(١) رولان بارت: من البِنيوية إلى ما بعدها
(١-١) مقدمة
كانت المفاهيم التي ظهرت في حقلي النقد الفني والأدبي، خلال النِّصف الثاني من القرن
العشرين، على صلة وثيقة بالمفاهيم الفلسفية التي ظهرت خلال هذا القرن، والتي نتجت عن
التغيُّرات العديدة التي لحقت البِنى المعرفية التي سادت إبان العصر الحديث. وكان من
نتائج تلك
الصلة ذلك التداخل المعرفي الذي حدث بين العديد من الحقول المعرفية؛ الفلسفة وعلمَي الاجتماع
والنفس ومجالي النقد الفني والأدبي. والواقع أن هذا الأمر قد أدَّى إلى صعوبة في تصنيف
مُفكِّري
النِّصف الثاني من القرن العشرين وفقًا للحقول المعرفية التي يَنتمون إليها؛ فَتَحْتَ
أيِّ حقل معرفي يُمكن إدراج كلٍّ من رولان بارت، وميشال فوكو
M. Foucault (١٩٢٦–١٩٨٤م)، وجورج باتاي
G. Bataille (١٨٩٧–١٩٦٢م)،
وجاك دريدا
J. Derrida (١٩٣٠–٢٠٠٤م)، وجاك لاكان
J. Lacan (١٩٠١–١٩٨١م)؟! (الفلسفة، النقد الأدبي، علم الاجتماع، علم النفس، النقد الثقافي … إلخ.)
هي مسألة محيرة،
لكنها في الوقت ذاته مُؤشِّر مُهمٌّ يدلُّ على أن الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية
المختلفة قد
تلاشَت، وأصبح المجال أكثر اتساعًا للدراسات البَينية التي تقع على التخوم بين مختلف
المجالات المعرفية.
١
يُقدِّم بارت نموذجًا لطبيعة الفكر وصورة المُفكر في تلك الفترة «إذ يَبرز من خلال
كتاباته
كاتبًا مُتميزًا، فلا هو بالناقد ولا هو بالفيلسوف ولا هو بالشاعر أو الفنان أو الروائي،
ولكنه
كل هؤلاء مُجتمعين. وبذلك يَتجاوَز بارت الأكاديمية الجامعية آخذًا كل مُكتسباتها ونظرياتها،
ويدخل عالم الإبداع محمَّلًا بفكر نظري ثاقب، فيَجمع بين تلك المهارات ليَكسر الحواجز
بين
الكلمة الشاعرة والكلمة العلمية، ويكون بذلك أبرز مثال حضاري على ثقافة الغرب الفلسفية
والأدبية.»
٢ لقد سُئل بارت في أحد الحوارات التي أُجريت معه سؤالًا يكشف هذا المعنى؛ إذ سأله
مُحاوِره: «لقد لاحظتُ أن كتبك في المكتبات ليست معروضة في مكان واحد بل هي تتوزَّع في
أماكن
عديدة؛ اللغويات، الفلسفة، علم الاجتماع، الأدب … إلخ. هل يعود هذا التصنيف المُلتبِس
إلى
طريقتك في مقاربة الموضوعات؟» فردَّ قائلًا: «نعم. لقد كان سارتر ذاته آلة ناسخة عظيمة.
كان
فيلسوفًا، وكاتب مقالة، ومسرحيًّا، وناقدًا … لقد بدأت مكانة الكاتب عند تلك اللحظة تُصبِح
أكثر
مرونة … هناك بعض الدَّعاوى المُنتشِرة تلك الأيام إلى شطب أنواع الكتابة التقليدية التي
يُمكن
تصنيفها في اتجاه واحد.»
٣
لم تكن أُطروحة موت المؤلِّف، التي صاغها بارت في مقال له يَحمل العنوان ذاته، سوى
انعكاس
لمناخ عام شاع فيه فكرة النهايات، وهي الفكرة التي ظهرت بوادرها في القرن التاسع عشر،
وانتشرت بقوة في القرن العشرين، لتُصبح تيمة حاضرة باستمرار في فلسفات النِّصف الثاني
من هذا
القرن. وقد عكس هذا الانتشار للفكرة شعورًا عامًّا لدى الغرب آنذاك بفقدان الثقة في المقولات
التي تأسَّس عليها المشروع الحداثي الغربي، فجاءت فكرة النهايات لتُعلن موت تلك المقولات
وضرورة استبدالها بمقولات بديلة تَصلُح لطبيعة تلك المرحلة. ربما بدأت فكرة النهايات
في
الظهور بعد وفاة هيجل من خلال تلاميذه؛ فقد قال إريك فيل
Eric Weil إن «هيجل»
Hegel قد وضع
للفلسفة نقطة النهاية.
٤ وقد أعلن اشبنجلر
Spengler (١٨٨٠–١٩٣٦م) بعد ذلك صراحةً نهاية الغرب
Der Untergang des Western أو أفوله. ثم جاء نيتشه
Nietzsche (١٨٤٦–١٩٠٠م) ليُزكي تلك الروح عندما
أعلن «موت الإله»
Gott ist tot. كما كتب بنيامين
Walter Benjamin عن نهاية الفن في عصر
الإنتاج الآلي، وأسَّس هيدجر
Heidegger (١٩٧٦–١٩٨٩م) مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»،
وأعلن فوكو «موت الإنسان»، كما أعلن رورتي
Rorty (١٩٣١–٢٠٠٧م) «نهاية الفلسفة النسقية»،
وكتب فوكوياما
Fukuyama (١٩٥٦–…م) بعد ذلك نهاية التاريخ
The End of History وفي نفس السياق
حاول فاتيمو
Vattimo (١٩٣٦–…م) حصْر توجُّهات النِّصف الثاني من القرن العشرين الفكرية في خمسة
مبادئ رئيسة: نهاية الفن وأفوله – موت النزعة الإنسانية – العدمية – نهاية التاريخ –
تجاوز
الميتافيزيقا.
٥ وهي كلها تَنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن بل إعلان
النهاية لكل شيء، دق أجراس الموت، كما يشير عنوان أحد مُؤلَّفات دريدا.
هذا هو السياق العام إذًا الذي وضع فيه بارت أطروحته عن موت المؤلِّف، وبالتالي فقد
جاءت تلك
الأطروحة ملائمةً تمامًا للَّحظة الثقافية التي تمَّ صياغتها فيها. وهي كما سنرى كان
لها أصولها
الفلسفية الواضحة:
(١-٢) من موت الإله إلى موت المؤلِّف
افتُتِح القرن العشرون بوفاة نيتشه في العام ١٩٠٠م بعد أن صاغ أطروحته الشهيرة «موت
الإله»
وقدَّمها في كتابه «العلم المرح». والواقع أن تلك الأطروحة لم تُؤثِّر فقط على المجال
الميتافيزيقي، بل كان لها تأثير مماثل على مفهوم المركزية ومنطق الهُوية اللذَين سادا
الفكر
الغربي ردحًا طويلًا من الزمن. فمفهوم المركز يعني أن ثمَّة أصلًا أو نموذجًا رئيسًا
تدور حوله
المعارف والنشاطات الإنسانية المختلفة. وهذا المركز أو النواة يختلف باختلاف العصور
والأزمنة. وقد ظلَّ تصوُّر الإله أو الكائن المفارق مسيطرًا على الذهن البشري ومَرْكزًا
تدور أفكاره
حوله. حتى الفلسفات الحديثة التي اتَّخذت موقفًا مناهضًا أو ناقدًا لهذا التصوُّر، ظلَّ
معظمها يدور
حوله بطريقة لا واعية؛ إذ إنها كانت تُقدِّم ذاتها كبديل لهذا التصوُّر من خلال نقده،
ما يجعله
حاضرًا باستمرار كنموذج يتمُّ معارضته بنموذج آخر، إنها تلك الثنائية التي يُعَد أحدها
شرطًا لوجود
الآخر.
لقد حاول نيتشه الخروج من تلك الثنائية من خلال إعلانه موت الإله، والنتيجة أن المركز
ذاته
قد تلاشى، أما نتائج ذلك فهي جد عظيمة، وربما استطاع نيتشه أن يُعبِّر عن ذلك أفضل تعبير
في
القسم ١٢٥ من كتابه العلم المرح
Die fröhliche Wissenschaft (١٨٨٢م) عندما صوَّر الأمر على شكل
حدث كالتالي: يدخل رجل مجنون إلى ساحة السوق بحثًا عن الإله، ويَسخر منه كل أولئك الذين
لا
يؤمنون بوجود إله. «أين هو الإله؟ يبكي … سوف أُخبرك، لقد قتلناه، أنا وأنت، كلٌّ منَّا
قاتِله.»
ويَستمر في تأكيده على الآثار الكارثية لهذه الفاجعة: «لقد مَحَونا الأفق كله»، «لقد
حرَّرنا هذه
الأرض من شمسها»، «لقد أرسلناها باستمرار إلى القاع … وإلى الوراء … إلى الجنب وإلى الأمام،
في كل الاتجاهات … ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟» لقد أصبحَ عالَمُنا أكثر برودة، ونحن
أناس
«قتَلة كل القتلة»، تُركنا دون أية طريقة لتطهير أنفسنا. وعندما يُنهي الرجل المجنون
حكمته،
تحدق فيه الجماهير وتتملَّكهم الدهشة، يُصرح قائلًا: «لقد جئت مُبكِّرًا … لم يَحن وقتي
بعد …
هذا الفعل لا يزال بعيدًا عنهم أكثر ما تبعد أقاصي النجوم، ومع ذلك فإنكم قد فعلتُموه
بأيديكم.»
٦
ما قام به نيتشه هنا هو أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم «لقد فصَلْنا حقيقة هذا
العالم
عن فكرة أن الإله قد خلقه»، ونتيجة ذلك انفتاح العالم على الإنسان، لكن هذا الانفتاح
ما زال
يَفتقد البوصلة الموجِّهة له، بحسب نيتشه؛ لأنه يحتاج إلى نسق قيَمي جديد يحلُّ محل النسق
القديم
المؤسَّس على فكرة الإله. وقد حاول نيتشه عبْر مؤلفاته اكتشاف هذا النسق الجديد من أجل
ترسيخه،
وهو نسق يستمدُّ معاييره من عالم الحياة لا من عالَم مُفارق.
هل ثمة علاقة بين ما قام به نيتشه في مجال الميتافيزيقا وبين ما قام به بارت في مجال
النَّص؟
لم يَفصل نيتشه بين حضور الميتافيزيقا ومقولاتها وبين اللغة المُستعمَلة؛ فقد وجد
نيتشه أن
هناك قوًى تقف وراء عملية إنتاج المعاني، هذه القوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة. وما تفعله
الميتافيزيقا هو اختزال تلك القوى، وحصر المعنى في الألفاظ اللُّغوية التي تحد المعنى
وتختزله
في إطار معيَّن؛ لهذا فقد رأى نيتشه أن اللغة هي معقل الميتافيزيقا. ففي اللغة فقط تجد
مفاهيمُ
الوجود والجوهر والهوية إمكانيةَ دوامها وخلودها. إنَّ الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ
اللغوية
كوعاء يحفظ للمعاني أزليتَها ويُبقي على تطابقها؛ فبدلًا من أن ترى في العلامة مكانًا
للاختلاف
والتعدُّد والتأويل، ترى فيها على العكس من ذلك مناسبةً لحضور المعنى. من هنا تُصبح اللغة
ذاتها
فعلَ سلطة، صادرًا عمن بيده الهيمنة.
٧ وقد سعى نيتشه من وراء التاريخ الذي يُقيمه للميتافيزيقا، إلى التوصُّل إلى منظومة
القيم التي حكمت هذا التاريخ، والبِنية التي وضعت المعاني وأطلقت الأسماء وأوَّلت العالم
ولوَّنته. من هنا تُصبح استراتيجية التسمية استراتيجيةَ هيمنةٍ وتسلُّطٍ.
في الواقع لم يَفعل بارت سوى استكمال ما قام به نيتشه ودعا إليه، فموت المؤلِّف هو
ذاته موت
الآلهة، والنتائج التي ترتَّبت على أطروحة بارت في مجال النقد الأدبي ونظرية التلقي الجمالي
تتشابه مع تلك النتائج التي ترتَّبت على أطروحة نيتشه في مجال الميتافيزيقا ونظرية الوجود.
أما النسق القيَمي الذي حاول نيتشه التأسيس له وإحلاله محلَّ النسق القِيَمي القديم،
فهو ما قام
به بارت من خلال التأسيس لقواعد جديدة للتعامل مع النَّص الأدبي محلَّ القواعد التي كان
معمولًا
بها من قبلُ في حقل النقد الأدبي، وقد كتب بارت في العام ١٩٦٨م ما يلي: «نعرف الآن أن
النَّص ليس
مجرَّد مجموعة من الكلمات التي تُحرِّر معنًى «لاهوتيًّا» وحيدًا (إله – رسالة – نبي).
بل هو حيز
متعدِّد الأبعاد تَمتزج فيه وتتصادم تنويعات من الكتابة، ليس منها ما كُتب في الأصل.»
٨ إن نسبة النَّص إلى مؤلفه، بحسب بارت، معناه إيقاف النَّص وحصره وإعطاؤه مدلولًا
نهائيًّا، إنه إغلاق للكتابة، يقول: «عندما يأبى الفنُّ النظرَ إلى العمل الفني كما لو
كان ينطوي
على سر؛ أي على معنًى نهائي، فإنَّ ذلك يولد فعالية يُمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت،
وأنها
ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية
رفض
الإله ودعائم وجوده.»
٩ إنَّ هذا الرفض لمركزية الإله لا يَنبغي التعامل معه على المستوى اللفظي؛ فهو في
الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله؛ تحرير للنص من أي هَيمنة
فُرضت
عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذي بُعد واحد.
أما فيما يتعلَّق بمسألة السلطة وكيف تمارس تأثيرها عبْر اللغة، فقد ذهب بارت إلى
أن مفهوم
السُّلطة لا يُمكن اختزاله في المعنى السياسي له؛ لأن السلطة حاضرة في كل شيء داخل المجتمع
وهي
تُمارس تأثيرها بصورة خفية مخادعة. إنها توجد في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، وفي
أشكال
الموضة، والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية، والأخبار والعلاقات
الأسرية، وحتى داخل حركات المعارضة والتحرُّر الوطني. ودور المثقف هنا، بحسب بارت، ليس
العمل
المباشر ضد السلطة بالمعنى السياسي لها «فمعركتنا تدور خارج هذا الميدان، إنها تقوم ضد
السلطة في أشكالها المتعدِّدة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة؛ ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة
في
الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل ممتدَّة في الزمان التاريخي. وعندما نتصدَّى لها ونَدفعُها
هنا
سرعان ما تظهر هناك؛ وهي لا تزول البتَّة. قم ضدها بثورة بُغية القضاء عليها، وسرعان
ما تنبعث
وتنبت في حالة جديدة. ومردُّ ذلك هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط
بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة،
منذ الأزل، هو اللغة.»
١٠ والواقع أن هذا الفهم البارتي لمفهوم السلطة يجعله عصيًّا على التحديد أو
التعريف؛ إذ لا ينبغي وفقًا لهذا الفهم البحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل،
عند
بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولَّد عنها، وإنما
ينبغي
رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد أشكالًا للسلطة، لكنها حالات غير
مستقرة
ذات مستويات مُتعدِّدة وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيط بنا. والنتيجة
أن
العالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة، والفيلسوف هو أيضًا سلطة،
بل إن
السلطة تمتد لتشمل اللغة التي يتمُّ التعبير بها، فعملية التعبير ذاتها تكون أسيرة للحروف
والألفاظ والمعاني المتداولة.
يَنحو إذًا بارت منحى فلاسفة ما بعد الحداثة في نقدهم لمفهوم السلطة. وهو يتَّفق
مع نيتشه في
أن اللغة هي بيت السلطة، وقد ذهب إلى القول بأن «نيتشه قد حاول خلخلة ذلك الاستعباد الذي
تُمارسه السلطة.»
١١ وعلى المُفكِّر إذا أراد مقاربة السلطة ومقاومتها بغية الكشف عن مظاهر تموضعها أن
يبدأ باللغة.
هذا النقد البارتي لمفهوم السلطة يُضمر نقدًا داخليًّا لعملية التلقِّي الجمالي التي
تختزل
العمل الفني في معنًى واحد؛ فهذا ضرب من ضروب السلطة التي يمارسها المتلقِّي على العمل
الفني.
لهذا السبب يَرفض بارت عملية تقييم العمل الفني، ويرى أنها لا تدخل في صميم عمله، فمُهمَّته
الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي نوع من ممارسة السلطة «إنني
لا
أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمَّة قائمة للجوائز،
كما
أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائمًا هدفًا تكتيكيًّا، واستخدامًا اجتماعيًّا، كما يتطلب
دائمًا نمطًا خياليًّا، وأنا ليس في مقدوري توقُّع أو تصوُّر النَّص كاملًا، حتى يتسنى
له الدخول
في لعبة الإسناد المعياري.»
١٢ ربما بدا هذا الرأي لبارت مُتناقضًا مع موقعه في تاريخ النقد الأدبي، وهو موقع
متقدِّم بطبيعة الحال. لكن هذا التناقض سيزول عندما نعلم أن هذا الرفض لعملية التقييم
الجمالي
هو في الأساس رفض لاختزال العمل الفني وحصره داخل قالب محدَّد، أو رفض لممارسة وصاية
على النَّص
تجعل من الناقد سلطة تفسيرية مهيمنة عليه. والواقع أن هذا النوع من النقد الذي رفضه بارت
كان نتاجًا للمنطق الذي ساد تاريخ الفكر عمومًا، والذي انتقل منه إلى مجالي النقد الفني
والأدبي؛ منطق الهوية.
(١-٣) من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف
كان لمفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفكري والنقدي الذي ساد في
النِّصف
الثاني من القرن العشرين، بحيث يُعَد هذا المفهوم مفتاحًا لفهْم النتاج الفكري لهذا الخطاب؛
فالفلسفة ستتحوَّل من كونها أداةً نسقية تبتغي الوحدة إلى أداةٍ مهمَّتها تفتيت الأشياء
وتفكيكها.
وربما كان السبب الرئيس الذي أحدث هذا التحوُّل هو تلاشي منطق «الهوية» من الخطاب ليحلَّ
محله
مفهوم «التعددية»؛ التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى، لا
يوجد
حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانًا
يكون شيئًا أكثر تركيبًا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنًى حقيقي للشيء الواحد،
هناك تعددية، وجهات للنظر، تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة
عديدة
وخلف كل قناع يَكمُن قناع آخر.
١٣ وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة وأن تَخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها،
وإنما لكي تُعطي لكل قناع معنًى جديدًا.
وهذا المعنى تحديدًا هو ما أكَّد عليه بارت في تحليله للعمل الأدبي؛ إذ تمثَّلت مُحاولته
في فهم
آلية توليد المعنى داخل العمل الأدبي إلى التعامل معه لا باعتباره تمثيلًا أو تواصُلًا
(بين
مرسل ومستقبل) بل كسلسلة من الصور التي تولَّدت من خلال المؤسسة الأدبية والشفرات الخطابية
الثقافية. فلا يتَّجه التحليل هنا صوب اكتشاف المعاني الكامنة، وهو في الأصل لا يهدف
لذلك.
لهذا يكتب بارت مُشبِّهًا العمل الأدبي بالثمرة ذات الطبقات المُتعدِّدة «فهو من طبقات
(أو
مستويات أو نسق)، ولا يَحتوي على مركز، أو جوهر، أو سرٍّ، أو مبدأ لا يمكن اختزاله، بل
لا شيء
سوى عدد لا متناهٍ من الأغلفة — التي لا تُغلِّف شيئًا سوى وحدة أسطحها.»
١٤ والتحليل البِنيوي لا يقدِّم «تأويلًا» للعمل الأدبي، بل ينطلق من وجهة نظر مبدئية
عن محتوى العمل، ومن ثَمَّ يتناول الشفرات المُكوِّنة لهذا المحتوى، فيُحدد علامتها،
ويقدِّم تصورًا
لتسلسلاتها، ولكنه في الوقت ذاته يُسلم أيضًا بوجود شفرات أخرى ستَنبثِق عبْر تلك الشفرات
الأولى.
كان بارت من دعاة فكر الاختلاف والتعدُّد، وقد كانت مؤلفاته في مجملها ضد أي محاولة
لإقصاء
الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا وسياسيًّا، وهذا بخلاف الفكر الكلاسيكي
الذي
كان سائدًا في العصر الحديث. ففي الوقت الذي كان يقرُّ فيه هذا الفكر بأن العالم مُتعدِّد
ومتنوع،
كان يُحاول دومًا إلغاء تعدُّده وتنوُّعه في وحدة معنًى يفترض أنها ثابتة. وإذا عُرض
عليه أن يُفكِّر
في المتعدد الاجتماعي فإنه سوف يُؤكد أنه غير منسجم في وحدة واحدة، لكنه سيحاول أيضًا
أن
يوحده ويَضمَّه في وحدة الدولة. منطق الفكر الكلاسيكي إذًا هو «منطق الهوية» logique de
l’identité، سواء تعلَّق الأمر بتطابُق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات
مطلقة وبواسطتها تحوَّل الفكر إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء
التعارُضات.
والواقع أن مقولة الاختلاف ستحتلُّ مكانة هامة في فكر بارت؛ إذ إن النتيجة الرئيسة
التي
ترتَّبت على إعلانه موت المؤلِّف تمثَّلت في تخليص النُّصوص من معناها الأحادي الذي كانت
أسيرة له
وانفتاحها على المعنى في تعدُّديته واختلافه، فليس ثمة جوهر واحد للنص يَنبغي على القارئ
اقتناصه ليَزعُم بعد ذلك أنه يمتلك الحقيقة والمعنى، بل ثمة معانٍ مختلفة ومنظورات متعددة
لا
تتعامل مع النَّص على أنه وحدة منغلقة لها معنًى واحد ووحيد، بل تتعامل معه بوصفه «عملًا
مفتوحًا» على حد تعبير أمبرطو إيكو،
١٥ مفتوحًا على عوالم عديدة يَصعُب حصرها أو حتى توقُّعها.
يبدو أن كل الطرق لفهْم النتاج الفكري لمفكري النِّصف الثاني من القرن العشرين تُفضي
بالضرورة
إلى نيتشه. كان نيتشه يصف نفسه بأنه «ديناميت»، والواقع أن هذا الديناميت قد تضاعَف حتى
انفجر
في النِّصف الثاني من القرن العشرين مُحدِثا دويًّا هائلًا. لقد قدَّم نيتشه نقدًا لمفهوم
الحقيقة،
كان مؤثِّرًا بقوة في التصوُّر الذي قدَّمه بارت لطبيعة النَّص؛ فقد رأى نيتشه أن هناك
فهْمًا
ميتافيزيقيًّا مضللًا لمفهوم الحقيقة؛ فالشيء الحقيقي هو الخير والعام والواضح والنافع
والجميل،
وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي.
لكن
السؤال الذي تناساه هؤلاء: مَن يَملك تحديد الحقيقي؟ وما هو هذا الحقيقي؟ وليست المشكلة
عند
نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها، بل المشكلة أن كلمة الحقيقة نفسها
مضلِّلة؛ فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. ولم يتوقَّف مفكر من قبلُ للتساؤل
عن كنه
الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة مُتمحوِرة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. فكل الفلسفات
اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجة إلى ما يُبرِّرها. بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة
الحقيقة
هي المنطلق والأساس الذي تتأسَّس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة صنمًا أو إلهًا
يقدِّسه
الفكر باحثًا عن كل سبيل لبلوغه. في مقابل هذا الفهْم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد
من
الاستعارات والكنايات التي تكوَّنت عبْر التاريخ، وتمَّ التعامل معها بعد ذلك بوصفها
بديهيات أو حقائق.
١٦
إن هذا المعنى النيتشوي لمفهوم الحقيقة سيجد تجلياته في النَّص البارتي. لهذا نجد
بارت
يُفرِّق منذ البداية بين الأثر والنَّص، ويدعو للانتقال من الأول إلى الثاني؛ «فالأثر
لا يزعج
فلسفات الهوية، والتعدُّد عند تلك الفلسفات هو الشَّر بعينه.»
١٧ الأثر له معنًى متوارث مغلق لا يَقبل التجديد، بل يُعتبر التجديد فيه نوعًا من
الهرطقة، أما النَّص فهو مُتعدِّد. ولا تعني صفة التعدُّد التي يحوذها النَّص أنه يحتوي
فقط على معانٍ
عدة، وإنما يُحقِّق تعدُّد المعاني ذاته؛ «فالنَّص ليس تعدُّدًا لمعانٍ، بل هو مجاز وانتقال.
وبناء على
ذلك لا يُمكن أن يخضع لتأويل، وإنما لتفجير وتشتيت.»
١٨
ويُمكن تحديد الاختلافات التي يسوقها بارت بين الأثر والنَّص في الآتي:
١٩
- (١)
على المستوى المنهجي، فليس الفرق بين النَّص والأثر الأدبي ماديًّا (حسب الغلاف، الطبعة،
عدد الصفحات، التاريخ …) ففي الأثر القديم تستقرُّ نصوص، كما أنه ليست كل الإنتاجات المُعاصرة
نصوصًا؛ فالاختلاف بينهما راجع أساسًا إلى كون الأثر قطعة من مادة (يشغل فضاء فيزيائيًّا
في
المكتبة)، أما النَّص فهو حقل منهجي تعمل عليه اللغة.
- (٢)
على مستوى الأجناس، فالاختلاف بين النَّص والأثر لا يدخل ضمن تراتب هرمي (أدب جيد، أدب
رديء، أدب شعبي …) ففي الأدب الشَّعبي تكمن نصوص (وهو ما حاول بارت إظهاره عبْر مسرح
بريخت
الشعبي)، كما لا يدخل هذا الاختلاف ضمن تقسيم للأجناس (شعر، رواية، نقد)، فما يحدد النَّص
خلافًا للأثر الأدبي هو الخلخلة؛ خلخلة الآراء الشائعة والمتداولة، خلخلة اللغة ذاتها
والأسلوب المتعارف عليه في الكتابة.
- (٣)
على مستوى الدليل، فالأثر الأدبي يَنحصِر في مدلول واضح أو خفي، يستدعي التعامل معه إما
على المستوى الاصطلاحي أو التأويلي. أما النَّص فمجاله الدال. وهو يُحيل على فكرة اللعب
ليجعل
النَّص غير خاضع على الإطلاق إلى أي منطق تفسيري محدَّد.
- (٤)
على مستوى التعدُّد، فالأثر أحادي أما النَّص فتعدُّدي. ولذلك تحاول المؤسسات السلطوية
ترسيخ
الأول والدفاع عنه ودحض الثاني وتغييبه لأنه يُهدِّدها في كيانها، ويخلق التعددية على
مستوى
الفكر. من هنا لا يُمكن إخضاع النَّص إلى تفسير أو تأويل وإنما فقط يتم التعامل معه بُغية
تفجيره، وهو ما يضمن خلوده؛ لأنه لا يفرض معنًى وحيدًا على قراء مختلفين، بل يوحي بمعانٍ
مختلفة للقارئ الواحد.
- (٥)
على مستوى القراءة، فالأثر من حيث بِنيته اللغوية الواضحة يُمكن التعامل معه بالمناهج
التقليدية (ومنها التحليل النفسي والاجتماعي)، أما النَّص فيستدعي مقاربة مختلفة تحرِّره
من
سلطة المؤلِّف وهيمنة التقاليد المتوارَثة في الكتابة النقدية.
(١-٤) سلطة المؤلِّف وهيمنة السياق
كانت المناهج النقدية في مراحلها الأولى منصبَّةً في الأساس على عنصر الفنان، لما
له من
أهميةٍ قُصوى في تفسير العمل الفني؛ فالسبب الرئيس لوجود العمل الفني هو صانعه؛ أي الفنان.
لذلك كان إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأكثرها
رسوخًا. وهكذا شكَّل قطب المؤلِّف نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات النقدية المتمثِّلة
في المناهج
التاريخية والنفسية والاجتماعية، والمُنبثقة أساسًا من روح الفلسفة الوضعية والفرويدية
والماركسية. يقول أندريه جرين
A. Green: «هل من المُمكِن أن نعزل الإنسان عن إبداعه؟ فمن أي
قوًى يَقتات هذا الإبداع إن لم يكن من تلك التي تعمل عند المبدع؟»
٢٠
فقد اعتبر جورج لوكاش
G. Lukacs (١٨٨٥–١٩٧١م)، على سبيل المثال، أن الأدب انعكاس للحياة
أو الواقع في السياق الاجتماعي والتاريخي،
٢١ وفي إطار هذا التصوُّر يقول طه حسين: «فلا يكون الأدب أدبًا حتى يُصوِّر حياة الناس،
وليس في الأرض أدب إلا وهو يُصوِّر حياة أصحابه (مؤلفيه)، فكل أدب في أي أمة لا بد أن
يُصوِّر
واقعها وشعورها وذوقها وثقافتها وأنماط تفكيرها، وهو في النهاية انعكاس صور الحياة في
نفوسها.»
٢٢ أما أوغسطين سانت بوف
A. S. Beuve (١٨٠٤–١٨٦٩م) فقد ذهب إلى أن «الهدف الرئيس
للنقد الفني هو أن تَكشف عن الإنسان وراء العمل. والمعيار الأساسي لتقييم العمل هو الدقة
والصدق اللذان يُحوِّل بهما الكاتب حياته الشخصية — إلى شكل أدبي.»
٢٣
وتفاعلًا مع هذا المسعى البيوجرافي — وتقاطعًا مع قطب المرجع أو السياق — تنظر هذه
الدراسات
النقدية إلى النَّص الأدبي بما هو «مرآة» تعكس السياق التاريخي العام، أو السياق اللاشعوري
الخاص الذي أفرزه، بحيث تَحتشِد في الدراسات النقدية إفادات متنوعة عن الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية، يستحيل معها النَّص إلى مجرَّد وثيقة، والناقد
إلى
مؤرِّخ وعالم اجتماع وعالم نفس … إلخ.
أما التحليل النفسي كما يَتصوَّره سيجموند فرويد
S. Freud (١٨٥٦–١٩٣٩م)، فإنه يهدف إلى تحليل
الظاهرة الأدبية من خلال علاقتها بالعُقَد النفسية للمؤلِّف؛ حيث «إن صورة الأدب التي
يُمكن أن
نجدها في الثقافة المُتداوَلة تتمركَز أساسًا، حول المؤلِّف وشخصه وتاريخه وأذواقه وأهوائه،
وما زال النقد يُردِّد، في معظم الأحوال، أن أعمال بودلير، وليدة فشل بودلير الواقعي،
وأن أعمال
فان جوغ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصِه، وهكذا يبحث عن تفسير للعمل من
جهة مَن
أنتجه، كما لو أن وراء ما يَرمز إليه النَّص، صوت شخص وحيد هو المؤلِّف الذي يبوح ﺑ «أسراره»
من
وحي لا شعوره.»
٢٤
وإذا كانت المقاربة السيكولوجية تَنطلِق في تفسيرها للعمل الأدبي من الأوضاع النفسية
للكتاب، فإن المقاربة السوسيولوجية تعمد هي الأخرى إلى المُعطى الخارجي، ولكن من منظور
يَتجاوز الفردية ليُعانق الطبقة أو الإطار الاجتماعي العام، كما هو الحال في التحليل
الماركسي
للعمل الفني.
لقد ظلَّت تلك النظرة إلى العمل الفني على أنه ابن شرعي لمؤلِّفه، وانعكاس لحياته،
وثقافته،
وعالَمه النفسي، وواقعه الاجتماعي؛ هي المسيطرة على التوجُّه العام للنقد الفني حتى مُنتصَف
القرن العشرين. لهذا كانت مؤلفات النقد الفني السائدة خلال تلك الفترة تبدأ دائمًا بمقدمة
عن
حياة الفنان وعالَمه الخاص والمشكلات التي صادفته في حياته، وكانت بالمثل تُقدِّم النَّصيحة
للمُتلقِّي بأنه إذا أراد أن يُكوِّن رأيًا سليمًا وفهمًا دقيقًا لعمل الفنان فعليه قبل
أن يشرع في
التعامل مع العمل أن يكون على دراية بتلك المُعطيات، حتى يُساعده ذلك على التماهي مع
أفكار
الفنان ومقاربة تجربته الشعورية؛ ومن ثَمَّ القدرة على التعامل مع أعماله وفهْمها. ويتوقف
نجاح
عملية التلقي الجمالي للعمل الفني على مدى استطاعة المتلقِّي بلوغ تفسير مُرضٍ للعمل
الفني
يَعتمد في المقام الأول على تلمُّس أبرز الأحداث الفاعلة في حياة الفنان، والتي يُمكن
اكتشافها
وتتبُّعها داخل عمله.
على أن تلك المقاربة التي فرضَت ذاتها على حركة النقد الفني آنذاك تعرَّضت إلى نقدٍ
كبير على
يد النزعة الشكلانية.
٢٥ فقد هاجم الشكلانيُّون الرأي القائل بأن الأدب فيض من رُوح المؤلِّف أو وثيقة
تاريخية اجتماعية أو تجلٍّ لمنظومةٍ فلسفيةٍ ما، وبهذه الطريقة كان توجُّههم النظري مُماثلًا
للحساسية الجمالية في الفن الحداثي التي نحت نحو التجريد. كان الجانب الذي وجد ما يقابله
في
الشاعرية الشكلية الروسية، هو تركيز الفن الحداثي آنذاك على التأثير من خلال الابتعاد
عن
تمثيل موضوعات الواقع والطبيعة بصورة مباشرة؛ «فقد مثَّلت المدرسة الشكلانية نقلة هائلة،
بعيدًا
عن نظرية الفن السائدة السابقة عليها، وهي تلك النظرية التي كانت قائمة على المحاكاة.»
٢٦ ثم اقتربَت الشكلانية من البِنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد رومان ياكبسون
الذي دعا إلى تحليل النُّصوص من خلال بِنيَتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها
من خلال
العلامات الدالة.
ويُؤكد رولان بارت أن عددًا من النقاد الأوروبيين قد سبَقوه إلى إعلان «موت المؤلِّف»
مثل
الأديب الفرنسي مالارميه الذي كان من أوائل المُتنبِّئين بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل
مَن كان
مالكًا لها؛ فاللغة هي التي تتكلَّم وليس المؤلِّف. وكذلك أشار بارت إلى جهود بول فاليري
التي
جاءت مكملة لآراء مالارميه؛ حيث كان فاليري دائم السخرية من المؤلِّف، ودائم التأكيد
على أن
اللجوء إلى دواخله خرافة، وأنه لا بد من التركيز على البِنية اللغوية لعمل المؤلِّف وإقصائه
عنها.
٢٧
بناءً على ما سبق، يتَّضح أن المناهج السابقة، تمشيًا مع احتفائها بسلطة المؤلِّف
وهيمنة
السياق، تقوم بتفسير العمل الأدبي وإيضاحه وَفق شروط خارجة عن فلكه، فتُفسِّر العمل الفني
بالتجارب النفسية السابقة للفنان، وتبحث عن علامات تلك التجارب داخل العمل الفني، وبالتالي
يُصبِح العمل الفني أسيرًا للماضي وردَّ فعلٍ عليه من قِبَل الفنان، فليس ثمَّة جديد
إذًا. وهي إذ تقوم
بتكريس تلك النظرة، فإنها بذلك تُلغي المعطيات الجوهرية التي تُشكِّل الإبداع الفني،
وهو ما تم
تداركه فيما بعدُ من قبل المناهج المُرتكزة على النقد النَّصي Textual Critique بتنويعاته
المتعدِّدة (اللسانية والبنيوية والأسلوبية والسيميائية …) وذلك بفضل القطيعة المنهجية
التي
أحدَثها إعلان «موت المؤلِّف».
(١-٥) سلطة النَّص ولذة القراءة
في العام ١٩٦٧م نشر رولان بارت مقالته «موت المؤلِّف»
La Mort De L’auteur ليَقلب النظرية
الأدبية المعاصرة رأسًا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثِّرة في فلسفة
الجمال والنقد الفني المعاصر. لقد قال بارت: «إن النَّص من الآن فصاعدًا على كافة مستوياته
وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يَظهر بشكلٍ يَغيب فيه المؤلِّف غيابًا كاملًا.»
٢٨ ويدعو بارت إلى أن نَحذف من قاموسنا كلمة «مؤلِّف» لنحلَّ محلها «الكاتب»
Le
Scripteur. والكاتب — وفقًا لبارت — ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا
«انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمدُّ منه كتابةً «نشاطًا لفظيًّا»
لا
يُمكن أن يَنفد أبدًا «فالحياة لا تعرف شيئًا سوى أن تُحاكي الكتب، وما الكتب ذاتها إلا
مجرد
أشياء مصنوعة من العلامات.»
٢٩
فإذا افترضنا مع فرويد أن العمل الفني ما هو إلا انعكاس لحياة الفنَّان وتجاربه النفسية
وحياته الشخصية فإنَّ هذا الافتراض يُلغي تعددية العمل الفني ويجهض إمكاناته التأويلية؛
لأنه
في تلك الحالة سيكون ثمَّة معنًى واحد للعمل الفني، وسيفقد العمل الفني قيمته وخلوده
في الزمن،
سيَفقد هالته وبريقة إذا شئنا أن نستخدم مصطلحات فالتر بنيامين؛ إذ يَكفينا في تلك الحالة
أن
نَعرف الدلالات السيكولوجية للعمل الفني وعلاقتها بحياة الفنان ليَترسَّخ لدينا في نهاية
الأمر
أننا أحطنا بالعمل الفني في مجمله، وأننا لسنا بحاجة للعودة إليه؛ فقد استنفد غرضه. وهكذا
فعل فرويد في تعامله مع دافنشي، فمَن منَّا بعد قراءة هذا التحليل يرغب في العودة إلى
دافنشي
ورؤية أعماله، فالمعنى قد تمَّ كشفه، وما كان مُحتجبًا بالنسبة إلينا أصبح الآن واضحًا
وجليًّا.
هذا هو الحال إذا اعتمدنا التحليل النفسي للفن كما قال به فرويد وأصحاب نظرية التحليل
النفسي.
لنأخذ معًا هذا المثال الكاشف: لنَفترض أن كاتبًا ما يَنتمي إلى أيديولوجيا سياسية
أو دينية
تختلف عن تلك التي يَنتمي إليها القارئ. غير أن هذا الكاتب قد قام بكتابة نصٍّ بديعٍ
من الناحية
الجمالية، فما الذي سيحدث في هذه الحالة؟ من المؤكد أن السيرة الذاتية للكاتب ستطغى على
الجانب الجمالي المُتحقِّق، وعوضًا عن الاستغراق في الحالة الجمالية التي يفرضها النَّص،
والتي هي
في الأساس هدف الفنان، سيبحث القارئ بكل حماس عمَّا يؤيد وجهة نظره وموقفه النفسي
والأيديولوجي منه، وتلك لن تكون سوى قراءة مُختزَلة للعمل تفقده مستوياته الدلالية وتحوِّله
إلى
بنية منغلقة تفتقد تعدُّدية القراءة وانفتاحها.
وقد استطاع تي إس إليوت
T. S. Eliot (١٨٨٨–١٩٤٨م) التعبير عن هذا المعنى في مقال له بعنوان
«التراث والموهبة الفردية» عندما أكد أن «الانطباعات والتجارب المهمة للإنسان قد لا يكون
لها دور في عمله، بينما الانطباعات والتجارب المُهمَّة في شِعره يمكن أن تلعب دورًا،
حتى لو كان
ضئيلًا، في شخصية الإنسان.»
٣٠ ويُمكن أن نضرب مثالًا آخَر يوضِّح هذا المعنى؛ فربما نشعر بالإعجاب تجاه مجموعة من
الكتب التي تحتوي على قيم أخلاقية نبيلة كالشجاعة والوفاء والإخلاص، لكنَّنا نَكتشف بعد
ذلك أن
مَن كتبها لا يتمتع بأي صفة منها، فهل يجوز لنا الخلط بين العالَمَيْن؟ ربما صاغ بارت
أطروحته
عن موت المؤلِّف للإجابة عن هذا السؤال تحديدًا. فالتعارُض بين العالَمَيْن لا يُمكن
أن يُقلِّل من
أحدهما، فلنا أن ننتقد مواقف الكاتب الواقعية، لكن هذا النقد لا ينبغي أن ينسحب على
مؤلفاته. حقًّا إن الحياة الخاصة للكاتب من الممكن أن تكون ذات جاذبية حكائية كبيرة جدًّا،
ويُمكن أن تفسِّر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيِّز الوجود؛ وغالبًا ما تفعل ذلك. لكنها
ليست ذات
أهمية بالنسبة إلى القيمة الأدبية لكُتبِه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة الشخصية لعالم
الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقَبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بِنية الذرة.
العمل الفني، وفقًا لبارت، مُستقلٌّ تمامًا عن مبدعه. والمؤلِّف دوره يَنتهي بكتابة
النَّص، والعبء
يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة، عبء اقتناص المعنى في تعدُّديته واختلافه،
وهذا ما
يجعل القارئ مشاركًا في عملية إنتاج النَّص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلِّف،
ولا
يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يُقرِّر معنى
النَّص من
خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلِّف، لكنه لا يتقيَّد بها، ويُمكنه أن ينتصر،
من
خلال النَّص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يُمكن أن يتغيَّر من يوم لآخر
ومن
قارئ لآخَر.
إنَّ الخطوة الإجرائية الأولى للتعامل مع النُّصوص وفقًا لبارت هي التخلُّص من الفروض
المُسبقة،
وهي خطوة تذكِّرنا بالفينومينولوجيا.
٣١ فوسيلة مقاربة العمل الفني الانطلاق من بِنيَتِه الداخلية بهدف استكشاف الأنظمة أو
العلاقات التي تُشكِّل دلالاته، من داخل النَّص إلى خارجه، وليس من خارجه إلى داخله،
عبْر
افتراضات مُسبقة تتمثَّل بالمؤلِّف والسياق والعصر والبيئة، وقد ذكَر بارت في
«النقد والحقيقة»
Critique et vérité (١٩٦٦م) «أن نمط النقد البيوجرافي الذي يُؤكِّد العلاقة بين النَّص والمؤلِّف قد
انتهى، وقد حظرت السيكولوجيات الجديدة هذا النوع من التحليل.»
٣٢ لقد حدَّد بارت مساره التحليلي من خلال التعامُل مع الداخل النَّصي على حساب الخارج
السياقي، بقصد الكشف الدلالي عن فضاءات المعنى التي لا تُظلُّها سُحُب المؤلِّف، أو تُكدِّرها
غيوم
ثقافته وبيئته؛ «إن التحليل البِنيوي لا يهدف إلى تأويل النَّص تأويلًا باطنيًّا نحو
حقيقة النَّص،
نحو بنيَتِه العميقة، نحو سِرِّه؛ وهو نتيجة لذلك يختلف أساسًا عمَّا يُسمى النقد الأدبي
التأويلي من
النوع الماركسي والفرويدي؛ فالتحليل البنيوي يختلف عن تلك الأنواع النقدية التي تهدف
إلى
بلوغ السرِّ المقدَّس للنَّص. وبالنسبة له كل جذور النَّص ظاهرة للعيان، وليس عليه أن
يكشف عن هذه
الجذور ليعرف الرئيس منها.»
٣٣
لقد وجد بارت «أن ميلاد القارئ رهين بإعلان موتِ المؤلِّف.»
٣٤ وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النُّصوص حتى لو جاوَز البِنية الدلالية الواضحة
للنَّص. ولذلك فإن وظيفة القارئ إغلاق النَّص دون ذات المؤلِّف وانفتاحه على موضوعه وفضائه
الدلالي. لقد عبَّر فلوبير
Flaubert (١٨٢١–١٨٨٠م) عن هذا قائلًا: «كل ما أريد أن أفعله هو أن
أنتج كتابًا جميلًا حول لا شيء، وغير مُترابط إلا مع نفسه وليس مع عوالم خارجية.»
٣٥
على أن الكاتب — في رأي بارت — لا بدَّ أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم
ذلك عن
طريقين: الأول؛ ألا يُقدِّم نصًّا مغلقًا محمَّلًا بالأحكام القاطعة، ذاخرًا بالنتائج
النهائية،
والتي عادةً ما تقوم على وهمٍ مبناه أن المؤلِّف يَمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة.
وأن يقوم
على العكس من ذلك بتقديم نصٍّ مفتوحٍ. ومعيار انفتاح النَّص عند بارت هو الغموض والالتباس
والإيحاء بالمعنى دون تحديده؛ لهذا يتحدث بارت عن عدم القابلية للقراءة
illisibilité، ولا
يعني هذا المصطلح عنده استحالة القراءة، بل هو وصفٌ للنصوص التي لا تقبل قراءة واحدة؛
أي
النُّصوص اللامُنغلِقة «إنني لأتصور أن القصة المقروءة هي تلك التي نُعلن بعد قراءتنا
لها أنها
لا تُقرأ.»
٣٦ والطريق الثاني، ألا يتدخل الكاتب في عملية القراءة بأي صورة من الصور كأن يؤيِّد
وجهة نظرٍ على أخرى أو معنًى على معنًى آخَر، أو يقول «لست أقصد هذا بالضبط» أو «لقد
أسأتم فهم
مقصدي» … إلخ. هذا التدخُّل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعدُّدي. يقول
أمبرطو إيكو
U. Eco (١٩٣٢–٢٠١٦م) مُعبِّرًا بوضوح عن هذا المعنى: «… ففي نصٍّ لكانط لا يُمكن القول إنه
استخدم كلمةً ما ليُوحي بفكرةٍ ما؛ فهو يفرض فكرة واحدة وفكرة واحدة لا غير. أما بخصوص
النَّص
الأدبي، كنصوص بروست على سبيل المثال، فإننا إذا بحثنا عن الهدف وراء استخدام النَّص
لكلمةٍ
ما، وتوصَّلنا لاستنتاجٍ محدَّد، ثم سألنا الأديب عن صحة استنتاجنا هذا، لكان جوابه،
إذا ما كان
أمينًا: ربما، أنا لا أدري، قد يكون الأمر صحيحًا أو خاطئًا لكنَّ التأويلين صحيحان …
إن غاية كل
فيلسوف الوصول إلى صياغات شبه رياضية. وبعكس ذلك إن حُلْم الأديب هو أن يُحيط الكلمات
بهالة من
الغموض، ليس ذلك جريًا وراء الغموض، بل لأنَّ دوره يتمثَّل في تصوير كيف أن كل عاطفة
وكل حالة هي
مُتناقضة وغامضة. فإذا ما قرأنا الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني وجدنا أن الله
خَيِّر
والشيطان شرِّير وانتهى الأمر. لكن لنقرأ الفردوس المفقود لملتون ولنطرح السؤال: هل الشيطان
شرِّير؟ ليس هذا أكيدًا، يجب التعمُّق في المسألة. وإذا ما طلبنا من ملتون مزيدًا من
التوضيح
سيُجيبنا: لتقرءوا الخلاصة اللاهوتية.»
٣٧
يفرِّق إيكو هنا بين أسلوبين للكتابة: الأسلوب الفلسفي الذي يتَّخذ من الصياغات الرياضية
هدفًا
له؛ أسلوب ينشد الوضوح والتميُّز، يخاطب العقل، يسعى لتحديد المعنى وحصرُه في أضيق حدود
ممكنة.
وهذا الأسلوب هو المتَّبع في الكتابة الفلسفية على مُختلف العصور، فهو ذاته الأسلوب الذي
عبَّر
به ديكارت وكانط وهيجل ومِن قبلهم أفلاطون وأرسطو. هناك بالطبع استثناءات لبعض الفلاسفة
الذين حاوَلوا التعبير بأسلوب مختلف يقع على التخوم بين الأسلوب الفلسفي والأدبي، غير
أن هذه
المحاوَلات ليست سوى محاولات فردية وتظلُّ الغلبة في النهاية لأسلوب التعبير الصارم الذي
ينشد
الدقة ويَهدف إلى الوضوح والتميُّز. أما الأسلوب الثاني فهو الأسلوب الفني الذي يعمد
الالتباس
والغموض، ولا يُقدِّم المعاني الجاهزة المباشرة، بل يَستفزُّ مَلَكة التأويل لدى المُتلقِّي
ويشحذ
قدراته النقدية. جاء بارت إذًا ليقول إنَّ النَّص أُنتج في مكان وزمان مجردَيْن، وإنَّ
الفنان ما إن
يضع فرشاته أو قلمه ويَنتهي من عمله، فإن مهمَّته قد انتهت. وبالتالي لن يُفيدني كثيرًا
أن أقرأ
اسم المؤلِّف على الكتاب. يَنتهي دور المؤلِّف ويكون من باب الخيانة أن يقوم بترجيحِ
تفسيرٍ على
تفسيرٍ آخر.
والعمل الفني ما إن يَتحرَّر من منتِجه يُعتبَر بِنيةً مستقلةً عنه لها عالَمها الخاص.
ويُعبِّر هارولد
بنتر عن هذا المعنى قائلًا: «أحيانًا يقول لي المُخرج أثناء جلسات التحضير للعمل: «لماذا
تقول
هذه المرأة تلك العبارة؟» فأجيبه: «انتظر لحظة حتى أرجع إلى النَّص.» وهكذا أعود إلى
النَّص
وربما أقول «إنها تقول ذلك لأن ذلك الرجل قال تلك العبارة قبل صفحتَين» أو أقول «لأنها
تُعبِّر
عما تشعر به، أو لأنها تشعر بشيء آخَر ولذلك تقول هذه العبارة، أو أقول لا أعرف السبب
على
الإطلاق ولكن علينا أن نعرف بطريقةٍ ما».»
٣٨ ثمَّة صراع دائم بين المؤلِّف ونصِّه، وهذا الصراع يَحسمه النَّص في نهاية الأمر «فإذا
وضع الكاتب مخططًا هندسيًّا لشخصياته، وحافظ على التزامه به بصرامة، ولم يُتِح لها في
أي وقتٍ أن
تفسد خططه، ونجح في السيطرة التامَّة عليها، فإنه يكون أيضًا قد قتلها، أو بالأحرى أنهى
ميلادها، فأصبحَت بين يدَيه مسرحية ميتة.»
٣٩ فهل على القارئ إذًا أن يتَّبع المنتصر أم المهزوم؟ النَّص أم المؤلِّف؟
كان بارت عاشقًا للنَّص كتَب «لذة النَّص» و«خطاب عاشق»، وكان عليه أن يقتل غريمه
(المؤلِّف) حتى يصل
إلى مُبتغاه (النَّص). وقد ميَّز بارت بين «اللذة»
Plaisir و«المتعة»
Jouissance ويقترح أن نكافح
لتحقيق الأولى «المتعة معيارها الزوال أما اللذَّة فهي إلى الدوام أقرب.»
٤٠ وبحسب هويسنز فإن بارَت هنا يعيد تأسيس التقسيمات الحداثية والبرجوازية الأكثر
سخافةً «فهناك المتع الأدنى لعامة الجمهور؛ أي ثقافة الجماهير، وهناك لذة أخرى أعلى للنَّص،
لذة البهجة»، وهي عودة أخرى إلى تراتبية الحداثة (الأعلى/الأدنى).
٤١
لقد بدأ بارت بمفهومَيْن أساسَيْن هما اللغة والأسلوب؛ فاللغة أُفُق اجتماعي، وعلى
الكاتب أن يظلَّ
ضمن حدودها لو أراد التواصُل مع الآخرين. أما الأسلوب فهو البُعد الرئيس المُميِّز لكل
كاتب
عظيم، إنه شيء شديد الخصوصية، وحتى لو كان محكومًا بدوافع فطرية، فليس له طابع اجتماعي.
كما
أنه ذو طابع مجرَّد لا يختلط برغبات الشخص المشكلة تاريخيًّا. ويلعب هذان المِحوران دورًا
أساسيًّا
عند بارت؛ حيث يُضفي عليهما قيمًا محدَّدة بالحرية والالتزام.
٤٢
(١-٦) العمل الأدبي المفتوح أو الفوضى الخلَّاقة للعلامات
يصف بارت في الدرجة صفر للكتابة
Le Degré zéro de l’écriture (١٩٧٢م) الكتابةَ بأنها «فوضى
تنثال عبْر الكلمات وتمنحها هذه الحركة التي لا تظل على حالٍ أبدًا … فهي، أي الكتابة،
تتطوَّر
ولا تسير أبدًا بطريقة خطية، كما لا يُمكن توقُّعُ ما سينتج عنها.»
٤٣ فهل هذه صيغة أُخرى لمفهوم الفوضى الخلَّاقة الذي انتقل من المجال العلمي إلى
المجال الثقافي ومنه إلى المجال السياسي؟ ليس ثمَّة إجابة بطبيعة الحال عن هذا السؤال،
لكن من
المؤكَّد أن العديد من المفاهيم والمقولات التي يتمُّ ترديدها في المجال العام لها أصولها
النظرية والعلمية الواضحة.
٤٤
ما هو تصوُّر بارت لطبيعة العمل الأدبي؟ وهل كان يَهدف من تحليله الإجرائي للنصوص
القيامَ
بجهد تأويلي يهدف إلى ترسيخ أحد مُستويات المعنى داخل النَّص؟ كان بارت دائم الإشارة
في
مؤلفاته إلى أن تحليله لا يهدف أبدًا لإثبات المعنى «الواحد والوحيد» للنص، بل هو في
الأصل
لا يُحاول إثبات «أحد» معاني النَّص؛ إنه يختلف أساسًا عن التحليلات اللغوية الأخرى التي
تروم
التحديد والمعنى، إنه تحليل يهدف إلى رسم «الموقع الهندسي»؛ أي موقع المعاني، موقع ممكنات
النَّص. فكما أن لغةً من اللغات هي ممكن الأقوال (اللغة هي الموقع المُمكِن لعدد لا نهائي
من
الأقوال)، فإن هدف المُحلِّل هو مواقع إمكان المعاني، أو تعدُّد المعنى أو المعنى باعتباره
مُتعدِّدًا «ليس ثمة اختيار هنا أو محاولة الظهور بمظهر الليبرالي في التعامل مع النُّصوص؛
فالمعنى بالنسبة لي ليس إمكانًا، وليس أحد المُمكنات، إنه كينونة الممكن ذاتها، كينونة
التعدُّد.»
٤٥
إنَّ العمل على معنًى أو معانٍ للنَّص، وفقًا لبارت، لا بد أن ينطلق من قاعدة فينومينولوجية؛
فلا
توجد آلة لقراءة المعنى، وليس ثمة خطوات منهجية تُفضي إلى نتيجة واحدة. لهذا رفض بارت
وصف
مقاربته للنَّص بالمنهج، وفضَّل استخدام كلمة إجراءات لقراءة النَّص «فالتحليل البِنيوي
للسَّرد ليس
فرعًا من فروع المعرفة، كالبيولوجيا وعلم الاجتماع؛ فهو لا يمتلك قواعد صارمة تشكِّل
نظامًا ما.
كما أن قراءة باحثٍ ما لا تشكِّل إلزامًا لباحثٍ آخَر، وليس بإمكان قارئ أن يتحدث باسم
قارئٍ آخَر.
ومن جهةٍ أخرى يظل البحث الفردي على مستوى كل باحث في حالة من الصيرورة؛ إذ إن لكل باحث
تاريخه الخاص، وليس ثمَّة وصفة جاهزة للتعامل مع النَّص.»
٤٦
ما هو المعنى إذًا داخل النَّص؟ يقول بارت: «إننا لا نبحث عن مدلولاتٍ نَعتبرها نافذةً،
أي
مدلولات معجمية، ومعانٍ حسب المفهوم الشائع للكلمة … إنَّ المعنى ليس مدلولًا تامًّا،
كما قد
يكون في المعجم، إنه نظامٌ من الترابط المتبادَل، نظام من الاقتباس اللانهائي.»
٤٧
أحد أهم الأفكار التي قدَّمها بارت تأكيده على أن النَّص الأدبي، من حيث كينونته، متعدد
المعاني، بمعنى أنه يخضع لشتَّى التأويلات المتباينة. ويُفسِّر بارت ذلك بأن المعنى الخاص
للنَّص
يكون فارغًا «المعنى الثانوي للأدب غير ثابت، فارغ، بغض النظر عن أن النَّص يعمل كدالٍّ
لهذا
المعنى الفارغ.»
٤٨ وهذا هو المقصود بالدرجة صفر؛ أي درجة اللامعنى، درجة كل الاحتمالات المُمكنة.
فالدوال مُتحرِّرة من كل ما يقيدها؛ ولذا فهي لا تَعني شيئًا، ومن الممكن أن تعني كل
شيء.
لا يهدف علم الأدب إلى «تعليمنا ما هو المعنى الذي ينبغي أن نطرحه في العمل، لا يتعيَّن
على
علم الأدب أن يطرح أو يكشف أي معنًى كان، وإنما مهمَّته وصف المنطق الذي ولَّد الدلالة.»
٤٩ المهمة الأولى يعمل عليها النقد الأدبي، وهو ليس علمًا وإنما ممارسة عملية، لكن
النقد الأدبي يظل دائمًا وحيد الجانب؛ لأنه ينتقي من بين عدد كبير من الدلالات المُمكنة
معنًى
واحدًا. عندما يكون معنى أي نتاج «فارغًا» دائمًا، فمن الجلي أن القارئ يمنح تفسيره للعمل،
مستخدمًا في ذلك منظومة محددةً من المفاهيم التي تُشكِّل في كليتها شفرةً ما، على سبيل
المثال،
يمكننا أن نُفسِّر هذا النَّص حسب المشروع الثقافي/التاريخي؛ أي نضعه في عداد مؤلَّفات
العهود
السابقة؛ في هذه الحالة فإننا نستخدم إحدى الشفرات «الثقافية» الممكنة. لكن، يمكننا أن
نُقارب هذا النَّص بشكلٍ آخَر، كأن نستخدم شفرة التحليل النفسي، ويُمكننا استخدام شفرات
أخرى
كثيرة، وعندئذٍ نحصل على تفسيرات مُتباينة عديدة. لكن، ما هو التفسير الأكثر صحة ودقة؟
وفقًا
لبارت فإن مثل التساؤل بلا معنًى؛ ذلك لأن النَّص المتعدِّد الدلالات، طبقًا لتعريفه،
يمكن أن
يتقبَّل جميع هذه التفسيرات جيدًا وبالتساوي «فأنا لستُ ذاتًا بريئة تتواجَد قبل النَّص
وتتعامل
معه كشيء يمكن تنقيته، أو كحيِّز شاغر ينبغي ملؤه. أنا الذي ألِجُ النَّص الذي يشكِّل
عددًا من
النُّصوص الأخرى ذات الشفرات التي لا تنتهي … النَّص الذي تضيع بدايته …»
٥٠
تعدُّدية المعاني لا تُشكِّل — حسب رأي بارت — الجوهر الأساسي للأدب فحسب، وإنما
هي المعيار
الوحيد للقيمة الجمالية للعمل. فالأدب العظيم هو ذلك الذي يصارع وبدون هوادة إغواء المعنى
الواحد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن انفتاح العمل يعني أن القراءة ستتحوَّل إلى عمل إبداعي،
ليُصبح
القارئ مُبدعًا مشاركًا في النَّص؛ بمعنى أنه يشارك في إنجازِ ما تركه الكاتب «مفتوحًا».
وهذه
المشاركة تحقِّق ما يمكن أن نطلق عليه «اللذة الجمالية». فتعدُّد المعاني يهب اللذة للقارئ،
والعكس أيضًا، فإن تأطير النَّص ليس سوى تقييد لتلك اللذة «فلذة القارئ تبدأ عندما يكون
منتِجًا؛
أي عندما يسمح له النَّص أن يقوم بتشكيل قدراته الخاصة.»
٥١
واستثمارًا لهذا الطرح الذي قدَّمه بارت، طوَّر التفكيكيُّون، وعلى رأسهم جاك دريدا،
مبدأَ انتفاء
قصدية المؤلِّف، إلى فوضى التفسير المتمرِّد على فضاء التأويل «فقصدُ المؤلِّف غيرُ موجود
في النَّص،
والنَّص نفسه لا وجود له، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلِّف وغياب
النَّص تصبح
قراءة القارئ هي الحضور الوحيد، لا يوجد نصٌّ مغلَق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد
قراء
النَّص الواحد، ومن ثَمَّ تصبح كل قراءةٍ نصًّا جديدًا مبدعًا.»
٥٢ وهكذا انتقل نقَّاد التفكيك من رفض تصوُّر بارت لفكرة اكتمال المعنى، إلى قدرة
القارئ على تحقيق المعنى الذي يراه في رؤًى لا نهائية عند كل قراءة جديدة للنصوص.
في أعماله المتأخِّرة، مثل
S/Z ومقالات نقدية جديدة
Nouveaux essais critiques، يَتجاوز بارت
مفهوم البِنية، الذي انطلق منه في مؤلَّفاته المبكرة، ليَقترب أكثر من التفكيك. وهو يَعترف
صراحة
أن أعمال جاك دريدا هي التطبيق العميق لتصوُّره عن تعدُّدية المعنى وارتحاله المستمر.
٥٣ يتحوَّل بارت من البنية إلى التفكيك. فإقراره بأن النَّص الأدبي متعدِّد المعاني في
كينونته، يترتَّب عليه استحالة أن يَمتلك النَّص بنيةً؛ فهو لا يمكن أن يكون شيئًا آخَر
سوى كونه
غير مُكتمِل، كما لن يتحقَّق اكتماله مستقبلًا؛ «فكل عنصر يَكتسي دلالة متوالية لا تتوقف،
ولا يعود
بنا في المحطة الأخيرة إلى أية بنية.»
٥٤ وعليه، فإن بارت يَهدم البنية، لدى تحليله لقصة «ساراسين»
Sarrasine،
٥٥ ويحوِّلها إلى خليط غير متشكل من الوحدات النَّصية المصغرة.
لكن هل يُمكن بالفعل فصل العمل الأدبي، والفني على وجه العموم، عن المحيط الاجتماعي
والثقافي السائد في المجتمع والتعامُل معه على مستوى الألفاظ والدلالات اللغوية فقط؟
وما
قيمة البناء اللغوي إذا كان لا يُحيل إلا إلى ذاته؟ يبدو أن هذا ما لم يكن بارت يَقصده.
فقد
كان هدفُ بارت الرئيس ألا يتمَّ التعامل مع النَّص الأدبي بفروضٍ مسبقةٍ عن الكاتب والمؤلِّف
وعدم
اتخاذ مواقف نفسية من المؤلِّف قبل الدخول إلى عالَمه. إنَّ الفرضية المسبقة تعني أن
القارئ لديه
فكرةٌ ما يحاول إثباتها والتحقُّق منها من خلال تعامله مع النَّص الأدبي، هي أشبه بالنتيجة
التي
يُحاول أن يستقي مقدماتها من داخل العمل، وهذا يُفضي في النهاية إلى قراءةٍ أحاديةٍ للنَّص
تزعم
امتلاك حقيقته واكتشاف غاياته، وهذا الفهْم نابع من تصوُّرٍ مؤداه أن ثمَّة حقيقة كامنة
وراء
النَّص، وتلك الحقيقة مرتبطة، في الأغلب، بحياة المؤلِّف أو الإطار الثقافي الذي أبدع
فيه
مؤلَّفه. هذا الفهْم للنَّص الأدبي وطريقة التعامل معه هو ما جاء بارت ليُناهضه من خلال
مقولته عن
موت المؤلِّف. فالنَّص بِنية مستقلة بذاته، ودلالته ليست مسبقة بل هي لاحقة، وبالتالي
فهو لا
يشير إلى الماضي بل إلى المستقبل. وبمجرد أن ينتج النَّص فإنه يترك مداره الخاص وسياقه
المرتبط بنشأته، حتى يدخل في مدارٍ آخَر وسياق مختلف تمامًا. هذا السياق الجديد هو سياق
النُّصوص
الأخرى السابقة عليه والمُتزامنة معه، وهذا السياق هو الذي لا بد أن يتعامل معه القارئ
دون أن
يُحاول نزعه منه. ولا يعني ذلك أن الوقوف عند حدود الألفاظ والدوال هو المُبتغى النهائي
للقارئ؛ إذ إن أطروحة بارت تقطع الطريق أمام الفروض المُسبقة التي يدخل بها القارئ على
النَّص
لكنها لا تلغي الدلالات المختلفة للعمل الأدبي؛ فالنَّص قد يَكشف عن أبعادٍ مختلفة مرتبطة
بالواقع والمجتمع، لكن هذه الأبعاد لا بدَّ من بنائها واكتشافها داخل النَّص وليس بصورة
مُسبقة أو
على شكل افتراضات سابقة يسعى القارئ لإثباتها عبْر قراءته.
إحدى النتائج المُهمَّة المترتِّبة على هذا الأمر أن العمل الأدبي سيتحوَّل إلى عملٍ
مفتوح على
قراءات لا نهائية وغير محدودة؛ إذ ليس ثمة حقيقة ثابتة ومُسبقة يُحيل إليها العمل، وبالتالي
يفقد العمل دلالته ومُستوياته التأويلية، بل إنَّ العمل وقد تحرَّر من مداره الخاص وظروف
نشأته
لينتقل إلى مدارٍ آخَر هو مدار الافتراضي والمُمكن والمتخيل، وبالتالي ساحة للتأويلات
والقراءات اللامحدودة.
(١-٧) التناص والعود الأبدي للنصوص
هل العمل الفني نتاج عبقرية الفنان ومَلَكته الخلَّاقة؟ كما كان لأطروحة موت المؤلِّف
صداها
الواسع على مفهوم التلقِّي الجمالي كان لها بالمثل صداها على مفهوم الإبداع. وعلى الرغم
من أن
بارت لم يكن يَعنيه مقاربة هذه القضية بطريقة مباشرة، إلا أن شبكة الاصطلاحات التي صاغها
يُمكن أن تقدِّم لنا تفسيرًا لآلية إنتاج العمل الفني وفقًا لتصوُّره.
إن تعدُّدية معاني النَّص وحيويتها تفترض فهْمًا خاصًّا للعملية الإبداعية. ووَفقًا
لرأي بارت، فإن
من الخطأ أن نظنَّ أن الكاتب ينطلق من أية أفكار فلسفية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية،
يسعى من خلال وسائل الفن أن يُجسِّدها في نتاجه. فإذا تنازعَتِ الكاتب أية أفكار تمهيدية
أولية،
سيَغدو العمل ذا بُعد واحد فقط. ولما كان بارت يَعتبر العمل الفني مُتعدِّد المعاني،
فإنه مُضطر،
انطلاقًا من منطقه الخاص هذا، أن يُسلِّم بأن الكاتب يُبدع بصورة متحرِّرة وبدون قصد
تمهيدي. وهذا
ما كان يَعنيه بارت بانتفاء قصدية المؤلِّف؛ فالمؤلِّف، كما القارئ، لا يَمتلك افتراضات
مسبقة قبل
الشروع في عمله. تتكوَّن العملية الإبداعية — حسب بارت — من فعلين أساسيين: تفريد العالم
إلى
جزئيات
Dàcoupage،
Agencement ودمج هذه الجزئيات، هذان الفعلان هما المحدِّدان للعملية
الإبداعية بشكل عام، وهما ذاتهما المُحدِّدان لعملية القراءة ذاتها.
٥٦
لقد ارتبطت أطروحة «موت المؤلِّف» عند بارت بفكرةٍ أخرى أشار إليها ضمنًا في مؤلَّفاته
عندما
وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النَّص «ما هو إلا تعددية لنُظُمه،
وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.»
٥٧ وهو الوصف الذي أعطَتْه جوليا كريستيفا
J. Kristeva (١٩٤١–…م) مصطلح
«التناص»
Intertextualité، وأقرَّه بارت في حينه.
٥٨ ويعني التناصُّ أن أي نصٍّ في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص
أخرى سبقته؛ «فالكاتب لا يستطيع إلا أن يُحاكي حركةً سابقةً له على الدوام، دون أن تكون
هذه
الحركة في الأساس أصلية.»
٥٩ ويُوضِّح شلوفسكي هذا بقوله: «كلما سلَّطت الضوء على حِقبةٍ ما، ازددتَ اقتناعًا بأن
الصور التي تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون
تغيير تقريبًا.»
٦٠ فلا يوجد نصٌّ أصلي، إنما النَّص هو تلاقٍ بين النُّصوص، وكل نصٍّ هو امتصاص وتحويل
لنصٍّ
آخَر. وفي ضوء ذلك، يكون هدف التفكيك — بحسب دريدا — البحثَ عن نصٍّ داخل نصٍّ آخَر،
وإحالة نصٍّ على
نصٍّ، وبناء نصٍّ من نصٍّ آخَر … إلخ.
إن التناص نتيجة طبيعية أيضًا لموت المؤلِّف؛ فالنُّصوص هي التي تُفسِّر بعضها، ومن
ثَمَّ وجب إبعاد
العوامل الخارجية عن النَّص؛ فالسياق الخارجي لا يُمكن أن يُحدِّد علاقات النَّص ودلالته؛
لأن النَّص
قد تجاوز هذا الخارجي وتحرَّر عنه واستقلَّ عنه بوجود جديد، ينبني عليه عالم جديد.
٦١
والتناصُّ كآلية لعمل النُّصوص تقضي تمامًا على مفهوم التمثيل Representation الذي كان سائدًا
في الفكر الغربي؛ والذي كان يُحدِّد علاقة الفنان بعالَمه بوصفها تمثيلًا يُعاد إنتاجه
في العمل
الفني. كما يُجهِز على نظرية المحاكاة؛ التي تعني أن الفنان يُحاكي تجاربه السابقة في
الحياة
أو واقعه الاجتماعي والسياسي. فالعمل الفني، وفقًا لمفهوم التناص، ما هو إلا خليط ومزج
لأعمال سابقة وثقافات مختلفة، وعلى المتلقِّي أن يكتشف تلك الأعمال، ليبدع فهْمه الخاص.
لقد كان بارت دائم التأكيد في مؤلَّفاته على أن تحليله للعمل الأدبي يهدف إلى تفجير
الوحدة
والانغلاق داخل النَّص للكشف عن الطريقة التي بها يعمل، فنسيج النَّص يتشكَّل عبْر تضافر
عدد من
الأنساق وتشابُكها معًا. لكن ما هو النسق؟
إنه مجموع الإحالات والاقتباسات والبناء الرمزي الذي يَمنح النَّص مظهر الانسجام
والاتساق،
إنه منطلق لبنيات أخرى ونصوص مُغايرة؛ أي أن النَّص ليس كِيانًا مُتفردًا مبتكرًا لا
نظير له، حسب
المفهوم الرومانسي التقليدي للإبداع، بل إنه يَتشكَّل مما يُسميه بارت «ما سلف»؛ أي ما
سلف
قراءته وكتابته ومُشاهدته؛ أي النَّص المجتمعي والثقافي.
٦٢ إنَّ التناص هنا يتَّسع ليشمل كينونة النَّص ذاته، إنه ماهيته، إذا كان ثمة ما يُمكن
أن يُطلق عليه ماهية في فكر بارت.
لم يكن هدف بارت إذًا البحث عن بنية النَّص ولا عن معناه النهائي، أو المدلول الأخير
(فهذا
شأن القراءات التأويلية)، بل كان بحثُه منصبًّا على محاولة اكتشاف تلك الحركة الدائبة
التي
تُكوِّن النَّص وتَفتحه على تفاعل مستمر مع النُّصوص الأخرى ومع الأنساق الثقافية. وإحدى
مهام
الناقد اكتشاف هذه المسارات داخل العمل، وعليه أن يَحذر في تلك العملية من الوقوع في
فخ
التحديد؛ أي محاولة اكتشاف المُحددات الخارجية في التحليل النَّصي واختزاله في مسارات
يُنظر
إليها بوصفها «مُحددات للهوية» كما هو الحال في المنهج التاريخي أو المناهج الاجتماعية
والنفسانية التي تَجعل من النَّص فضاءً لاكتشاف حقيقة تتجاوَزه أو حتى تتجلَّى فيه.
إنَّ التحليل النَّصي يُقدِّم المادة الخام للمناهج النقدية المختلفة. وبالتالي فعملية
التحليل
تُنتج نصًّا جديدًا، هو النَّص الواصف للنَّص موضوع التحليل، وهذا الأخير ما هو إلا نصٌّ
تأليفي
لنصوص أخرى هي بدورها تجميعٌ لأخرى … إلخ. إنها تلك الحركة الدائرية التي لا تنتهي، أو
لكأنها التطبيق العملي لمفهوم العود الأبدي الذي أعاد نيتشه إحياءه في القرن التاسع عشر
«فالمعنى يعود كاختلاف، كما يقول نيتشه، وليس كتطابُق وهُوية.»
٦٣ والكتابة، بصفة عامة، عملية مقطعية تنبذ الاستمرار والتواصُل، وتقضي على الزمان
كتواصل، وتهاب الامتلاء والتحقُّق. كتابة تقحم الزمان داخل النَّص ذاته. لكنه ليس زمان
الميتافيزيقا، ليس زمان الحاضر المُتحرِّك، بل زمان العود الأبدي، إنها كتابة بدون ذات،
لكنها
كتابة غنية «بالصمت الذي يتخلَّل خطابها، والنقص الذي يُعوِز مفاهيمها، والبياض الذي
يتسلَّل إلى
سواد كتابتِها الدقيقة.»
٦٤
لكن كيف للناقد بعد ذلك أن يُقدِّم نصًّا موازيًا للنَّص موضوع القراءة؟ يردُّ بارت
على هذا التساؤل
قائلًا: «إنَّ تلك الذات التي تقترب من النَّص هي نفسها مُشكلة سلفًا من نصوص أخرى مُتعدِّدة،
وأنساق
لا نهائية. والقراءة هنا ليست فعلًا عرضيًّا على كتابة تمنحها كل امتيازات الإبداع والأولوية،
بل هي في الأساس نصٌّ موازٍ لا يقلُّ من حيث الدرجة عن النَّص المقروء.»
٦٥ فعملية القراءة لا تَهدف إلى مجرَّد تقديم تفسير للعمل أو بحث عن الآليات التي
تعمل علاماته وفقًا لها، بل تقديم نصٍّ موازٍ للنَّص المقروء يُصبح بدوره هو نصًّا مقروءًا.
يتساءل بارت:
«ألم يُصادِفكم قط، وأنتم تقرءون كتابًا، أن توقَّفتُم مرارًا عن القراءة، ليس لأنكم
لا تهتمون بما
تقرءون، ولكن بسبب دفق الأفكار، وشدة الإثارة، وكثرة التداعيات؟ باختصار، ألم يُصادف
أن
قرأتم وأنتم للرأس رافعون؟» ليردَّ: «إن هذه القراءة بالذات التي تتَّصف في وقت واحد
بقلة
الاحترام لأنها تقطع النَّص، وبالافتتان لأنها تعود إليه وتتغذَّى منه، هي التي أحاول
أن
أكتبها. ولكي أكتبها، ولكي تُصبح قراءتي بدورها موضوعًا لقراءة جديدة (مثل
S/Z)
٦٦ كان عليَّ أن أشرع بتنسيق كلِّ هذه اللحظات التي يرفع المرء فيها رأسه.»
٦٧
كان آلان روب جرييه
A. Robbe-Grillet (١٩٢٢–٢٠٠٨م) من الكتَّاب الذين يعود إليهم بارت في
مواضع عديدة من مؤلَّفاته. وكانت أعماله موضعًا لإعجاب بارت الذي وصَفها بأنها تمثيل
«معكوس»
للكتابة الشعرية؛ فهي «لا تُحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطحها تتأمَّلها بحيادية.»
٦٨ ومن خلال مُناقَشات بارت لروب جرييه، استخلص بارت أمرين مُهمَّين؛ فهناك أولًا
الزعم بأن الكلمات، وبالتالي الأعمال، لا تَكتسِب المعنى إلا بالارتباط بالتقاليد الخطابية
وبعادات القراءة، وهو ما يتوجَّب على المرء دراسته إن كان يسعى إلى دراسة البِنية الأدبية.
وبالتالي يَكتسِب القارئ أهميته بوصفه وعاءً لهذه التقاليد، وعاملًا لتطبيقها. يقول بارت
إن
القارئ هو «الأنا التي تُقارب النَّص، وهي في ذاتها مجموعة نصوص أخرى، وشفرات لا نهاية
لها أو
مفقودة (أصلها مفقود) … إن الذاتية متصوَّرة في العموم على أنها تشمل وفرةً من النُّصوص،
والحقيقة أن هذه الوفرة المُصطنعة ليست سوى صحوة لجميع الشفرات التي تكوِّنني.»
٦٩ أما ثانيًا فتَتمثَّل في أن الأدب الأكثر قيمة هو ذلك الذي يُمرِّس القارئ بعنف،
ويتحدَّاه ويجتذب انتباهه، بهدف تنظيم نشاط القراءة نفسه «الحكم على العمل الأدبي، إذا
جاز
ذلك، يكون من خلال قدرته على تحويل القارئ من مُستهلِك إلى منتج للنَّص.»
٧٠ لقد اعتمَد بارت على ظهور القارئ كشخصية مِحورية في النقد، وإذا كان — كما يقول
بارت — ميلاد القارئ لا يتحقَّق إلا بموت المؤلِّف، والذي لم يَعُد هو مصدر المعنى، فإنه
على
استعداد لدفع مثل هذا الثمن، ثمن قتل المؤلِّف.
٧١
أخيرًا، فإنَّ إحدى النتائج الهامة التي يُمكن استخلاصها من موقف بارت، خاصة في أعماله
المتأخِّرة، بخصوص النَّص ودور المؤلِّف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البِنيوية
التقليدية أن الحقيقة قائمة وراء نصٍّ ما أو داخله، فإن بنيوية بارت المتأخرة، إذا جاز
وصفها
بالبِنيوية، تبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنَّص في إنتاج الدلالة العامة لأي نصٍّ؛
وهكذا
أصبحت القراءة إنجازًا مبدعًا لا يقلُّ أهمية عن عملية الكتابة ذاتها.
(١-٨) موت المؤلِّف وجماليات التلقي
كان لأطروحة بارت تأثير كبير على الجماليات بوجه عام وعلى حركة النقد الأدبي على وجه
التحديد، خاصة فيما أصبح معروفًا الآن بجماليات التلقي. ولعلَّ أهم النتائج التي ترتَّبت
على
إعلان بارت موت المؤلِّف تمثَّلت في تحرير الفكر النقدي من سلطة الذات ومرجعيتها، وجعل
العمل
الفني هو المرجعية الوحيدة للناقد، هو المتحدث الأول والأخير.
من بين النتائج العديدة التي نتَجت عن إعلان بارت موت المؤلِّف، والتي كان لها تأثير
كبير
على نظرية التلقِّي في نهايات القرن العشرين:
- (١)
لم يَعُد العمل الفني موضعًا لتسجيل الحدث أو مجالًا للتعبير أو انعكاسًا وجدانيًّا.
لقد أصبح
التعبير الجمالي حالة من حالات التمثيل الخالص للمُتلقي. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة
الكلاسيكية قد ذهبت بلا رجعة؛ إذ لم يَعُد الفن مرآةً تعكس ما هو موجود في الحياة سلفًا،
كما لم
يَعُد الفن انعكاسًا لحياة الفنان وتجاربه. لقد غدا العمل الفني مُتحرِّرًا من كل مرجعية
سوى
مرجعية ذاته. يموت المؤلِّف ويتحوَّل التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتم الاحتفال
بمولد
القارئ.
- (٢)
تَحرَّر العمل الفني من سيطرة التفسير الأحادي الذي كان مُسيطرًا على الاتجاهات النقدية
الكلاسيكية؛ فالعمل الفني ليس إطارًا أو شكلًا يَملؤه الفنان بمعنًى ثابت وسرمدي، بل
بِنية
دلالية افتراضية، مُحقَّقة من طرف المتلقِّين المتعاقبين عليه. لقد صار العمل الفني ميدانًا
للعلامات التي تَتفجَّر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى المعاني اللانهائية التي
تتحرَّك
مُنتشرة فوق العمل مخترقة كل الحواجز؛ وهذا ما كان يَعنيه بارت بالانتشار Dissemination.
- (٣)
ليس المعنى هو ذلك المعنى الجاهز المُختبئ داخل العمل الفني، بل هو ذلك الذي ينشأ نتيجة
للتفاعل بين العمل والمُتلقِّي؛ أي بوصفه عملًا يُمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس
موضوعًا يمكن
تحديده والتقيُّد به. وبناءً على ذلك، فإن قراءة العمل الفني لا تُمثِّل إعادةً وتكرارًا
للقراءات
السابقة، بل هي تَحتضنها وتتجاوَزها إلى قراءة إبداعية مُغايرة وبديلة.
- (٤)
لا تعيش الأعمال الفنية مُنعزلة عن بعضها البعض، بل لها عالَمها الافتراضي الذي تتقاطع
بداخله وتتداخَل في علاقات منتجة. إن عالم الفن هو عالم التكرار والاختلاف، وميدان للعود
الأبدي، عودة المُختلف. فالحبكات التي يتحرَّك فيها الفن هي في النهاية محدودة، وكذا
موضوعاته،
لكن حركة التقاطُعات التي تحدث بين الأعمال الفنية هي التي تنتج أعمالًا لا نهائية.
- (٥)
لقد تمَّ استثمار النتائج السابقة في صياغة نظرية أكثر تطوُّرًا على يد أمبرطو إيكو في
نظريته عن العلامات وتطبيقاته على فني الأدب والتصوير، ومن بعده مدرسة كونستانس Konstanz
على يد رائديها هانز روبير ياوس H. Robert Jauss (١٩٢١–١٩٩٧م)، وفولفجانج إيزر W. Izer (١٩٢٦–٢٠٠٧م)، اللذَين قاما بالتقريب بين الفينومينولوجيا، وخاصة فينومينولوجيا رومان
إنجاردن R. Ingarden (١٨٩٣–١٩٧٠م)، ونظرية القراءة، ليكون نتاج ذلك ما أطلقوا عليه جماليات
التلقي. وقد فتحت جماليات التلقي أفقًا جديدة في الممارسة الفنية النقدية، بحيث حاولت
أن
تتخفَّف من مركزية النَّص وسلطته التي رسَّخها بارت، ومن بعده التفكيكيُّون، لتُؤكِّد
على أن عملية
القراءة تَسير في اتجاهين مُتبادلَين من النَّص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النَّص في
إطار علاقة
تفاعُلية.
(١-٩) موت المؤلِّف … هل ثمة ضرورة؟!
تعرَّضت أفكار بارت لانتقادات عديدة؛ فالبعض رأى
٧٢ أنها استبدلت سُلطة النَّص بسلطة المؤلِّف، استبدال مركزٍ بمركزٍ آخَر. وقد دفعه هذا
الاحتفاء إلى نوع من التقديس الميتافيزيقي للنَّص «ليس وراء النَّص فاعل أو مسند إليه
(كاتب)
وليس أمام النَّص مفعول به (قارئ)؛ لا فاعل ولا مفعول به، النَّص يجعل المواقع النحوية
غير ذات صلاحية …»
٧٣ والبعض الآخر رأى أنَّ إعلان بارت به نوع من الافتعال غير المُبرَّر، وأنه لا يُمكن
بحال تجاوز المؤلِّف، كما لا يمكن إلغاء السياق الثقافي والاجتماعي الذي يدور النَّص
في فلكه.
كما أن بارت في تحليلاته اللغوية كانت تُسيطِر عليه، في بعض الأحيان، نزعة صوفية واضحة
تجاه
النَّص، جعلت الكثير من تلك التحليلات يبدو غير مفهوم، ومواقفه تبدو مُتناقضة في الكثير
من الأحيان.
٧٤
وعلى الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات
خطوات
متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصة في مجال النقد الأدبي، إلا أنَّ إعلان بارت موت
المؤلِّف
لم يكن مقنعًا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أَطلق عليه بارت حتمية الشكل،
والذي
ترتَّب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في
التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إنَّ من مقتضيات تمام
العملية
الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلِّف، النَّص، القارئ وذلك
يتيح
«حرية للقارئ في إعادة بناء النَّص، وإذا انتفَت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة
على
ممارسة خِبرة الإبداع في تذوُّق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعًا من التغييب للقارئ،
بينما تُتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويًا لحضور المؤلِّف لكي يدير حوارًا
معه.»
٧٥ فكيف يَحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهو المؤلِّف.
لقد ألغى إعلان بارت تأثير الذات الإنسانية الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعُل العام
والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البِنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان
التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تَعتمد المنهج الجمالي المجرَّد
للأشياء التي تتشكَّل دلالاتها ذاتيًّا دون فعل الإنسان.
٧٦
ورغم أن السيميوطيقا قد اعتمدت بصورة كبيرة على الإجراءات التي قدَّمها بارت إلا أن
السيميوطيقيون قد أدخلوا تعديلات جوهرية على رؤية بارت تَسمَح بتجاوز مقولته عن موت المؤلِّف،
وكذا مقولته عن لذة النَّص.
فالعمل الفني، كما يذهب إلى ذلك موكارفسكي، لا يُمكن مساواته بأي شكل من الأشكال
بالحالة
النفسية لمُنشئه، ولا حتى للظروف الاجتماعية التي ظهر فيها. العمل الفني مُستقل عن ذلك
بالفعل.
غير أن الشيء الذي يُمثِّل العمل الفني في عالم الواقع يظلُّ قائمًا، وهو متاح لكل فرد
كي يدركه
بدون قيد أو شرط. فلا بد أن تحيل العلامة إلى شيءٍ ما. الفن علامة مستقلة خاصيتها الأساسية
قدرتها على أن تُستخدَم وسيطًا بين أعضاء نفس الجماعة. وبالرغم من أن بعض العلامات لا
تحيل إلى
شيء معين إلا أنها يمكن قراءتها من خلال السياق الكلي الذي ظهرت فيه؛ أي الظواهر الإنسانية
من فلسفة وسياسة ودين واقتصاد. وهذا هو السبب الذي يجعل الفن أكثر قدرة على تمييز عصر
بعينه
وتمثيله دون غيره من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وهذا يُفسِّر أيضًا السبب وراء اختلاط
الفن
طوال تاريخه بتاريخ الثقافة، والعكس صحيح أيضًا؛ فقد ذهب التاريخ العام إلى استعارة تقسيم
تاريخ الفن في تحديد الحِقَب الزمنية. وبالإضافة إلى ذلك يذهب موكارفسكي إلى رفض النظريات
الجمالية المبنية على الفرضية التي تقول إنَّ غاية الفن هي اللذة. فالعمل الفني قد يُولِّد
لذةً
ما تكتسب موضوعية نسبية باعتبارها «دلالة إضافية» كامنة في العمل الفني، ولكن يكون من
الخطأ
إذا ما تمَّ استخلاص نتيجة من ذلك مفادها أن هذه اللذة تكون جزءًا لازمًا وضروريًّا من
عملية
إدراك العمل الفني. فالفن يَنزِع في بعض مراحل تطوره إلى إثارة اللذة، غير أن هناك مراحل
أخرى
لا تَكترث باللذة كلية، بل تنحو إلى محوها وإثارة مشاعر مُضادة لها.
٧٧
وبعيدًا عن السيميوطيقا نجد بيير بورديو
Pierre Bourdieu (١٩٣٠–٢٠٠٢م) يتَّخذ موقفًا ناقدًا من
هذا الاتجاه، وهو بصدد تحليله لحقل الإنتاج الفني؛ فقد توصَّل بورديو في كتابه قوانين
الفن
إلى صيغة معتدلة لا تَنجرف وراء التحليلات النفسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته ترفض
القراءات الداخلية للأعمال الفنية التي تَتجاوَز الظروف التاريخية التي أنتجتها. فالعمل
الفني
ليس مجرَّد تعبير عن عبقرية الفنان، ولا هو مجرَّد انعكاس للظروف الاجتماعية والنفسية
له، بل
يتمُّ إنتاجه من خلال الطابع الثقافي، الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان،
وهو
حقل — فضاء منظَّم من الاحتمالات — يَحوي شتَّى المذاهب والأساليب المُتنافسة كما تتحدَّد
الاحتمالات
ذاتها من قِبَل التطور التاريخي لذلك الحقل، فلا يوجد كاتب (أو فنان) يَبتكِر ببساطة
أسلوبًا
فنيًّا من عدم، بل هو يتَّخذ موقفه بناءً على ما هو سائد من أنماط فنية وأساليب متبعة،
فإما أن
يختار تكرارَ ما هو موجود، أو أخذَ نوعٍ فنيٍّ قائمٍ ودفعه إلى أقصاه. لذا فإن كل تصريح
فني يحمل
بداخله موقفًا ما من الأعمال القائمة والمواقف الماثلة في الحقل الفني، وتنوُّع المواقف
التي
يستطيع أيُّ فنان أن يتَّخذها في ضوء التاريخ السابق للحقل. وفي رأي بورديو، أن حقل الإنتاج
الفني هو عالَم من الثورة الدائمة والتمرُّد على الأساليب القائمة، وأن تفسير هذه الثورة
يحتاج
إلى فهْم الحقل الثقافي بكافة مكوِّناته، خاصة أن هناك مُحدَّدات تمارس تأثيرها على العمل
الفني
وعلى طرق استقباله لا دخل للفنان بها، ومنها الظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية.
٧٨
من ناحيةٍ أخرى، ومن داخل البِنيوية ذاتها نجد لوسيان جولدمان، رغم تأثُّره بأفكار
بارت، كان
مُدرِكًا لخطورة الموقف الذي يقودهم إليه عزل المؤلِّف والسياق عن البِنية اللغوية المُكتفية
بذاتها. وقد دعا جولدمان إلى ربط البنية النَّصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق
الثقافي، ودمج بين أقانيم النَّص الثلاثة؛ الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم
تشكِّل
مع البنية ذات الدلالة وحدةً متكاملةً، وذلك يَفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات
البِنى
اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنَّص من جميع زواياه.
٧٩
إنَّ عزلَ الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنُّصوص أدَّى إلى قصورٍ في
النقد
البنيوي، ولذلك نظر ميشال فوكو إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطًا إنسانيًّا إبداعيًّا مركزيًّا،
ولا يراه نصًّا عامًّا يَزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيُّرًا
في الخطاب.
٨٠
ومن منطلقٍ مُشابهٍ يشير روبرت هولاب في كتابه نظرية التلقي، إلى أن كلًّا من المعنى
والبناء
ينتجان من تفاعل القارئ مع النَّص، الذي يُقارب العمل الفني بتوقُّعات دلالية مستمَدَّة
من المعارف
التراكمية المشتركة والسياقات الثقافية والاجتماعية المُتداخلة، أو ما يُسمَّى «أُفق
التوقعات»،
هذا الأُفق بمثابة القواسم الدلالية المشتركة بين المؤلِّف والقارئ، وهو الذي يحكم حركة
المتناصَّات «إن التناصَّ كالمؤلِّف تمامًا لا يَكتسب وجوده إلا مع وعي المُتلقي به،
لنتصوَّر مثلًا
ما يحدث على مستوى الأُفق الاستبدالي داخل النَّص من مفردات وصور ليست موجودة داخله،
ولكنها
بدائل كان من المُمكن للمؤلِّف أن يستخدمها وهي في غيابها حاضرةً في تحديدها للوحدات
التي
استُخدِمت بالفعل في السياق، وإذا لم يكن القارئ مُعدًّا واعيًا بهذه البدائل على مستوى
الاستبدال فلن يكون للنَّص داخل العمل قيمة ومعنًى.»
٨١
وقد اقترح البعض القيامَ بعملية إزاحة مؤقتة لسلطان المؤلِّف عن النَّص، ثم نعيده
ضيفًا عليه
«إن مفهوم الموت لا يعني الإزالة والإفناء، ولكنه يعني ارتحال القراءة موضوعيًّا من حال
الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النَّص، وهذا يتحقَّق موضوعيًّا بغياب المؤلِّف،
فإذا
ما تمَّ إنتاج النَّص بواسطة القارئ فإنه من المُمكن حينئذٍ أن يعود المؤلِّف إلى النَّص
ضيفًا عليه.»
٨٢ وهذا المعنى نجده عند بارت في أعماله المتأخِّرة، يقول في مقالة له بعنوان من
الأثر إلى النَّص: «لا يعني هذا أن المؤلِّف لا يمكن أن يعاود الظهور مجددًا في النَّص،
في نصِّه،
لكنه لو عاد سيكون في صورةِ مدعوٍّ.»
٨٣
أخيرًا، إنَّ منحَ القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلَّب بالضرورة «تهميش المؤلِّف»
واعتباره «آلة
ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلِّف هو في الأصل تهميشٌ للإنسان، لوجودِه وفاعليته. النَّص
أُنتج في غير
زمان ومكان ومؤلف. تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي «فعندما يتمُّ عزل
النسق
يتم عزل التاريخ أيضًا، فتغدو الأبنية كلية لا زمنية، أو هي أجزاء اعتباطية من عملية
تغيير
غير تاريخية ومتحولة أبدًا.»
٨٤
(٢) ميشال فوكو: من تحليل فضاءات السلطة إلى تفكيكها
من أشهر فلاسفة النِّصف الثاني من القرن العشرين، فيلسوف وعالم اجتماع ومؤرِّخ، بدأ
من
البِنيوية واستطاع أن يَتجاوزها في مؤلَّفاته المتأخرة مقتربًا من الإطار النظري لما
بعد الحداثة.
٨٥ اشتهر فوكو بدراسته المُتعمِّقة لمفهوم السلطة، وهو مفهوم رئيس في الفكر الفلسفي
ما بعد الحداثة. وقد قدَّم فوكو طرحًا مختلفًا لهذا المفهوم يختلف عن كافة الأطروحات
التي قُدِّمت
من قبلُ، رغم تأثُّره الواضح بتحليل نيتشه لهذا المفهوم في سياق تحليله لإرادة القوة.
يُعارض فوكو بداية، في نظريته في السلطة، التصوُّر الماركسي الكلاسيكي ونظريات الحق
الطبيعي.
لا وجود لذات أو لفاعل يَملك السلطة، مثلما لا وجود لجهاز (الدولة) ينفرد لوحده باستعمال
السلطة. يَقترح فوكو نموذجًا استراتيجيًّا للسلطة، فلا ينبغي النظر إلى السلطة كملكية
قارة
ومستقرَّة في يد ذات فردية أو جماعية، وإنما يجب التفكير في السلطة كإنتاج لاستراتيجيات
الصراع بين القوى. يتحدَّث نيتشه عن تعدُّد علاقات القوى وكثرتها، بحيث لا تنبع من
ذاتٍ واحدةٍ ممتلكةٍ للقوة. فالسلطة هي علاقات قوًى بحيث إنها تُشكِّل نظامًا وتسلسلًا،
أو انقطاعًا
وانفصالًا. إنها مُنبثة في كل العلاقات الاجتماعية والرمزية المتصادمة. لا تُفرض السلطة
من
فوق، بل تأتي من تحت، لا تنجلي في العلاقات الثنائية بين الحاكمِين والمحكومِين بل بالأحرى
في
علاقات القوة المُجسَّدة في آليات الإنتاج داخل الأسرة، والمجموعات الصغيرة، وداخل المؤسسات،
وتسري في الجسد الاجتماعي بأسره:
«إنَّ القوة تأتي من تحت، ومن ثَمَّ لا ثنائية ولا تعارض بين السائدِين والمسودِين في
جذور
علاقات القوة، ولا ثنائية تَنطلِق من القمة إلى القاعدة.» فالسلطة هي دومًا شكل خاص
ومؤقَّت لصراعٍ ما يفتأ يتكرَّر، والصراع المتكرِّر بكيفية دائمة لا يسمح باستقرار السلطة؛
فهناك
حرب لا هوادة فيها، دائمة ومُستمرة من أجل السلطة، وامتلاكها رهين بالشروط المتغيرة،
والاستراتيجيات المتقلِّبة، السلطة علاقة، والعلاقة تتغيَّر باستمرار، لا يمكن الحديث
عن مركز
السلطة أو سلطة المركز، فهي منبثَّة ومنتشرة في كل مكان، وفي داخل الجسم الاجتماعي برُمَّته.
وبهذا المعنى فالسلطة غير مُنضبطة لحدود «السياسي»، إنها تتجاوَز تُخومَه.
ما تفتأ الحداثة تولِّد أشكالًا جديدة للسلطة تختلف عن إطار التصوُّر الماركسي للدولة.
فالدولة
لا تحتكر السلطة كما هو شائع وكما تقترح النظريات الكلاسيكية للسلطة «توجد علاقات قوة
بين
كل نقطة في الجسم الاجتماعي: بين الرجل والمرأة بين أفراد الأسرة (…) بين كلِّ مَن يعرف
وكلِّ
مَن لا يعرف.»
إن السلطة هي نتاج لصراع لا يتوقَّف ولا ينتهي، كما أنها مُتحرِّكة وليست مُستقرة؛
إذ الصراع
مستمر ودائم من أجل السلطة وبواسطتها. وامتلاك السلطة تتحكَّم فيه شروط كثيرة متغيِّرة،
واستراتيجيات متقلِّبة. لهذا فهي تَتحدَّد كعلاقات مُتغيِّرة بين قوًى.
إنَّ السلطة بهذا المعنى لا تَنضبِط بما هو سياسي، بل تتجاوز باستمرار مجال السياسي
وتخومه.
وهذا يَعني أنَّ السلطة غير قابلة للاختزال إلى الدولة — كما ترى الماركسية — لأنَّ الدولة
ليست
وحدها التي تحتكر السلطة؛ لأنَّ هذه الأخيرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا مركز لها،
كما
أنها مُتشظِّية ومُبعثَرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي. فهي توجد على صعيد الفرد الواحد،
والمعرفة، والخطاب، والسلوك، كما توجد على صعيد الأسرة والمدرسة والمستشفى والقيم … إلخ.
إنَّ هذا الطابع الميكروفيزيائي للسلطة يثبت تهافت التصوُّرات السياسية التي تختزلها
في
أجهزة الدولة؛ إذ السلطة شبكة Un raiseau لا مركز لها، ولا تتجسَّد في أي جهاز محدَّد حتى ولو
كان ذلك الجهاز هو الدولة نفسها.
لا يعني هذا الكلام أنَّ فوكو يُقلِّل من شأن سلطة الدولة، وإنما يسعى أن يُبيِّن
الطابع
المُنتشِر للسلطة غير القابل للاختزال. وما ذلك إلا لأنَّ الدولة لا يُمكن أن تستنفد
كل أشكال
علاقات السلطة. ومن جهة أخرى فالدولة لا تستطيع القيام بوظائفها اعتمادًا على ذاتها وقدراتها
الخاصة؛ إذ هي في حاجة لخدمات الأسرة، والمدرسة، والشارع، والصورة، والمعلومة، والمعرفة،
والرمز، ومختلف أشكال الإنتاج التقني والفنِّي.
إن تركيز النظرية الماركسية للسلطة على الدولة عاجز عن تفسير
ميكروفيزياء السلطة Micro-physique du pouvoir، فلا يُمكن تناول هذا المفهوم المجهري للسلطة من منظور جهاز مركزي
مجسَّد في الدولة، يبحث فوكو أيضًا عن تشكُّل وإعادة إنتاج بنيات معقَّدة للسلطة بالاعتماد
على
النموذج الاستراتيجي الذي بمُقتضاه تُفهم العلاقات الاجتماعية للسلطة ضمن سيرورةٍ يتم
من
خلالها توليدُ بؤرٍ للسلطة في كل مكان، مثل شبكة في نظام لا مركز له، فالسلطة لا مركز
لها،
ولا تتجسَّد في جهازٍ سياسي، وبالتحديد في جهاز الدولة؛ فهي مُنتشرة في كل الجسم الاجتماعي،
وغير ثابتة ولا مستقرَّة، وتتحوَّل من مكانٍ لآخر:
«لا أزعم أن الدولة لا أهمية لها، ما أريد قوله، هو أن علاقات القوة، وبالتالي التحليل
الذي ينبغي أن تخضع له، يَتجاوز بالضرورة حدود الدولة. وذلك بمعنيين؛ أولًا وقبل كل شيء
لأن
الدولة، وبالنظر إلى حضور كل أجهزتها، بعيدةٌ كل البُعد عن أن تكون قادرة على ملء مجمل
علاقات
السُّلطة؛ ثانيًا لأن الدولة لا يُمكن أن تؤدي وظيفتها سوى بالاعتماد على غيرها؛ أي على
علاقات
القوة الموجودة. إنَّ الدولة هي بنية فوقية تدخل في علاقة مع كل سلاسل شبكات القوة التي
تسكن
الجسم، والجنسية والأسرة والمعرفة والتقنية وهَلُمَّ جرًّا يُعارض فوكو التصوُّرات الاختزالية،
والاستاتيكية للسلطة.»
٨٦
إنَّ مفهوم فوكو للسلطة يَتجاوز المَجال السياسي كما يَتجاوز المجال الأيديولوجي؛
إذ هي ليست
جهازًا بل علاقة، وهي غير مستقرَّة ومتمركزة في مكان محدَّد، بل توجد مبعثرة في كلِّ
أنحاء الجسد
الاجتماعي، إنَّها توجد في كل الأمكنة وخصوصًا في تلك التي لا يُعتقَد أنها من المُمكن
أن توجد
بها. إنها كما يقول فوكو «توجد في كل مكان ولا مكان بعينه»، لا مركز لها ولا أطراف لها،
تحكم سيطرتها على كل شيء، وهي سيرورة بدون ذات، وليست مفعولًا لذاتٍ فردية أو جماعية
أو
تاريخية أو رمزية، بل هي مفعول لنسيج من العلاقات والمؤسسات، مثل الأسرة والسجن والعيادة
والمدرسة والحزب والمذهب … إلخ.
في كتابه تاريخ الجنسانية The History of sexuality يذكر فوكو أن النموذج القانوني للقوة
نُلاحظه في صورة الأمير الذي يُحدِّد الحقوق، والأب الذي يمنع أفراد العائلة، والمراقب
الذي
يُلزم بالصمت … في جميع هذه الحالات تتخفَّى القوة بصيغ قانونية، وفي جميع هذه الحالات
يكون
المطلوب هو الطاعة. فالفرد الذي يواجه القوة/القانون، هو الذات المطيعة. بكلمة أخرى،
هناك
قوة شرعية في جانب، وإنسان مطيع خاضع في جانب آخَر. هذه القوة المطابقة للقانون هي قوة
كبح
أو قوة قمعية. إنها قوة سلبية مانعة، القوة التي تقول لا، فليس غريبًا أن يكون رمزها
السيف
أو النسر أو الأسد.
كان ذلك في الماضي، في القرن الثاني عشر وعبْر القرون التالية، غير أنه في القرن السابع
عشر، وما تلاه، ظهر نوع جديد من القوة مضادٌّ للنوع القديم الذي ارتبط بمفهوم سيادة الملك.
هذا النوع الجديد يُسميه فوكو «قوة النظام» وهو في رأيه من أعظم إنجازات المجتمع البورجوازي.
وهو غير مُرتبط بصورة القانون، ونقول: لا يُمثله قانون من القوانين. وهو بالإضافة إلى
ما
تقدَّم، لا يَقدِر نظام الكبح أو القمع أن يصفه. هذا النوع الجديد من القوة لا يُثبته
مفهوم
الحق، بل مفهوم التكنيك، ولا يُفهم بالإشارة إلى القانون، بل بواسطة التطبيع، ولا بالعقاب،
بل بالمُراقبة والضبط؛ أي بطرقٍ ووسائل تتعدَّى الدول وأجهزتها. هذا النوع من القوة لا
يَملكه
فرد أو مجموعة من الأفراد؛ أي أنه ليس له مركز أو محل مُعيَّن، إنه علاقة قوة تُمارس
مع لغة
الصدق وإنتاج الصدق. يقول فوكو: «يجب تحليل هذه باعتبارها قوة دائرة أو بالأحرى كشيء
لا
يقوم بوظيفة إلا بصورة مُسلسلة، فلا يُمكن موضعتها هنا أو هناك، أو في يد إنسان، أو اعتبارها
بضاعة، أو جزءًا من ثروة. هذه القوة تُستخدم أو تُمارس عبْر تنظيمٍ يُشابه الشبكة. والأفراد
لا
يدورون بين خيوطها فقط، إنهم دائمًا بوضعٍ فيه يَخضعون لهذ القوة ويمارسونها. وهذه القوة
لا
تُفهم بتصوُّر قانوني كعلاقة بين حاكمٍ سيد ورعاياه، ولا بفكرة التضاد بين الدولة
والمجتمع.»
باختصار نقول: إنَّ فوكو قد استبدل المفهوم القانوني للقوة بما يسميه علاقة القوة الموجودة
في كل ناحية من نواحي المجتمع؛ لأنها تَنطلِق من كل ناحية من نواحيه، كأنما شبكتها والمجتمع
على هوية واحدة. وشبكة القوة هذه في المجتمع الحديث تقوم بالتطويع؛ أي بإخضاع الأفراد
وصياغتهم وفقًا للمعارف الجديدة؛ ففي كتابه النظام والعقاب: ولادة السجن، الذي هو أول
كتاب
يَشرح فيه نظريته في القوة، يقول فوكو: «إنَّ علوم الجريمة والطب والنفس والتربية
والاجتماع … وغيرها من العلوم الإنسانية، تنتج آلياتٍ وفنونًا للمراقبة والفحص والتصنيف
وصياغة الأفراد وتطويعهم وتطبيعهم وفقًا لأنظمتها المعرفية.»
٨٧ وبناءً على ذلك يفترض فوكو أنه لا توجد معرفة لا تَفترض وجود قوة وراءها، وليست
هي مؤلِّفة لقوة في الوقت ذاته. والخلاصة أن فوكو يكشف القناع عن أن المجتمع المدني عبارة
عن
ذوات خاضعة لعلاقات القوة/المعرفة المُتعدِّدة المراكز في طول المجتمع وعرضه.
•••
من ضمن القضايا التي اهتمَّ بها ميشيل فوكو، وهي غير مُنفصلة عن تحليله لمفهوم السلطة،
قضية
العلاقة بين الصورة واللغة أو ما هو مرئي وما هو منطوق، وقد خصَّص فوكو كتابه الكلمات
والأشياء لمناقشة تلك القضية، وقد ناقش الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بتوسُّع تلك الإشكالية
في
كتابه «المعرفة والسلطة» ١٩٨٧م، والذي خصَّصه عن فوكو، وبحيث يمكن القول إن «التيمة
الرئيسة لهذا الكتاب، هي التفرقة بين نظام المرئيات ونظام العبارات، وهي نفس تيمة كتاب
«الكلمات والأشياء» لفوكو.»
٨٨ وقد كان مُنطلَق فوكو في هذا النقاش إبستمولوجيًّا؛ أي أنه كانت تشغله مسألة
التعارض والاختلاف بين نمطَي المعرفة، اللغوية والمرئية، وعلاقة ذلك بالوعي.
يَنطلِق فوكو في فهْمه للعلاقة بين اللغة والصورة، من أن لكلٍّ منهما عالَمه المستقل
والمتمايز
عن الآخر، وأنه ليس ثمة أولوية لأحدهما على الآخر «إنَّ ما بين الكلام والرؤية، أو ما
يُرى وما
يُعبَّر عنه، ثمة انفصال، فما يُرى لا يجد موقعه إطلاقًا فيما يُقال، والعكس بالعكس.»
وثمة سبب
مزدوج يمنع وجود اتصال بينهما: «للعبارة موضوعها الملازم الخاص بها، وهي لا تعدو قضية
تحيل
إلى ظرفٍ ما أو موضوع بعَينه، مثلما يقضي بذلك المنطق، لكن المرئي ليس معنًى أبكمَ صامتًا،
أو
مدلولًا بالقوة يخرج إلى الفعل متجسِّدًا في اللغة.»
٨٩ ولعلَّ فوكو بهذا الطرح يُعبِّر عن رفضه لأطروحة بارت التي يقول فيها «إنَّ العالم
أبكم، وهو في حاجة إلى اللغة حتى يَنطق»؛ فهو ينفي إمكانية أن تحُلَّ اللغةُ محلَّ الأشياء،
كما أن
الصورة لا يُمكن أن تحُلَّ محلَّ اللغة، وفي السياق ذاته يقول بودريار: «لا أعتقد في
وجود علاقة من
أي نوع بين الصورة والنَّص، بين الكتابة وما هو بصري … فالصورة والنَّص سجلان متفردان،
ينبغي
المحافظة على تفردهما.»
٩٠ على أن هذا الاستقلال لا يَنفي وجود علاقة بينهما، لكنها ليست علاقة تواؤم
وتصالح، كما أنها ليسَت علاقة خصام وتشاكُل، إنها علاقة صراع وعراك، صراع يتم داخل عملية
التفكير ذاتها بين المشهد واللغة.
يربط فوكو بين إشكالية النَّص والصورة وإشكالية المعرفة عمومًا؛ إذ المعرفة يَتجاذبها
طرفان:
الرؤية واللغة؛ وعملية التفكير في النهاية هي محصلة علاقة المشهد باللغة … الصور بالكلام
«يَتشكَّل التفكير من الرؤية والكلام، غير أنه يتمُّ بينهما، في الفراغ الذي يفصل الرؤية
عن
الكلام. إن التفكير يعني خلق الاشتباك في كل حين، إنه دومًا تراشُق بالسهام، تسليط بريق
الرؤية على الكلمات، والإصغاء إلى همس الأشياء المرئية … التفكير هو جعل الرؤية تبلغ
حدَّها
الخاص بها، وجعل الكلام يبلغ حدَّه الخاص به. فيَصيران معًا الحدَّ المشترك الذي يوصل
الرؤية
بالكلام والكلام بالرؤية؛ وذلك بالفصل بينهما.»
٩١ عملية التفكير إذًا تتمُّ من خلال التوتُّر الذي ينشأ نتيجة تصارُع اللغة والصورة،
تتمُّ داخله، في الفجوة التي تفصل الكلام عن الرؤية.
لا يُمكن اختزال عملية التفكير في مَلَكة واحدة، ليس التفكير فطريًّا ولا مكتسبًا.
ليس عملًا
تُمارسه مَلَكةٌ ما من الملكات، وليس بالمقابل اكتسابًا يتلقاه المرء نتيجة احتكاكه بالعالم
الخارجي. وهنا يعود فوكو إلى أنتونين أرتو
A. Artaud «فتجاه الفطري والمكتسب، وفي مقابلهما،
يقول أرتو بالمتأصل
congénital، تأصُّل التفكير كتفكير، تفكير يأتي من خارج أبعد من أي عالم
خارجي، وأقرب بالتالي من أي عالم داخلي.»
٩٢ ووفقًا لفوكو فإن العالم يَتكوَّن من مساحات بعضها فوق بعض، وأنظمة عبارات أو
أبنية، إلا أن هذه الأبنية يخترقها في الوسط شرخ يفصل بين اللغة من جهة، والصورة من
جهة
أخرى، يفصل بين العبارات والمرئيات في كلِّ بناء من الأبنية؛ أي بين شكلَي المعرفة اللذَين
لا
سبيل إلى تقليصهما أو ردِّ أحدهما إلى الآخر، ألا وهما الرؤية واللغة … «نحن إذًا مأخوذون
في
حركة مزدوجة، نتَّجِه نزولًا من بناء إلى آخر، ومن شريحة إلى أخرى، نعبُر المساحات واللوحات
والمُنحنيات، نقتفي أثر الشرخ. بغية بلوغ داخل العالم، أو كما قال ملفيل: نبحث عن غرفة
في
الوسط والرَّهبة تتملَّكنا من ألا نَعثُر فيها على أحد.»
٩٣ وفي هذا الاتجاه كان فوكو يُؤكِّد أن المشادة أو العراك، يتطلَّبان مسافة عبْرها
يتبادل الخصمان «التهديد فيما بينهما والوعيد»، ويقتضيان أن مكان عراكهما «لا يمكن الوقوف
عليه» أو إثبات وجوده في محل، مما يشهد على أن المُتعاركَين لا ينتميان لذات الفضاء الواحد،
ولا يرتبطان بنفس الشكل «من الواجب التسليم بوجود عراك وصراع حقيقيَّين، أو على الأصح
هجومات
متبادلة وتراشُق بوابل من السهام، وحملات للتقويض والهدم، وطعن بالرماح. علينا أن نقر
بوجود
معركة حامية الوطيس بين النَّص والصورة، سقوط الصور وسط الكلمات، بريق كلامي يجوب الصور،
شقوق
خطاب تتخلَّل شكل الأشياء، والعكس.»
٩٤
إن الصورة والكلام يَنطويان على شرط ومشروط، الضوء والرؤية، اللغة والعبارات، لكن
الشرط
لا يَحتوي المشروط، بل يَعرضه في فضاء تناثُر وتفريق، ويعرض نفسه هو، كشكل خارجي «فبين
المرئي
وشروطه تنسلُّ العبارات كما تنسلُّ في لوحة ماجريت «هذا ليس غليونًا». وبين العبارة وشرطها
تنساب
الرؤى، كما هو الأمر لدى «روسيل» الذي لا يَكشف عن الكلمات دون أن يظهر الأشياء … إن
العبارات
والرُّؤى تتصارع في عراكٍ متبادلتَين القسر والإكراه أو تستوليان على بعضهما البعض، مكونتَين
بذلك، في كل مرة، «الحقيقة».» من هنا قول فوكو «الكلام والرؤية … رغم أنهما لا يَتعلَّقان
بذات
الشيء، ورغم أننا نتكلَّم لا عما نراه، أو نرى ما لا نتكلم عنه؛ لكنهما معًا، يكوِّنان
البناء
المعرفي، ويَتغيران، في الوقت ذاته، من بناء إلى آخَر، وإن كان تغيُّرًا لا تَحكمه ذات
القواعد.»
٩٥
يقول دولوز عن كتاب الكلمات والأشياء لفوكو: «ما دُمنا لبثنا عند حدود الكلمات والأشياء،
فإننا سنتوهَّم أننا نتكلَّم عما نراه، ونرى ما نتكلم عنه، وأن الأمرَين مرتبطان، ويعني
هذا أننا
نظل عند المستوى الاختباري ولا نتجاوَزه بعدُ. لكنَّنا بمجرد ما نتغلغل في الكلمات والأشياء،
نكتشف العبارات والرؤى، فيَرتفِع الكلام والرؤية إلى مستوى أعلى قبلي، حتى إن كلًّا منهما
يبلغ
حدَّه الخاص به والذي يَفصله عن الآخر، مرئي لا سبيلَ إليه إلا بالرؤية، ومعبَر لا سبيلَ
إليه إلا
بالكلام. ومع هذا، فإن الحدَّ الخاص الذي يَفصل كلاهما، يُعَد في الوقت ذاته الحد المشترك
الذي
يجمعهما والذي يتخذ وجهَين غير مُتماثلَين؛ كلام أعمى ورؤية صماء. وفوكو في هذا — وفقًا
لدولوز —
قريب من السينما المعاصرة.»
٩٦
إن العلاقة بين الرؤية واللغة أو التمايُز بينهما يستدعي الحديث، وفقًا لفوكو، عن
الفينومينولوجيا، ذلك أن الفينومينولوجيا قدَّمت إسهامات عديدة حول هذه الإشكالية. اقترحت
الفينومينولوجيا فكرة القصدية كمُحاولة لتجاوز كل نزعة سيكولوجية وكل نزعة طبيعية، لكنها
تظل، وفقًا لقراءة دولوز لفوكو، حبيسة نزعتَين: سيكولوجية، وطبيعية، إلى حد أن ميرلوبونتي
قد
صرَّح أن الفينومينولوجيا لم تَعُد تكاد تتميَّز عن «المذهب». فهي تؤسِّس من جديد نزعة
سيكولوجية
أساسها تركيبات الشعور والوعي، وفي الوقت ذاته، تؤسِّس لنزعة طبيعية أساسها «التجربة
العيانية»
expérience sauvage والإدراك المباشر للشيء من حيث هو ذاته حاضر أمام الوعي دون
وساطة. هذه الازدواجية لم تَستطِع فكرة «القصدية»
Intention تجاوزها؛ لأنَّها هي الأخرى لم تميِّز
بين نمطَي الوجود: اللغة والرؤية «ليس ثمَّة شيء قبل المعرفة، ولا وراءها. بل المعرفة
مزدوجة
ازدواجًا يَتعذَّر تقليصه أو اختزاله، إنها كلام أو رؤية، لغة ورؤية، وذلك هو السبب الذي
من
أجله ليس ثمَّة قصدية.»
٩٧ ويرى فوكو أن الفينومينولوجيا، رغبة منها في إقصاء النزعتَين السيكولوجية
والطبيعية اللتَين كانتا ما تزالان تُثقلان كاهلها، تجاوَزت بنفسها القصدية كعلاقة للشعور
بموضوعه «أي الموجود»، مع هيدجر وميرلوبونتي، نحو الوجود … انثناء الوجود
Le pli de l’être،
من القصدية إلى الانثناء، ما دام الوجود هو أساسًا انثناءٌ للوجود بالموجود. وما يُريد
أن يخلص
إليه فوكو في هذا الصدد، وفقًا لقراءة جيل دولوز، هو أن فكرة القصدية لا تَصلُح أن تكون
أساسًا
لعلاقة الذات بالموضوع، وذلك في رأيه يعود إلى:
- (١)
أن الموضوع لا يتكوَّن من طبقة واحدة وإنما من طبقات عديدة، وهو ما يُطلَق عليه «انثناء
الوجود والموجود»؛ فهناك طيات عديدة للشيء الواحد، وهذه الطيات لا تكون حاضرةً أمام الوعي
مباشرة،
٩٨ لذا فإن القصدية تقف أمامها عاجزة، وهذا، وفقًا لدولوز، ما تنبَّه إليه هيدجر
وميرلوبونتي «يعود الفضل إلى ميرلوبونتي، ومن قبله هيدجر، في أنه أوضح كيف يكشف الوجود
عن
نفسه كانثناء، وهذا هو موضوع المرئي واللامرئي.»
- (٢)
أن اللغة تقف حائلًا أمام قصدية الوعي لموضوعه؛ فميدان اللغة غير ميدان الرؤية، والمثال
الذي يُشير إليه فوكو في هذا السياق، هي لوحة ماجريت سابقة الذكر «هذا ليس غليونًا»،
فما
يقصده الوعي في اللوحة هو الغليون، أو رسم الغليون، لكن تأتي العبارة «هذا ليس غليونًا»
لتقف
حائلًا أمام قصدية الوعي «كما لو كانت القصدية تدحض نفسها وتنهار.»
- (٣)
إذا كانت المعرفة تَتكوَّن من شكلين أو نمطَين: الرؤية واللغة، فإن كل شكل يفرض أدواته
المستقلة والمُميزة لنمط المعرفة الذي يُقدِّمه، لكن القصدية لا تفرِّق بين هذين النمطين
وتتعامل
معهما كما لو كانا موضوعًا واحدًا «لا وجود مثلًا لموضوع هل الحمق يتجه إليه وعيٌ ما
ويقصده. بل
الحمق يُنظر إليه بكيفيات مختلفة ومُتباينة، ويُعبَّر عنه بأساليب مختلفة كذلك، وفقًا
لعتبات كل
عصر، فنحن لا نرى نفس الحمقى ولا نُعبِّر عن نفس الأعراض.»
يبدو هذا النقد غريبًا، خاصة عندما يكون مصدره فوكو، ذلك أن المنهج الفينومينولوجي،
وإن
لم يسعَ للتمييز الحاسم بين اللغة والصورة، لم يكن أبدًا منهجًا في الوصف أو الملاحظة
التجريبية فقط، فإذا كان وصف ما هو معطًى إحدى ثوابت المنهج الفينومينولوجي، فإنَّ هذا
الوصف
ما هو إلا مرحلة من مراحل عدة؛ «فقد اتَّسع المنهج ليَستَوعِب التفسير الذي يتجاوز ما
هو معطًى
بشكل مباشر في الخبرة. والتفسير هنا هو كشفٌ لمعاني طبقات مستورة من الظواهر.»
٩٩ وبالتالي لا يُمكن النظر إلى المنهج الفينومينولوجي على أنه صالح للتطبيق فقط
على الموضوعات الحاضرة أمام الوعي بصورة تجريبية مباشرة، وكما لاحظ شبيجلبرج،
١٠٠ فليسَت كل معاني الخبرة والسلوك الإنساني سهلة المنال؛ فهناك حالات من الغموض
متأصلة في قلب الظواهر نفسها، وليست على السطح، ولا يُمكن الاقتراب منها عن طريق الوصف
المباشر، من قبيل: مشكلات الوجود الإنساني وموقف الإنسان داخل عالم ملغز.
إن شرط المرئي هو الضوء
lumière وشرط النَّص هو اللغة، لكن الشرط لا يَحوي المشروط بل يَعرضه
في فضاء تناثُر وتفريق، ويَعرض نفسه هو، كشكل خارجي. لكن ثمة تداخل بين المجالَين. تَقتحم
العبارات المرئي، ويَقتحم المرئي العبارات، مثال الأولى لوحة «ماجريت» هذا ليس غليونًا،
والثاني كتابات ريمون روسيل. فبين ما يُرى وما يُعبَّر عنه، علينا أن نتصور جميع الصلات
والمظاهر التالية: تغايُر الشكلين، اختلاف طبيعتهما، عدم تطابقهما، تبادل التأثير، العراك
والاشتباك، الأولية المحدَّدة التي يُمارسها أحدهما على الآخر.
١٠١
من بين الأمثلة التي اعتمد عليها فوكو في هذا النقاش، لوحة رينيه ماجريت «هذا ليس
غليونًا»
Ceci n’est pas une pipe (١٩٢٩م)،
١٠٢ وهي اللوحة التي كانت موضع تحليل من ميشال فوكو
وكتب عنها مقالته «خيانة الصورة»
trahison de l’image، ودارت بينه وبين ماجريت نقاشات
عديدة حولها.
كلُّ مَن يُلقي ببصره على لوحة ماجريت، سيُفاجأ، لا محالة، بغرابة هذه اللوحة التي
تتقيد إلى
أقصى حدٍّ بقواعد التمثيل مع أن كل ما فيها «يقول» بعكس «ما تُصوِّره». يتعلق الأمر بهذه
اللوحة
التي تُجسِّد في فضائها لوحة أخرى وقد رُسم داخل إطارها غليون، وتحت هذا الغليون المجسَّد
في
اللوحة المرسومة، كُتب بحروف بارزة: «هذا ليس غليونًا» ceci n’est pas une pipe. وفوق اللوحة
المرسومة والمحمولة بمسند، يظهر غليون آخَر كبير معلقًا في الفضاء لا يخالف الموضوع المرسوم
سوى في لونه المائل إلى السواد.
ما يرمي إليه ماجريت هنا في هذه اللوحة هو إزالة كل علاقة تمثيلية بين «المكتوب»
و«المرئي»، فكأن للأول نظامًا آخَر لا يتقاطع مع نظام الثاني رغم أن الفضاء الذي يسبح
فيه
هذان الطرفان (أعني العبارة المكتوبة والغليون المرسوم) هو فضاء التمثيل الكلاسيكي لأن
لا
شيء فيه يخالف الفضاء المعتاد.
بالفعل إن ماجريت يتعمَّد بث التباين بين «الكلمات» و«الأشياء» ويواصل إبراز هذا
التباين
بأشكال مختلفة. فما من مرة قام فيها برسم شيء يحوي بداخله كلمات أو جملًا إلا وتعمَّد
التركيز
على الاختلاف الذي يَنخر «المكتوب» و«المرئي». لكنه بدل أن يقف عند هذا الحد فهو يَمضي
إلى
حيث يكون بالمُستطاع الوقوف على «تبايُن التباينات» ècart des ècarts حاذفًا — مثلما يفعل
بورجيس — القاعدة التي تستطيع توحيدهما في هوية مشتركة، وكأن ما يُهمه بالدرجة الأولى
ليس هو
أن يتعرَّف المشاهد في موضوعاته المرسومة على نماذج أصلية، بل هو أن يطلق العنان لبناء
صور
تُشبه دومًا الموضوعات الواقعية لكنها لا ترتبط بها بأي رباط ماهوي.
لا داعيَ إذًا لأن نبحث للغليون المرسوم في إطار اللوحة عما يُطابقه في الواقع؛ فهو
ليس إلا
رسمًا، ولا داعيَ لأن نبحث للغليون المعلَّق في الفضاء عن موضوعٍ يَنطبق عليه، فهو ليس
إلا «تشابُهًا
ضبابيًّا»
une similitude nuageuse كما يقول فوكو، مثلما أنه لا داعيَ للبحث للعبارة «هذا ليس
غليونًا» عن موضوع تحيل عليه؛ فهي ليست إلا عبارة مكتوبة لا تُشبه سوى نفسها ولا تُمثِّل
سوى
ذاتها. أجل، إن كل هاته الموضوعات لا تعدو أن تكون سوى سيمولاكرات. ولهذا يُصرُّ فوكو
في
تعليقه على اللوحة نفسها بأن «التشابهات» عند ماجريت «لا تَثبُت ولا تُمثِّل لأي شيء
خارجها».
١٠٣
ما يحدث هو أن المُشاهد للوحة ماجريت «هذا ليس غليونًا»، دون أن يقرأ التنويه الذي
يخترق
اللوحة من أن الذي تُشاهده ليس غليونًا، يتبادر لذهنه على الفور أن ما يُشاهده هو صورة
لشيء
مألوف ومتعارف عليه ﺑ «الغليون»، لكن ما إن يقرأ تنويه ماجريت حتى تبدأ قناعاته القبلية
في
الاهتزاز، ليسأل نفسه إذا لم يكن هذا الذي أراه غليونًا فأي شيء يكون؟ وما يلبث أن يحاول
جاهدًا التدقيق في اللوحة من جديد حتى يَكتشِف سبب هذا التنويه، أي محاولةً للبحث عن
الاختلافات
التي قد تكون موجودةً في الرسم بين الغليون «الذي هو ليس غليونًا» والشيء المتعارَف عليه
في
الحياة بأنه غليون، والتي دفعَت الرسام لأن يَضع تنويهه، لكن هذا التدقيق لن يسفر إلا
عن خيبة
أمل؛ إذ إنَّ ما يشاهده في اللوحة هو غليون بالفعل. لكن المفارقة هي أن المُشاهد لن يترك
اللوحة وهو مُقتنع أتم الاقتناع بصدقِ ويقينِ ما رأته عيناه، سوف يَترُكها وهو ما يزال
في حالة من
الالتباس، باحثًا عن سرِّ هذه العبارة التي تخترق اللوحة؟ وعما إذا كان ما رأته عيناه
هو
الحقيقي أم أن العبارة لها مُبرِّرها وبالتالي تكتسب مصداقية أكبر من الصورة المجسدة؟
وإذا ما
سألنا المشاهد بعد ذلك عن موضوع اللوحة هل هو الغليون؟ لن نجد إجابة واثقة، وإنما سيأتي
الرد بربما … ربما تكون غليونًا، وربما لا.
أيهما يَمتلك الأولوية، الصورة أم الكلمة؟ اللغة أم المرئي؟ بالتأكيد هذا هو التساؤل
الذي
كان يقصده ماجريت من لوحته؛ إذ لم يَهدف ماجريت تقديم نوع من الخدعة البصرية المُتعارف
عليه
في بعض التصاوير والتي فحواها «أن هذا الذي تُشاهده يَحتوي على شكل آخر إذا غيَّرت الوضع
الذي
تَنظر من خلاله للوحة»، كما لم يقصد إثارة نوع من الالتباس والحيرة لدى المشاهد، إنما
هو فقط
أراد أن يطرح التساؤل السابق لكن بالرسم، يعضد هذا الرأي أن ماجريت لم يجعل من عبارته
تعليقًا أو اسمًا للوحته، كما هو الحال في لوحات أخرى، بل جعل العبارة حاضرةً في فعل
التلقي
ذاته، في قلب الصورة ذاتها، بحيث يَصعب تجاهلها، والاكتفاء بفعل المُشاهَدة.
ثمَّة مغزًى آخر للوحة ماجريت؛ إذ يُمكن النظر إليها على أنها تحمل رسالة مفادها «هذا
ليس
غليونًا، إنه رسم.» فالغليون المرسوم، ليس غليونًا بالفعل؛ إن هو إلا صورة غليون. مجرَّد
رسم
للغليون. وتلك هي الخيانة؛ لأننا لن نقدر في النهاية أن نمد أيدينا ونحشو الغليون تبغًا،
وندخنه، أو أن نقضم التفاحة (في لوحة هذه ليست تفاحة)! وهذا المعنى، الذي أراد ماجريت
أن
يُقدمه يتقاطع مع العديد من أعماله الأخرى التي حاول أن يناهض من خلالها فكرة التمثيل
في
الفن، كما عرضنا لذلك في الفصل الثالث.
والواقع أن موضوع «خيانة الصورة» هذا كان محورًا لأعمال ماجريت قاطبة. فهو كرسام كانت
تشغله إشكالية العلاقة بين الصورة والكلمة. اللغة تختزل العالم والأشياء، في مجرَّد كلمات،
وما تلبث هذه الكلمات بمرور الوقت أن تشكل حجابًا كثيفًا يقف حائلًا بيننا وبين جوهر
الأشياء؛
لذا كانت دعوة ماجريت لأن ننظر إلى عمق الأشياء لا إلى ظاهرها؛ لأن اسم الشيء لا يعني
الشيء
نفسه. فكلمة «وردة»، لا تحمل لون الوردة ولا رائحتها ولا جمالها، هي كلمة أُطلقَت من
قديم على
هذا الكائن البديع، وورثنا نحن الكلمةَ كدال على مدلول هو الوردة، لكن الدلالة والجمال
والشكل والعطر لا تكون إلا في الوردة ذاتها. فاللغة، أية لغة، عاجزة بامتياز عن كشف هوية
الشيء. والأسماء اعتباطية لا معنى لها؛ لذا سنَجده في لوحة أخرى يرسم مجموعة من الأشياء:
حذاء، بيضة، شمعة، قبعة، مطرقة، كوب؛ ثم يكتب جوار كل شيء اسمًا مخالفًا لاسمه المتعارف
عليه:
الحذاء = قمر، البيضة = شجرة، الشمعة = سقف، القبعة السوداء = ثلج، المطرقة = صحراء،
الكوب = رعد،
فأي كلمة تصلح للإشارة إلى الأشياء، فقط إذا نظرنا إلى اللغة على أنها نسق تداولي، هذا
من
ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الهيمنة للكلمة واللغة تظهر بقوة عندما يحدث احتكاك وتماس
بين كلا النظامين. فحضور الكلمة داخل النَّص يُحدث نوعًا من التوتُّر، ويتلاشى تمامًا
إذا كنا نجهل
اللغة التي كُتبت بها الكلمات.
تذهب سوزي جابليك في دراستها عن ماجريت أنه هناك صلة جديرة بالملاحظة بين كتابات
فتجنيشتين ولوحات ماجريت. كلاهما سعى لإظهار الطبيعة «النسبية» لاستخدامنا للكلمات؛ إذ
ليس
ثمَّة علاقة منطقية بين ما يكونه الشيء والاسم الذي اكتسبه. الاسم لا يُمثِّل ما يكونه
الشيء،
بانعتاقها عن نعوتها المألوفة، تعود إلى جذورها، إلى حالتها الأصلية، قبل تدوينِها في
تصنيفات اللغة المتنوعة. واللغة أيضًا تُصبح منفصلة عن حقيقتها التقليدية.
١٠٤
لقد أعلن ماجريت ارتيابه بالصورة والكلمة … المرئي والمسموع — المقروء، وأظهر هذا
عبْر
استقصاءاته … فلون جسد امرأة أو تفاح يُمكن أن يُستبدل بلون آخر مُغاير للمألوف. الكلمة
التي
تُشير إلى شيء مألوف يُمكن أن تأخذ معنًى مختلفًا، كذلك بالإمكان استبدال شيء بكلمة.
القابلية
للتبادل وإحلال شيء محل آخر يُحطِّمان صحة ومعقولية الإشارات المؤسسة في كلا الطرفين.
من جهة أخرى، فماجريت يظلُّ رسامًا في المقام الأول، وليس فيلسوفًا، واستبصاراته الحدسية
عن
اللغة والكلمات كانت دائمًا موجهة نحو تحديد الوظيفة التي كان يَنشدها للوحاته. بمعنًى
آخَر
الصور أساسًا هي التي كانت محور اهتمامه، وحين فعل ذلك، لم يكن مطَّلعًا بعدُ على بحوث
اللغويين
المعاصرين. لقد كان دافع ماجريت في الرسم ذا طبيعة ثنائية … ثنائية يُمكن إدراكها في
تخيلاته، التي هي سمعية وبصرية. صورة العالم، التي تركب نفسها مرة بعد أخرى في الذهن،
تنشأ
في موازاة هذَين العنصرين. إنَّ التحام السمعي والبصري يفضي إلى الصورة. فالتعبير السمعي
«يتضمَّن
أكثر مما هو منقول، عن طريق «الكلمات» و«اللغة». إنه يتَّصل بالموسيقى والكلمات معًا،
وهذا
بالفعل أساس ما هو سمعي … وفقًا لما يذكره اللغويُّون. السمعي-البصري لا يشمل العبارات
التي
تظهر فيها الكلمات فحسب، لكن أيضًا تلك التي لا تكون فيها الكلمات مرئية.»
لقد رأى ماجريت أشكالًا لكنه في الوقت نفسه سمع الكلمات التي عن طريقها تحيا كأشياء
في
عقول البشر. شيئًا فشيئًا تُصبح الكلمات أكثر وضوحًا، في الوقت الذي يعزلها وعيه، كفنان،
عن
الأشياء، إنَّ مشكلته كانت تكمن في التعارض بين عنصرين، عادةً ما يصطدم بهما كل فنان:
الأشياء
والكلمات. هذا لا يعني أنه لم يكن ثمَّة تفاعل بين وعيه بالكلمات، ووعيه بالأشياء المرئية.
فقط هو أراد أن يُعبِّر عن أزْمَته، من خلال الخطوط والألوان … وأيضًا الكلمات.
أخيرًا، لم يكن ماجريت فقط هو مَن حاول، عبْر لوحاته، إثارة التساؤل حول علاقة الصورة
بالكلمة؛ فالواقع أن الأهمية التي احتلَّتها الصورة في القرن العشرين، قد دفعت العديد
من
الفنانين إلى إعادة التأمُّل في طبيعة هذه العلاقة، وفي كتابه «دراسة الأيقونة:
الصورة – النَّص – الأيديولوجيا» (١٩٨٧م) يذهب ميتشل
W. J. Mitchell إلى أنه من السمات البارزة في
القرن العشرين هو التحوُّل إلى ثقافة الصورة، ويرجع ذلك نتيجةَ مقاربة جديدة للغة. فلم
يَعُد
المبدعون والمُنظِّرون يُحلِّلونها كمجرَّد تراكيب، بل تنبَّهوا إلى الخطاب الذي يَخترق
كافة وسائطها
المرئية والمنطوقة-المكتوبة. وبالتالي يصعب الفصل بين تلك الوسائط كما كان معتادًا، لوجود
علاقة حوارية بين المرئي والمنطوق-المكتوب، تجلَّت بانتشار ظاهرة الكاتب-المصور. والتنقُّل
بين
اللغة المرئية والمنطوقة-المكتوبة لا يأتي اعتباطًا، بل يستخدم الكاتب-المصور اللغةَ
المرئيةَ لتقويض أنساق اللغة المنطوقة-المكتوبة، كما يلجأ للغة المنطوقة-المكتوبة لفضح
زيف الصورة.
١٠٥ فالتنقُّل بين الوسائط المُتنوعة للغة يولِّد آليات جديدة لمقاومة كافة الأنساق
السلطوية المتغلغلة في ثنايا المجتمع والأفراد.
(٣) جيل دولوز: من النسق إلى الجذمور
ثمة أوصاف عديدة قُدِّمت لفلسفة دولوز؛
١٠٦ فهي تُسمَّى ﺑ «فلسفة الكثرة»، و«فلسفة الحدث»، و«الترنسندنتالية التجريبية»،
و«فلسفة المحايثة»، ويُطلَق على نسقه «نسق المُتعدِّد»، أما هو فيُوصَف ﺑ «فيلسوف الاختلاف»
و«مبدع المفاهيم»
١٠٧ إلخ. وربما تعود هذه الأوصاف إلى صعوبة تصنيف فلسفته داخل إطار واحد؛ فهو
صاحب «فلسفة مفتوحة» تَستوعِب العديد من التفسيرات والرُّؤى. يقول ريمون بيلور: «إن أعمال
دولوز
على اتصال مباشر بالكل … الفكر والفن والعلم والجسد والأحياء …»
١٠٨ هذا بالإضافة إلى الحقول المعرفية العديدة التي ساهم فيها دولوز من خلال
إنتاجه الفكري (الفلسفة، السياسة، علم النفس، اللغة، الفنون بكل أشكالها …) كل هذا يجعل
من الصعب تصنيفَ فلسفته، أو حتى تحديد اتجاه واحد لأعماله. يصف آلان بادو دولوز في الفصل
الذي يحمل عنوان «أي دولوز؟»
Quel Deleuze? قائلًا: «لم يكن دولوز بنيويًّا ولا ظاهراتيًّا
ولا هيدجريًّا ولا تحليليًّا، لقد كان قُطبًا بمفرده.»
١٠٩ من هذا المُنطلَق يرفض دولوز تصنيف فلسفته ضمن تيار محدَّد أو مدرسة بعينها «لا
يُمكننا الانتماء إلى مدرسة.»
١١٠ وهو مثله مثل فوكو ودريدا يرفض أن يُحسب على تيارِ ما بعد الحداثة؛ إذ يؤكد هو
وجاتاري «على كونهم غير مُرتبطين بهذه الحركة ويأخذون عليها كونها غير محدَّدة ومُتشائمة،
ولكنهم في الوقت ذاته يتعاطَفون مع مقاومتها لما يُسمِّيانه الخطاب المهيمن.»
١١١ وفي نفس السياق يرفض بادو
١١٢ التفسير ما بعد البِنيوي لفلسفة دولوز، ويَعتبره حداثيًّا قُحًّا، سيطرت على فلسفته
فكرة «الكل» أو «الواحد» مثلما هو الحال مع سبينوزا وليبنتس وهيجل وغيرهم من فلاسفة
الحداثة. وعلى النقيض من ذلك يذهب الناقد الماركسي تيري إيجلتون إلى أن دولوز هو المُفجِّر
الرئيس لتيار ما بعد الحداثة في الفلسفة، ويرى أن نزعة ما بعد الحداثة «لا نجدها في أي
مكان
أشدَّ عنفًا مما هي عليه في كتاب دولوز وجاتاري ضد أوديب.»
١١٣ وهو نفسُ ما ذهَب إليه إيهاب حسن
١١٤ في كتاباته المُتعدِّدة عن ما بعد الحداثة، وينضمُّ إلى هذا الرأي أيضًا فيلب مانج
الذي يعتبر كتاب دولوز «ألف ربوة» عبارة عن كتاب في «المنهج الجديد لما بعد الحداثة».
١١٥
تميَّز أسلوب دولوز في الكتابة بالصعوبة والتعقيد؛ بحيث يصعب على قارئ أي من أعماله
إيجاد
رابط متصل، أو موضوع ثابت، أو مفاهيم محدَّدة، فنصوصه لا تتقدَّم في اتجاه معين، بل تذهب
في
جميع الاتجاهات، وفي داخل النَّص تتولَّد المفاهيم في إيقاع متواتر سريع، وما إن يشعر
القارئ
بأنه كاد أن يدرك دلالة المفهوم حتى يجد هذا المفهوم قد تفرَّع وتشعَّب إلى مفاهيم صغرى
متنوعة.
وكما تقول باربرا كينيدي في كتابها «دولوز والسينما»: «إنَّ دولوز شخصية مُتعدِّدة الألوان
والإيقاعات والتنويعات، فتُقدِّم نصوصه بلاتوهات ولوحات واسعة التنوع، تُقدِّم نفسها
كأحداث وخطوط
وأرض للمفاهيم وملاحظات وإيقاعات وتشكُّلات، إنها أشبه بالمسرح أو المصنع.»
١١٦ وتَستطرِد قائلة: «إن أفكاره تتداخل وتتفاعل، فتنفصل وتَتشتَّت وتتهشَّم وتَتضاعف
وكثيرًا ما تتصادم بعنفٍ لدرجة أننا نعجز عن بلوغ صيغة محدَّدة للعمل الواحد.»
١١٧ هذه الصعوبة التي تحدِّثنا عنها كينيدي، والتي يُجمِع عليها كلُّ مَن كتب عن دولوز،
نابعة من فهْم دولوز الخاص لأسلوب وطريقة الكتابة الفلسفية.
إنَّ الأسلوب المتعارف عليه في الكتابة الفلسفية هو الذي يبدأ، في الغالب، بتحديد
المشكلة
موضوع البحث، ثم التعامل معها بالمنهج أو الأسلوب الذي يتبعه كل فيلسوف، وصولًا إلى التصوُّر
الذي هو بمثابة النتيجة. هذه الطريقة في الكتابة يُطلِق عليها دولوز «الطريقة الشجرية»
نسبةً
إلى الشجرة المكوَّنة من جذر وساق وفروع وأوراق وثمار. فالمشكلة تُقابل الجذر في الشجرة،
ويقابل الفرض الساق، والفروع والأوراق هي الفرض، وقد تشعَّب عبْر التحليل إلى قضاياه
المكوِّنة
له، وتكون الثمار هي المقابل للنتائج التي يَستخلِصها الفيلسوف في النهاية. هذه هي الطريقة
المستقرَّة في الكتابة الفلسفية عبْر تاريخ الفلسفة. وعوضًا هذا الأسلوب في الكتابة يدعو
دولوز
لما أطلق عليه الكتابة الجذمورية rédaction rhizomatique، فما المقصود بالجذمور؟ وماذا تعني
الكتابة الجذمورية؟
يقول دولوز: «إن أوَّل شكل للكتاب هو الكتاب-الجذر؛ فقد كانت الشجرة هي صورة العالم،
أو
بالأحرى كان الجذر هو الصورة الشجَرية للعالم، وقد تجلَّت هذه الأخيرة كأفضل ما يكون
في الكتاب الكلاسيكي.»
١١٨ إنَّ ثنائية الجذر-الشجرة تبدأ بالمقدِّمات وتنتهي بالنتائج، وهو أسلوب نمطي في
الكتابة يَلغي التعددية والاختلاف ويروم الوحدة والهوية … أسلوب لا يرى في العالم إلا
السكون
والثبات. لا يرى الأشياء في حركتها وصيرورتها، ولذا فإنه يحتفظ دائمًا بالمنطق الثنائي
في
الكتابة والرؤية، إنه «فِكرٌ لم يفهم التعدُّد قط.»
١١٩ بل يُناقض الطبيعة والعالم؛ «لقد هيمَنت الشجرة على الواقع الغربي، وعلى كل الفكر
الغربي من علم النبات إلى البيولوجيا وعلم التشريح، وأيضًا الإبستمولوجيا والثيولوجيا
والأنطولوجيا والفلسفة بِرُمَّتها.»
١٢٠ وبديلًا لهذا لا بد أن تأتي الكتابة متَّسقةً مع الطبيعة التي يحكمها مبدأ
الصيرورة. فالطبيعة لا تعمل وَفق المنطق الثنائي، إنما الفكر فقط هو الذي يحاول أن يخلع
على
الأشياء صفتَي الثبات والاستقرار، وهذا غير حقيقي؛ «فالجذور تدور حول نفسها وتتفرَّع
بكثرة،
جانبيًّا ودائريًّا.»
١٢١
•••
الجذمور أو الجذمار Rhizom نباتٌ ينمو على السطح دون جذور في الأرض، ينمو أفقيًّا بعكس
الشجرة التي تنمو رأسيًّا.
•••
على الرغم من أن «الجذمور» اسم يُستخدم في عالم النبات ليصف نوعًا معيَّنًا من النباتات
التي
تنمو على السطح دون عمق لها داخل التربة، إلا أنَّ دولوز استخدمه في كتابه «ألف ربوة»
ليصف به
أسلوبًا في الكتابة استخدمه في معظم مؤلفاته، وارتبط بعد ذلك بمفاهيم أخرى عديدة طرحها
دولوز عبْر مؤلفاته التالية … مفاهيم كالتعدُّدية والتَّرحال والصيرورة والسيمولاكرا
… فكلها
في النهاية مفاهيم تَشترك في نفس الصفات على نحو ما سنرى.
إنَّ الجذمور ينمو على السطح بشكل أفقي في مقابل الشجرة التي تنمو بشكل رأسي. الجذمور
يخلو
من العمق ويَنتشِر على السطح ويرفض الماورائيات. إنه أشبه بالشبكة؛ لذا يُطلِق عليه دولوز
«شبكة الجذمور»
rhizome network١٢٢ لا يُمكن تحديد بداية أو نهاية للشبكة، فكل حلقة مُرتبطة بأخرى؛
لذا فأي بداية هي بداية من المنتصف … من الوسط؛ «إنَّ أية نقطة من نقط الجذمور، بإمكانها
أن
ترتبط بباقي النقاط، ويَتعيَّن عليها القيام بذلك.»
١٢٣ والنقطة هنا في مقابل الخط. النقطة جذمورية، والخط شجري، النقطة منفصلة غير
متَّصلة، في حين يكون الخط متصلًا. لكن هذا الانقطاع الذي يُميِّز الجذمور لا يعني القطيعة،
إنما
يعني أن الفكر في أساسه، وكذا الواقع أيضًا، لا يَسير وَفق بناء خطِّي نسقي، أو بنية
واحدة
متسقة. إنما يسير وَفق منطق التعدديات والتكاثر والتضاعف، هناك خطوط للإفلات والهروب
دائمًا
داخل الجذمور «فخط الهروب يُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من الجذمور.»
١٢٤ لذا فالتفكير الجذموري لا يعرف الثبات والاستقرار، يعرف فقط الصيرورة
والارتحال وخطوط الهروب والإفلات.
١٢٥ الجذمور هو صورة العالم الذي لا يحكمه قانون، ولا تسيطر عليه فكرة كلية شمولية
واحدة، عالم متعدد اللغات واللهجات «ليست هناك لغة موجودة في ذاتها، ولا لغة كونية، بل
تنافُس اللهجات
dialectes … اللهجات المحلية
patois والعامية
argots
واللغات الخاصة.»
١٢٦ فاللغة واقعة مُتناظرة بالأساس، ولا يَحكمها بناء محدَّد. السلطة فقط تحاول الحفاظ
على شكل لغوي ثابت في الكتابة، والحديث، وحتى في الإنصات؛ والمشكلة هي الخضوع والاستسلام
لهذا الشكل الثابت «لم تُصنع اللغة من أجل الاعتقاد فيها وإنما مِن أجل الخضوع لها. حينما
تُفسِّر المعلمة عمليةً معيَّنة للأطفال أو حينما تعلِّمهم التركيب، فإنها لا تعطيهم
في الحقيقة
معلومات، وإنما تمرِّر لهم تعليمات وتبلغهم أوامر وتُنتِج لهم تلفُّظات «وجيهة» وأفكارًا
«صحيحة»
مطابقة بالضرورة للدلالات السائدة.»
١٢٧
سيَحتلُّ مفهوم «الجذمور» مكانةً هامة في كتابات دولوز ربما بدرجة تفوق أي مفهوم
آخر؛ إذ هو
ليس فقط مصطلحًا يكرِّس لمبدأ التعددية والاختلاف، بل سيمثل أسلوبًا أو طريقة في التفكير
والكتابة، بل والوجود في العالم أيضًا «يتعلَّق الأمر بتطورات لا متوازية بين أشياء لا
متجانسة، تطورات لا تعمل عبْر التشكُّل وإنما تقفز من خط إلى آخَر.»
١٢٨ وليست الشجرة ولا الجذمور استعارةً، إنهما صورتان للفكر، الشجرة بها كل خصائص
الاستقرار والثبات: إنها تَتوفَّر على نقطة أصل، أو بذرة أو مركز، إنها بنية ونسق من
النقاط
والمواضع التي تعمل على حصر كل الممكنات في خانة واحدة. إنها تملك مستقبلًا وماضيًا،
جذورًا
وقمة، تاريخًا بأكمله يحكمه التطور والنمو في اتجاه واحد والعقل الإنساني مليء بالعديد
من
الأشجار: شجرة الحياة، شجرة المعرفة، شجرة السلطة، شجرة التاريخ. والسلطة نفسها شجرية،
لها
مركز ونواة، ودوائر تدور حولها، «إنها محور الدوران المنظِّم للأشياء والذي يكون على
شكل دائرة.»
١٢٩ لذا فهي تسعى، ما أمكنها، لأن تُحافظ على استقرار هذا الوضع وهذه الطريقة في
الحياة والتفكير، من هنا يعلن دولوز «لقد سئمنا من الأشجار، وعلينا ألا نَثِق فيها ولا
في
الجذور والجذيرات؛ لأننا عانَينا كثيرًا. ومعلوم أن كل الثقافة الحديثة تتأسَّس انطلاقًا
منها،
بدءًا بالبيولوجيا وانتهاء باللغويات.»
١٣٠
•••
إنَّ الجذمور أو العشب الذي يَنمو بين الأشجار وحولها هو القادر على «أن يهزَّ دعائم
الشجرة
الحديثة للعلم الغربي.»
١٣١ إنه نموذج متعدِّد المراكز والنقاط، خطوط الالتقاء فيه هي نفسها خطوط الهروب
والإفلات. لذا فإن الجذمور يكون دائمًا بين الأشياء، ويَنمو من خلالها «تتطور الأشجار
وفق
التشكُّل الوراثي المسبق أو وفق التنظيمات البنيوية المُتجدِّدة. وليس هذا حال العشب
أو الجذمور،
إنه ينمو بين أواسط الأشياء الأخرى.»
١٣٢ إنه يملأ الفراغات والفجوات بين الأشياء. وليس المُهم هنا تحديد نقاط بداية أو
نهاية؛ إذ إن المهم دائمًا هو «الوسط»، فنحن دائمًا وسط طريقٍ ما أو وسط شيءٍ ما، نعيش
دائمًا
بين الماضي والحاضر، الحاضر والمستقبل. لا توجد بداية محدَّدة نبدأ منها لأن كل بداية
تسبقها
بدايات، كما لا وجود لنهاية خالصة؛ فكل نهاية هي بداية جديدة لشيءٍ ما «هذا ما يجعل من
المُمكن
دائمًا أن يُقال لمؤلِّفٍ ما إن عمله الأول كان جامعًا وشاملًا منذ البداية، أو إنه لا
يَتوقَّف،
بالعكس، عن التجدد والتحوُّل.»
١٣٣
يَرتبط مفهوم «الجذمور» عند دولوز بمفاهيم أخرى عديدة كالصيرورة والارتحال، التوطين
وإعادة التوطين. كما يرتبط أيضًا بمشروعه الفلسفي الذي يُطلق عليه «قلب الأفلاطونية»،
ونقده
«للتحليل النفسي». كما أنه حاضر باستمرار في رؤيته للفن والاستطيقا. وربما ستتَّضح هذه
المفاهيم وعلاقاتها المُتشابكة عندما نتقدم خطوات أخرى في التحليل. غير أنَّ هذا المفهوم
أيضًا
يرتبط بالأسلوب الذي اتبعه دولوز في كتاباته؛ فما إن نبدأ بالقراءة في عمل من أعماله
حتى
نَشعر بالتشتُّت والارتباك، والانتقال السريع من فكرة لأخرى، ومن مفهوم إلى آخر.
لا تعمل الكتابة الدولوزية وفق النموذج الخطي المتسلسل المتعارف عليه، إنما وفق نموذج
الشبكة مُتعدِّدة المراكز. الكتاب كصورة جذمورية، ضد الصورة الشجرية في الكتابة. ممارسة
الكتابة كتعدُّدية وصيرورة بدلًا من ممارستها كبِنية مغلقة. كتابة ليست رصدًا، ولا تتبُّعًا،
ولا
انعكاسًا وتأملًا، كتابة تحتفي بالانبثاق والاقتباس والخيانة. يقول دولوز عن تجربة الكتابة
المشتركة مع فليكس جاتاري «لقد سرقتُ فليكس وأرجو أن يكون قد قام إزائي بالشيء ذاته.»
١٣٤ فالكتابة دائمًا تتمُّ «مع» و«بين» «إننا نكتب دائمًا مع أحدٍ ما لا نُسمِّيه حتى
عندما نعتقد أنه لا يُشاركنا شخص آخَر في الكتابة.»
١٣٥ الكتابة عند دولوز هي آلة مُنتِجة للمعنى … آلة حرب موجهة ضد كل أشكال السلطة،
لكنها آلة غير نسقية «إنها عبارة عن حلقات مفتوحة.»
١٣٦ منفتحة على الخارج، تحيل إليه، ويحيل إليها «إن الكتاب لا يوجد إلا في الخارج وبواسطته.»
١٣٧ وهو يَرتبِط بتركيبات وخطوط أخرى عديدة «فالكتاب ليس صورة للعالم كما ترسَّخ في
الاعتقاد. إنه يُشكِّل جذمورًا مع العالم، بحيث يوجد تطور لا متوازٍ بينهما؛ فالكتاب
يضمن
تَرحال العالم، لكن هذا الأخير يعيد توطين الكتاب الذي يرحل بدوره وبذاته داخل العالم.»
١٣٨ إنَّ العالم ليست له صورة ثابتة تحاول أن تحاكيها الكتابة؛ لذا فالمطلوب هو رسم
خارطة للعالم عبْر الكتابة، لا محاولة نسخه ومحاكاته.
ولعلَّ كتاب دولوز وجاتاري «ألف ربوة»
Mille Plateaux يُعَدُّ نموذجًا تطبيقيًّا لأسلوب الكتابة
الذي يُحدِّثنا عنها دولوز. ولعل عنوان الكتاب في حد ذاته يبدو موحيًا؛ فمفردة ربوة استعارها
دولوز وجاتاري من جريجوري باتيزون
Gregory Bateson والتي استخدمها في كتابه «نحو إيكولوجيا
الروح»
Vers une écologie de l’esprit وكان يعني بها «منطقة زاخرة بالطاقة ومُتوهِّجة، تتفادى
كل توجُّه نحو نقطة مرتفعة أو نحو نهاية خارجية.»
١٣٩ إن الربوة توجد دومًا في الوسط، فلا بداية لها ولا نهاية. وكلمة «ألف» تفيد
التعدُّدية، إنها «ألف ربوة وربوة»، كل ربوة منفصلة عن الأخرى، لكن هناك خطوط وإشارات
ضوئية … نقاط للتلاقي، هي نفسها خطوط للهروب، إنَّ الربوة ليست استعارة؛ فالأمر يتعلَّق
بمناطق تغيُّر
متواصل أو بما يُشبه الأبراج التي يراقب كلٌّ منها أو يستطلع منطقةً ما، وتتبادل الإشارات.
١٤٠ هذا من حيث عنوان المؤلِّف، أما الكتاب نفسه فلم يأتِ على شكل فصول مسلسلة؛
«فالكتاب المكوَّن من فصول، يتوفَّر على نقاط ذروته ونهايته، فما الذي يَحدث بالمقابل،
بالنسبة
لكتاب مؤلَّف من ربوات تتواصَل فيما بينها عبْر شقوق مجهرية.»
١٤١ لذا فليس للكتاب بنية أو موضوع محدَّد، إنه مليء بالفجوات، وخطوط الهروب «لقد
قسَّمناه إلى ربوات وأعطيناه شكلًا دائريًّا.» ومن هذا المنطلق فإن من الممكن قراءة كل
ربوة
بصورة منفصلة، وهذا هو التنويه الذي افتتح به دولوز كتابه «لا يتألَّف الكتاب من فصول
إنما
ربوات، وسنُحاول فيما بعدُ توضيح لماذا استخدمنا هذه الطريقة، ولماذا أعطينا كل ربوة
تاريخًا محددًا.»
١٤٢ وإلى حدٍّ ما يُمكن قراءة كل ربوة من هذه الربوات على حدة، وبشكل مستقل، باستثناء
الخاتمة التي ينبغي قراءتها في النهاية.
١٤٣ لقد أراد دولوز من كتابه هذا ممارسة «الكتابة الجذمورية» وهي كتابة تقطع الصلة
بالخطاب الفلسفي التقليدي، كتابة تقف ضد فكرة التاريخ المُتواتر «فكل ربوة تُمثِّل لحظة
زمنية
غير مرتبطة بالتي تسبقها أو تلحقها»، لكنها في الوقت نفسه تهدف إلى خلق همزات وصل بين
حقول
معرفية مُنعزلة عن بعضها.
•••
هكذا تصوَّر دولوز أسلوب الكتابة ووظيفتها، وهو أسلوب طبَّقه دولوز في معظم مؤلَّفاته؛
لذا فإن
قراءة هذه المؤلَّفات أشبه «بالمغامرة»، ولا بد أن نَمتلك استراتيجيات للقراءة ونحن نتعامل
معها؛
ولهذا السبب أيضًا لا تُعَدُّ قراءة دولوز «بالمهمة السهلة»،
١٤٤ إنها «أعمق دراما» بحسب توصيف جيمسون،
١٤٥ بل إنَّ البعض يجعل من هذه الصعوبة سببًا لعدم انتشار فلسفته بالقدْر الكافي
مقارنةً بباقي أقرانه ما بعد البِنيَويِّين.
١٤٦ لكن على أي حال تعدَّدت المداخل لقراءة فلسفة دولوز: فميشال هارد
M. Hardt١٤٧ يَقرؤها في سياق الانقلاب ما بعد البنيوي على الفلسفة الهيجلية؛ وهو ينظر إلى
فلسفة دولوز بوصفها جمعًا أو توفيقًا بين أنطولوجيا برجسون وأخلاق نيتشه وتعبيرية سبينوزا،
وهو يرى أن فلسفة دولوز إجمالية الطابع، وأنه لم يُغيِّر من آرائه واتجاهاته منذ أول
أعماله
حتى آخرها. أما آلان بادو صديق دولوز فيرى — خلافًا لكل التأويلات التي تذهب إلى اعتبار
فلسفة دولوز فلسفة للتعدُّد والرغبة — أن حقيقة فلسفته تَكمن في كونها تتحرَّك نحو هدف
واحد يُطلق
عليه «بزوغ الواحد»
survenance de l’un، وهو ما أطلق عليه دولوز نفسه «الواحد-الكل»
l’un-tout، ويَحصر بادو هذا «الواحد-الكل» عند دولوز، في الوجود والمعنى؛ «فالمسألة الأساس في
فلسفة دولوز لا تتمثَّل بالتأكيد في تحرير المتعدِّد بل في إخضاع الفكر في مفهوم متعدد
للواحد.»
١٤٨ ويؤكِّد بادو أن فلسفة دولوز في مجملها تدور حول محور واحد هو «ميتافيزيقا
الواحد»
métaphysique de l’une (الوجود بوصفه الحدث الوحيد الذي تتمُّ فيه كل الأحداث). في
نفس السياق أيضًا يرى تايلور هامير
Taylor Hammer أن المشروع الفلسفي لدولوز هو استمرار
للمشروع الأنطولوجي لهيدجر رغم اختلاف النسق الاصطلاحي لكلٍّ منهما، وهو يستند إلى بعض
مقولات
دولوز التي ورَدت في كتابَيه «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى» مثل «أن الفلسفة تلتحم/تتوحد
بالأنطولوجيا» و«من بارميندس
Parmenides إلى هيدجر
Heidegger هو صوت واحد يَتردَّد … محيط واحد
لكل القطرات … نداء واحد للوجود.»
١٤٩ لكن على النقيض من ذلك يرى رونالد بوج
R. Bogue١٥٠ أنَّ المشروع الفلسفي لدولوز قائم على إحلال حرف العطف
(et) محل الرابطة
(est)؛ أي التعدُّدية محل الهوية، ويرى أن فلسفة دولوز تعطي الأولوية للحدث المفرد على الوجود
بمعناه العام، وبالتالي فالأنطولوجيا كخطاب ميتافيزيقي مجرَّد ليست مطروحة في فلسفة دولوز،
كما أن دولوز لم يدَّعِ أن الوجود سابق على المعرفة كما ذهب إلى ذلك ميرلوبونتي وهيدجر؛
ففلسفته في الأساس تقف أمام كل «الماقبليات» و«الماورائيات».
إلى نفس هذا الرأي أيضًا يَنضمُّ فيلب مانج في كتابه «نسق المتعدد»، فهو يقرأ دولوز
من خلال
مفهوم «التعددية» وهو سيتَتبَّع هذا المفهوم في كتابات دولوز بدءًا من «الاختلاف والتكرار»
وحتى كتابَيه عن «السينما». ففكرة الاختلاف هي السلاح الذي يُشهره دولوز في وجه كل الفلسفات
الشمولية التي لا مكان فيها إلا لمنطق الهوية والوحدة. إن دولوز — حسب توصيف مانج — فيلسوف
«لا يعتمد على مبادئ، ولا يتحرَّك انطلاقًا من نقطة مركزية يحدِّد منها وجهته. وهو أيضًا
لا
يسعى إلى إيجاد رابط يصل الأشياء بعضها ببعض. إنما هو يزيد من تأزُّم اختلافها.»
١٥١ على أيِّ حال يُقرأ مانج دولوز بوصفه فيلسوفًا ما بعد حداثي يؤسِّس لقانون الحدث
بمعناه الفلسفي في مواجهة المبادئ الفلسفية الكلاسيكية المؤسَّسة على ميتافيزيقا الحقيقة
والتمثيل. أما كلير كوليبروك
Claire Colebrook١٥٢ فتُقدِّم مقاربتها لفلسفة دولوز من خلال مجموعة من المفاهيم — وهي
الطريقة الأجدى في رأيي. فلما كانت الفلسفة عند دولوز — على نحو ما سنرى — آلةً مُنتجةً
للمفاهيم، ولما كان دولوز قد مارس ما ارتآه وظيفة الفلسفة — وهي إنتاج المفاهيم، فإن
المدخل
المناسب لفهْم فلسفته هي المفاهيم التي طرَحها ونادى بها، مع محاولة الكشف عن العلاقات
بينها.
من هنا تُحدِّد كلير مجموعة من المفاهيم التي ترى أنها تُشكِّل منظومة حاضرة وبقوة في
كل مؤلَّفات
دولوز، ومن هذه المفاهيم «الصيرورة، واللاأقلمة، التجريبية المتعالية، الرغبة، السيمولاكرا،
الآلة، الإدراك الحسي، الزمن … إلخ.» وهناك أيضًا قراءات أخرى عديدة لفلسفة دولوز؛ فجيمس
بروسو يَقرؤها بوصفها «قلبًا للأفلاطونية»،
١٥٣ وآدم كوبير بوصفها «فلسفة للجسد»،
١٥٤ وجون راجمان بوصفها «فلسفة حياة» …
١٥٥ إلخ.
•••
لم يَكن دولوز من الفلاسفة الذين نادَوا ﺑ «موت الفلسفة» أو نهايتها، أو حتى من الذين
فقدوا الثقة في أهميتها وجدواها استنادًا للتقدُّم الذي حدث في الحقول المعرفية الأخرى
وتخلُّف
الفلسفة عن الركب، يقول دولوز في «ما الفلسفة»: «لم يكن لدينا على أي حال، مشكلة تتعلَّق
بموت
الميتافيزيقا أو بتجاوُز الفلسفة؛ فتلك الأفكار هراءات لا جدوى منها. هل نستمر الآن في
الحديث عن إفلاس المذاهب والأنساق، بينما كل ما حدث أن مفهوم النسق هو الذي تَغيَّر.»
١٥٦ كانت ثقة دولوز في الفلسفة مستمدة من تصوُّره لوظيفتها أو ماهيَّتها التي لا يَلحق
بها التقادم. «الفلسفة آلة منتجة للمفاهيم» و«الفيلسوف صديق المفهوم»، هذا هو التحديد
الدولوزي لماهية الفلسفة. والواقع أن قيمة هذا التحديد في حد ذاته، بصرف النظر عن مضمونه،
تكمن في أنه جاء في الوقت الذي بات يُنظر فيه إلى الفلسفة على أنها «ميدان من البحث غير
مرغوب
فيه» أو الدعوة إلى «تحلُّل الفلسفة وتماهيها مع بعض الحقول المعرفية الأخرى». أصبحت
الفلسفة
الآن تَبحث عن مأوًى بعد أن كانت هي المأوى للعديد من المعارف، والواقع أن الأمر لا يَستدعي
الحسرة والألم بقدْر ما يَتطلَّب إعادة التساؤل عن ماهية الفلسفة، وعن دورها ووظيفتها
التي
تَضطلع بها في الوقت الراهن. ولئن كان تاريخ الفلسفة يَحفل بالعديد من الفلاسفة الذين
كانوا
دائمي التساؤل عن ماهيتها؛ فإن هذا يعني أنه سؤال أَزْمة، كما أنه سؤال مُتجدِّد، تختلف
محاولات
الإجابة عليه وفقًا لمُقتضيات كل عصر وظروفه.
ليس الفيلسوف — وفقًا لدولوز — ذلك الشيخ الحكيم القادم من اليونان الذي يُعبِّر عن
أفكاره
بالرموز والصور الشِّعرية والأشكال الخيالية، والذي يدَّعي امتلاك الحقيقة والاتحاد بالمطلق،
بل
الفيلسوف هو ذلك العاشق المحب للحكمة والمفهوم، وبمعنى أدق هو صديق الحكمة، والراغب فيها.
وهذه الصداقة لا تخلو من أنداد ومُنافسين، وقد عبَّر أفلاطون من قبل عن هذا المعنى عندما
قال:
«إذا كان كل مواطن يَطمح إلى شيءٍ ما، فإنه يواجه بالضرورة مُنافِسين … فقد يَطمح النجار
إلى
الخشب، لكنه يَصطدم بحارس الغابة والحطاب وصانع الخشب الذين يقول كل واحد منهم: أنا …
أنا
صديق الخشب.» وكذلك الحال أيضًا مع الفيلسوف؛ إذ سنَلتقي بالكثير من المدَّعين الذين
يقول كلٌّ
منهم «إن الفيلسوف الحقيقي هو أنا … أنا صديق الحكمة.» وهكذا كان الحال مع أفلاطون عندما
قام
بالتمييز بين الفيلسوف وأدعياء الحكمة، وأرسطو عندما فرَّق بين الخطاب الفلسفي وأنواع
الخطابات الأخرى. وقد ظلَّت الفلسفة طوال تاريخِها تَصطدِم بالعديد من الأدعياء والمُنافِسين،
لكن
الخطر الآن أشد وأكثر قوة؛ لأن المنافسة قديمًا كانت محصورة بين شخص الفيلسوف ومَن يدَّعي
التفلسُف، أما الآن فالفلسفة ذاتها هي التي تدخل المنافسة أمام ميادين وحقول معرفية أخرى
تريد أن تحُلَّ محلَّها، أو تقوم بوظيفتها. ولم يكن هذا ليحدث إلا لأن الفلسفة أهملت
باضطراد
ميولها نحو إبداع المفاهيم، كيما تَحصر نفسها داخل الكليات «ليس المؤلم هو هذا الاغتصاب
الوقح، وإنما هو أولًا وقبل كل شيء، التصوُّر الفلسفي الذي يجعل مثل هذا الاغتصاب مُمكنًا.»
فالفلسفة عبْر نزوعها المثالي والماورائي هي التي جعلت الفرصة سانحة أمام العديد من الميادين
الأخرى كيما يَقوموا بالسطو على دورها «لقد التقَت الفلسفة منذ عهد ليس ببعيد بمنافسين
جدد
كثيرين كعلم الاجتماع واللغويات والتحليل النفسي، وقد بلغ العار مداه أخيرًا حينما استحوَذت
المعلوماتية والتسويق التجاري وفن التصميم والدعاية، وكل المعارف الخاصة بالتواصُل، على
لفظة
المفهوم ذاتها وقالت: هذه من مُهمتنا، نحن الخلاقين، نحن منتجو المفاهيم، نحن وحدنا أصدقاء
المفهوم، نجعله داخل حاسوباتنا.» لقد تحوَّل المفهوم الآن إلى سلعة تُباع وتُشترى وأصبح
أداة في
يد الإعلام وشركات الدعاية والإعلان «أصبحت الصورة الوهمية هي المفهوم الحقيقي، وأصبح
المُقدِّم، العارض للمنتج، سلعة كانت أو لوحة فنية، هو الفيلسوف مُبتكر المفاهيم أو الفنان.»
لكن هذه المنافسة وهؤلاء الأنداد الجدد، لا يضيرون الفلسفة «بقدْر ما يجعلها تشعر بحيوية
لأداء مهمتها الحقيقية، وهي خلق المفاهيم.»
عندما أعاد دولوز طرح سؤال «ما الفلسفة؟» في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته — والذي
صدر في
نهايات القرن العشرين — لم يكن يبغي وضع إجابة تقريرية له (الفلسفة هي كذا وكذا …) بل
كان
يسعى بالأحرى إلى تحديد الميدان الخاص بالفلسفة وتمييزه عن باقي الميادين الأخرى. وهذا
ما
يُحقِّق للفلسفة تفرُّدها وتميُّزها، ويجعل منها ولها كيانًا مستقلًّا ووظيفة مُتجدِّدة
دومًا. وعلى الرغم
من أن السؤال عن «ماهية الفلسفة» يَصلُح دائمًا كمدخل أو مقدمة لفلسفة أي فيلسوف، كيما
يُحدد من
خلال الإجابة عليه رؤيته للعالم، ومن ثَمَّ منهجه واتجاهه؛ إلا أن الأمر يبدو خلاف ذلك.
إذ
يبدو السؤال هنا وكأنه تتويج لحياة الفيلسوف، إنه أشبه بالمراجعة المدروسة للفكر؛ فالفلسفة
التي تسأل سواها، تُعيد النظر في مجمل ما تراكم لديها من أجوبة، لتطرح من خلالها سؤال
نفسها
عينه. إنه أشبه بسؤال رجل على مشارف الموت عن «ماهية الحياة»، إنه سؤالُ أزْمةٍ لا سؤالُ
معرفةٍ.
هناك لحظة لا بد أن يتساءل الفيلسوف فيها عن «ما هي الفلسفة؟» أو كما يقول دولوز «كنا
شديدي
الرغبة — نحن الفلاسفة — في إنتاج ما يعود إلى الفلسفة، دون أن نتساءل: ماذا كان عليه
ذلك
الشيء الذي قمتُ به طيلة حياتي؟»
١٥٧ وغالبًا ما تأتي هذه اللحظة في المرحلة المتأخرة من العمر «لحظة أن تتجمَّع وتأتلف كأجزاء
الآلة فيما بينها كيما يتم إرسال خط في المستقبل يَخترِق كل العصور …»
١٥٨ إنها اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، لحظة التحرُّر من كل القيود، ومن كل
الاندفاعات النظرية والعملية، ومن كل الحسابات والاعتبارات الانتمائية … إنها الساعة
التي
تقول فيها «هذا هو بالضبط ما كان يَشغلُني، لكني لستُ أدري إن أحسنت التعبير عنه، أو
إن كنت
مُقتنعًا بما يكفي.»
١٥٩
يبدأ دولوز تحديده لماهية الفلسفة باستبعاد التعريفات السائدة والمستقرة التي قُدِّمت
لها.
أشهر هذه التعريفات أن الفلسفة مُرادفة للتأمُّل النظري أو التفكير المجرَّد، يرفض دولوز
أن تكون
الفلسفة في تميُّزها واختلافها عن العلوم والمعارف الأخرى مجرَّد تأمُّل
contemplation؛ لأن التأمل
ليس خاصية تُميِّز الفيلسوف بل يُشاركه فيها رجل العلم والسياسي والفنان وحتى رجال الدين،
بالإضافة إلى أن تجربة التأمل هي تجربة ميتافيزيقية تُبعدنا عن الواقع وتجعلنا نهتم
بالكليات، ولا تُمكِّننا من إنتاج أشياء جديدة، وإنما تسقطنا في وهم الانتصارات اللازمانية
على
الفلاسفة والحكم على جهودهم بطريقة اختزالية مُتسرِّعة وباطلة تأثُّرًا بالرغبة في الهَيمنة
والتميز. كما يرفض دولوز أن تكون الفلسفة مجرَّد تفكير أو انعكاس الفكر على ذاته
réflexion
لأنه بهذه الطريقة سنُثير الغبار ونشكو من عدم الرؤية، وتضيع أقوالنا ولا تصل إلى مسامع
مُخاطَبينا وراء الجلبة التي نحدثها بأنفسنا. ولأن الإنسان ليس دائمًا وأبدًا في حاجة
إلى تعلُّم
الفلسفة من أجل القيام بالتفكير في أشياء تخص عالم الحياة الذي يعيشه، كما أن العلوم
والفنون المختلفة ليست في حاجة للفلسفة من أجل التفكير في قضاياهم المتعددة، بالإضافة
إلى
أن التفكير ليس بحدٍّ مميِّز للفلسفة، بل هو نشاط عام يشترك فيه الجميع، يقول دولوز:
«نحن نعتقد
أننا نمنح الفلسفة قدْرًا كبيرًا حينما نجعل منها فنًّا للتفكير، لكننا في الواقع نُجردها
من كل
شيء، فالرياضيُّون لم ينتظروا أبدًا مجيء الفلاسفة لكي يُفكِّروا في الرياضيات، كما لم
ينتظر
الفنانون مجيء الفلاسفة للنظر في الرسم والموسيقى.»
١٦٠ أما الرأي الثالث الذي يقول بأن الفلسفة تعني «التواصل»، وهو رأي هابرماس الذي
ذهب إلى أنَّ وظيفة الفلسفة هي صياغة الحقيقة التي تحظى بالإجماع
consensus عبْر
التواصل
communication بمعناه العام، سواء بين الأفراد والجماعات أو بين المذاهب والتيارات، أو حتى
بين المراحل التاريخية المُتعاقِبة. يرفض دولوز رأي هابرماس — المعاصر له، ويُبرِّر ذلك
بأن الذي
يُحرِّك الجمهور ويؤثِّر في الحشود ويصنع الرأي العام ليس العقل والمفهوم، بل الأهواء
والعواطف
والمصلحة؛ ولذلك يَنفي أن تكون الفلسفة وليدة النقاش بين الناس عبْر الموائد المُستديرة
في
الساحات العامة؛ لأن الفلسفة لها مائدتها المستديرة التي تخصُّها. ذلك بالإضافة إلى أن
النقاش
العام هو معركة بين الآراء والظنون كثيرًا ما ينتهي إلى التنازع والصراع، ويُحرِّكه مبدأ
إرادة
القوة، وهو نقاش عقيم لا يُبدع سوى آراء وليس أفكارًا. أما الحوار العقلاني على المائدة
الفلسفية فهو حوارٌ جادٌّ ميدانه اللغة العقلانية، ومقصده هو المفاهيم والمعاني.
إن المشكلة الأساس في التعريفات السابقة هي أنها كانت وما زالت مسكونةً بهوس تشكيل
الكليات
universaux داخل مجمل الميادين، وهذا مرجعه حُلمٌ قديمٌ ورغبةٌ في سيطرة الفلسفة على
المجالات المعرفية الأخرى. والمثال الأبرز هنا فكرة «الروح المُطلَق» التي نادى بها هيجل
وجعل
منها مبدأً كونيًّا مُفسِّرًا لكل شيء … الفن والدين والتاريخ، والنتيجة … الإغراق في
العموميات
ونفي التعدُّديات؛ لذا يقول دولوز: «المبدأ الأول للفلسفة هو كون الكليات لا تُفسِّر
أي شيء، بل
ينبغي أن تكون هي موضع تفسير.»
١٦١ والخلاصة كما يقول دولوز: «ليست الفلسفة تأمُّلًا ولا تفكيرًا ولا تواصلًا حتى وإن
كان لها أن تَعتقِد تارة أنها هذا وتارةً أنها ذاك.»
١٦٢
لا تَتحدَّد قيمة الفلسفة — بحسب دولوز — وفقًا لما تنتجه من مناهج أو مذاهب؛ فليس
المنهج سوى
أداةً نسقية للتعامل مع الظواهر … أداة لاختزالها وإدراجها في وحدة زائفة. كما أن المدارس
والمذاهب الفكرية لم يَعُد لها وجود؛ لأن الوقائع الآن لم تَعُد تحتمل في تفسيرها أية
أفكار
كلية شمولية. يُحدِّد دولوز مهمة الفلسفة في كونها إبداع وابتكار للمفاهيم، تلك هي الروح
الأصلية
للفلسفة منذ الإغريق وحتى الآن «كلما تمَّ إبداع المفاهيم في مكانٍ وزمانٍ ما، فإن العملية
المؤدية إليه ستُسمَّى دائمًا فلسفة، أو لن تتميَّز عنها نهائيًّا حتى وإن أُطلق عليها
اسم آخر.»
١٦٣ إن الفلاسفة العظام الذين يَحتلُّون مكانة رئيسية في تاريخ الفلسفة هم مبتكرو
المفاهيم أو مُجدِّدوها، وكما يقول نيتشه: «لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول المفاهيم
التي تُمنح
لهم مُقتصرين على صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع بصُنعها وإبداعها وطرحها وإقناع
الناس باللجوء إليها.» لا بد أن يكون للفيلسوف إذًا إسهامه في مجال إبداع المفاهيم، وإلا
فإنه
يتخلَّى بذلك عن المهمة الأسمى للفلسفة؛ «لا تكون المفاهيم في انتظارنا وهي جاهزة كما
لو كانت
أجسامًا سماوية. ليسَت هناك سماءٌ للمفاهيم، بل ينبغي ابتكارها وصُنعها، أو بالأحرى إبداعها،
ولن تكون أي شيء إن كانت لا تَحمل توقُّع مُبدعيها.»
١٦٤
إنَّ المفاهيم بحسب دولوز تكون محايثة بنفس القدْر الذي تكون فيه مُتعالية، إنها
تكثيف للحدث
«فأن نُفكِّر معناه أن نجرِّب.»
١٦٥ لكن التجربة هنا لا تُشير إلى المعنى الفيزيقي الحسي، إنما تَعني أن الفكر مهما
بلغت درجة تَجرُّده يَرتبط بمسطحِ محايثةٍ ما، بأرض أو بإقليم معيَّن؛ لذا فلا بد أن
نتساءل عند
تعاملنا مع أي مفهوم عن مسطح المحايثة الذي يشغله، وغالبًا ما يكون هذا المسطح مرتبطًا
بمُشكلة
أو معضلة واقعية تواجه الفيلسوف «وإذا لم نجد المُعضلة المصاحبة للمفهوم فإن كل شيء يبقى
تجريديًّا.» لقد أبدع أفلاطون مفهوم المثال — رغم تعاليه — فوق مسطَّح من المحايثة مرتبط
بالوسط
الإغريقي الذي كان يعيش فيه. وهو وسط كانت تحتلُّ فيه فكرة التنافُس — التي هي إحدى تجليات
الدولة الديمقراطية التي أسَّسها الإغريق — مكانة رئيسة. وما كان يُشغِل أفلاطون — رغم
عدم قبوله
للصفة الديمقراطية للدولة — أثناء طرحه لهذا المفهوم تمييز المُتنافِسين والاختيار بينهم،
المُتنافِس الجيد من الرديء … الحقيقي من المزيف؛ إذ إنَّ المناخ الديمقراطي الإغريقي
كان قد رسَّخ
قيمة التنافُس بين الأفراد لشغل وظائف الدولة،
١٦٦ وهو ما افتقده النظام الإمبراطوري الذي كان سائدًا في الشرق، والذي كان يقوم
فيه الإمبراطور باختيار شاغلي المَناصب فيه بنفسه. هذا بالإضافة إلى أن التنافُس قد بلغ
مداه
بين السوفسطائيِّين والفلاسفة والفنانين (ويُمكن قياس ذلك على ظواهر أخرى عديدة كان التنافس
فيها قويًّا)، وكلٌّ منهم يدَّعي أنه راعٍ للحكمة. كان هدف أفلاطون وضع معيار يُمكن من
خلاله
الانتقاء بين المدَّعين واختيار الحقيقي من المزيف، ولهذا الهدف أبدع مفهوم المثال.
وعلى الرغم من أن لكلِّ مفهوم مكانه وزمانه الخاصَّين، إلا أن المفهوم كالعمل الفني
يظل خارج
سياق الزمن، لا تَسري عليه قوانينه «وبذلك تتوفَّر للمفاهيم طريقتها في عدم التعرض للفناء
رغم
كونها مؤرَّخة وموقَّعة ومسمَّاة.» وكل مفهوم له سياقه الزماني والجغرافي الذي أُنتج
فيه، لكن يظل
هذا السياق بمنأى عن المفهوم في ذاته، يَنفلِت المفهوم باستمرار خارج هذا السياق ليدخل
في
تشكيلات جديدة وتنسيقات وسياقات مُختلفة … في زمانٍ وجغرافيا جديدَين.
تتمثَّل تلك الجغرافيا فيما أَطلقَ عليه دولوز مسطَّح المحايثة
plan d’immanence، ويُمكن توضيح
ما يقصده دولوز، من هذا المفهوم، بمثالٍ أشار إليه، هو نفسه، باقتضاب حينما قال: «إنَّ
المسطَّح
يُشبه الصحراء التي تؤمُّها المفاهيم دون أن تتقاسمها.»
١٦٧ ولنتخيَّل إذًا صحراء شاسعة مُترامية الأطراف تسكنها مجموعة من القبائل المتفرقة،
كلٌّ منها يشغل منطقة محدَّدة منفصلة عن الأخرى … وتتناثَر هذه القبائل بطريقة عشوائية،
وربما
فوضوية أيضًا؛ حيث تُغيِّر مواقعها باستمرار من خلال نقاط الفراغ المُتوفِّرة على السطح.
وكل قبيلة
من هذه القبائل لها امتدادها الزماني الجغرافي، لكن هذا الامتداد لا يجعلها تركن وتستقر
في
موضعها، فهي دائمة التنقُّل والتَّرحال والبحث عن الجديد … البحث عن المأوى والطعام والشراب،
وهي
مطالب مُتجدِّدة لا يُسكِتها الإشباع. هذه القبائل تختلف من حيث الكم والمساحة التي تقتطعها
لنفسها، لكنها تَشترك جميعًا في حركتها المستمرة وصيرورتها وارتحالها المتواصل، كما أنها
متصلة ببعضها من خلال علاقات النسب التي تربط بين أعضائها. الصحراء هنا هي مسطح المحايثة
أو
الانبثاق أو المثول وكلها معانٍ واحدة، والمفاهيم هي القبائل التي تَشغلُها، وسيد كل
قبيلة هو
الفيلسوف الرحالة مُبتكر المفاهيم، الذي يقودها ويبحث لها عن أماكن جديدة تُعمِّرها باستمرار.
الصحراء رمز المُطلَق أو السديم
Chaos «فالمسطح هو المطلق اللامحدود الذي لا شكلَ له ولا مساحة
ولا حجم.» القبائل مُتغيِّرة أما الصحراء فثابتة «إن المفاهيم أشبه بالموجات المُتعدِّدة
التي
تعلو وتهبط، ولكن مسطح المحايثة هو الموجة الوحيدة التي تلفُّها وتنشرها.»
١٦٨ القبائل أحداث أما الصحراء فهي أفق الأحداث، السماء المرصَّعة بالنجوم. القبائل
مُتعدِّدة أما الصحراء فواحدة ذات ديمومة «إن المفاهيم تتراص وتشغل المسطح وتملؤه قطعة
قطعة،
بينما المسطح هو الوسط الذي لا يَنقسم؛ إذ تتوزَّع المفاهيم دون أن تلغي وحدته واستمراريته.»
وإذا كانت القبائل هي التي تتكفَّل بإعمار الصحراء، فإن هذه الأخيرة هي التي تؤمِّن التواصل
بين
القبائل «إن المسطح هو الذي يؤمِّن اتصال المفاهيم، بواسطة ترابطات تتزايَد على الدوام،
والمفاهيم هي التي تُؤمِّن إعمار المسطح وفق مساحة تتجدَّد وتتغيَّر باستمرار.»
١٦٩ المفاهيم كلها تتناثر على مسطح محايثة واحد، غير أن هناك مسطحات محايثة جزئية؛
فكل مذهب وكل فلسفة لها مسطحها الخاص، كما أن لكل فيلسوف مسطحه، الذي من المُمكن أن يُعاد
إحياؤه من جديد. والفلسفة والعلم والفن، لكلٍّ منها مسطَّحه الخاص الذي لا يُمكن أن يتماهى
مع
نظيره.
إن كل مفهوم يَتضمَّن مسطح محايثة خاص به يتكشَّف من خلال البحث عن المعضلة التي
تكمن وراءه،
وكما يقول دولوز فإن «الأفكار ليسَت نتاج الخبرة؛ فهي تظهر كإشكاليات، وتتكشَّف كمَوضوعات
ذات
صورة معضلة.»
١٧٠ تلك هي أهمية الأسئلة في الفلسفة. وما يَدعوه دولوز — متابعًا في ذلك هيدجر — بفن
ابتكار السؤال، هو محاولة الكشف عن المعضلات التي تحرِّك تاريخ الفلسفة والتي تكمن وراء
البناء المفاهيمي الخاص بها. وعلى سبيل المثال عندما طرح باسكال سؤاله: هل الله موجود
أم لا؟
لم يكن يقصد سؤالًا مباشرًا يحتاج إلى إجابة تقريرية بنعم أو لا، كما لم يكن إقراره في
النهاية مجرَّد رهان كما يظن البعض. فلو كانت المسألة بهذه السطحية، لما كان لسؤال بسكال
الأهمية التي اكتسَبها في تاريخ الفلسفة، كان سؤال بسكال ينطوي على إشكالية أهم من سؤاله
الظاهر وهي: ما هو أفضل طور من أطوار الوجود؟ هل هو لشخص يعتقد بوجود الله أم بشخص لا
يعتقد؟
وهكذا فإن سؤال بسكال الظاهر لا يَتعلَّق بوجود الله أو عدم وجوده، وإنما يتعلَّق بحال
كلِّ مَن
يعتقد أو لا يعتقد بوجود الله.
وليست المفاهيم سكونية الطابع، يُبدعها الفيلسوف ثم تفقد بريقها مع مرور الوقت، وإنما
يدخل كلُّ مفهوم منذ إبداعه في عمليات عدة يَكتسب في كلٍّ منها معاني مُتجدِّدة، بحيث
يظهر في كل
مرة بصورة مختلفة عن سابقتها «نفكِّر بأن نجد خارج المفهوم «أ» محمولًا «ب» يكون غريبًا
عن هذا
المفهوم، لكننا نظن أن من واجبنا إلحاقه به؛ فكل مفهوم هو في علاقة مع شيء آخر خارجًا
عنه.»
١٧١ فالمفاهيم تتطوَّر مع التطوُّر الزماني والمكاني، بحيث تدخل في علاقات جديدة مع
مفاهيم أخرى، أُنتجت في أزمنة مغايرة، كما تَنتقِل من مكان لآخر أو من سطح إلى آخر مغاير
لتُحمَل بدلالات جديدة في كل مرة، وكذا الحال أيضًا في انتقال المفهوم من مجال معرفي
إلى
آخر. ويتطلَّب هذا — وفقًا لدولوز — أن يكون للمفهوم شخصية مفهومية تُساهم في تحديده.
وهنا يمكن
أن نقول إنَّ الفلسفة كالرواية، فإذا كانت الرواية تتحرَّك من خلال شخصياتها، فإن للفلسفة
أيضًا
شخصياتها التي تتحرَّك من خلالها … زرادشت نيتشه، وأبله ديكارت، سقراط أفلاطون. وهناك
شخصيات
مفهومية عديدة لا تَكتسِب اسم علم، لكنها حاضرة عند كل فيلسوف، وينبغي على القارئ تكوينها
وإعادة بنائها، موناد ليبنتس، وتعبيرية سبينوزا، قصدية هوسرل، ونقد كانط، والروح الكلي
لهيجل … إلخ. وليسَت الشخصية المفهومية مُمثِّلة للفيلسوف، بل العكس هو الصحيح؛ فالفيلسوف
مجرَّد
وسيط لظهور المفهوم وانبثاقه … الفيلسوف هو الذي يُجسِّد الشخصية المفهومية «إنه الاسم
المستعار لهذه الشخصيات المفهومية»، وقَدَرُ الفيلسوفِ هو أن يصير إحدى هذه الشخصيات،
بحيث تغدو
مختلفة عما كانت عليه تاريخيًّا، وميثولوجيًّا، أو كما هي شائعة (سقراط أفلاطون، ديونيزيوس
نيتشه أبله ديكارت … إلخ). فليس ديونيزيوس نيتشه هو عينه ديونيزيوس الأساطير، كما أن
سقراط
الحاضر بقوة في النَّص الأفلاطوني ليس هو سقراط التاريخ. يَصير نيتشه ديونيزيوس، كما
يغدو
ديونيزيوس الفيلسوف … ويَصير أفلاطون سقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفًا. إنها
لعبة تبادل الأمكنة والأدوار. صيرورة لا متناهية بين جميع الأطراف.
لا قيمة للفلسفة إذًا لو تخلت عن دورها — إبداع المفاهيم، مثلما لا توجد قيمة لفلسفة
لم
تبدع في مجال المفهوم «هناك كتب عديدة لا يُمكننا أن نقول عنها إنها خاطئة؛ إذ لا يعني
ذلك
شيئًا، والأصح أن نقول عنها إنها عديمة القيمة والنفع، ذلك لأنها لم تُبدع مفهومًا، ولا
تحمل
إلينا صورة عن الفكر، ولا تولِّد شخصية تستحق العناء.»
١٧٢
سيُصبح تاريخ الفلسفة إذًا، وفقًا لدولوز، هو تاريخ المفهوم وتحولاته … رحلته في الزمان
والمكان … تجاوباته وتداخلاته مع المفاهيم الأخرى. فالفلسفة تعمل من خلال المفاهيم، ولو
حذفنا من تاريخها مفاهيم كالجوهر والمثال والعقل والعلة والمعلول والذات والموضوع والآخر
والحرية … إلخ، فلن يتبقَّى منه شيء. كما أن التغيرات التي طرأت على المذاهب والأنساق
هي في
الأساس تغيُّرات لحقت بالمفاهيم الأساسية في كل مذهب ونسق. وكل فلسفة مرهونٌ بقاؤها ببقاء
مفاهيمها «إن سقوط المذاهب والأيديولوجيات، لا يعني سوى أن مفاهيم معيَّنة عاشت، وكان
لها أن
تموت في النهاية.»
إن نهاية أو استمرار أي فلسفة في الواقع يتوقَّف على قوة مفاهيمها وقابليتها للتجدُّد
والإضافة، هكذا عاشت الأفلاطونية من خلال مفاهيمها، وخاصة مفهوم المثال «كان أفلاطون
يُنادي
بضرورة تأمُّل المثل، لكن كان عليه أولًا أن يبدع مفهوم المثال.» وقد ظل مفهوم المثال
الأفلاطوني حاضرًا بقوة في تاريخ الفلسفة، متَّخذًا أشكالًا وصورًا عديدة، وسيظل حاضرًا
ما بقيت
الفلسفة، وهذا دليل قوته وقابليته للتطور. ونفس الأمر يُقال أيضًا على مفاهيم ديكارت
وكانط،
وإذا كان بعضُنا — يقول دولوز — لا يزال ديكارتيًّا أو كانطيًّا اليوم، فذلك لأنه يحقُّ
لنا أن نتصوَّر
أن مفاهيمهم يُمكن تفعيلها داخل مشكلاتنا.
يَبدو دولوز في تحديده لماهية الفلسفة، كونها مُنتجةً للمفاهيم، مبتعدًا إلى حدٍّ
كبيرٍ عن
فلسفة برجسون؛ فقد عُرفت الفلسفة البرجسونية على أنها «تخطٍّ لما كدَّسه الغرب من مفاهيم
فلسفية
وعلمية لمُحاولة التواصل «مباشرًا» و«مطلقًا» مع الأشياء. أو هي محاولة لإعادة التواصل
المعرفي، علمًا وفلسفة، خارج شبكة المفاهيم وعلى أرضية مخالفة تمامًا لأرضية المعرفة
الموضوعية.» وهكذا فإن برجسون يدعو صراحةً إلى التخلي عن القطيعة التي أحدثتها فلسفات
المفاهيم ما بين الذات والموضوع «فعندما يتعلَّق الأمر بالعلاقة بين المفهوم والحياة،
فإنه
ينبغي أن نلاحظ أن المفهوم ليس أصليًّا بل هو لاحق وتابع. فالمفهوم أداة، وهو أداة استعملتها
الحياة وتستعملها لأغراض محددة في علاقتها بالمحيط؛ فهو وسيط أو توسُّط
mediation بين العضوية
والحياة. فذلك هو الوضع الإبستمولوجي للمفهوم.»
١٧٣ والواقع أن دعوة برجسون إلى تجاوز ما يُسمِّيه بهيمنة المفاهيم من أجل وعي العالم
بشكل كامل غير مقسَّم إلى أجزاء، لا يُمكن النظر إليها إلا كونها محاولةً لإضفاء نوع
من الضباب
الجدالي على الوضع الفلسفي؛ بمعنى أنها ليست أكثر من وسيلة جدلية اصطَنعها برجسون؛ ذلك
أن
برجسون، وفقًا لدولوز، كان فيلسوفًا مبدعًا في مجال المفاهيم.
والواقع أن التحديد الدولوزي لماهية الفلسفة يتوافق مع نقده السابق للتحليل النفسي
ودعوته لتحرير وإنتاج الرغبة؛ إذ الفلسفة مع دولوز ستتحوَّل من «كونها مجرَّد تأمُّل
وانعكاس
للوقائع، إلى عملية إنتاج متواصل.»
١٧٤ تمامًا كعملية إنتاج الرغبة التي دعا إليها دولوز، وهي نفس رؤيته لعملية
الإنتاج الفني كما سنرى. ويُمكن القول إن مسألة «إنتاج الجديد» كانت مُسَيطرة على فلسفة
دولوز
بأكملها، بحيث جعلها دولوز هدفًا لكل نشاط إنساني «نحن لا تَنقصنا الحقيقة أو المعرفة.
يَنقصنا
الإبداع والتجريب، فنحن نَفتقِد مقاومة الزمن الحاضر. فيستدعي خلق المفاهيم في حد ذاته
شكلًا
مستقبليًّا، أرضًا وناسًا جددًا لم يوجدوا بعدُ، وعند هذه النقطة يحدث التقارب بين الفن
والفلسفة.»
١٧٥
وإذا كان دولوز قد جعل من عملية إنتاج المفاهيم هدفًا للفلسفة، فإن لوك فيري
Luc Ferry
يذهب إلى التأكيد على ما هو مخالف لذلك في مقالته التي تحمل عنوان «الفترات الثلاث للفلسفة
المعاصرة»؛ حيث يقول: «… النشاط الفلسفي ليس له اليوم كما البارحة أية صلة بذلك الادعاء
بإبداع المفاهيم التي يتحدَّث عنها دولوز في كتابه الأخير، وكأن العلوم تتقلَّص إلى مجرَّد
تقنيات
خالصة وظيفية، ولا تَخلق هي الأخرى مفاهيم تُعَدُّ أهمَّ بكثير مما حققته الفلسفة.»
١٧٦ وهو ما يعني — وفقًا لفيري — أن تحديد دولوز السابق لماهية الفلسفة، ليس جامعًا
مانعًا؛ فالعديد من المجالات المعرفية الأخرى تُشارك الفلسفة «إنتاج المفاهيم» بل ربما
تفوقها
من حيث الدقة والأهمية. غير أنه إذا كان فيري محقًّا في قوله: «إن إنتاج المفاهيم ليس
حكرًا على
الفلسفة.» فإن هذا ذاته ما ذهَب إليه دولوز؛ إذ هو لم يَنفِ على المجالات المعرفية الأخرى
كونها تشارك الفلسفة مثل هذه الوظيفة، مع الفارق أن المفهوم هو غاية التفكير الفلسفي،
في
حين أنه يكون في المجالات المعرفية الأخرى بمثابة أداة وظيفية مُرتبِطة بالتقنية «لقد
أصبح
معروفًا الآن في مجال الفيزياء مثلًا أن المفاهيم كثيرًا ما تتحوَّل في بعض الفروع التطبيقية
إلى
جملة من المُعادلات الحسابية الدقيقة القابلة للاستثمار في المجالات التقنية، ومن ثَمَّ
فإن
إبداع المفاهيم في علمٍ مثل الفيزياء لا يُشكِّل في واقع الأمر سوى بداية نظرية أولى
من أجل
تحويلها إلى معادَلات وصيَغ حسابية أو إلى قوانين، سواء كانت بسيطة أو معقَّدة، لتنتهي
إلى
الارتباط بمجال التطبيق التقني في أغلب الحالات، بينما يظلُّ المفهوم في الفلسفة هو العمود
الفقري في كل بناء تنظيري، وغياب المفهوم يُؤدِّي إلى نَسفِ البناء من أساسه.»
١٧٧ وهذا هو الفارق الذي يُقيمه دولوز بين العلم والفلسفة والفن؛ إذ العلم يعمل من
خلال الوظيفة، بمعنى أن كل دوالِّه وظيفية «يبدأ العلم من المفهوم ليصل إلى تركيب جديد
مُغاير
أكثر دقة»، في حين تعمل الفلسفة من خلال المفاهيم «فهي تبدأ من المفهوم لتَصل إليه»،
أما
الفن فيعمل من خلال المؤثِّرات الحسية والوجدانية.
والخلاصة أن انفراد الفلسفة بإبداع المفاهيم يَضمن لها وظيفة دون أن يَمنحها أيَّ
تفوق أو
امتياز عن سائر الحقول المعرفية الأخرى، ما دامت هناك طرق أخرى عديدة للتفكير والإبداع،
لا
تُضطر إلى المرور عبْر المفاهيم كما هو الحال في النشاط العلمي والفني.
(٤) جان بودريار: من المحاكاة إلى الواقع الفائق
(٤-١) مقدمة
جان بودريار Jean Baudrillard (١٩٢٩–٢٠٠٧م) مُنظِّر ثقافي وفيلسوف فرنسي، ومُحلِّل سياسي،
وعالم اجتماع، ومُصوِّر فوتوغرافي. تُصنف أعمال بودريار بشكل أساس ضمن مدرسة ما بعد الحداثة
وما بعد البِنيوية. أهم أعماله نظام الأشياء The System of Objects (١٩٨٦م)، مجتمع الاستهلاك:
الأساطير والبنى The Consumer Society: Myths and Structures (١٩٧٠م)، a Critique of the
Political For Economy of the Sign (١٩٧٣م)، مرآة الإنتاج The Mirror of Production (١٩٧٣م).
اهتم بودريار اهتمامًا خاصًّا بالصورة وقُدرتها على تشكيل الوعي في المجتمع المعاصر.
ونجد في
تحليله للصورة بعض المفاهيم الماركسية وتأثُّرًا بالمفكر الفرنسي جي ديبور، واهتمَّ اهتمامًا
خاصًّا
بوسائل الإعلام، وكتاباته حافلة بالعديد من التطبيقات والأمثلة من ميادين مختلفة.
قدَّم جان بودريار نظريةً من أشهر النظريات التي قُدِّمت في الربع الأخير من القرن
العشرين، وقد
اشتُهرت باسم «نظرية الواقع الفائق» La théorie de l’hyper-réalité وأثارت جدلًا واسعًا ما زال
يتردَّد صداه حتى الآن. سنعرض في الصفحات التالية بالتفصيل لتلك النظرية، لكن يَلزمنا
بداية أن
نُؤصِّل لها فلسفيًّا؛ إذ إنها على علاقة وثيقة بمبحثَي الوجود والمعرفة:
من المؤكَّد أن إشكالية الوجود كمبحث رئيس من مباحث الفلسفة كانت موضوعًا للبحث المستفيض
طوال تاريخ الفكر الفلسفي. وقد دارت معظم تحليلات الفلاسفة حول طبيعة الوجود ومصدره وطبيعة
مُكوِّنات العالم الذي نحياه وطرق التعامل معه. وربما بات الحديث عن هذا المبحث غير مُغرٍ
لدى
البعض الآن على اعتبار أن الفلاسفة قد أفاضوا في مناقشته وتحليله من زَواياه المختلفة.
غير
أن من المؤكَّد أيضًا أن طبيعة الموضوعات التي تدرسها الفلسفة تتغيَّر بتغيُّر المكان
والزمان،
ولربما كانت الفلسفة دومًا بغير موضوع محدَّد؛ فالفلسفة في النهاية مجرَّد أداة للتعامل
مع
الموضوعات عبْر منظومة اصطلاحية ومفاهيمية محدَّدة. وإذا كان هذا هو حال الفلسفة فإن
طبيعة
العالم التي من حولنا قد تغيَّرت نتيجة دخول مُتغيِّرات عديدة أثَّرت في طُرق تعاملنا
وتواصُلنا مع
العالم ومع الآخرين. أهم تلك المتغيرات دخول وسيط الصورة في تعاملنا مع الأشياء من حولنا؛
فقد حلَّت الصورة محلَّ اللغة، حتى ليُقال إن الصورة بألف كلمة. لقد أنشأت الصورة في
البداية
عالمًا موازيًا لعالم الواقع، ما لبث هذا العالم أن تضخَّم حتى احتوى العالم الواقعي
بأكمله،
لدرجةٍ أصبح معها هذا الأخير جزءًا ضئيلًا من الأول. وهو ما يعني في النهاية أن ثمة تغيرًا
أنطولوجيًّا طرأ على طبيعة العالم من حولنا، ما يَستوجب معه جهدًا نظريًّا موازيًا للكشف
عنه
وتحليله.
إذا كان المستوى السابق يتعلَّق بالتأثير الذي ألحقته الصورة على الطبيعة الأنطولوجية
للعالم؛ فإن هناك مستوًى آخَر للصورة ذا طبيعة إبستمولوجية يتعلَّق بمشكلة التمثيل.
ويشير
التمثيل من الناحية الإبستمولوجية إلى الصور الذهنية والإدراكات التي يُكوِّنها الإنسان
عن
العالم الخارجي والتي تغدو بعد ذلك أشبه بالموجهات التي توجِّه طريقة تفكيره وتحكم استجاباته
في العالم. فإذا وضعنا في الاعتبار أن الصورة أصبحت تحتلُّ مكانة كبيرة في المشهد الثقافي
الراهن بوصفها أداة التواصُل الرئيسة بينَنا وبين مُكوِّنات العالم من حولنا، وبيننا
أيضًا وبين
الآخرين، فإن النتيجة المترتبة على ذلك أن ما يكتسبه الإنسان من خلال وسيط الصورة يتحكَّم
في
رؤيته للعالم من حوله، وينعكس على طبيعة سلوكه ووجوده في العالم، ومن هنا يتشكَّل العالم
الخارجي ويتَّخذ صورته في العقل الإنساني عبْر ذلك الوسيط … وسيط الصورة. وبصيغة أخرى،
إذا كان
الإنسان في النهاية محصِّلة تمثُّلاته عن العالم، وإذا كانت تلك التمثيلات في معظمها
تتمُّ الآن
عبْر وسائل الإعلام، أي من خلال توسُّط الشاشة، وعبْر تقنيات صناعة الخبر، فإن النتيجة
هي أن جُل
تمثُّلات الإنسان عن الواقع وبالتالي استجاباته في العالم، هي في حقيقة الأمر تجليات
لعالم
الصورة.
ثمَّة فرضية، سنسعى لإثباتها، مفادها أن الصورة بطبيعتها غير مُحايدة أو غير بريئة؛
فالصورة لا تَنقل الحدث كما هو؛ لأن الصورة إذا كانت تقوم بوظيفتها عبْر تقنية آلية محددة،
فإن هذه التقنية لا تعمل بمفردها، بل توجد ذات عارفة تقف وراءها، ذات محمَّلة بنسق معرفي
وأيديولوجي يحكم رؤيتها للعالم ويتدخل بالتالي في فعل التقاط الصورة للحدث. إذا أضفنا
إلى
هذا، التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده الآن في تقنيات صناعة الصورة، مع ضعف الأدوات
التحليلية المقاومة للخطاب البصري، فإنَّ النتيجة المُترتِّبة على ذلك حالة عالية جدًّا
من
الاستلاب للوعي الإنساني داخل عالم من الصور المحمَّل بالأيديولوجيات المختلفة.
كان بودريار امتدادًا لقائمة طويلة من مُفكِّرين قدَّموا إسهامات كبيرة في تحليل
الدور الذي باتت
تلعبه الصورة في الحياة المعاصرة، مثل فالتر بنيامين
Walter Benjamin١٧٨ ورولان بارت
Roland Barthes ١٧٩ وجي ديبور
Guy Debord١٨٠ وبيير بوردو
Pierre Bourdieu١٨١ وجيل دولوز
Gilles Deleuze١٨٢ وريجيس دوبري
Regis Debray١٨٣وماريو بارجاس يوسا
Jorge Mario Pedro Vargas Llosa.
١٨٤ لكن تحليل عالم الصور لم يكن بالنسبة لبودريار
لحظةً من لحظات مشروعه الفكري، وإنما كان مِحور هذا المشروع، بحيث دارت كل أعماله تقريبًا
حول
تفكيك بِنية هذا العالم وتطوُّر علاقته بعالم الواقع وصولًا إلى اللحظة التي اختفى فيها
العالم
الواقعي، كما يَزعُم، وحلَّ محلَّه عالم الصور.
(٤-٢) فرضية بودريار
يقوم مفهوم الواقع الفائق عند بودريار على ركيزتين أساستين؛ الأولى: غياب مفهوم الحقيقة
بصورة كلية. والثانية: عدم إمكانية مقاومة الزائف أو دحضُه وهزيمته، وبمعنًى آخَر ضعف
قدرة
الإنسان وطاقته على النقد والتمييز بين الحقيقي والمزيف. ومن المُمكن اعتبار الفرضية
الثانية
بمثابة نتيجة للفرضية الأولى؛ فقد أدَّى غياب مفهوم الحقيقية وسيادة الزائف إلى صعوبة،
أو
بالأحرى استحالة، التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وقد سعى بودريار في كتاباته
المختلفة إلى إثبات هاتَين الفرضيتَين عبْر العديد من الأمثلة والنماذج التطبيقية. غير
أن
الإطار النظري الذي استند إليه كان يَعتمِد على تفعيل بعض المفاهيم والمقولات الفلسفية
وخاصة
لدى نيتشه وأفلاطون.
(٤-٣) الأثر النيتشوي
نقطة البداية في تحليل بودريار هي تحديد نيتشه للمراحل التي مرَّ بها مفهوم الحقيقة
في
علاقته بالعالم، عالم الحقيقة أو العالم الحقيقي. كان نيتشه ذا بصيرة نافذة في تتبُّعه
لمفهوم
الحقيقة، رغم أن الصورة لم تكن بعدُ قد احتلَّت تلك المكانة التي أصبحَت تحتلُّها الآن،
لكنه أدرك
ببصيرته تلك أن العالم الحقيقي قد ذهب بلا رجعة. في نصٍّ هام بعنوان «كيف غدا العالم
الحقيقي
مجرَّد وهم»
١٨٥ من كتابه أفول الأصنام
Götzen-Dämmerung (١٨٨٩م)، يُحدِّثنا نيتشه عن وهمٍ أطلق عليه
وهم العالم الحقيقي. هذا الوهم من اختراع الفلاسفة ولا وجودَ له في واقع الأمر. وقد تصوَّر
الفلاسفة أنهم عبْر مناهجهم ومذاهبهم المختلفة، يُمكنهم اقتناص هذا العالم وتملُّكه،
في حين
أنهم كانوا يَجرون وراء السراب، وهو ما اكتَشفوه بأنفسهم، لكن عبْر تاريخ طويل من
الأفكار.
ومسار تطور فكرة العالم الحقيقي عبْر المراحل الست التي حدَّدها نيتشه في هذا النَّص
يُشير إلى
أن الفلاسفة أدركوا في نهاية الأمر أن ما كانوا يسعون وراءه كان مجرَّد وهم. لكن هذا
الإدراك
قد استغرق تاريخًا طويلًا: فقد بدأت فكرة وجود عالم حقيقي مفارق للعالم الواقعي مع أفلاطون،
الذي جعل معرفة هذا العالم الحقيقي قاصرةً على الفيلسوف فقط. ثم جاءت المسيحية لتشيد
عالمًا
أُخرويًّا، يُوعَد به الإنسان الفاضل، أو المذنب الذي يتوب، لكن هذا العالم غير موجود
على هذه
الأرض. أما كانط فقد ميَّز بين عالم الأشياء وعالم الأشياء في ذاتها، وجعل الثاني بمثابة
الموجِّه الأخلاقي للأول، وهو عالم مفارق أيضًا أو متعالٍ. وفي المرحلة الرابعة أصبح
العالم
الحقيقي فكرة لا يُمكن إثباتها أو بلوغها، وبالتالي لا يُمكن أن تمارس أي دور داخل العالم
الواقعي، وهذا ما أشارت إليه الاتجاهات الوضعية والتجريبية في القرن الثامن عشر. وفي
المرحلة الخامسة، أصبح العالم الحقيقي فكرة لا فائدة منها، وأصبحت زائدة عن الحاجة، بل
ينبغي أيضًا التخلُّص منها. وهذا ما دعت إليه الفلسفات المادية التي ظهرت خلال القرن
التاسع
عشر. أما المرحلة الأخيرة فيرى نيتشه أن فلسفته، التي تبلْوَرَت في كتابه
هكذا تحدَّث زرادشت
Sprach Zarathustra، هي التي تُمثِّلها. فوفقًا لنيتشه لا يوجد سوى هذا العالم الذي نعيش
فيه فقط، وهو عالم يخلو من مفهوم الحقيقة. الحقيقة وجهات نظر، وبالتالي فهي مُتغيِّرة
ونسبية.
يقول نيتشه عن فلسفته: «لقد نفَينا العالم الحقيقي: فأي عالم بقي؟ ربما يكون العالم الظاهر؟
لكن لا! ففي الوقت الذي أبطلنا فيه العالم الحقيقي أبطلنا أيضًا العالم الظاهر ذاته!»
١٨٦ يُريد نيتشه هنا أن يخرج من منطق الثنائيات المتضادَّة؛ لأن التمسُّك بنقيض الفكرة
يعني وجود الفكرة، التمسُّك بالعالم الظاهري في مقابل العالم الحقيقي، يعني ضمنًا مشروعية
هذا
الأخير، وهو ما ترفضه فلسفة نيتشه.
وقد استثمر بودريار نقد نيتشه لمفهوم الحقيقة وقام بتطويره وربطه بالدور الذي باتت
تُمارسه الصورة في الواقع المعاصر. فالحقيقة كلمة أصبحت تنتمي للماضي، ولا يُمكن لأحدٍ
ادعاء
امتلاكها. لكن السبب في ذلك، وفقًا لبودريار، يعود إلى التطور التكنولوجي الهائل الذي
شكَّل
حاجزًا كبيرًا أمام معرفة الواقع وحقائقه. فالتكنولوجيا المعاصرة غيَّرت طبيعة العالم
ومن ثَم
فرضت من جديد التساؤل عنه «إننا أمام تحولات هائلة وجوهرية تمسُّ تعريف العالم ذاته،
فالافتراضي هو الآن بصدد فرض سيطرته الشاملة على جميع الوظائف التي تعوَّدنا على اعتبارها
وظائف طبيعية.»
١٨٧ وفي موضعٍ آخَر يقول: «لقد أدَّت نشأة وسائل الإعلام الجماهيرية، ولا سيما
الإلكترونية منها، إلى تحوُّلات عميقة في طبيعة حياتنا. إن الصورة بمعناها الراهن لا
تعرض لنا
العالم أو تعكسه أو تُمثِّله بل أصبحت بصورة متزايدة تحدِّد وتعيد تعريف ماهية العالم
الذي نعيش فيه.»
١٨٨ إنَّ الصورة أعادت تشكيل العالم وصياغته، وبالتالي لم يَعُد العالم يُعاش بذات
الطريقة التي كان يُعاش بها فيما قبل القرن العشرين. فالصورة لا تَعترف بحدود المكان
والزمان،
إنها تعمل خارج نطاق الجغرافيا والحدود المكانية المُتعارف عليها، كما تعمل الصورة من
خلال
أرشيفها على استعادة الماضي متى شاء الإنسان ذلك.
•••
لم يَحدث هذا التغيير في طبيعة العالم نتيجة دخول مُتغيِّر الصورة بطريقة مفاجئة،
بل حدث
تدريجيًّا وعبْر مرحلتَين رئيستَين؛ المرحلة الأولى هي التي كانت تُعبِّر فيها الصورة
عن موضوع
واحد؛ أي كانت هناك علاقة هوية بين الصورة والخبر، بين ما تُجسِّده الصورة وبين الواقع
الفعلي.
كانت الصورة مُرتبطة بسياقٍ ما (تاريخي، اجتماعي، سياسي) وكانت غالبًا ما تظلُّ مُرتبطة
بهذا
السياق، بحيث إنَّ إمكانية استخدامها في سياقاتٍ أخرى مغايرة تُصبِح شبه منعدمة. أما
المرحلة
الثانية فقد شهدت تطوُّرات تقنية متقدمة في صناعة الصورة، وخاصة في فترة الثلث الأخير
من
القرن العشرين. ولأنَّ تحليل بودريار يَنصبُّ في المقام الأول على الصورة المُنتمية لهذه
الفترة؛
فإننا سنُحاول أن نحدِّد بعض خصائص الصورة في هذه المرحلة:
(٤-٤) الأثر الأفلاطوني
شاع استخدام مُصطلَح سيمولاكرا
Simulacra في مؤلَّفات جان بودريار واتخذه عنوانًا لمؤلَّفَيْن له.
١٩٣ والسيمولاكرا هي المكوِّن الرئيس للعالم الفائق وفقًا لبودريار. ويعود استخدام
المصطلح إلى أفلاطون، وتحديدًا في رؤيته التراتبية للوجود. لذا فإنَّ أي محاولة لفهم
وجهة نظر
بودريار حول الواقع الفائق ومُكوِّناته، لا بد أن تعود إلى أفلاطون وتحديده للسيمولاكرا:
تقوم أنطولوجيا أفلاطون على تراتبيةٍ واضحةٍ، تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ الطبقيةَ التي
كانت سائدةً في
المجتمع اليوناني إبان حياته، ويبدو أن أفلاطون كانت لديه رغبة في ترسيخ تلك الطبقية
فجاءت
رؤيته الانطولوجية، وربما الإبستمولوجية أيضًا، لتحقيق هذا الهدف. فإذا بدأنا بالتمييز
الأفلاطوني بين الجوهر والمظهر، والمفهوم عن المدرك، والفكرة عن الصورة، والأصل عن النسخة،
والنموذج عن الشبيه؛ فإننا نلحظ بدايةً أن هذه الثنائيات غير متكافئة؛ حيث إنها تَتردَّد
بين
نوعين من الصور. فالنسخ موجودات ثانوية Les créatures secondaire، إنها مُتظاهرات ذات أساس
راسخ، تَعتمِد في ذلك على التشابه؛ أما السيمولاكر فهو أشبه بمتظاهرات زائفة Les semblants
Faux مؤسَّسة على اللاتشابه. وبهذا المعنى نجد أفلاطون يُقسِّم العلاقة بين النماذج-الصور
إلى
قسمين: فهناك من ناحيةٍ العلاقةُ بين النسخ والأيقونات Copies – Icônes، وهناك من ناحيةٍ أخرى
العلاقةُ بين السيمولاكرا والاستيهامات Simulacra – fantasmes.
غير أن مفهوم النموذج عند أفلاطون، لا يتدخَّل هنا كي يقابل عالم النسخ ويَتعارض
معه. إنه
يتدخَّل كي ينتقي النسخ الجيدة التي تُشبه الأصل في صميمه وباطنه؛ أي الأيقونات
Icônes،
ويَستبعِد النسخ الرديئة؛ أي السيمولاكرات
Simulacres «إنَّ التمييز القائم بين «النموذج»
و«نسخته» يُخفي تمييزًا آخَر. التمييز بين صورتَين؛ حيث النسخ «الأيقونات» لا تُمثِّل
إلا الصورة
الأولى. أما الصورة الأخرى فهي «الشبيه» أو السيمولاكر. الفرق بين الأيقونة والسيمولاكر،
أن
الأولى نسخةٌ تتمتَّع بالتشابه؛ أما الثاني فبلا تشابُه. الأيقونة تقوم على الشبه والوحدة
مع
النموذج، أما السيمولاكر فيقوم على الاختلاف ويَنطوي على اللاتشابه. الأيقونة تكرِّر
النموذج
والسيمولاكر يخونه.»
١٩٤ سيَنتج عن هذا التحديد أن المقابلة الأساسية عند أفلاطون ليست بين النموذج
والنسخة؛ وإنما ستُصبِح محصورة في عالم النسخ ذاته. ولا يتدخل النموذج إلا كمعيار للتمييز
بين
النسخ والمفاضلة بينها، وانتقاء الأفضل واستبعاد غيره «يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ
على
السيمولاكرات، وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين
أن
تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء.»
١٩٥
إنَّ الدافع المحرِّك لنظرية المُثُل عند أفلاطون هو رغبته في الاختيار والانتقاء.
ولن يتسنَّى له
ذلك ما لم يُميِّز ويُفرِّق أولًا بين الحقيقة والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال
والصورة،
بين الأصل والنسخة، بين النموذج والشبح. والواقع أن المشروع الأفلاطوني لا يظهر على نحوٍ
صحيح
وحقيقي إلا إذا أرجعناه إلى منهج التقسيم. ولعلَّ تشبيه الخط الذي أورده أفلاطون في الكتاب
السادس من الجمهورية لتوضيح درجات المعرفة أو مراحلها، أن يكون من أبرز الأمثلة على منهج
التقسيم «… فلنتصور الآن خطًّا مقسمًا إلى قسمين غير متساويين يمثلان المجال المنظور
والمجال
المعقول. ولنقسِّم كلَّ قسم بدوره بنفس النسبة، لكي ترمز إلى الدرجة النسبية في الوضوح
أو
الغموض. وهكذا يكون لديك في العالم المنظور قِسم أول، يُعبِّر عن الصورة: وأعني بالصورة
الظلال
أولًا، ثم الأشباح المنطبعة في المياه وعلى أوجه الأجسام المعتمة المصقولة اللامعة …
أما
النِّصف الآخر من القسم الأول، فهو يشمل الأشياء الواقعية التي كان القسم الأول يُمثِّل
صورها؛
أي الكائنات الحية المحيطة بنا، وكل ما صنعته يد الطبيعة والإنسان. كذلك ينقسم العالم
المعقول قسمين؛ في الأول منهما يستخدم الذهن الأشياء الفعلية التي كانت في القسم السابق
أصولًا، على أنها صور، فيضطر الذهن إلى المُضيِّ في بحثه بادئًا بمُسلَّمات، وصاعدًا
في الطريق لا
يصعد به إلى مبدأ أول، وإنما يهبط به إلى نتيجة. وفي الجزء الثاني يمضي الذهن في الاتجاه
العكسي، من المسلَّمات إلى المبدأ المطلق، دون أن يستعين بالصور كما فعل من قبل، وإنما
يَمضي
في بحثه مستخدمًا المُثُل وحدها.» هناك عند أفلاطون إذًا نوعان من الصور المنعكسة. فهناك
أولًا
«الأشياء الواقعية» (التي تحتلُّ الجزء الثاني من القسم الأول) وهي عبارة عن صور أو نسخ
من
المُثُل. ونظرًا إلى أن هذه الأخيرة هي الموجودات الحقيقية، فإن صورها من الأشياء الواقعية
ليست سوى موجودات من الدرجة الثانية؛ لأنَّ وجود هذه الصورة قائم على أساس «المشاركة»
في
المُثُل والمشابهة لها، فهي إذًا «تدعي» الوجود. ولكن لما كان التشابه بينها وبين المُثُل
تشابهًا
داخليًّا وروحيًّا (فمثلًا لا يكون الفعل الواقعي العادل عادلًا، بل ولا يُسمَّى كذلك،
إلا إذا تأسَّس
على ماهية العدالة)، فإن مثل هذا التشابه يدعم ويضمن ما في وجودها من الدعوى، ويجعل منها
بالتالي دعاوى حقَّةً وصورًا صادقة. وأما النوع الثاني من الصور المنعكسة فهي «الأشباح
وكل
التمثيلات الأخرى المشابهة لها» (التي تحتل الجزء الأول من القسم الأول)، وهي عبارة عن
صور
للأشياء الواقعية التي هي بدورها صور للمُثُل؛ أي أنها نسخ من نسخ أخرى أو
للمحاكاة محاكاة
Mimesis Mimeseos،
١٩٦ ولذا فهي تبعد عن الوجود الحق درجتين، مما يجعلها موجودات من الدرجة الثالثة،
أدنى درجات الوجود، وإن كان الأهم من هذا أنها تَفتقر إلى ذلك التشابه الداخلي بينها
وبين
المثل الذي يوجد بين أصولها من الأشياء الواقعية وتلك المثل، مما يجعل دعاويها في الوجود
باطلة، ويجعلها هي نفسها صورًا زائفة.
١٩٧
هكذا جعَل أفلاطون الصور موضوعات أقرب إلى الظن منها إلى اليقين، موضوعات للشك والارتياب،
مجموعة من الظلال والأشباح المنطبعة على المياه وعلى أوجه الأجسام المصقولة اللامعة
كالمرايا وغيرها؛ ومن ثَمَّ فإنها تتعلَّق أكثر بمنطقة الالتباس والفقدان لليقين والزيف
والخداع
والكذب وكل ما هو غير حقيقي أو الوهمي.
مع أفلاطون إذًا تمَّ اتخاذ موقف حاسم في تاريخ الميتافيزيقا يخضع بمقتضاه الاختلاف
لهيمنة
الذاتي والشبيه، ويَطرح الاختلاف من حيث إنه لا يُمكن أن يكون موضع تفكير، فيُلقى به
والسيمولاكرا في هوة سحيقة. لذا فنحن نعجز، من هذا المنطلق، عن تحديدٍ إيجابي للسيمولاكر،
فهو
أشبه بالنبت الشيطاني الذي ينتشر في كل مكان. «لقد عوَّدتنا العقيدة المسيحية، لما عرفته
من
تأثير الآباء الأفلاطوني النزعة، على صورة بدون شبيه؛ الإنسان صورة لله وشبيهه. لكن الخطيئة
أفقدتنا الشبه وأبقت على الصورة … هذا هو السيمولاكر بالضبط، إنه صورة شيطانية فقدت التشابه
الذي يضمُّها إلى الشبيه، أو بالأحرى فإنها، على عكس الأيقونة، طردت التشابه، وأبقت على
الاختلاف.»
١٩٨ فالفكرة السائدة في الأديان الثلاثة الكبرى هي «أنَّ الله قد خلق الإنسان على
صورته؛ أي شبيهًا له (الصورة الصادقة)، ولكن الإنسان لما عصى أمر ربه وأكلَ من شجرة المعرفة،
سقط وهبط من الجنة، ففقَد بذلك الشبه مع الله، وأصبح سيمولاكر (صورة زائفة) مُغتربًا
على وجه الأرض.»
١٩٩ إنَّ السيمولاكر يَنطوي على ميل نحو اللاتحديد وخرق المعقول، وعلى سعي إلى أن
يُصبح آخَر. إنه يكون دومًا أكثر أو أقل ولا يكون قطُّ مساويًا. وإذا أظهر نوعًا من الشبه
فإن
هذا من قبيل الوهم وليس من قبيل التشابه الفعلي.
إن هذا التحديد الأفلاطوني للسيمولاكرا المستند على التراتبية الأنطولوجية، هو ما
سيُوظِّفه
بودريار في تحليله للدور الذي باتت تمارسه الصورة في ثقافة العولمة وما بعد الحداثة.
(٤-٥) السيمولاكرا: موت الواقع وبزوغ المزيف
إن لفظ
simulation الذي يُوظِّفه جان بودريار ويقابله في اللغة العربية لفظ الاصطناع أو
التصنُّع أو التمويه أو الإيهام أو التصاور؛
٢٠٠ مفهوم أساسي في فكر بودريار، ومدخل مهم لفك ألغاز أطروحته حول موت الواقع. وقد
استعار بودريار في مؤلَّفه المُصطنع والاصطناع
Simulacres et simulation (١٩٨١م) حكاية لجورجي
بورخيس
Jorge Luis Borges (١٨٩٩–١٩٨٦م) وهي خرائط الإمبراطورية، مُعتبرًا إياها «أفضل محاكاة
ساخرة للتصنُّع». ومضمون هذه الحكاية أن أحد الأباطرة أمر بأن تُرسم خريطة مفصَّلة لإمبراطوريتِه
«تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة»
٢٠١ فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة، بقدْر مساحة الإمبراطورية تمامًا؛ حيث أصبحَت
الخريطة هي الأرض وحلَّت محلَّها، فأصبحَت النسخة الشبيهة هي الأصل، ذلك أن «السيمولاكر
لا يُخفي
الحقيقي أبدًا، بل إنَّ الحقيقي هو الذي يُخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إنَّ السيمولاكر
هو الحقيقي.»
٢٠٢ لقد انمحى الاختلاف الكامن بين الأرض والخريطة، بين الأصل والنسخة، بين
الأيقونة والسيمولاكر، بل أكثر من هذا صارت الخريطة تسبق الأرض بعدما كانت الأرض هي التي
تسبق الخريطة وترمِّمها وتولِّدها، ومع أفول الإمبراطورية «الأرض» بدأت «خريطتها» تتفتَّت
شيئًا
فشيئًا، كما بدأت بعض الثغور التي ما زال بالإمكان تحديد مواقعها في قلب الصحاري تتفتَّت
هي
أيضًا، لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو كان الأمر أشبه بلحم فاسد محكوم عليه بالتحلُّل
والعودة إلى مادته الأصلية. ويرى بودريار أن المجتمعات ما بعد الحداثية أو ما بعد الصناعية
نموذج حي لهذه الحكاية، إن لم نقل إنها وصلَت إلى عكسها ونهايتها. لقد انهارت الخريطة
حسب
بودريار كتجريد وكمُضاعف وكبديل وكمرآة للأرض بحيث إنها لم تَعُد تصنُّعًا أو محاكاةً
لأرض أو
لكائن مرجعي أو لمادة معيَّنة «لقد تحوَّلت إلى استراتيجية للتوليد بواسطة نماذج لواقع
بلا أصل
وبلا هوية.»
٢٠٣ لقد غدَت واقعًا فائقًا أو واقعية مفرطة.
موت الواقع إذًا عند بودريار، في أحد معانيه، ربما يكون موتًا لتصوُّر معيَّن عنه،
موتًا للتصوُّر
العقلاني الموضوعي الحديث، وهذا ما يَستدعي إعادة النظر في تصوراتنا وأفكارنا ومقولاتنا
التي
كنا نظن أن الواقع يعمل بها ويَحتكم إليها. لقد تمزَّقت الخريطة وبدأت تتحلَّل حسب بورجيس،
والسبب
في ذلك لا يعود إلى الخريطة بل إلى الواقع (الأرض)، بمعنى أن تحلُّل وأفول الواقع لا
يتحمَّل
فيه التصور العقلاني الحديث مسئوليته المباشرة. وإنما السبب يعود إلى «الواقع» الذي استحال
إلى واقع فائق … واقع مصطنع أو مزيف.
لكي يوضِّح بودريار ما يعنيه بمفهوم الاصطناع
Simulation يضعه في مقابلة مع بعض المفاهيم
الأخرى، منها على سبيل المثال مفهوم الإخفاء
Dissimulation؛ فالإخفاء يعني «التظاهُر بعدم
امتلاك ما نملك»، فنحن لا نُخفي شيئًا ليس بحوزتنا؛ لأنه لا يمكن إخفاء اللاشيء أو العدم،
كما
أنه ليس بمقدورنا حَجبُه طالَما أنه غير موجود. ومرجعية الإخفاء هي الحضور؛ لأنَّ موضوعاته
حاضرة
وموجودة وطبيعية، وبالتالي فمكانة الغياب في استراتيجية الإخفاء ثانوية؛ لأنها تكون فقط
مجرَّد نتيجة وتجلٍّ. أما الاصطناع فهو «التظاهر بامتلاك ما لا نَملك»؛ أي أن الاصطناع
يعمل
دومًا على ما لا نَملك، ويدَّعي باستمرار امتلاكه، وبالتالي فإن المرجعية الأساسية للاصطناع
هي
الغياب؛ لأنَّ موضوعاته مختلقة وليست طبيعية، أشياء وعناصر غير واقعية وغير حقيقية يتم
إنتاجها كوقائع طبيعية وحقائق ثابتة. ومكانة الغياب في الاصطناع أساسية؛ لأنَّ الغياب
يدخل في
بنية الاصطناع وتكوينه. لكن مع ذلك فالاصطناع، حسب بودريار، ليس بهذه البساطة والوضوح؛
لأنه
أكثر تعقيدًا وتركيبًا وتضليلًا؛ ذلك «لأنَّ الاصطناع غير التظاهر»، فالتظاهر بالشيء
لا يعني
اصطناعه، فمَن يتظاهر بالمرض يُمكنه ببساطة أن يستلقي على سريره ليوهم الآخرين بأنه مريض،
أما
مَن يَصطنِع المرض فإنه يعمل على أن يُعيِّن في حاله بعض الأعراض. لهذا فلا التظاهر ولا
الإخفاء
يُعبِّران عن حقيقة الاصطناع؛ لأن الاختلافات التي يطرحها التظاهر أو الإخفاء مقنعة؛
أي أن
كليهما مجرَّد قناع يتظاهر بشيءٍ ما أو يخفيه، علاوةً على أنهما لا يخلخلان، بأي صورة
من
الصور، توازن الواقع، فهذا الأخير بهما أو بدونهما يبقى ثابتًا ومتوازنًا؛ لأنهما (أي
التظاهر
والإخفاء) لا يُغيِّران من طبيعة الواقع أو الحدث. في حين أن الاصطناع يُشوِّه الواقع
ويمزِّق
مبادئه، إنه ليس استراتيجية سطحية ثانوية وإنما موجَّه بالضرورة ضد مبادئ الواقع ومقولاته.
٢٠٤
الاصطناع إذًا يُزلزل الواقع ويُفقِده ثنائياته وأقطابه، بالإضافة إلى أنه يزيل أي
إمكانية
للتمييز بين الحقيقة والزيف والصدق والكذب، الخير والشر، بين الواقع والخيال، وبالتالي
يُشكِّك
في الاختلافات التي تُميِّز كلَّ قطب من هذه الأقطاب عن نظيراتها، إلى درجة أن المقارنة
بين هذه
الثنائيات أصبحَت بلا قيمة، ذلك أن الاصطناع باعتباره موجَّهًا بالضرورة ضد مبادئ الواقع،
يسعى
إلى إقامة إبستمولوجية فوضوية أساسها التمويه والتضليل واللاتدقيق واللاضبط وانعدام
الشفافية والوضوح. فلم تَعُد هناك مثلًا أية إمكانية للتمييز بين الواقعي والخيالي، بين
الحقيقي
والزائف؛ لأننا أصبحنا بفعل الاصطناع نحيا خارج أسوار هذه الثنائيات، بحيث لم يَعُد ثمة
خيالي
مستقل عن الواقع، ولا زيف مُنفصِل عن الحقيقة، فقد اختلطَت الأوراق والعناصر والأشياء
بصورة
يستحيل معها التمييز. من ناحية أخرى نجد عند بودريار رفضًا لثنائية الوهم والحقيقة «إن
استحالة تقديم الوهم للناس تَتساوى مع استحالة اكتشاف مستوًى مُطلقٍ للحقيقة. فالوهم
لم يَعُد
ممكنًا؛ لأن الحقيقة لم تَعُد مُمكنة.»
٢٠٥ ويَضرِب جان بودريار مثالًا يُوضِّح به المعنى السابق، فيقول: «لنفترض أنك ذهبت وقمت
بتنظيم عملية سطوٍ وهمية بعد أن تأكَّدت من أن أسلحتك لا تعمل وأنها مزيَّفة، ثم احتجزتَ
رهينة
متواطئة معك في العملية، ثم طلبتَ فديةً وحرصتَ أن تُثير أكبر قدْر من الضجيج حول الحدث،
ونال
الحدث اهتمامًا إعلاميًّا كبيرًا. لكن الأمور قد ازدادت تعقيدًا (رجل شرطة يُطلق النار
على
المكان، أحد العملاء يُصاب بالإغماء وعلى وشْك فقْد حياته نتيجة أزمة قلبية … إلخ.) في
النهاية
ستَستلِم الفدية لكنها ستكون زائفة، وسيتمُّ القبض عليك، فما الاتهام الذي من المُمكن
أن يوجَّه
إليك؟ لا يوجد ما ينصُّ في القانون على عقوبةٍ لمدَّعي الجريمة، تمامًا كما هو الحال
مع مدعي
الفضيلة. هذه هي الجريمة الرئيسة للمحاكاة، إنها تَلغي الفوارق بين الحقيقة والادعاء،
بين
الواقع والوهم، وهي جريمة لا تستطيع كل السلطات أن تُقاومها.» إنَّ دلالة المثال السابق
تتركز
في حقيقة تلاشي المسافة بين الزائف والحقيقي؛ ومن ثَمَّ استحالة امتلاك القدرة على التمييز
بينهما.
٢٠٦
والواقع أننا في هذا السياق نستطيع أن نلمس تشابهًا بين وجهة نظر بودريار للعالم
ووجهة
نظر دريدا
J. Derrida (١٩٣٠–٢٠٠٤م)، فدريدا كذلك يُقرُّ بالطابع المُتردِّد واللايقيني للعالم،
فالعالم «مكوَّن من نصوص دائرية مختلطة يستحيل الوصول فيها إلى يقين ثابت أو نص نهائي.»
٢٠٧ وهو ما عبَّرت عنه جوليا كريستيفا
Julia Kristeva (١٩٤١–…م) بمُصطلَح
التناص
Intertextualite.
لقد ذهب بودريار إلى أن مفاهيم كالواقع والخيال والحقيقة والزيف … وسائر المفاهيم
الأخرى،
كان لها معنًى واضح إبان مرحلة الحداثة. غير أن معاني تلك المفاهيم قد حدث لها نوع من
الانهيار في مرحلة العولَمة، بحيث لم نعد نعرف بدقةٍ ما الواقعي وما الخيالي، ما الحقيقي
وما الزائف. واصطناع الواقع يُشبه اصطناع المرض؛ لذا يَتساءل بودريار: «وبما أن المصطنع
يخلق
أعراضًا «حقيقية» فهل هو مريض أم لا؟» ويجيب بقوله: «لا نستطيع أن نتعامل معه موضوعيًّا
لا
بوصفِه مريضًا أو سليمًا، فهنا يتوقَّف الطب وعلم النفس أمام حقيقةِ مرضٍ صارت غير معروفة.»
٢٠٨
الأمر ذاته بالنسبة لاصطناع الواقع؛ فالواقع الزائف يَنفلِت من أي إمكانية للتعامل
معه
موضوعيًّا كواقع أو كخيال، كحقيقة أو كزيف … إلخ. فكما أن الطبَّ يفقد معناه، إذا ما
أمكن تصنُّع
أعراض المرض؛ لأن مهمَّته معالجة الأمراض الحقيقية من خلال أسبابها الموضوعية؛ فإن الواقع
يَنطبِق عليه الشيء ذاته. فالواقع بعدما أصبح مُصطَنعًا ومُزيَّفًا أصبح عصيًّا على الفهْم
ما دمنا لا
نستطيع تمييز مظاهرِه الحقيقية عن المصطنعة، وكل هذا لأن استراتيجية التصنُّع تعمل على
«جعل
الواقع والوهم شيئًا واحدًا.» تلك هي «الجريمة الكاملة».
٢٠٩ كما يُطلِق عليها بودريار، جريمة قتل الواقع وإبادة الوهم. وهي الجريمة الأكثر
خطورةً ما دامت تَلغي الاختلاف الذي هو بمثابة حجر الزاوية الذي يُبنى عليه القانون «لأن
التصنُّع
استراتيجية تَتعالى على التناقُضات والاختلافات والتمييزات العقلية التي تؤسس للاجتماعي
والسلطة.»
٢١٠ الاصطناع يُلغي الاختلاف والتمايز ويُرسِّخ النمطية والتشابه والتكرار. وكل هذه
الفاعليات تُشكِّل تهديدًا «عقليًّا» لنا، «لقد تمَّ في كل مكان تذويب المسافات والاختلافات
بين
الأجناس والأقطاب المُتفارقة، وبين القاعة والمشهد، والواقع وضعفه، والذات والموضوع،
وهو ما
أدَّى إلى خلطٍ جذري في المصطلحات وإلى اصطدام هائل بين الأقطاب جعل من المستحيل الاستمرار
في
لعبة إقامة التمييزات والحدود وإصدار الأحكام، سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة.»
٢١١
إنَّ التصنُّع كاستراتيجية للتضليل تجعل إمكانية التمييز في الفن مثلًا بين الجميل
والقبيح
والجيد والرديء أمرًا مُستعصيًا، وفي هذا الصدد يُقدِّم بودريار في مؤلَّفه مؤامرة الفن
The
Conspiracy of Art تشخيصًا لحالة الفن في اللحظة الراهنة. فالاصطناع جعل من الفن المعاصر آلةً
«لتحويل الابتذال والسطحية والتفاهة إلى استراتيجية بقاء.»
٢١٢ ويُؤكِّد بودريار أنه فيما وراء كل الاختلافات الفنية المعاصرة توجد لعبة تضليلية
واحدة تتمثل في محاولة إقرار التفاهة والسطحية ثم تحويلها إلى قيمة أساسية واعتبارها
متعةً
جمالية، يقول بودريار: «بطبيعة الحال تزعم هذه التفاهة السمو بذاتها بالانتقال إلى المستوى
الثاني والساخر للفن، ومع ذلك، فهذه اللعبة لا تُجدي شيئًا، بل تتحوَّل هي ذاتها إلى
رداءة مضاعفة.»
٢١٣ لقد غدا التمييز الجمالي في الفن بين الجميل والقبيح، الجيد والرديء غير مُمكِن؛
لأن القيمة الجمالية الفنية ذاتها قد انهارت، اختلاط الجيد بالرديء عملَ على تدمير المعايير
الجمالية، ومن ثَمَّ الحس الجمالي لدى المتلقِّين. والفن المعاصر، وفقًا لبودريار، قطع
الصلة مع
الاستطيقا لأنه لم يَعُد ينتج معانيَ جمالية، بل فقط جمالية مصطنعة تتحلَّل إلى تفاهة
أساسها
السطحية. ويتساءل بودريار: «ما الذي تمَّ إخفاؤه في قلب هذا العالم الشفاف؟» ويُجيب قائلًا:
«لقد
تمكَّن الفن المعاصر من التحوُّل إلى جهة الهامشي والرديء بأن شكَّل بديلًا دراميًّا
عن الواقع، وعمل
على نقل بِنية اللاواقع وضخِّها داخلها.»
٢١٤ لكن ما الذي يُمكن أن يدلَّ عليه الفن المعاصر إذًا في عالم التصنُّع الفائق؟ إنها:
السخرية، ولكن «السخرية هنا ليست استراتيجية هامشية، وإنما وليدة التواطؤ السرِّي للفنان
مع
الجماهير المذهولة والمخدوعة في هذا الوضع الذي يوجد عليه الفن.»
٢١٥
ويرى بودريار أن طبيعة الفن قد تغيَّرت نتيجة دخول الشاشة كمُتغيِّر في المعادلة
الفنية «إنه
تحوُّل من الساحة، ساحة العمل أو ساحة المسرح أو ساحة التمثيل أو حتى ساحة السياسة إلى
ساحة
الشاشة، ويُمكن لنا أن نعمم هذه الظاهرة. لكن الشاشة لها بُعد آخر إلى حدٍّ ما، إنها
سطحية،
تجعل الصور في تواصُل فقط، وليس لها زمان أو مكان خاصَّان … مثلما قيل عن لوحة الموناليزا
في
اليابان، يُمكنك النظر إليها في خمس ثوانٍ.»
٢١٦ والواقع أنه قد سبق لفالتر بنيامين الذهاب إلى شيءٍ شبيهٍ بذلك في مقالته: العمل
الفني في عصر الاستنساخ الآلي. فقد أكَّد بنيامين أن العمل الفني لم تَعُد له تلك الأصالة
التي
كانت له في الماضي، وما هذا في رأيه إلا نتاج للتطور التقني في عملية استنساخ الصور،
الأمر
الذي أفضى في النهاية إلى ضياع ما أَطلق عليه بنيامين «هالة الفن». ولا تُشير هذه الهالة
إلى
مكوِّنٍ ما من مكوِّنات العمل الفني، وإنما تشير إلى الجانب المرتبط بأصالة العمل الفني
وأصالة
الفنان الذي أنتجه. وتلك الهالة هي التي تخلع على العمل الفني الطابع الطقوسي، وتجعل
المشاهد يقف مشدوهًا أمام أحد الأعمال الفنية العظيمة. لقد ضاعت هالة الفن وفَقَد الفن
بريقه
نتيجة عملية التداول اللانهائية للنُّسخ، ولم يَعُد يعني المشاهد كثيرًا ما إذا كان يُشاهد
أصل
العمل الفني أم صورته، ما دامت النسخة في النهاية هي صورة طبْق الأصل. لقد خفضت النسخة
من
القيمة الفنية للأصل وأزالت هالته، رغم أنها في الوقت ذاته ربما تكون قد زادت من قيمته
المادية.
٢١٧
ربما كانت أعمال الفنان الأمريكي إندي وارهول
Andy Warhol (١٩٢٨–١٩٨٧م) من الأمثلة الفنية
البارزة التي يُمكن التدليل بها على هذا التحوُّل الذي طرأ على طبيعة الفن المعاصر. وقد
كان
وارهول أكثر الفنانين ذِكرًا في كتاب بودريار: مؤامرة الفن. اشتهر وارهول بشعاره «أريد
أن أكون
آلة»، وهو شعار مُعبِّر عن خواء الفنان والفن المعاصر على حدٍّ سواء. والمسألة هنا لا
تتعلَّق
بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يُمكن تلخيصها في عبارة وارهول: «ما لا يمكنك التغلُّب
عليه،
فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقك، فلا بد أن تكون انعكاسًا له.»
٢١٨ ولم يدَّخر وارهول جهدًا من أجل تنفيذ هذه المقولة (على سبيل المثال رأى وارهول
أنه قد استغرق طوال عشرين عامًا في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء «وهو حساء
كامبيل
Cambil»؛ لذا جاء أحد أعماله نسخًا، عن طريق تقنية الشاشة الحريرية، لإحدى عبوات هذا
الحساء). وقد رأى وارهول «أن الفن ليس للنُّخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.»
٢١٩ ولكن كيف يُمكن للمرء أن يُمثِّل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس
بمقولة عامة أو سكونية؟ كانت إجابة وارهول متمثلة في أن الفن لا بد أن يعبِّر عن الأشياء
التي
تُمثِّل قاسمًا مشتركًا بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل،
الكوكاكولا، علب البريلو، صور مشاهير النجوم) غايته؛ لذا كانت موضوعًا لأعماله منذ ١٩٦٣م
حتى
وفاته، وقد لاقت نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا. يقول بودريار عن التيار الذي ينتمي إليه وارهول:
«إن الفنان الذي يضع اسمه على قطعة جاهزة الصُّنع فيَمنحها قيمة تجارية لا تُقاس بمقدار
كلفة
الصنع، إنما يدين بالفاعلية السِّحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يعترف به ويمنحه الشرعية،
ولن يكون فعله هذا سوى إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية لو لم يساندها حشد من المحتفين
والمؤمنين المُستعدِّين لتقديمه كما لو كان عبقري المعنى والقيمة.»
٢٢٠
وواقع السياسة والأخلاق لا يَختلِف عن واقع الفن، ذلك أن السياسة مثلًا لم تَعُد
استراتيجية
أيديولوجية بقدْر كونها قد دخلَت في مدار المصطنع. لقد انخرط الجميع في اللعبة، لعبة
الإيهام،
لدرجة أن التمايُزات السياسية لم تَعُد واضحة، فلا مجال الآن للتمييز بين اليساري واليميني
مثلًا؛ لأن الحدود التي صنعتها الأيديولوجيا، أتلفتها وهدمتها استراتيجية التصنُّع والاصطناع.
والأخلاق كذلك غدت اصطناعية. وعلى العموم فالاصطناع — كما يقول بودريار — جعلنا «لم نعد
نتوفَّر على معيار أو مقياس أو إطار أو مَرجع أنطولوجي أو قاعدة إبستمولوجية أو ضوابط
أخلاقية
نهائية أو يَقينيات دينية، تَصلُح للتمييز بين الأشياء، ورسم الحدود، وتحديد المسارات،
وتثبيت
الأسماء، وضبط الآفاق، وطرد الأشباح، والأوهام والتناقُضات.» ويُضيف: «في العالم كانت
لا تزال
هناك موازنة بين الخير والشر، وَفق علاقة جدلية قائمة تَضمن على الرغم من تقلُّبات الظروف
توتر
العالم الأخلاقي وتوازنه — كما كانت المواجهة خلال الحرب الباردة بين القوتين العُظميَين
تضمن توازن الرعب، فلا تَفُوق إحداهما الأخرى. ويختل هذا التوازن عند الشروع بتعميم كلي
للخير
(هيمنة الإيجابي على أي شكل من أشكال السلبية، استبعاد الموت وكل قوة محتملة العداء —
انتصار قيم الخير دائمًا أبدًا)، عندئذٍ يختل التوازن ويصبح كأن الشر قد استعاد استقلالية
خفية، ناميًا على نحوٍ أسيٍّ، توسُّعيٍّ.»
٢٢١
إنَّ النظام العالَمي الجديد لا يترك مجالًا للتمايُزات، وكل ما يخرج عن النظام ينبغي
مواجهته
بالقوة. هذا ما أكَّد عليه بودريار في مؤلَّفه قوة الجحيم
Power Inferno (٢٠٠٢م) الذي كرَّسه تحديدًا
لموضوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
٢٢٢ في هذا الكتاب يَنتقِد بودريار الإمبريالية الغربية التي تتحكَّم في طبيعة العالم
من حولنا: «لا يتعلَّق الأمر بصراع الحضارات، بل بمواجهة أنثربولوجية بين ثقافة عالَمية
مُتماثلة
وكل ما يحتفظ في أي مجال بشيء من التمايز يحول دون تذويبه في تلك الثقافة. ووفقًا لتلك
الثقافة العالَمية تغدو كل الأشكال المختلفة للخصوصية بمثابة هرطقات تمامًا كما هو الحال
في
الأصولية الدينية … إنَّ رسالة الغرب تتمثَّل في إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة
القهري بكافة الوسائل المُمكنة … إن مثل هذا النظام يرى في كل شكل عصي عليه إرهابًا مفترضًا.
هكذا حال أفغانستان؛ فالعالَمُ الحرُّ لا يتحمَّل بلدًا يمنع الحريات الديمقراطية — الموسيقى
والتلفاز ووجوه النساء. ولا يتحمَّل أن يقف بلدٌ ما في مواجهته، مهما كانت خلفيَّته الدينية
التي
يَستنِد إليها، فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية.»
٢٢٣
لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامةً ثقافية عالَمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس
على
صورة طائرتين تَخترقان برجَي مركز التجارة العالَمي في نيويورك، واحدةً تلو الأخرى. كانت
الصورة
وهي تُبَث تليفزيونيًّا تَحمِل كل مقومات الإخراج السينمائي، وتُضاهي أدق فنيات السينما،
حتى في
الإثارة والتشويق. وبما أنها صورة غير عادية وغير تقليدية فقد توفَّر لها من وسائل الإشهار
والتعميم ما جعلها صورة كونية يَشترك كل البشر في تلقيها وتأويلها. لقد كانت صورة ناسخةً
لكل
ما سواها من صور، وبلَغت قوَّتها النَّسخية أن ألغَت كل ما سبَقها وصارت المصدر التأويلي
لكل ما
بعدها، وهي بهذا صورة تُترجِم كل عناصر الهيمنة الثقافية والبصرية؛ حيث يَتقابل طرفان
لم يكن
من المُمكن أن يَتقابلا قبل ذلك التاريخ، وفي قلب نيويورك تَحدُث معركة عالَمية بين قوتَين
إحداهما
عُظمى ويُرمز لها البرجان الفارهان، والأخرى ناشئة لا تَملك غير إرادة المواجهة.
وقد صارت المواجهة سافرةً هناك، فكيما يَتحقَّق إخراج صورة كونية للحدث أراد صانعوه
أن يكون
عالَميًّا وخططوا لإخراجه وإنتاجه لكي يُحقِّقوا أعلى درجة من عالَمية الصورة، وهو تخطيط
ينافس في
دقته أرقى أنواع الإخراج السينمائي في هوليوود. ومن المؤكَّد أن مفجِّري البرجين قد وضعوا
في
تصوُّرهم ما يُمكن أن تكون عليه صورة الحدث في التغطيات التليفزيونية. وفي المقابل فإن
المستهدَف
الأمريكي قد سعى إلى توظيف تلك الصورة توظيفًا يَضمن له تحقيق أكبر قدْر من التأثير عبْر
تلك
الصورة، مما يَعني أن الطرفين كانا يُمارسان لعبة في الإخراج والمونتاج من أجل إنتاج
تأثير
خاص تُحدِثه صورة البرجَين وهما يَنفجِران ثم يَنهاران، ويكون ذلك فاتحةً إخبارية عالَمية
وصورة
كونية تلغي كل ما قبلها، وتُعيد كتابة التاريخ من لحظتها وصاعدًا؛ لكي تتغيَّر اللغة
ذاتها
وتتبدَّل المصطلحات، وليست الأحداث فقط. فما حدث قد كتَب لغة مختلفة وسجَّل مصطلحًا ذا
قيمة
دلالية خاصة تعود إلى تلك الصورة وتُحيل إليها؛ أي أن الصورة صارت هي المرجعية الدلالية
للمصطلحات.
وأول هذه المُصطلحات وأخطرها وأكثرها فاعلية ومركزية هو مصطلح الإرهاب. وكل بحث في
معنى
هذا المُصطلَح لن يكون دقيقًا إذا اعتمد على دلالات ما قبل صورة الحادي عشر من سبتمبر؛
ذلك لأن
الصورة قد نسَخت ما قبلها وكتبت معنًى خاصًّا يصدر عن تلك الصورة ويُحيل إليها. ولم يبقَ
على
الإنسانية بعد ذلك إلا أن تُسلِّم بهذا المعنى، بعد أن انهزمت كل مصطلحات الفكر الذي
صار في
تلك اللحظة تقليديًّا وغير عملي وغير مقبول.
في الواقع، كما يرى بودريار، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيُّرًا عالَميًّا
كونيًّا يحدث
للثقافة البشرية؛ حيث تتولَّى الصورة رسم المعاني وتغيير المصطلحات. بهذا المعنى نفهم
لماذا
دعا بودريار إلى التفكير في أحداث ١١ سبتمبر فيما وراء الخير والشر؛ أي فيما وراء النزعة
الأخلاقية الكلاسيكية؛ والنظر إليها من جهة النظام le système الذي أثَّرت عليه هذه الأحداث،
بحيث خلخَلَت قطبية رمزية معيَّنة.
ويُعيد بودريار تلك الضربة الرمزية كما يُسميها هو، إلى نفس المنظومة التي أنتجَتْها،
وكأنه
يُريد أن يُكرِّر قول هيجل بأنه من القضية يتولَّد نقيضها، يقول: «هم الذين نفَّذوا أحداث
الحادي عشر
من سبتمبر لكننا نحن مَن أراده، وإذا لم نأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة، فإن الحدث يَفقِد
أبعاده الرمزية كلها، ويُصبح مجرَّد حدث عادي يُمكِن اختزاله في مجرد عمل إرهابي، وينتهي
الأمر عند
هذا الحد. لكننا نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة. وأن ما حدث يَتَّكئ على تواطؤ دفين
يجد
جذوره في أمكنة متنوعة. إنه صدًى لفرض كل ما هو مُطلَق ولكل قوة نهائية، وإن مَبنَيَي
مركز
التجارة العالَمي كانا التجسيد لهذه القوة المطلقة.»
٢٢٤ والانهيار الذي تعرَّض له المبنيان يفوق بأبعاده الرمزية ما تعرَّض له البنتاجون؛
لأنه، على حدِّ تعبيره، هو صورة لانهيار نسق كامل.
يتكشَّف من ذلك التحليل إذًا أن بودريار لا يحمِّل الطرف المعتدي كافة المسئولية
الأخلاقية
عن الحدث، بل هو يُحمِّل بالمثل الطرفَ المعتدَى عليه قدْرًا مشابهًا من المسئولية. فما
حدث هو إحدى
نتائج النظام الأُحادي، وهو يقول في هذا الصدد: «عندما يأخذ نظامٌ ما لنفسه كلَّ الأوراق،
فهو
يدفع بالآخر إلى تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة مُتوحِّشة لا ريب؛ لأن طبيعة هذا
التحدِّي هي نفسها مُتوحِّشة.»
٢٢٥
إن المشهد الذي يُحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تَبلُغ حد التداخل بين الشجب
الأخلاقي
والاتحاد المقدَّس ضد الإرهاب، وبين التهلُّل الاستِثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالَمية
وهي
تُدمِّر نفسها بنفسها وكأنها تَرتكِب انتحارًا مشهودًا، ذلك «أنها نظرًا لقوتها التي
لا تُحتمل،
أجَّجت كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم. وهي التي أثارت هذه المخيلة الإرهابية
التي
تَسكنُنا جميعًا.»
٢٢٦ ووَفق هذه النظرة فإن الحدث يتعدَّى بكثير مجرَّد الحقد على قوة عالَمية مُسيطِرة،
فمن المنطق أن يؤجِّج تفاقمُ قوة القوة وتركُّزها الرغبةَ في تدميرها، وأن تكون شريكةً
في تدميرها
الخاص، فالغرب الذي يتَّصف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (لله) ذي القدرة الإلهية
الكلية
والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريًّا ويُعلِن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجَي
مركز
التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقَّع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار
أن
النظام العالَمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة؛ لأنه وبدون
نقيضه سينهار هذا النظام، بل إنَّ تواطؤًا عميقًا ينشأ بين الخصمَين، وبالتالي يُمكن
التساؤل بهذا
المعنى حول مَن يَستخدِم الآخر.
وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تُلصِق تهمة الإرهاب بالإسلام؛ فالنظام
العالَمي، المتمثِّل في شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لا بد أن يخلق لذاته عدوًّا
محدَّدَ
المعالم يستطيع من خلاله أن يُحقِّق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يُصبح
محدد
المعالم تمَّ لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره؛ لأنَّ الإرهاب
تم
توليده من داخل النظام ذاته، ولم يأتِ من خارجه «لا يتعلَّق الأمر بصدام الحضارات أو
الأديان،
كما يتعدَّى بكثير محاولة اختزاله في المواجَهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام.
صحيح
أن هناك تقابلًا بينهما، لكنه تقابل يَكشف، عبْر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة،
لكنها بالتأكيد ليست بمُفردها) وعبْر طيف الإسلام (الذي لا يُرادف أيضًا الإرهاب)، أن
العولَمة
تخوض صراعًا مع ذاتها.»
٢٢٧ ويستطرد بودريار قائلًا: «الحرب تُلازم كل نظام عالَمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان
الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام.»
٢٢٨
من هنا، يُمكن الحديث، وفقًا لبودريار، عن حربٍ عالَمية رابعة وليس ثالثة؛ ذلك أن
محورها
الرئيس هو العولمة.
٢٢٩ فالحربان العالميَّتان الأوليان تَعكسان الصورة الكلاسيكية للحرب. الأولى وضعت
حدًّا لتفوُّق أوروبا وللعهد الاستعماري، والثانية حطَّمت النازية، والثالثة وقعت تحت
ما يُسمَّى
بالحرب الباردة، وانتهت بالقضاء على الشيوعية. وكل حرب من هذه الحروب قادتنا إلى وضع
عالَمي
جديد. أما الحرب الجديدة، فيَعتقد جان بودريار أنها أصبحت شاملةً بحيث لم يَعُد بإمكان
أحد
الفرار منها أو تجنُّبها. إنها في قلب هذا النظام العالَمي الجديد.
(٤-٦) الواقع الفائق
يعود مفهوم الواقع الفائق
hyper-reality بجذوره إلى تاريخ قديم؛ حيث ساد الجدل حول مفهومَي
الواقع
Reality والوهم
Illusion. لكن الاستعمال الحديث للمفهوم ارتبط بكتابات فالتر بنيامين
الذي قام بدراسة الصورة ضمن سياقٍ أعمَّ من دراسته لما أُطلِقَ عليه صناعة الثقافة. ففي
مقالته
الشهيرة التي صدرت عام ١٩٣٦م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيًّا» يتأمَّل
بنيامين — على
حد تعبيره — «تقلُّص» و«ذبول» و«تدمير» ما يُسمِّيه ﺑ «هالة الفن»
Glanz der Kunst أو «الإحساس
بخصوصية وتفرُّد العمل الفني.» مفترضًا أن هذه الهالة لا يُمكن فصلها إطلاقًا عن كونها
جزءًا
لا يتجزَّأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية، «فأيُّ تمثال قديم لفينوس
Venus، مثلًا، يمثِّل
بالنسبة للإغريق، الذين يَرون فيه رمزًا للجمال، سياقًا تراثيًّا، يختلف عنه لدى رجال
الدين
في العصور الوسطى ممن كانوا يَنظُرون إليه باعتباره وثنًا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين
لم يكن يُنكِر ما له من تفرُّد أو «شذًى».»
٢٣٠ غير أن معنى العمل الفني راح يَتغيَّر في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث،
فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده
التاريخية، ومن ثَمَّ يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرُّد والخصوصية التي
كانت
للأعمال الفنية، وينتقل العمل الفني إلى فضاءٍ مُغايِر أو واقع فائق. هذا بالإضافة إلى
أن
الظروف والأوضاع التي أصبح يُتلقَّى فيها العمل الفني قد تغيَّرت «فالمعرض الفني وقاعة
الموسيقى
يفقدان صفتهما «المقدسة»؛ حيث يُمكن إعادة إنتاج العمل الفني واختباره أو عيش تجربته
في عدد
كبير من الظروف أو الأوضاع.»
٢٣١ وعلى الرغم من الرُّوح النقدية التي يتحدَّث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع
«هالة» الفن إمكانيةً لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يُعرض عليهم من أعمال فنية.
فهالة الفن قديمًا كانت تُشكِّل عائقًا أمام التلقي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق
نوعًا من
القداسة للفن، يُطلِق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفَضت الأهمية الاجتماعية
لأحد
الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.»
٢٣٢
وقد اتخذ المفهوم موقعه الخاص في ثقافة ما بعد الحداثة ولدى بعضٍ من مُفكِّريها:
في مقالته
رحلات في الواقع الفائق
Travels in Hyperreality (١٩٧٣م) أشار أمبرطو إيكو
U. Eco إلى جنوح
الناس نحو إعادة خلق الواقع بغية الحصول على أشياء أفضل أو أكثر إثارة أو أكثر رعبًا
أو
جمالًا أو جاذبية مما هي عليه في الواقع الفعلي. أما الناقد الاجتماعي دانيال بورستين
Daniel
Burstein فيرى أن الواقع المُصطَنع يُوفِّر لنا إحساسًا مزيفًا بتجاوز الحياة واليومية المعيشة،
ولكنه حذَّر من مخاطر استشراء مظاهر الواقع المُصطَنع على المجتمع.
٢٣٣ وبالإضافة لذلك، نَعثُر عند رولان بارت على المعنى الذي وضَع له بودريار بعد ذلك
مصطلح الواقع الفائق؛ إذ يَذهب بارت إلى أن ما يُميِّز الصورة هو الكمال والصنعة المتقنة،
ولذلك
فهي تقدِّم واقعًا كاملًا مركزًا ومتقنًا، وتقدِّمه بشكل موضوعي ومحايد وأكثر واقعية
من الواقع
الحقيقي. وتعني الموضوعية والحياد عدم اعتماد الصورة على رموز وشفرات تحتاج إلى فكٍّ
مثلما
نجد في اللوحات الزيتية مثلًا؛ مما يجعل قدرتها أكبر على الإيهام والتزييف.
٢٣٤
على أن المفهوم مع بودريار، كما سبق وأشرنا، كان بمثابة مفهوم موجَّه لمشروعه الفكري.
فالواقع الفائق هو النتاج أو المحصلة النهائية للصورة الزائفة أو السيمولاكرا.
كيف ومتى وصلت البشرية إلى مرحلة الواقع الفائق؟ ربما كان من الصعوبة بمكان في سياقنا
هذا أن نتتبَّع المراحل التي مرَّت بها الصيغ التعبيرية وصولًا إلى مرحلة الواقع الفائق.
لكن
بصفة عامة نستطيع أن نقول إنَّ الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية قد مرَّت بعدة مراحل،
أهمها
مرحلة الشفاهية، ثم الكتابة، ثم الصورة. والواقع أنه إذا كانت مرحلة الكتابة قد خلَقت
تمييزًا
طبيعيًّا بين مَن يكتب ويقرأ، وبين مَن لا يقرأ ولا يكتب؛ فإن الصورة قد جاءت لتُلغي
هذا التمييز
وتُوسِّع من دوائر الاستقبال لتشمل بذلك كل البشر. فاستقبال الصورة لا يحتاج إلى الكلمات
أصلًا،
كما لا يحتاج إلى خلفيات ثقافية عميقة، بالإضافة إلى أنها مُتاحة للجميع ولا تحتاج إلى
طقوس
خاصة للتعامل معها. ولهذه الأسباب مجتمعة كان للصورة تأثير طاغٍ في العصر الحديث. وقد
كان
لاكتشاف تقنيات صناعة الصورة في القرن العشرين وتغوُّل وسائل الاتصال في الثقافة المعاصرة،
أثر كبير في هذا الصدد. على كل الأحوال يُحدِّد بودريار أربع مراحل للصورة في علاقتها
بالعالم الواقعي (على غرار المراحل الست لمفهوم الحقيقة عند نيتشه).
(٤-٧) المراحل الأربع للصورة
«يبدو أنه أشبه بإعلان نيتشه موت الإله. لكن قتْل الإله عند نيتشه كان قتلًا رمزيًّا،
وكان
الهدف منه تغييرَ قَدَرنا … لكن الجريمة الكاملة ليست قتل الإله، لكن قتل الواقع، وهي
ليست
واقعة رمزية بل إبادة.»
٢٣٥ هكذا قال بودريار في مقالته المُعنوَنة باغتيال الواقع المنشورة في كتابه الوهم
الحيوي
The Vital Illusion (٢٠٠٠م) وهو يُحدِّد المقصود بالإبادة بأنها تعني أن كل الأشياء (وكل
الموجودات أيضًا) تتجاوز غايتها، تتجاوز نهايتها؛ حيث لم يَعُد هناك واقع بعد الآن، وليس
هناك
أي سبب للوجود، لم تَعُد هناك حتمية. ولذلك يُسمِّيها بودريار الإبادة المطلَقة
Extermination. وهي
مطلقة لأنها تشير إلى أن آثار الواقع لم تَعُد موجودة، ولا يمكن الاستدلال عليها «لم
تَعُد هناك
جثة. إذا كان ثمة جثة من الأساس، وليس هناك أي مكان يمكن أن نجدها فيه. هذا لأن الواقع
ليس
ميتًا وحسبُ مثل إله نيتشه. إنه اختفى ببساطة وبشكل محض. وفي عالمنا الواقعي، فإن سؤال
الواقع المشار إليه عن الذات والموضوع لم يَعُد قابلًا للطرح بعد الآن.»
٢٣٦
قتل، إبادة، إبادة مُطلَقة، جثة، لم تَعُد هناك جثة، إنها إذًا الجريمة الكاملة التي
يزعم
البعض استحالة حدوثها. لكن كيف بلغنا هذا الوضع التراجيدي؟ يُحدِّد بودريار أربع مراحل
٢٣٧ من مراحل تطوُّر الصورة من العصر الحديث وحتى نهاية القرن العشرين:
وفي سياقٍ مشابهٍ يوضِّح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Tynbee في نصٍّ نُشر له عام ١٩٧٣م
أن مسار الإنسانية قد جرى على مراحل ثلاث؛ أثناء المرحلة الأولى، والتي تعود إلى ما قبل
التاريخ، كانت الاتصالات بطيئة للغاية، ولكن تطورات المعرفة كانت تسير ببطء هي الأخرى،
بحيث
أن كل جديد كان أمامه ما يكفي من الوقت ليَنتشِر عبْر العالم قبل أن يطرأ جديد آخر. فكانت
المجتمعات الإنسانية تمتلك درجة متقاربة من التطور — والكثير من الخصائص المشتركة. وأثناء
الحقبة الثانية، كان تطور المعارف أسرع من انتشارها، بحيث أصبحت المجتمعات الإنسانية
أكثر
تمايزًا واختلافًا، وقد دامت هذه الفترة عدة آلاف من السنوات. ثم بدأت الحقبة الثالثة،
والتي
تقدَّمت أثناءها المعارف بصورة متسارعة، لدرجة تُصبح معها المجتمعات الإنسانية أقل فأقل
تمايُزًا.
(٤-٨) النسق الثالث للصورة المزيفة
ذهب بودريار إلى أن هناك صورةً جديدةً فاتنةً للثقافة المعاصرة في انتشار اليوم. فإذا
كانت
الحضارة الغربية في النِّصف الثاني من القرن العشرين قد أعلت من شأن المشهد والصورة،
وجعلت
منهما وسيطًا هامًّا من وسائط المعرفة؛ فإن ما حدث الآن ونتيجة لهذه المكانة التي احتلَّتها
الصورة، هو غياب الواقع وتواريه خلف عالم من الصور. انكمش الواقع وتضاءل حجمه حتى بات
صورة
شاحبة، وما لبثت هذه الصورة أن انمحَت بالكامل حتى أصبحت غير ذات وجود، وفي المقابل زادت
سطوة وهيمنة الصورة التي كان يُنظر إليها على أنها مُحاكاة لعالم الواقع، فأصبحنا نعيش
في
عالم مليء بالصور غير ذات الأصل، صور معلَّقة في فضاء خاص بها، هذا الفضاء يَتمدَّد باستمرار
وتزداد رقعته، إلى أن أصبح يحتلُّ نفس الفضاء الذي كان يحتله الواقع، نوع من الإزاحة
والاحلال
إن جاز التعبير. على أن الفرق بين الواقع الجديد والواقع القديم، ليس فرقًا في النوع،
إنما
فرق في الدرجة. بمعنى أن الواقع الجديد يَمتلِك من عوامل الجذب والإبهار ما لم يكن يمتلكه
الواقع القديم؛ لذا فهو لا يُقدِّم نفسه كواقع بديل فقط، بل أشد واقعية من الواقع القديم
نفسه.
إنه واقع فائق يَتجاوز القديم ويعلو عليه، بل وتُصبح له مصداقية أكثر منه.
•••
يصف بودريار الواقع الفائق بأنه «عالم الدوال المُتحرِّرة.»
٢٤٢ وهو يَعتمَّد إلى حدٍّ كبيرٍ في هذه النقطة على إعادة توظيف نظرية عالِم اللغة الشهير
فريناند دي سوسير
Ferdinand de Saussure (١٨٥٧–١٩١٣م). يُفرِّق دي سوسير في نظريته بين الدال
والمدلول، فيُشير الدال عنده إلى الشكل اللغوي للكلمة، أما المدلول فيشير إلى المحتوى
الواقعي لها؛ أي ما تُجسِّده في الواقع أو ما تُثيره من معنًى لدى المتلقي. وعند دي سوسير
ثمة
علاقة وثيقة بين الدال والمدلول، بحيث إذا حضَر الدال حضر المدلول. وإذا طبَّقنا مفهومَي
الدال
والمدلول على الصورة نستطيع القول إن الصورة بمُكوِّناتها الشكلية تكافئ الدال، في حين
أن
المحتوى الموضوعي لها؛ أي الحدث أو الشيء الذي تُجسِّده، هو بمثابة المدلول. ويرى بودريار
أن
الحياة الاجتماعية تحوَّلت إلى صورةٍ يقدِّمها الإعلام. والإعلام لا يقدِّم الواقع كما
هو، ولا حتى
صورة عنه، بل صورة عن صورة أخرى هي بدورها مولَّدة منه. ومعنى ذلك أن الدلالة التي يُقدِّمها
الإعلام، وبالتالي معنى الواقع، لا تعود مرجعيته إلى شيءٍ آخَر خارج ذاته. هذا بينما
تَفترض
الدلالة (المعنى) وجود علاقة بين دالٍّ ومدلول، بين رمز وما يرمز إليه. وعندما يَكتفي
الرمز
بذاته، ويكون هو مرجعية نفسه، يُصبح ما يدلُّ عليه هذا الرمز خارج نطاق الواقع الذي نعرفه،
وبذلك يَختفي الواقع، ويظهر الواقع الفائق. وقد استطاعت وسائل الإعلام في مرحلة العولمة
أن
تخلق قدْرًا كبيرًا من الرموز المشبعة بالمعاني الذاتية المرجعية التي لا علاقة لها بأي
مدلول
واقعي. وبناءً على ذلك يرى بودريار أن العالم أصبح مجرَّد صورة نقلًا عن صورة نقلًا عن
صورة …
وأصبح العالم مجموعة من عمليات الاصطناع والصور بلا صلة أو علاقة مرجعية مع أصل محدَّد
في
الواقع.
•••
إنَّ غياب ثنائية الرمز-الواقع يعني غياب الصلة بين الرمز والواقع، وبالتالي لا علاقة
بين
الرمز والحقيقة. ومن هنا فإن المُصطنع يقوم على تدمير هذه المسافة، ما يعني أن الدال
أو
الرمز غدا كليَّ القدرة، مستقلًّا بذاته، ومنكفئًا عليها؛ ولهذا لا يُخفي أي حقيقة، بل
يُقدِّم نفسه
على أنه هو الحقيقة. وهذا المعنى يُؤكِّد عليه بودريار أيضًا في كتابه التبادل الرمزي
والموت
L’Échange symbolique et la mort (١٩٧٦م) عندما يَستقي مثالًا على فكرته من فن الرسم «إن
نسخة اللوحة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، فنسخة اللوحة لا تَستمِد معناها إلا من
اللوحة،
بينما المُصطنَع لا يفعل غير اصطناع مُصطَنعات أخرى: هنا يَختفي مفهوم الأصل بِرُمَّته،
ويختفي أيضًا
مفهوم الحدث والحقيقة، بحيث لا يَبقى مجال لغير المصطنعات.»
٢٤٣
في هذا الواقع الفائق إذًا لم تَعُد العلامات تُمارِس دورها المعهود في تمثيل الأشياء
أو
الإشارة إلى نموذج خارجي، بل أصبحَت لا تُمثِّل شيئًا سوى نفسها، ولا تُحيل إلا إلى علامات
أخرى
«لقد أصبحت الصورة تُسيطِر بطريقة رمزية على العصر، ولم يَعُد من المُمكِن أن نتكلَّم
عن الصورة
والحقيقة، أو وسائل الإعلام والمجتمع، فكلٌّ من هذه الثنائيات قد غدا مُتشابكًا بدرجة
كبيرة،
حتى إنه قد صار من الصعب وضعُ خطٍّ فاصلٍ بينهما، وبدلًا من أن تُشير وسائل الإعلام إلى
العالم
الحقيقي، نجد أن أغلب ما تُنتجه يشير إلى صور أخرى.»
٢٤٤ أي أنها تخلَّت عن كونها تُمثِّل موضوعًا محدَّدًا، واقتصرت مُهمَّتها على الإحالة إلى
صورٍ
أخرى تَصطفُّ معًا لتُكوِّن موضوعًا مزيفًا لا علاقة له بالواقع الخارجي «إنَّ الصور
الآن لم تَعُد تُعبِّر
عن موضوع ولا عن واقع شيء، وإنما عن الإنجاز التِّقني وحده تقريبًا. إنه الوسيط التصويري
الذي
يَتحرَّك … الناس يَعتقدون أنهم يُصوِّرون مشهدًا، بينما ما هم في حقيقة الأمر إلا مُنفِّذون
تقنيون
لهذا التخيُّل الافتراضي اللانهائي للأداة. فالافتراضي هو الأداة التي لا تَطلُب سوى
التشغيل،
التي تَقتضي التشغيل واستنفاد كل إمكانياتها.»
٢٤٥
من ناحية أخرى، ثمَّة جانب تراجيدي يُؤكِّد عليه بودريار في تحليله للإعلام المعاصر؛
إذ يُوضِّح
أنه وسيلة للانفصال لا للاتصال. يذهب الاعتقاد الشائع حول وسائل الإعلام إلى أنها وسائل
اتصال ونقل للرسائل والمعلومات ووسيلة للشفافية، إلا أنها ليسَت كذلك. يفترض الاتصال
وجود
علاقة تبادلية بين مرسل ومُستقبِل، بحيث يَتبادل الطرفان الإرسال والاستقبال كما في الحوار
بين
شخصَين، لكن وسائل الإعلام مُرسِلة فقط دون أن تكون مُستقبِلة لرسائل مُماثلة للتي ترسلها.
فمع
وسائل الإعلام الحديثة نشهد علاقة اتصال ذات طرف واحد واتجاه واحد. وليس مما يُسمَّى
باستجابة
الجمهور مما يَرقى إلى أن يكون طرفًا ثانيًا لوسائل الإعلام، وما يُقال عن
تغذية مرتجعة
feedback تَستقبلُها وسائل الإعلام من الجمهور ليس إلا قياسًا لتأثير الإعلام على شاكلة القياس
السيكولوجي لردود الأفعال المُسمَّى اختبار بافلوف.
٢٤٦
لتوضيح ذلك يعود بودريار إلى نظرية الاتصال عند رومان ياكبسون Roman Jackobson (١٨٩٦–١٩٨٢م) المكوَّنة من ثلاثة عناصر:
يذهب بودريار إلى أن الرسالة تحرَّرت من المرسِل وأصبحت تمارس دورها كجزء من واقعها
الفائق،
أي أن الرسالة أصبحت ذاتية الفعل ومكتفية بذاتها، هي ذاتها الرسالة والمرسِل في آنٍ واحد.
وقد
يقوم المرسِل إليه بإعادة توجيهها مرة أخرى، وفي كل مرة تُحمَّل بمعانٍ جديدة، ويُعاد
توظيفها
بصورة دائرية لا تنتهي. ما تنتجه الرسالة في النهاية من معانٍ وما تحمله من دلالات وما
تثيره من ردود أفعال يدور كله في فلك الواقع الافتراضي «فما ينتجه الإعلام ليس إضفاء
الطابع
الاجتماعي، بل العكس تمامًا؛ أي الانفجار الاجتماعي في الجماهير. وليس هذا سوى توسُّع
عياني كبير
لانفجار المعنى على المستوى المجهري الصغير للدوال … وما يَعنيه هذا هو أن محتويات المعنى
جميعًا تغدو مُمتصَّة في شكل الوسيط المسيطر الوحيد. فالوسيط وحده هو الذي يُمكنه أن
يَصنع حدثًا،
مهما تكن المحتويات.»
٢٤٧ ويرى بودريار أنَّ مُحتويات الوسيط (كالتليفزيون مثلًا) يتمُّ تحييدها بحيث لا يُمكن
لأي رسالة حقيقية أن تُرسَل من خلاله؛ فهنالك، كما يقول بودريار «انفجار الوسيط ذاته
في
الواقعي، وانفجار الوسيط والواقعي في ضرب من السديم الواقعي المُفرط، الذي لا يعود مُمكنًا
فيه
حتى أن نُحدِّد تعريف الوسيط أو فعله المُميز.»
٢٤٨
بالإضافة لذلك ثمَّة تحوُّل حدث في علاقات التبادُل بين المرسِل والمستقبِل. فوسائل
الاتصال
تجاوزت وظيفتَها إلى حدٍّ ما، كما عبَّر عن ذلك ماكلوهان
McLuhan. تجاوَزَت المحتوى والرسالة
والذات المتَّصلة والجوهر الطبيعي لعملية الاتصال، وركَّزَت فقط على الوسيلة «فالاستراتيجيات
التي تَتمركز حول الوسط وميديا الاتصال قد أصبحَت أكثر جوهرية من الاستراتيجيات التي
تَتمركز
حول المحتويات نفسها.»
٢٤٩ يقصد بودريار بذلك أن طريقة توصيل المحتوى الإعلامي أصبحت أكثر أهمية من
المحتوى نفسه.
ويرى بودريار أن المحتوى الإعلامي نفسه قد تضاعَف وتكاثَر بطريقة ذاتية الفعل، طريقة
تُشبه
«لا أريد أن أقول السرطان، ولكنه شيءٌ ما مشابه لذلك. هناك نوع من الاستقلال الذاتي الآن
لأنظمة الصور وأنظمة الخطاب التي أصبَح لها اليد العليا على المعنى.»
٢٥٠ إن الحدث ما إن يتحوَّل إلى مادة إعلامية يفقد واقعيته الخاصة ويتخذ مكانه في
فضاء الواقع الفائق، ولن تَستطيع أيُّ قوى أن تُعيده إلى مداره الأصلي مرة أخرى «كل واقع
وفعل
معاصرَيْن، أيًّا ما كان كنههما تاريخيًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، تَمنحهما صفاتهما
الإعلامية
الكامنة فيهما طاقة حركة تعمل على لفظهما من مداريهما الأساس وفضاء معنَيهما الحقيقي،
وتدفع
بهما إلى فضاءٍ شبيهٍ يَفقدان فيه كل معنًى لهما بقدْرِ ما يَفقدان فيه كل قدرتهما على
العودة إلى
فضائهما الحقيقي.»
٢٥١ وفي بعض الحالات لا تكون الأحداث قد وقعت أصلًا، إنها تكون حدثَت على مستوى
الشاشة فقط. هناك ما يُمكن أن نُطلِق عليه أحداث شاشة، وليست أحداثًا أصيلة يُمكن الوثوق
فيها.
والواقع أنه مِن الصعوبة بمكانٍ الحديث الآن عن مفاهيم كالأصالة والثقة في وقوع الأحداث.
وهنا
يُمكن للمرء أن يتساءل إلى أجلٍ غير مسمًّى عن درجة ومعدَّل الواقع الذي يتم عرضه، إنه
يكون في
غالب الأمر شيئًا آخَر غير الذي يَحدث «وتدور الدوائر، ويمكنها أن تغذي نفسها من أي
شيء،
ويمكنها أن تَلتهم أي شيء، وكما قال بنيامين عن أعمال الفن، إنك لا تستطيع أبدًا أن تعود
إلى
المصدر، لا يمكنك أبدًا أن تستجوب حدثًا أو شخصية أو خطابًا عن درجته في الواقع الأصلي.
إنَّ هذا
هو ما أسمِّيه الواقع الفائق. وجوهريًّا هذا هو المجال الذي لم نَعُد قادرين فيه على
تحقُّق الواقع
واللاواقع، أو ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. ويُمكننا أن ندور في هذا المجال، والمجال
الأكبر حيث لم يَعُد للأشياء مبدأ للواقع بعد الآن.»
٢٥٢
هل تحوَّلت ذوات البشر إلى صور؟ يُجيب بودريار بالإيجاب. حقًّا، إنَّ هذا لم يحدث
على المستوى
المادي أو التقني، لكن الإنسان، كمُستمِع ومُشاهد لوسائل الإعلام، يغدو كما لو كان محطات
للبث
لكافة تلك الوسائل. حتى الحوارات التي تدور بين البشر هي في حقيقة الأمر حوارات تدور
بين
وسائل الإعلام المختلفة … حوارات إعلامية معكوسة إن صحَّ التعبير.
لكن كيف يحدث هذا التأثير؟ كيف يعمل الإعلام على تشكيل النسق المعرفي والقيمي عند
الإنسان؟
قبل أن يكون أحد معاني الكلمة الفرنسية information واشتقاقها من اللاتينية informa تعني
الإعلام والإخبار كان معناها التشكيل أو منح الهيئة لشيءٍ ما، ومن ذلك الفعل بالفرنسية
informer الذي يعني «شكل وكيف». والواقع أن هذا الأصل اللغوي على علاقة ماهوية بطبيعة الإعلام
المعاصر، الذي لا يَعني بأي حال نقل الواقع أو الحدث كما هو، بل يعني تشكيل الحدث وإكسابه
هيئةً ما. ثمة مقولة إعلامية شهيرة مؤداها أنه إذا لم توجد كاميرا في موقع الحدث فإن
الحدث
لم يقع. وثمَّة قاعدة إعلامية أخرى تقول «ليس المهم أن تنقل الخبر، ولكن المهم كيف تنقل
الخبر.» إنَّ حاصل جمع هذه المقولة وتلك القاعدة يكشف لنا عن طبيعة الإعلام الأنطولوجية
والإبستمولوجية؛ فالكاميرا تمنح الحدث صفة الوجود، وفي الوقت ذاته تعمل الكيفية التي
يتم
نقل الحدث من خلالها على تشكيل المنظور المعرفي للمشاهد الآن ومستقبلًا.
والواقع أن شاشات التلفاز وأثير الإذاعات وكافة وسائل الإعلام والاتصال الأخرى تُروِّج
الرسائل والرموز وترسي مصفوفة جديدة من القيم أو تخلخل النسق القيمي السائد في مجتمعٍ
ما
بطرق مُتنوعة تهدف إلى مخاطبة أكبر قاعدة مُمكنة من الجماهير.
٢٥٣ وبمرور الوقت يتبنَّى المُشاهِد أو المُتلقِّي الرموزَ والرسائلَ والقيمَ الجديدةَ
ويدرجها في جهازه القيمي-السلوكي، ويُحدِّد من خلالها طريقة توجُّهه في العالم والحياة،
بحيث
تشكل مجموع هذه الرسائل والرموز والقيم طريقة المُشاهِد في علاقته مع نفسه والآخرين والعالم.
فما يحدث إذًا يتمثَّل في أن الإعلام يُكيِّف الناس ويدفعها لتندرج في النماذج القيمية
والسلوكية
التي يَخلقها ويطرحها للتداول. وعليه فإن ردود أفعال الفرد في الواقع لا تكون نابعة من
داخله، ولا تكون نتيجةَ تفكير نقدي ودراسة تحليلية للمواقف، بل يتدخل فيها بصورة مباشرة
المَشاهد الإعلامية المتراكمة. فيغدو العالم في النهاية بكافة مفرداته تجليًا لواقعٍ
فائقٍ
يتشكَّل من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة.
إنَّ الواقع الفائق، وفقًا لبودريار، هو عالَم لا معنى فيه لثنائية الصورة والواقع،
عالم يعيش
فيه الإنسان وفقًا لشيفرات مَشهدية اندرجت في بِنيته الإدراكية. فالرمز هو الواقع، ما
يعني أن
الواقع الفائق امتصَّ كل شيء وغدا مشبعًا، والصورة أو المشهد المكتفي بذاته هو الذي يُحدِّد
بنية
المجتمع، بإلغاء أي مسافة بين الدال والمدلول، إلغاء أي مرجعية، ومن هنا تقليص أي فاعلية
نقدية، حتى فاعلية اكتشاف الأخبار المُتناقضة داخل وسيلة الإعلام.
٢٥٤
في دراسة حملت عنوان «الرؤية الإعلامية» نُشرت في كتاب بؤس العالم
La Misère Du Monde (١٩٩٣م) يَنطلِق باتريك شامباني
٢٥٥ في رؤيته لوسائل الإعلام من منطلقٍ مشابهٍ لبودريار. فيذهب إلى أن كافة الأحداث
والكوارث لا تَتمتَّع بالقدرة نفسها على المرور عبْر الإعلام ولا تسمح جميعًا (وفي أحيانٍ
كثيرة
لا يُسمح لها بذلك) بتغطيتها بالدرجة نفسها. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، تتعرَّض تلك
الظواهر
التي تجد سبيلها إلى التغطية إلى عدد من التشويهات والتزييفات ما إن تتعهَّد بها وسائل
الإعلام؛ ذلك أن هذه الأخيرة لا تكتفي بتسجيلها، بل لا بدَّ أن تمارس عليها عملًا من
البناء
وإعادة التهيئة يعتمد في درجته ومداه على المصالح الخاصة بهذا القطاع من الأنشطة (قطاع
الإعلام الذي تظل له مصالحه الخاصة واستراتيجياته التي يمليها عامل المنافسة التجارية
بين
مختلف قنواته من جهة، وانخراط هذه القناة أو تلك في هذه الأيديولوجية المهيمنة أو تلك
من
جهة أخرى. إنَّ وسائل الإعلام تعالج على الفور، والحدث لا يزال بعدُ في مهده، لتُقدِّم
عنه تمثلًا
اجتماعيًّا يظلُّ يفرض نفسه رغم التكذيبات اللاحقة التي يُقدِّمها أحيانًا سياق الحدث
نفسه، نتائجه،
أو النظرة المُلقاة عليه بأناة؛ ذلك أن هذا التمثيل، مهما كان بُعده عن الواقع، لا يقوم
في
الغالب إلا بتدعيم تأويلات جاهزة ومُعَدة سلفًا وتقوية الأحكام المُسبقة ومضاعفتها. وفي
ظل هذا
الوضع يتمُّ التلاعب بكافة الأحداث: تحويل تظاهرة صغيرة إلى حدث كاسح، أو تهميش حدث جدير
بالاعتبار واختزاله إلى حدث عديم القيمة وغير ذي بال.
في سياقٍ مشابهٍ يُقدِّم لنا عالِم الاجتماع والسياسة جاك إيلول
J. Elul (١٩١٢–١٩٩٤م)
٢٥٦ تحليلًا نقديًّا للسياسة
والرأي العام في عصر الإعلام، يتبيَّن منه الدور الأيديولوجي الجديد لوسائل الإعلام.
فإذا كان
للرأي العام دور أساسي وكبير في تشكيل السياسات، فيَجب علينا في البداية تحليل العناصر
التي
تُشكِّله؛ أي الوقائع والمعلومات. يذهب إيلول إلى أن الوقائع المشكِّلة للرأي العام لا
تتمتَّع
بالحياد والنقاء المفترض فيها، فالوقائع لا تُصبح وقائع إلا بعد عملية معالجة من قِبَل
وسائل
الإعلام، ولا يتقبل الرأي العام شيئًا على أنه واقعة إلا إذا اتَّفقت مع ما يفهمه من
الواقعة؛
أي مع ما لديه من نماذج
Patterns وأنماط جاهزة
Stereotypes صنَعها الإعلام نفسه. ومن هنا تكون الوقائع
التي صنعها ونقلها الإعلام هي نفسها العناصر والخيوط المُكوِّنة لشبكة الأيديولوجيا.
فالأيديولوجيا لا تُزيِّف وقائع ومعلومات، بل تعمل على تشكيلهما منذ البداية.
يقارن إيلول بين الوقائع والمعلومات في المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث. فالرجل
الذي
ينقل إلى قبيلته أخبارًا من القبائل الأخرى أو عن المناطق التي زارها، أو التجار الذين
يَنقلون لمجتمعهم أخبارًا عن مجتمعات أخرى لا يؤثرون في فهْم ورؤية مجتمعهم لنفسه؛ فهذه
الأخبار مجرَّد شذرات منفصلة عنهم ولا تُشكِّل جزءًا من عالَمهم الاجتماعي، ويظل الاحتكاك
المباشر
بالمجتمع هو الوسيلة الأساسية لمعرفته. أما في المجتمع الحديث ونتيجة لتقدُّم وسائل الإعلام
فإن ما يتلقاه المرء من أخبار ومعلومات هو الذي يشكِّل رؤيته للعالم ولمجتمعه الذي يعيش
فيه.
وعلى الرغم من أن المرء يَذهب ويجيء ويتحرك عبْر العالم كله إلا أنه يُخبره بطريقة غير
مباشرة،
فهو يعيش في عالم تمَّت إعادة ترجمته وتحريره، وبالتالي لم تَعُد لدَيه صلة مباشرة بالعالم
الحقيقي؛ وحتى الوقائع والأحداث التي عاشها بنفسه وشاهَدَها تحدث أمام عينَيه سوف يرى
أنها
تُنقل إليه عن طريق وسائط إعلامية: الصحف، الإذاعة، التليفزيون، الإنترنت. وسوف يرى وصفًا
وتعليقًا وتفسيرًا وتحليلًا لما عاشه بالفعل، وغالبًا ما سيُؤثِّر عليه الحدث الذي تمَّ
توصيله بهذه
الطريقة أكثر من تأثُّره بخبرته الشخصية، فهذه الأخيرة لن تَصمد أمام الصورة التي ينقلها
الإعلام. وعلى عكس الاعتقاد الشائع يذهب إيلول إلى أن توافُر المعلومات الصحيحة لا يُؤدي
بالضرورة إلى تشكيل واقعة سياسية وبالتالي إلى رأي عام، فهناك حالات كثيرة توافَرت للناس
فيها المعلومات الصحيحة والكافية لكنها لم تُؤدِّ إلى ظهور رأي عام. إن تشكيل الرأي العام
مسألة دعاية (أو بروباجندا)؛ فيجب أن تُحمَّل المعلومات بعناصر عاطفية وانفعالية ورمزية
حتى يَتشكَّل الرأي العام.
ليست الوقائع هي الأحداث الفعلية، بل ما تمَّت ترجمته إلى كلمات وصور. ويضرب إيلول مثلًا
على
ذلك بغزو جيشٍ لدولة أخرى؛ فرجل الشارع البسيط الذي رأى الحدث أمامه لم يُشاهد إلا جيشًا
دخل
مدينته، وهو لا يُدرك أن ما رآه غزو أجنبي لبلاده إلا عن طريق الإعلام. فالرجل لم يُشاهد
واقعةً بل حدثًا، ولا يتحوَّل هذا الحدث إلى واقعة حقيقية قائمة إلا عن طريق الإعلام.
فالواقعة
هي ما تمَّت معالجته لإضفاء طابع العمومية عليه كي يتمكَّن المرء من إدراكه مباشرة؛ لأنَّ
الإدراك
يكون عن طريق العموميات والكليات لا الجزئيات كما تذهب نظرية الجشطالت في علم النفس؛
وهي
أيضًا ما تمَّ نقله لأناس كثيرين عن طريق وسيلة اتصال جماهيرية. ومعنى هذا أن الواقعة
هي ما
أَضفيت عليها تلوينًا خاصًّا غير حاضر في أعين مَن شاهدوا الحدث، وهي ما ألحقتَ بها تحليلات
وحملت
بمعانٍ ومشاعر حتى تكون مادةً للجمهور؛ وإذا لم تُترجم الأحداث المُبعثَرة والمُشتَّتة
بهذه الطرق
والوسائل وأُضفي عليها هذه الخصائص لن تُصبح وقائع، ولن تكون عناصر لتشكيل وبناء رأي
عام. إن
استقبال المرء للوقائع وفهْمها وتفسيرها يعتمد على ما لديه من أنماط جاهزة Stereotypes صنعها
الإعلام، بحيث أنه لن يُصدِّق الوقائع التي لا تتَّفق مع هذه الأنماط أو تعارضها، بل
إنَّ تلك
الأحداث التي تتعارَض مع أنماط فهْمه واستقباله لن يكون لها تأثير يُذكَر عليه وسوف ينساها
بسرعة.
في كتابه المتلاعبون بالعقول
Mind Managers يرى هربرت شيللر
Herbert Schiller (١٩١٩–٢٠٠٠م) أن وسائل التضليل مرتبطة ارتباطًا رئيسًا بامتلاك رأس المال. فتتمُّ السيطرة
على أجهزة
المعلومات وَفق قاعدة بسيطة من قواعد السوق، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنه
شأن
الملَكية الأخرى، متاحٌ لمَن يَملِكون رأس المال، والنتيجة الحتمية لذلك أن تُصبح محطات
الإذاعة
وشبكات التليفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر مملوكةً جميعها لمجموعة
من
المؤسَّسات المشتركة والتكتُّلات الإعلامية، ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزًا للاضطلاع بدور
فعال
وحاسم في عملية التضليل. وتحت غطاء حماية الملكية الخاصة وحراسة رفاه الفرد وحقوقه يتم
بناء
مؤسسات كاملة للتضليل الإعلامي. ولكي يُؤدِّي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا
بد من
إخفاء شواهد وجوده؛ أي أن التضليل يكون ناجحًا عندما يشعر المُضلَّلون بأن الأشياء هي
على ما هي
عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، أو بعبارةٍ أخرى: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعًا
زائفًا
هو الإنكار المستمر لوجوده أصلًا. ويبدو في الظاهر أن ثمة تنوعًا كبيرًا في البث الإعلامي
مستمدًّا
من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتليفزيون، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر
واحد؛
فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجُّهات والأفكار يَجري انتقاؤها جميعًا
من
الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب «حراس» للبوابة الإعلامية تُحرِّكهم دواعٍ تجارية
لا يمكن
التخلي عنها، وقد يَختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد؛ فقد تبين أن من بين
الأساطير الشائعة عن التليفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية
لإرادة أغلبية المُشاهِدين فيما يتعلَّق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن
يُقال أنه
يُمثِّل رغبةَ واتجاهَ المعلنين، وأن المصمم الحقيقي للبرامج هو صُنَّاع المواد الغذائية
والأدوات
المنزلية ومُستحضرات التجميل والسيارات والأدوية. والواقع أن برامج كثيرة اختفت برغم
شعبيتها
والإقبال عليها، ولكنها لم تجذب اهتمام المعلنين. وهكذا يظل الجمهور في دوامة من الأحداث
والتدفُّق والاستحواذ، ولا يجد فسحة للتأمُّل والتفكير والتحليل، ويُقدَّم إليه الوعي
جاهزًا،
ولكنه وعي مبرمَج ومعد مسبقًا باتجاه واحد مرسوم بدقة. وعندما يجد البعض فرصةً للتساؤل
والشك
فإنهم يتحوَّلون إلى أقلية تُفكِّر عكس التيار، وتخالف المجموع العام، وتسعى لهدم النظام.
وقد
يُضطرُّون (وهذا ما يحدث غالبًا) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم، ويَتظاهرون بأنهم مثل
كل الناس،
ويقتلون بالتدريج مَلَكة التساؤل والنقد.
٢٥٧
وبالعودة إلى بودريار سنجده ينظر إلى الإنسان المعاصر وكأنه سيُزيِّف المحكوم عليه
بالوقوع
في دائرة التكرار اللانهائي عديم الجدوى. فكل ما يحيط به وسائط ووسائل تحيل إلى الواقع
لا
الواقع ذاته حتى أصبح «يعيش في نمط إحالي من الوجود
referential.» لم يَعُد أحد يعيش في
الواقع الحقيقي بل في عالَم يُشير إلى الواقع الحقيقي فقط. «والحقيقة أن الإنسان المعاصر
قد
رضي بأن يستعيض بالنسخة عن الأصل وبما يُحاكي الواقع عن الواقع الحقيقي.»
٢٥٨
وإذا كان الحال كذلك، فما طبيعة العلاقات الإنسانية في ظلِّ الواقع الفائق؟ ما طبيعة
العلاقة التي تَربط الأنا بالآخر؟ يتناول بودريار هذا الموضوع في أماكن مُتفرقة من أعماله،
وهو يقوم بالتمييز بين الإنسان المرآة والإنسان الشاشة.
٢٥٩ الإنسان المرآة هو الذي ينعكس في الآخر من خلال التفاعل والتواصل المتبادل،
أما الإنسان الشاشة فهو العارض لموضات وتقاليع والكاشف في سلوكه عن ثقافة الاستهلاك،
فهو
شاشة عرض لهذه الثقافة. شهد القرن العشرون تحوُّل الإنسان من كونه إنسانَ مرآة إلى إنسان
شاشة.
والفرق بينهما أن الإنسان قبل عصر الإعلام كان مرآةً لأخيه الإنسان، وكي يكون الإنسان
مرآةً
للآخر يجب أن يكون هذا الآخر حاضرًا في مواجهة الأنا في علاقة تفاعُل مُتبادَل؛ حيث تنعكس
أفعال
الأنا على الآخر والعكس. أما مع الإنسان الشاشة فتغيب العلاقة التفاعلية المباشرة ويتحوَّل
الإنسان نفسه إلى النموذج الأساسي لعصر الإعلام وهو الشاشة؛ حيث يُصبح عارضًا لموضات
أزياء
ولأنماطٍ من الحياة أعدَّها له المجتمع الاستهلاكي سلفًا. وهنا تختفي العلاقة المرآوية
الانعكاسية التي تتضمَّن التفاعل بين الأنا والآخر، ولا يبقى إلا ذلك الإنسان العارض
والمؤدِّي
لأدوار
role performer محدَّدة سلفًا، لا القائم بمُمارسة
praxis أو فعل
action، يقول
بودريار: «بطريقة أو بأخرى ليست هناك شاشات ومحطات فقط بالمعنى التقني، لكنَّنا أنفسنا،
مستمعي
ومشاهدي التليفزيون، نُصبح محطات لكل هذه الشبكة من الاتصالات. نحن أنفسنا شاشات. لم
يَعُد
المتحاورون كائنات بشرية، ويبدو أن هذا أمر مخزٍ، لكنه كما اللعبة استقرت من شاشة لأخرى.
إنه في الغالب حوارات بين المحطات أو الدوائر، أو بين وسائل الإعلام المختلفة. هو بطريقةٍ
ما
حوار معكوس، وسيط مع نفسه، إنه هذا التناول المكثَّف، ذلك النوع من المرجعية الآلية للإعلام
الذي يشملنا في شبكته. وفي الوقت الحاضر فإن الاختلاف بين الإنسان والآلة من الصعب جدًّا
تحديده.»
٢٦٠
كانت الثقافة الأمريكية بالنسبة لبودريار نموذجًا مثاليًّا متحققًا للواقع الفائق.
ولهذا السبب
خصَّص بودريار أحد مؤلَّفاته أمريكا
L’Amérique لتتبُّع مظاهر هذا الواقع بُغية تحليلها. يذهب
بودريار إلى أن حقيقة الولايات المتحدة إنما تَتشكَّل كشاشةٍ عملاقة … شاشات العرض في
كل مكان،
وأغلبها في المدينة، أفلام وسيناريوهات رائعة تُصوِّر المواقع بطريقة خاصة، خصوصًا إذا
كانت
تمتلك القدرة على جذب السياح، ويتمُّ «إلباسها» صورًا خيالية مطلوبة «فالقلاع التاريخية
التي
تعود إلى العصر الوسيط تقدِّم إقامة نهاية أسبوع تامة (طعام، أزياء) لكن من دون حرارة
الأصل
طبعًا.» والاشتراك الزائف في هذه العوالم المُتعدِّدة له آثار فعلية في الطرائق التي
تنتظم بها
هذه العوالم. وبحسب المروِّجين الأمريكيين، فقد بات ممكنًا «أن تعيش العالم القديم في
يوم
واحد وبدون الاضطرار إلى الذهاب إلى هناك.» فالجغرافيا نفسها تحوَّلت إلى مجموعة من الصور
تُشاهد على شاشات العرض. ونسخ هذه الصور الزائفة في حياتنا اليومية يجلب معًا عوالم مختلفة
في المكان والزمان. هذه العوالم يتمُّ في الغالب محاكاتها على أرض الواقع بصورة مجزَّأة
ومختزلة، بحيث يُصبح الواقع ذاته حشدًا من الصور المُتراصَّة التي لا علاقة لها ببعضها.
شيء شبيه
بتقنية الكولاج
Collage في فن التصوير المعاصر «تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتو من
الأفلام. ولكي تكتشف سرَّها، لا ينبغي أن تبدأ من المدينة وتتحرَّك قُدُمًا إلى الداخل
نحو الشاشة،
بل ينبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرَّك إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا
تتَّخذ فيه
السينما أي شكل استثنائي، بل تَكتفي بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوًّا أسطوريًّا.»
٢٦١
(٤-٩) الواقع الفائق في المجال السياسي
كان المجال السياسي حاضرًا بقوة في تحليلات بودريار من حرب الخليج الأولى إلى أحداث
الحادي
عشر من سبتمبر. وربما شهرة بودريار الكبرى قد جاءت في أوائل التسعينيات عندما نشر مقالاته
عن حرب الخليج؛ فقد استرعَت هذه المقالات انتباه العديد من المثقَّفين والمفكرين نظرًا
لغرابة
الطرح الذي قدَّمه. وقد بدت أطروحة بودريار للوهلة الأولى سطحية؛ لذا لاقت استهجانًا
كبيرًا من
قِبَل البعض
٢٦٢ الذين رأوا فيها تسفيهًا لحدثٍ كان ينبغي أن يُؤخذ على محمل الجد. فبعد حوالي ما
يزيد عن عشر سنوات من العمل حول مفهوم المحاكاة والصور الزائفة، وبالتحديد في العام ١٩٩٥م
عنون بودريار أحد مؤلَّفاته ﺑ «حرب الخليج: لم تقع».
٢٦٣ نُشر الكتاب في البداية بصورة مجزأة على شكل مقالات في جريدة ليبراسيون
الفرنسية، إبان فترة حرب الخليج الأولى (حرب تحرير الكويت). وهو يتألَّف من ثلاث مقالات:
«حرب
الخليج لن تقع»، «حرب الخليج: هل هي واقعة حقًّا؟» و«حرب الخليج لم تقع». ويتلخَّص سجال
بودريار، في جوهره، في أن منفذنا الوحيد إلى حقيقة الحرب هو الإعلام. والحرب، مثل أي
شيء
آخر، هي قطعة من الخطاب الإعلامي الذي يَخلق لنا باستمرار عالَمًا لا واقعيًّا. لذا فحملة
حرب
الخليج كلها لا تعدو كونها تطويرًا للعبة من ألعاب الفيديو، فهي سيناريو فوق واقعي. وحتى
الذين هم في السلطة من صنَّاع القرار، كانوا يُتابعون الحرب من على شاشة اﻟ «سي. إن.
إن».
فالتغطية الإعلامية والصور التي تنقلها هي التي تصنع الحرب، بل إنها هي الحرب. ذلك أن
الانطباعات التي تُخلِّفها لا تؤثِّر على جماهير المشاهدين وحدهم، بل أيضًا على مدبِّري
الحرب.
لقد ذهب بودريار إلى أن الهدف من حرب الخليج لم يكن هدفًا سياسيًّا كما كان الحال
مع الحروب
السابقة، بل كان هدفًا استعراضيًّا في المقام الأول. تضخيم الحدث بصورة تتجاوَز واقعيته
حتى
يحدث التأثير النفسي المطلوب، «لقد غدا الهدف مكانة الحرب ومُستقبلها عوضًا عن واقعيتها،
إثبات
وجودها المُفرط وترسيخ هذا الوجود في العقول أكبر وقت ممكن، وفي الواقع فإن تلك المهمة
قد
افتقدت إلى الكثير من المصداقية.»
٢٦٤ من هنا وفقًا لبودريار يظلُّ التساؤل قائمًا: هل كنا نشاهد الحرب كما هي فعلًا على
شاشات الأخبار؟ أم كان المشاهدون يُشاهدون واقعًا افتراضيًّا للحرب؟
ثمة أمثلة عديدة أخرى قدَّمها بودريار مُشابهة في مضمونها للمثال السابق. غير أننا
من المُمكن
أن نُوظِّف مفهوم بودريار للواقع الفائق في تحليل بعض الظواهر داخل مجال السياسي:
- (١)
اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تولِّي جورج واشنطن رئاسة البلاد أن يتمَّ تنصيب
الرئيس الجديد بمراسم احتفالية، حافَظت عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام ١٧٨٩م
حتى الآن. وتُصاحب هذه الاحتفالية مجموعة من الطقوس والبروتوكولات الغرض منها أن يَتحوَّل
يوم
التنصيب إلى يوم عظيم بالفعل في أذهان الشعب الأمريكي حتى لا يَنساه التاريخ. والاختلاف
الذي
طرأ على هذه المراسم، منذ بدايتها حتى الآن، اختلاف يَتعلَّق بمدى تطور الميديا فقط.
وهنا يُمكِن
أن نشير إلى ظاهرتَين طاغيتَين تكشفان عن طبيعة الحياة الأمريكية والمنطق الثقافي الذي
يَحكمها
حاليًّا. هاتان الظاهرتان هما: طغيان قيَم السوق، وطغيان الروح الاستعراضية، بالمعنى
الذي يُحدده
بودريار. فعندما نتأمَّل المناظرات الانتخابية التي تجري على شاشات التلفاز ويتابعها
الشعب
الأمريكي والعالم كله تقريبًا. أولًا، يتبدَّى الاستعراض على النحو الآتي: يقف المرشَّحان
وسط
ديكور تليفزيوني دقيق التصميم، وظيفته الأساسية تحقيق الإبهار الذي يجعل الصورة مركزًا
يدور
حوله كل شيء. ويرتدي أحد المرشحين ربطة عنق حمراء، أما الآخر فيرتدي ربطة زرقاء. ومن
خلال
مُتابعة المناظرة نكتشف أن كل مرشَّح يقوم بدور المُمثل الذي يجتهد في توظيف طاقاته الأدائية
ومَلَكاته الشخصية حتى يَجذب الانتباه. وكلا المرشحين يتصرفان بحسب سيناريو جاهز سلفًا،
أعدَّه
فريق من الباحثين والمُفكِّرين والمخرجين البارعين. وعلى نحوِ ما يحدث في جوائز الأوسكار،
سوف
يئول كرسي البيت الأبيض في النهاية إلى أفضل مُمثل وأفضل سيناريو وإخراج.
٢٦٥
- (٢)
المثال الثاني هو ما يُمكن أن نطلق عليه وهم الديمقراطية عبْر عملية الاقتراع، وهو ما
يمكن أن نصوغه في التساؤلات الآتية: هل الديمقراطية تتمثَّل فقط في عملية الاقتراع؟ هل
تُمثِّل عملية الاقتراع تجسيدًا حقيقيًّا للديمقراطية؟ أم أن الناخب يجد نفسه في النهاية
محصورًا
بين خيارات، في الغالب خيارَين فقط، محدودة للغاية، ويَنبغي عليه أن يختار من بينها؟
ما يحدث
في الحملات الانتخابية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، أن بعض الشركات الرأسمالية
الكبرى تتبنَّى مرشَّحًا ما، إما أن يكون من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي،
وفقًا لمصالح
تلك الشركات مع السياسة الاقتصادية التي يَتبناها أيٌّ من الحزبَين. وتتسابق تلك الشركات
في
إنفاق المليارات من أجل توجيه الرأي العام لصالح المرشَّح الذي تتبَناه. من هنا يجد الناخب
نفسه، في حقيقة الأمر، مدفوعًا للاختيار كرد فعل طبيعي للحملات الدعائية الهائلة التي
تتبنَّاها تلك الشركات، ولا يكون اختياره، في معظم الأحوال، نابعًا عن قناعةٍ حقيقيةٍ
بالبرامج
الانتخابية للمُرشَّحين، الأمر الذي يُشكِّك في الطبيعة الديمقراطية لعملية الانتخاب
بِرُمَّتها، فهي
في النهاية لا تعدو كونها تجليًا لواقعٍ إعلاميٍّ دعائيٍّ غير متحقِّق.
- (٣)
ربما كان التوظيف السياسي لفن السينما أحد أبرز الأمثلة التي تكشف لنا كيف يكون مفهوم
الواقع الفائق فاعلًا في السينما، وفاعلًا أيضًا في تشكيل وعي الجمهور وسلوكه في العالم.
وقد
كانت — ولا تزال — السينما هي الوسيلة الكبرى التي تَعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية
في نشر
المشروع الأمريكي حول العالم. إذ تَمتلِك الولايات المتحدة أكبر كِيان سينمائي صناعي
على مستوى
العالم، هوليوود. فمن خلالها يتمُّ تصدير كل القيم التي من المفترض أن يتلقاها المشاهد
في
الدول الأخرى على أنها قيم أمريكية أصيلة، مثل: الجسارة والبطولة والسيطرة على العالم
والتفرُّد، وغيرها من القيم التي تُكرِّس جلوس الأمريكي على قمة العالم. على أن السينما
الأمريكية لا تَكتفي بهذا الدور فقط، بل تقوم أيضًا بإنتاج الصور النمطية عن الآخر وتصديرها
للعالم بأسره (على سبيل المثال الصورة النمطية للعرب والمسلمين في السينما الأمريكية).
٢٦٦ ويؤدي التنميط إلى خلق صورة زائفة عن أشخاص أو مجتمعات بعينها، وبمرور الوقت
تترسَّخ تلك الصورة في المخيَّلة الجمعية، بل والأكثر من ذلك أنها تترسَّخ في ذهن الآخر
الذي
تُنمِّطه، بحيث تغدو رؤيته لنفسه انعكاسًا لتلك الصورة النمطية، التي يحاول طوال الوقت
الخروج
منها، حتى لو كان ذلك عبْر تخلِّيه عن ثوابته وهويته.
٢٦٧
- (٤)
مع العاصفة الأخيرة لتسريبات «ويكيليكس»، وقع المشهد العالَمي في قبضة الواقع الفائق
للأزمنة المعاصرة؛ فقد كشفت وثائق الويكليكس عن عالَم آخَر غير العالم الذي نعيش فيه
ونتعامل
مع ظواهره بوصفها ظواهر حقيقية. وبالتالي لم يَعُد الواقع الذي نعيشه فعليًّا سوى مزيج
من
افتراضية الإنترنت (نموذجها تسريبات ويكيليكس) والواقع المادي الملموس في عوالم السياسة
والاقتصاد والاستراتيجية والأمن والتسلُّح والدبلوماسية والقوانين، بل حتى الثقافة والأخلاق.
صار الواقع مزيجًا قويًّا وغير مسبوقٍ تاريخيًّا، من افتراضية الكومبيوتر والشبكات الرقمية
والفضاء الإلكتروني للإنترنت، وبين الحياة الملموسة المعيشة. إنه مشهد غير مألوف، يَظهر
مَنحًى
معاصر وما بعد حداثي بامتياز في المجتمعات المعاصرة، وذلك أشد الأمثلة قوة على مفهوم
الواقع
الفائق. الأرجح أن تظل هذه السابقة في الأذهان طويلًا، وأن تنال تحليلات كثيرة ومتشعِّبة.
لقد أُضيف بُعد آخر الى العيش، امتدت حدوده وصارت تصل إلى خارجه وتُلامس مساحة غير مادية
ولا
ملموسة ولا تُقاس بحواسِّ البشر ولا بمُدركاتهم المُجرَّدة. ثمة شيء آخر (هو الافتراضي)
تداخَلَ
مع كلِّ ما يُحيط به كلمات، مثل: حياة، عيش، عالم، وجود، وواقع. وكذلك لم يبقَ الافتراضي
حبيسًا
في فضاء الإنترنت والشبكات والأجهزة والشاشات؛ إذ تلاعبَت حدوده طويلًا مع الواقع الفعلي.
لقد انتهت اللعبة. خرج الافتراضي نهائيًّا من ذلك الفضاء الذي يُفكِّر به كثيرون وكأنه
عالم
منفصل تصنعه التقنية الرقمية. خرج الافتراضي نهائيًّا كي يتداخلَ وينحلَّ ويذوب ويتماهى
مع
الواقع الفعلي، ما بدَّل هوية هذا الأخير أيضًا. وصار هذا المزيج المتداخل والمُتلابس،
هو
الواقع الفائق الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة حاضرًا.
- (٥)
إذا أخذنا الواقع المصري وتطوراته المتلاحقة منذ الخامس والعشرين من يناير نموذجًا للدور
الذي تلعبه الصورة في تطوُّر الأحداث على أرض الواقع، لوجدنا أن الصورة كانت فاعلة بصورة
رئيسة في تطوُّر الأحداث، بل في وقوعها أيضًا. فالثورة المصرية تَستحقُّ أن يُطلق عليها
وصف «الثورة
البصرية» بامتياز، ليس فقط لكون أحداثها نُقلت على الهواء مباشرة من ميدان التحرير، ومختلف
ميادين مصر، ولكن لأن التحريض عليها جاء بصريًّا بالدرجة الأولى عبْر آلاف الفيديوهات
التي تم
رفعها على المواقع الاجتماعية خلال الأعوام السابقة عليها. وتنوَّعت تلك الفيديوهات بين
تعذيب
الشرطة للمُواطنين وبين فقرات وحلقات كاملة من برامج «التوك شو» التي حاولت مناقشة قضايا
تزوير الانتخابات وغيرها. هي ببساطة ثورة إلكترونية، قامت في الواقع الفائق أولًا فأسقطت
رأس
النظام بصورة افتراضية، ومن ثَمَّ تم الاتفاق على موعدها في ٢٥ يناير ٢٠١١م بقلب ميدان
التحرير
ومختلف ميادين مصر لتُسقطه واقعيًّا.
وفي حقيقة الأمر كانت الصورة حاضرةً وفاعلةً بقوة طوال الوقت في الأحداث السياسية
الهامة
داخل مصر بعد ثورة يناير. وقد كان التلفاز عبْر برامجه المختلفة يقوم بدور اللاعب السياسي
الأهم والمُحرِّك الأكبر لمعظم الأحداث. وربما كانت أحداث الثلاثين من يونيو مثالًا بارزًا
على
الدور الذي مارسته الصورة في صنع الحدث: في يوم الثلاثين من يونيو كتبَت مصر فصلًا مُثيرًا
في
حوليات الواقع الفائق، وقدَّمت دليلًا ناصعًا على أن الصورة لم تَعُد تُشكِّل الإدراك
فحسب، وإنما
صارت تَصنع التاريخ أيضًا. ما حدث في الثلاثين من يونيو والتداعيات التي ترتَّبت عليه
قدَّم دليلًا
جديدًا على قوة وسائل الإعلام وسَطوتها؛ إذ حين خرجت الحشود في ذلك اليوم ملبيةً نداء
حركة
«تمرُّد» الذي اصطفَّت حوله المعارضة، وتولَّت تسويقه القنوات الفضائية طوال الأسابيع
التي سبقت
ذلك التاريخ، فإن الكاميرات تابعت الحشود وحرصَت على تصوير مسيراتها، تحت الاستعانة بطائرات
القوات المسلحة لالتقاط الصور من الجو. وتعدَّدت الروايات التي قدَّرت أعداد الخارجين
بنحو ١٤
مليونًا مرةً، و٢٠ مليونًا مرةً ثانية. وبلغ الرقم مع البعض إلى أكثر من ثلاثين مليونًا.
وهذه
التقديرات المُستندة إلى كثافة الحشود سوَّغت لكثيرين أن يقولوا إن مصر كلها خرجت مطالبة
برحيل
الدكتور محمد مرسي. تحدَّثت بعض التقارير الصحفية عن أن ما شهدته مصر يومئذٍ كان الاحتجاجات
الأكبر في تاريخ البشرية. وحين دخلت القوات المسلحة على الخط فإنَّ البيان الذي أصدرته
اتكأ
على هذه الخلفية، وقال «إن شعب مصر نادى بصوته الجهوري وملايينه التي خرجت إلى الشوارع،
وإن
كل ما فعلته تلك القوات أنها لبَّت النداء؛ حيث ما كان للجيش أن يخذل الشعب.» وعندما
تعالت
بعض الأصوات في الداخل والخارج أن تدخُّلَ الجيش في إزاحة الرئيس المنتخَب هو بمثابة
انقلاب
عسكري، كانت الحجة المضادة للرد على هذا التشكيك تتمثَّل في كم الحشود التي نزلت في ذلك
اليوم، كم الحشود التي التقطتها الصور الثابتة والمتحركة. وإذا ما تأملنا في تداعيات
هذا
الواقع ونتائجه القريبة والبعيدة لأدركنا الدور الذي باتت تُمارسه الصورة في الوقت الراهن.
وقد استمر الدور الذي تمارسه الصورة حاضرًا وفاعلًا بصورة كبيرة داخل المشهد. ففي الخطاب
الذي
أُطلق عليه إعلاميًّا «خطاب التفويض» وهو الذي طلب فيه وزير الدفاع المصري آنذاك من الشعب
الاحتشادَ في ميدان التحرير من أجل منحه تفويضًا للقضاء على الإرهاب «المُحتمل»، كان
الهدف
تصويرَ الحشود كيما يتمَّ اتخاذ القرار، ومن ثَمَّ تبريره بعد ذلك (الصورة سبقت الحدث
ومنحته
المشروعية). وقد صرَّح وزير الدفاع آنذاك في أحد الحوارات التي أُجريَت معه أنه كان في
غاية
القلق من أن يكون الحشد المصوَّر غير كافٍ لاتخاذ القرار. وقد تكرَّر ذلك الأمر في أحداث
كثيرة
لاحقة على نحوٍ يُمكن وصفه بأنه محاولة لاكتساب المشروعية من خلال الصورة.
(٤-١٠) الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك
كان موضوع الاستهلاك من الموضوعات التي لاقت اهتمامًا كبيرًا لدى بودريار منذ مؤلَّفاته
المبكرة. وقد خصَّص بودريار مؤلَّفه الأول نظام الأشياء Le Système des objets (١٩٦٨م) لمناقشته،
ثم ظلَّ حاضرًا في مؤلَّفاته اللاحقة: مجتمع الاستهلاك La Société de Consommation (١٩٧٠م)، نحو
نقد الاقتصاد السياسي للرمز Pour une Critique de l’économie Politique du Signe (١٩٧٢م)،
مرآة الإنتاج Le Miroir de la Production (١٩٧٣م)، التبادل الرمزي والموت L’Échange
symbolique et la mort (١٩٧٦م)، في الإغواء De la seduction (١٩٧٩م)،
وأخيرًا في كتابه التبادل
المستحيل L’Échange impossible (١٩٩٩م). على أن ما يُهمنا في سياقنا هذا علاقة مفهوم
الاستهلاك بمفهومَي الصورة والواقع الفائق، وهو ما سينصب عليه تحليلنا.
يبدأ بودريار كتابه «نظام الأشياء»
٢٦٨ بتقديمِ وصفٍ لمنزل برجوازي نموذجي، بأثاثه، ولا سيما المرايا والخشب والإنارة،
و… إلخ. ليصل في النهاية إلى أن المجتمع سيطرت عليه أسطورة الاستهلاك المفرط إلى حد
اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. وفي القسم الثاني من الكتاب يحلِّل بودريار «النظام
الاجتماعي-الأيديولوجي للاستهلاك وموضوعاته»، وهو يرى أن «مواضيع الاستهلاك صارت اليوم
أكثر
تعقيدًا من سلوك الناس المتعلِّق بها.»
٢٦٩ فقيمة الأشياء لم تَعُد تتوقَّف فقط على منفعتها، بل دخلت متغيرات أخرى إلى معادلة
استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكِّم الفعلي في فعل الشراء؛ فالسيارة التي يرغب الجميع
في
اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يَعُد الأمر متوقفًا فقط على الوظيفة
التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال «لقد تغيَّرت طبيعة الأشياء، بحيث
صار
اقتناؤها منزوعًا من غائيته الأصلية ليدخل في مدارٍ آخَر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون
السِّلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلِك.»
٢٧٠
لطالما استُخدمت الصور للترويج للمنتجات الاستهلاكية بوصفها أداة جذب تنقل المنتج
من مدار
الواقع إلى مدار الإغواء. وقد أكد رولان بارت في سياق تحليله لنسق الأزياء على هذا المعنى
«فكيما يتم تعطيل القدرة الحسابية للمشتري يجب أن يُقام حجابٌ حول السلعة — حجاب من الصور.
ويجب أن تُخلق محاكاة زائفة للموضوع الحقيقي، مستبدلة زمنًا سريعًا من الموضات المتغيرة
بالزمن
البطيء (الذي تُستهلك فيه الملابس).»
٢٧١
إنَّ فعل الشراء يرتبط ارتباطًا شرطيًّا بصورة المنتَج، وطريقة عرضه والطريقة التي
تتم الدعاية
له بها. فالصورة تختصر المسافة الوقتية بين فعلَي الإنتاج والاستهلاك، وفي الغالب يتوقَّف
نجاح
فعل الشراء على قدرة الصورة وبراعتها في جذب المُستهلِك للمنتَج. لقد أصبحت الصورة هي
الوسيط
بين السِّلعة والمُستهلِك، كما أصبحت القدرة على تقديم السلعة في صورةٍ من بين مقومات
الاقتصاد
الاستهلاكي. فالسلعة القوية التي تُنتجها شركة كبيرة هي القادرة على الإعلان عن نفسها،
القادرة على أن تظهر في صورة.
ويُحلِّل بودريار دور الصورة في مجتمع الاستهلاك بتناوله لفاترينة المحل. ففاترينة
العرض
تكشف عن وظيفةٍ أكثر عمقًا من مجرَّد كونها وسيلةً لعرض السلع، فهي في ظاهرها تعبير عن
الشفافية
التي يدَّعيها المجتمع الرأسمالي عن نفسه، فما هو موجود معروض. لقد أصبح ظهور الشيء أمام
المُشاهِد دليلًا على وجوده، فأن ترى هو أن تؤمن
seeing is believing. هذا بالإضافة إلى أن
الفاترينة تُعبِّر عن وضعٍ سوسيولوجي من نوع خاص؛ إذ تحتلُّ مكانًا وسطًا، فلا هي في
داخل المحل ولا
هي خارجه، لا هي مُنتمية إلى المجال الخاص للمحل ولا إلى المجال العام للمحيط الخارجي،
إنها
ذلك الوسط الذي يَلتقي فيه العام والخاص. ويُعيد بودريار تفعيل مقولة ماكلوهان
MacLohan
الشهيرة من أن الوسيط أصبح هو الرسالة، فيَذهب إلى أن الفاترينة ليستْ مجرَّد وسيط بين
السلعة
والمستهلَك، بل هي بمَثابة قطب مغناطيسي يعمل على تجميع الرغبات المُتناثِرة واستقطابها
وصبِّها في
منطقٍ مجتمعه الاستهلاك، بالإضافة إلى أنها تخلق الرغبات منذ البداية حتى قبل أن تَستقطِبها.
٢٧٢ وهذا ما دفع البعض كفريدرك جيمسون
F. Jamson للحديث عما أُطلق عليه «سحر
المول»
Charm of Mall، ويُعرِّفه بأنه حالة الجذب — الشبيهة بالجذب الصوفي — التي تصيب الإنسان
ما إن تطأ قدمه أرض المول أو المركز التجاري، فيتخلَّى عن ذاتيته الخاصة، ليُصبح ذاتًا
موزَّعة
على فاترينات العرض المحيطة به، ذاتًا مُستلبة ومُستقطبة من قِبَل المنتجات المعروضة.
٢٧٣
كما يُحلِّل بودريار ما أُطلق عليه ميتافيزيقا المظهر الخارجي للأزياء والموضة، على
أساس أنه
شكلٌ من أشكال الإغواء المعتمدة على فن الإعلان، بما هو نموذج لَحْظي وعابر ليس له عمق،
بل هو
يعتمد في المقام الأول على تفوُّق الأشكال السطحية المهيمنة على كافة أشكال الدلالة،
وبالتالي
يصبح بمثابة «الشكل المعاصر الذي يمتصُّ أو يستدمج بداخله كل أشكال التعبير». بمعنى أن
اللافتة الإعلانية التي تتموضع في مرمى بصر المشتري، وإن كانت لا تمتلك صفة الفن الخالد،
أو
القابل للخلود، إلا أنها تُحقِّق رسالتها الفنية كمعادل لليومي والهامشي والعرضي، كما
يتبين
حتى في الإعلانات التي تحمل مواد إلكترونية وتلفازية تومض باستمرار كدلالة على حدوث الحياة
وراهنية اللحظة أو فوريتها.
٢٧٤
ومن الطبيعي والحال هكذا أن تُصبح الرغبة هي المتحكِّمة في فعل الشراء، رغبة الامتلاك
والتميز التي تتجسَّد في فعل الشراء، وأن يتحوَّل العقل إلى أداةٍ للتبرير والتماس الحجج
لتحقيق
الرغبة، فيبدأ العقل في تقديم المُسوِّغات التي تُبرِّر فعل الشراء (وفي الغالب لا يكون
المشتري
في حاجة فعلية للمنتج)، ما يضفي على الرغبة سمتًا عقلانيًّا بارزًا، لكنه في الواقع غير
حقيقي،
فالرغبة هي الأساس في فعل الشراء لا العقل.
كان نقد بودريار وتحليله لمجتمع الاستهلاك في جانب كبير منه امتدادًا وتوظيفًا لبعض
المفاهيم الماركسية. وقد كان مفهوم الفيتيشية (أو الصنمية) السلعية
Commodity Fetishism من
بين تلك المفاهيم التي استثمرها بودريار في تحليله. تتَّضح الطبيعة الصنمية للصورة لدى
بودريار من تحليله للأصول الاشتقاقية لكلمة صنم
fetish؛ فالأصل اللاتيني لها
facio يعني
شيئًا مصنوعًا أو مُصطَنعًا
fabricated، وتعني محاكاة ما هو طبيعي بما هو صناعي، كما تعني
مشتقاتها في الإسبانية والبرتغالية التزيينَ والتجميلَ. وانتقل المصطلح إلى الدراسات
الأنثربولوجية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستُخدم لوصف عبادة القبائل البدائية
للأصنام والأشياء التي يتَّخذونها كرموز لقوى الطبيعة، وأصبح المُصطلَح يعني في هذه الدراسات
اتخاذ الفرع كبديل عن الأصل.
٢٧٥ أما ماركس
Marx فقد استخدم الفيتيشية السِّلعية في مؤلَّفه رأس المال
Capital ليشير
به إلى «الأشياء التي تمتلك حياة خاصة بها وتتحكَّم في حيوات صانعيها.»
٢٧٦ بحيث تتحوَّل بمرور الوقت إلى «أوثان» يعبدها الإنسان، ويغدو بمرور الوقت غير
مُدرِك أنه هو الذي أنتجها. وبالتالي تَكتسِب السلعة قيمةً أكبر من قيمة مَن قام بإنتاجها،
إنها
قيمة افتراضية غير واقعية، وبتعبير بودريار قيمة فائقة.
ويذهب بودريار إلى أن صنمية الصورة طغت على صنمية السلع، ذلك لأن الصور أصبحت هي
وسيلتنا
في معرفة السلع ذاتها «إذ لم يَعُد هناك اتصال مباشر بيننا وبين العالم أو بيننا وبين
أنفسنا؛
وكون كل أنواع الاتصال تحدث عن طريق الصور يعني أن الوسيط طغى على أطراف الاتصال، وطغيان
الوسيط أو الدال على المدلول هو الصنمية بعينها.»
٢٧٧
وفي كتابه الإغواء
٢٧٨ يَناقش بودريار مجتمع الاستهلاك من خلال ثلاثة محدَّدات رئيسة؛ أولًا: ما أفرزه هذا
الأخير من أنشطة استهلاكية متزايدة تسهم أيضًا في زيادة أوقات الفراغ وفي التلاعب
الأيديولوجي بوعي الناس عبْر إغوائهم، وذلك على حساب تطوير العلاقات الاجتماعية. ثانيًا:
تكريس المجتمع الاستهلاكي للتمايزات الاجتماعية، بحيث يصبح نمط الاستهلاك أو أساليب الحياة
المرتبطة به معيارًا لتصنيف الناس. ثالثًا: المُتَع الانفعالية الناجمة عن الاستهلاك.
ربما استطاع عالِم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو أن يؤكد على هذا المعنى
في
كتابه «الرمز والسلطة» من خلال ما أُطلق عليه الرأسمال الرمزي
symbolic capital، وربما يحتاج
هذا إلى بعض التوضيح خاصة أنه على علاقةٍ وثيقةٍ بفكرة بودريار السابقة عن القوة المضاعفة.
يُفرِّق بورديو في تقسيمه للطبقات بين نوعين من الخصائص: فمن جهةٍ هناك الخصائص المادية،
وهي،
ابتداء من الجسم، قابلة للإحصاء الكمي والحصر والقياس، شأن أي موضوع من موضوعات الطبيعة.
ثم
هناك من جهةٍ أخرى، الخصائص الرمزية التي تنتج عن علاقتهم مع ذوات قادرة على إدراكهم
وتقدير
قيمتهم تتطلب هي كذلك أن يُنظر إليها من خلال منطقها الخاص. ولتوضيح هذا الفرق بين مستويي
التصنيف يستدعي بورديو نصًّا للمؤرِّخ الفرنسي جورج دوبي
Georges Duby (١٩١٩–١٩٩٦م) يقول فيه: «أنْ
تكون نبيلًا معناه أن تُفرِط في الإنفاق، وأن تكون مُرغَمًا على التظاهر، وأن يكون محكومًا
عليك
بالرفه والبذخ، بل إني أذهب إلى التأكيد بأن هذا الميل إلى البذخ احتدَّ عند بداية القرن
الثالث عشر، وجاء كردٍّ على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد. فالتميز عند الفلاحين
كان
يقتضي التفوُّق عليهم طبقيًّا، وذلك بالتظاهر بالتفوُّق عليهم في الكرم والسخاء. هذا
ما يُبرزه أدب
العصر. فما الذي يميِّز الفارس الأصيل عن حديث العهد بالنعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما
الأول
فهو نبيل لأنه يصرف كل ما لديه حتى لو كان مثقلًا بالديون.»
٢٧٩ إذًا ليس المعيار هنا وفقًا لبورديو ما يَملكه الفرد، بل ما يُنفقه على مظهره، وهو
يكتسب مكانته وحظوته في المجتمع بالقدْر الذي يبدو عليه هذا المظهر.
وإذا عُدنا إلى بودريار وإعادة توظيفه لمفهوم العلامة عند دي سوسير، لوجدنا أنه في
كتابه
«التبادل المستحيل»
٢٨٠ يُقدِّم تنويعًا ماركسيًّا على هذا المفهوم، فيَذهب إلى أن العلامة الاستهلاكية تحرَّرت
من
مدلولها وتحوَّلت إلى علامة دالة على المكانة الاجتماعية للفرد في المجتمع. من هنا فإن
مفهوم
الاستهلاك نفسه قد تغيَّر من استهلاك المنتَج المادي إلى استهلاك العلامة التي تُشير
إلى
المنتَج. وبمعنًى آخر يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يهتمُّ بالوظيفة التضمينية للأشياء
أو
السلع أكثر من وظائفها الدلالية المباشرة؛ فالمنتَج الاستهلاكي (جهاز التبريد أو الهاتف
النقال أو السيارة أو الساعة) يَكتسب قيمته الآن من الشعار أو الرمز الذي يَحمله، بصرف
النظر
عن جودته أو القيمة الحقيقية له. وامتلاك هذا الشعار أو الرمز أصبح هدفًا في حد ذاته
بالنسبة
لمجتمع الاستهلاك؛ فهو دالٌّ على المكانة الاجتماعية والطبقية للمستهلك.
٢٨١
لقد كانت الرموز الدالة على الثروة، والمكانة، والشهرة والسلطة، وكذلك الطبقة، على
الدوام، مهمةً في المجتمع البرجوازي، إلا أنها لم تكن يومًا باتِّساع وأهمية ما هي عليه
اليوم.
ومع توفُّر إمكانية إنتاج الصور كما السلع بحسب ما نريد تقريبًا، غدا أكثر يُسرًا للتراكم
الرأسمالي أن يتطور جزئيًّا، على الأقل، على قاعدة إنتاج الصور وتسويقها. وعليه فعالَم
الصور
هذا يُمكن تفسيره، جزئيًّا، باعتباره صراعًا من طرف الجماعات المقهورة من كل نوعٍ لتأسيس
هويات
خاصة بها، ثم الاندفاع الرأسمالي بعد ذلك للإفادة من ذلك عبْر تسويقه تجاريًّا. كان المطلوب
أن
يكون الأمر كما لو أننا نعيش في عالَمٍ من الصور المُبتكَرة المُتغيِّرة باستمرار. وكان
طبيعيًّا أن
يكون الوقع السيكولوجي لذلك طاغيًا، وأن يُوضَع موضع التنفيذ في قوة مضاعفة.
(٤-١١) رؤية بودريار بين النقد والعدمية
سبق لنا القول في بداية حديثنا عن بودريار أنَّ فرضية بودريار تَعتمِد على تصوُّرين
رئيسين
يَتمثلان في ضياع مفهوم الحقيقة، وضعف قدرة الإنسان المعاصر على التحليل النقدي لما يُعرض
عليه. والواقع أن أطروحة بودريار، فضلًا عن هذَين التصوُّرين، قد أثارت جدلًا عنيفًا
على مستوياتٍ
عدة؛ فالبعض قد رأى في أطروحته ترسيخًا لعدمية الرؤية ما بعد الحداثية للواقع.
٢٨٢ والبعض الآخر رآها خالية من العمق ومُفتقدة للمنهج.
٢٨٣ وفي المقابل لاقت أطروحته ترحيبًا كبيرًا في الأوساط الأمريكية.
٢٨٤ فوصفها ريتشارد لأن «بأن تأثيرها كان طاغيًا على العديد من الحقول المعرفية الأخرى.»
٢٨٥ كما قال مورلي وروبنز في كتابهما المشترك فضاءات الهوية
Spaces of Identity (١٩٩٥م): «إننا نأخذ كل ما قاله بودريار على محمل الجد، فقد ساعدنا كثيرًا في فهْم طبيعة
مرحلة
ما بعد الفوردية
post-Fordism.»
٢٨٦
ورغم تعدُّد الآراء حول أطروحته، إلا أن بودريار، في واقع الأمر، كان يعرف حدود ما
يقوم به؛
لذا لم يدَّعِ أبدًا أنه يُقدِّم عملًا نقديًّا للحضارة الغربية. فهو، مثله في ذلك مثل
معظم فلاسفة
ما بعد الحداثة، يرى أن النقد شيء ينتمي إلى الماضي النُّخبوي؛ حيث كان المُفكِّر ينظر
إلى ذاته
على أنها أكثر تميزًا وقدرة على الفهْم من الآخرين. إضافةً إلى أن الواقع بتشابكاته وفوضاه
يَستعصي على أي رؤية نقدية تدعي امتلاكه، وقد قال بودريار في أحد الحوارات التي أُجريت
معه:
«أنْ تكون جذريًّا في قلبك للأشياء معناه أن تضع النتيجة مكان السبب؛ أي أن تقلب الوضع
الطبيعي
للأشياء. أنْ تكون عدميًّا — شكِّيًّا معناه أن تُبرز غياب السببية لصالح فوضى العلاقات
والترابطات،
وهذا هو تصوُّري للفكر الجذري الذي ليس بالعقلاني ولا بالنقدي: إنه فِكر خلخلة النقد
والامتلاء. هل أنا فعلًا عدمي — شكي؟ أعتقد أن الأمر يتعلَّق برغبةٍ وبحُلمٍ إلى حدٍّ
ما … باستراتيجيةٍ
منظمةٍ لقلب الأشياء وتمديد المتواليات إلى ما لا نهاية، إلى حين حصول الكارثة؛ على الأقل
الافتراضية منها.»
٢٨٧
إنَّ تسليم بودريار بموت الواقع، وبالتالي الغياب الكامل للحقيقة، يحمل بداخله الفرْق
الرئيس
بين مجتمع المشهد ومجتمع الواقع الفائق، «ما يُميِّز المجتمع المشهدي عن فوق الواقع،
برأي
بودريار، هو أن الأول قد ينطوي في داخله على إمكان النظرة النقدية. ففي المجتمع المشهدي
هناك وعي لوجوده، وبالتالي وجود مسافة بين هذا المجتمع والواقع. في حين أن ما يُميِّز
فوق-الواقع، وهو المُخيف أيضًا، استحالة النظرة النقدية، وبالتالي استحالة وجود مسافة
بين المُشاهِد
وما يُشاهده.»
٢٨٨ وقد كان بودريار مدركًا جيدًا لهذا الفرْق؛ فهو قد قرأ أعمال جي ديبور النقدية،
وأشهرها مجتمع الاستعراض، وقد أوضح ذلك الفرْق بقوله: «إن آخر التحليلات وأكثرها راديكالية
لهذه الإشكالية أنجزها جي ديبور
Guy Debord و
Situationists المدرسة الظرفية، بتصوُّرهم عن
«المشهد والاغتراب المشهدي». وبالنسبة لديبور فإنه لا تزال هناك فرصة للاغتراب، فرصة
للذات
في أن تَستعيد استقلالها أو سموُّها. لكن الآن انتهى هذا النقد الراديكالي ولم يَعُد
له مبرِّر للوجود.»
٢٨٩
في الواقع يُمكن النظر إلى أطروحة بودريار بوصفها صرخة مُدوية في عالَم تُسيطِر عليه
المحاكاة
غير ذات الأصل والصور الزائفة، لكنها صرخة لا نقدية إن صحَّ التعبير؛ أي أنها تخلو من
كل طابع
نقدي، فبودريار لا يُقدِّم أي وسيلة يمكن من خلالها التغلُّب على هذا العالَم الزائف
الذي يفترض
وجوده، لا يوجد حلٌّ أو مهرَب، وكل محاولة ستُفضي إلى الفشل «لا شيء بمقدوره إصلاح هذه
الوضعية … وليس هناك خطأ أفدح من النظر إلى الواقع بوصفه واقعي
٢٩٠ الفكر الجذري.» وكما يقول آلن هاو عن بودريار: «ما يُقدِّمه بودريار بطرائق شتَّى هو
أشبه ما يكون بحكايةٍ هي هكذا؛ فليس ثمة إمكانية خفية، ولا ذات غير مغتربة بطبيعتها تقبع
خلف
المظاهر وتُحاول أن تخرج إلى العلن. فالعالَم ما بعد الحديث هو عالَم «بلا عمق»، وذلك
هو حال
الأشياء لا أكثر ولا أقل. وهو يصف العالَم دون أن يُشير ما الذي يجعله كذلك، أو ما يفترض
أن
تكون عليه الذات من أجل مواجهة ذلك.»
٢٩١ والواقع أن بودريار نفسه لم يُقدِّم نظريته بوصفها مناهضة للخطاب البصري المُهيمن،
كما أنه لم يدَّعِ كونه ناقدًا، بل هو يقول عن نفسه: «لا أعتبر نفسي فيلسوفًا، كما أنني
لا أقدِّم
خطابًا ناقدًا.»
٢٩٢
يدَّعي بودريار أننا لسنا في حاجة إلى فكرٍ يقوِّض الواقع أو حتى ينقده، بل هو يرى
أن مُهمَّته
تتعارض تمامًا مع هذا التوجُّه: «مهمتنا واضحة: لا بد أن نجعل هذا العالَم أكثر لا عقلانية،
بل
أكثر غموضًا.»
٢٩٣ إننا لسنا في حاجة إلى تأسيس حلول جديدة لأزمة الواقع ومأزق المعنى؛ فالواقع قد
انتهى بالفعل وتحلَّل ومارس على ذاته تدميرًا استراتيجيًّا لا رجعة فيه، وأي محاولة لاستعادته
مقضيٌّ عليها بالفشل. وتُصبح مهمة الفكر فقط مُتمثِّلة في تتبُّع الكيفية التي من خلالها
دخل الواقع
مرحلة الانهيار والتحلُّل الذاتي، والكشف عن مسارات هذا التحلُّل وأشكال الانهيار. وربما
كان
السؤال الذي لم يَتوقَّف عنده بودريار هنا، رغم محوريَّته، يتمثَّل في موقع تلك الذات
التي من
المفترض أن تقوم بعملية الكشف عن تحلُّل هذا الواقع، هل هي جزء من هذا التحلُّل أم لا
بد أن تخلق
لنفسها واقعًا جديدًا يعلو على الواقع الذي يصفه بودريار بأنه ذهب بلا رجعة؟ في أي فضاء
توجد
تلك الذات القادرة على الكشف والتحليل؟ لم تُثِر نصوص بودريار أيَّ أسئلة من هذا القبيل،
كما لا
تقدِّم لنا تفسيرًا لموقع الذات في تلك العملية، وإنما انخرَطت في فضاء من العدمية والتسليم
المطلق باللاجدوى. وإذا كان بودريار قد رأى أن مسار الإنسان في هذا العالَم يُماثل المسار
العبثي لسيزيف، كما عبَّر عنه ألبير كامو
Albert Camus، فإنَّ هذا المسار في حقيقة الأمر هو
ذاته الذي يَحكم رؤية بودريار في تحليله للواقع.
إنَّنا إذا قارنَّا بين تحليل بودريار لموقع الذات في عملية التواصل، وبين التحليل
الذي قدَّمه
فلاسفة النظرية النقدية، لأدركنا على الفور الفارق بين الرؤية الوصفية المحايدة التي
تُميِّز
ثقافة ما بعد الحداثة ومفكِّريها، وبين الرؤية النقدية التي ما زالت تُراهن على تماسك
الذات
الإنسانية وقدرتها على المقاومة. إن السبب الرئيس في غياب روح النقد عن تحليل بودريار
للصورة هو سيطرة فكرة «موت الذات»، وهي الفكرة التي يعتبرها ما بعد الحداثيين تبصُّرًا
أساسيًّا،
وهو في ذات الوقت ما انتقدته النظرية النقدية بقوة. فنقد مركزية الذات ينبغي ألا يُفضي
في
النهاية إلى القول بموت الذات، وعدم قدرتها على تكوين المعنى، ووقوعها أثيرةً للفصامات
والأوهام النفسية. فعند بودريار تغدو الذات بِرُمَّتها نتاجًا لنظامٍ من التدليل، وليسَت
حاجاتها
سوى نتاج للنظام ذاته الذي أنتجها. وهكذا لا يعود مهمًّا مدى فقرك أو غناك؛ ففي النظام
متسع
لك ولحاجاتك. ولدى وسائل الإعلام مئونة لا تنفد من الصور «تلائم» أنماط المُستهلِكين
جميعًا.
وعلى سبيل المثال يُقدِّم بودريار في كتابه «أمريكا» وصفًا باردًا لرحلاته في الولايات
المتحدة
فيقول: «الصحراء التي تَعبُرها مثل منظر في فيلم من أفلام الويسترن، والمدينة شاشة من
الدوال
والصِّيَغ … تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتوِّ من الأفلام. ولكي تلتقط سرَّها،
لا ينبغي
أن تبدأ من المدينة وتتحرَّك قُدُمًا إلى الداخل نحو الشاشة، بل يَنبغي أن تبدأ من الشاشة
وتتحرَّك
إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتَّخذ فيه السينما أي شكل استثنائي،
بل تكتفي
بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوًّا أسطوريًّا. ذلك هو المكان الذي تكون فيه
خلابة
آسرة. وهذا هو السبب في أن عبادة نجوم السينما ليست بالظاهرة الثانوية، بل الشكل الأرفع
للسينما. وتجلِّيها الأسطوري، آخرُ الأساطير العظيمة في الحداثة.»
٢٩٤ إنَّ هذا الوصف المحايد، الذي لا يخلو من نبرة إعجاب، هو مثال جيد على كيفية
صياغة المشكلة، والتعبير عن المأزق دون أي مُحاولة لتقديم حلول من أي نوع.
ثمة مسألة أخرى لم تَجِد، على أهميتها، أيَّ اهتمام يُذكَر لدى بودريار، بل ربما
كانت نصوصه، في
سياقاتٍ أخرى، تُعارضها بصورة كبيرة، ويمكن صياغة هذه المسألة في السؤال الآتي: هل ثمة
أيديولوجيا ما تتحكَّم في وسائل الإعلام، أم أن وسائل الإعلام أصبحَت مُكتفية بذاتها
وتعمل بصورة
مستقلة؟ في الواقع تنحو نصوص بودريار إلى الافتراض الثاني المُتمثِّل في استقلال وسائل
الإعلام وتشكيلها لفضائها الخاص (بمعنًى أدق أصبحت ذاتية الفعل)، كما أن نصوصه الأخرى
تفترض
ما يفترضه معظم مفكِّري ما بعد الحداثة من موتٍ للأيديولوجيا في ظل النظام العالمي الجديد.
٢٩٥