما تشير إليه العلامة (المشار إليه) لا دور له في إنتاج
المعنى؛ فاللغة كنظام مستقل لا تعتمد في تأدية وظائفها على أي شيء خارجها. ثانيًا: أن
اللغة
سابقة على التفكير، وشرط لوجوده، وبالتالي شرط لأي معرفة بالأشياء التي يمكن أن تُشير
إليها.
إن القول بأن الصلة بين الدال والمدلول تُحدِّدها العلاقة الاعتباطية التي تُشكِّل النظام
اللغوي،
يعني منطقيًّا أن قدرة الدال على الارتباط بمدلول معيَّن تعتمد في كل لحظة على علاقة
الدال بكل
العناصر الأخرى التي يتكوَّن منها النظام اللغوي. ومعنى هذا في مجال المُمارسة أن قراءة
أي دال
وتفسيره تتضمَّن بالضرورة إقصاءً لكل أنواع القراءات واحتمالات التفسير الأخرى التي تشتمل
عليها بنية اللغة. ويترتَّب على هذا أن المعنى لا يَتحقَّق نتيجة لطبيعة الدال وتكوينه،
أو لقيمة
أو خاصية إيجابية يَمتلكها في ذاته، بل فقط من خلال نشاط مجموعة من الاختلافات التي تشكل
بِنية لغوية معينة.
وقد ذهب دريدا في نقده لسوسير إلى أن تَصوُّره للدال في علاقته بالمدلول يشوبه نقص
خطير
يتمثَّل في أنه حين ذهب إلى أن الدال ينشط كحامل للمعنى من خلال اختلافه عن الدوال الأخرى،
ثم
يؤكد على الرغم من ذلك أن هذا الاختلاف يُمكِّن الدال من الارتباط بمدلول معين، فإنه
يقع في
التناقض إذ يفترض وجود عالم من المدلولات وبالتالي من المعاني، التي توجد في انفصال عن
نشاط
الدوال. ويرى سوسير أن لعبة الاختلاف difference التي ينشط من خلالها الدال لا يُمكن أن
تتمخَّض عن حضور المعنى إلا بالدخول في عالم المدلولات. وهذا العالم كما سبق وأشرنا لا
بد أن
يسبق وجود اللغة ويقع خارج حدودها؛ ذلك أن كلًّا من الدال والمدلول لا يُمكن أن يوجد
في
استقلال عن الآخر. والنتيجة أن مجموعة التقابلات والتعارضات التي تكسب العلامة معناها
في
نظام سوسير لا تستطيع وحدها أن تحقق حضور المعنى.
على أن نقد دريدا لسوسير كان هدفه الرئيس التشكيك في إمكانية تحديد المعنى من الأساس.
فإذا كانت قدرة الدال على إقامة علاقة مع المدلول لا تَعتمد — وفق تصوُّر سوسير للغة
— على تعريف
الدال إيجابًا (أي تحديد هويته)، بل على تعريفه سلبًا (أي تحديد ما ليس هو)، فإن عملية
إنتاج
الدلالة تَغدو بِرُمَّتها عملية تتحقَّق من خلال الغياب (غياب الدال واختلافه عن غيره
من الدوال)
بدلًا من الحضور (أي حضور الدال)، ذلك أنَّ الدال لا يقوم بوظيفته إلا بالرجوع إلى كل
إمكانيات
التفسير واحتمالاته التي يَشتمِل عليها النظام اللغوي والتي يَتحدَّد معناه في اختلافه
عنها.
ويترتب على ذلك أن الدالَّ إذا انقطعت صلته بأي مدلول مُستقِل، وفي الصلة التي تُوحِّد
بين المعنى
ونشاط الدوال بحيث لا يُمكن الفصل أو التمييز بينهما، فإن المعنى بدوره يخضع في هذه الحالة
لعمليات الاختلاف ذاتها التي تَسمح للدالِّ القيام بوظيفته، وهذا على سبيل المفارقة.
وهكذا
يُصبح تحديد المعنى يعتمد على تعريفه سلبًا (أي على تحديد ما لا يكونه) بدلًا من تعريفه
إيجابًا برصد ما يَعنيه. والنتيجة المُترتِّبة على قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة
تتمثَّل في أن العلامة لا يُمكنها أن تُصبح مماثلة لمعناها أو أن تمتلك المعنى بصورة
كاملة،
وهذا لأنَّ في سعيها لاقتناص المعنى تقع دائمًا في سلسلة لا نهائية من العلاقات والإحالات
المُتبادلة بين الدوالِّ، ما يجعل عملية تحديد المعنى بصورة نهائية حاسمة أمرًا مستحيلًا.
١٢٣
على أنَّ النتيجة بعيدة الأثر التي تترتَّب على هذا الفصل بين المشار والمشار إليه
أو
استقلال الدالِّ عن المدلول، هي تلك الخاصة بعملية استقبال العمل الفني. وفي هذا تذهب
نك كاي
إلى أن دريدا حين تصدَّى لتفكيك المدلول المُتعالي
Transcendental Signified استند إلى فرضية
مفادها أن حركة الدوال القلقة المُتردِّدة دومًا بين المدلولات تخضع المدلولات بدورها
لتأثير
علاقات الاختلاف
Difference والإرجاء
Deferral داخل أي نظام لغوي، وهي العلاقات التي اشتق
منها دريدا مصطلح
Differance. الذي يُشير إلى أن المعنى يتمُّ تأجيله بصورة مستمرة ولا يلبث
على حال.
١٢٤
نستطيع أن نَستنبِط من هذا الفهْم الدريدي، بتطبيقه على الأعمال الفنية من حيث شروط
إنتاجها
واستقبالها، أنَّ الحداثة كانت تنحو نحو البحث عن الأصول والقواعد كمحاولة للتغلب
على اعتباطية العلامة وعدم استقرار معناها. فسعيُ العمل الفني الحداثي للوصول إلى الجوهر
هو
سعيٌّ لتحقيق خصائص وقيَم فنية مشروعة بذاتها، ولا تحتاج لتبرير من خارجها. قيم من شأنها
أن
تتخطَّى تأثير علاقات الاختلاف والإرجاء التي كشف عنها دريدا داخل النظام اللغوي، ومن
ثَمَّ
تستطيع الوصول إلى «المدلول المُتعالي» لتحقُّق حضور
Presence المعنى. يقول بودريار معبرًا عن
هذا المعنى: «اعتمد النقد الفني في نشأته على فرضية وجود علامات مُشبعة بالمعاني والصور،
تَمتلِك منطقًا باطنيًّا لا واعيًا إلى جانب منطقها المعروف القائم على التمييز عن طريق
الاختلاف.
ويَكمُن وراء هذا المنطق الثنائي ما يُمكن أن نسميه بالحلم الأنثربولوجي؛ أي حُلْم الإنسان
بوجود
مملكة مثالية تحيا فيها الأشياء والأعمال الفنية في استقلال تام عن عمليات التبادل
والاستخدام. وبعيدًا عن ضرورة إيجاد معادَلات محسوسة لها.»
١٢٥