(١) التجربة الصوفيَّة بين وحدة الشهود ووحدة
الوجود
١
إذا قال الصوفي: لا أرى شيئًا غير الله، فهو في
حال وحدة شهود. وإذا قال: لا أرى شيئًا إلا وأرى
اللهَ فيه، فهو في حال وحدة وجود. وهذا أوجز تبسيط
ممكن لهذين الاصطلاحَين اللذَين يختزلان التجربة
الصوفية في كلِّ أبعادِها. فحال وحدة الشهود هي حال
الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء
والبقاء متلازمان وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود؛
فإن كنتَ فانيًا عن شيء فإنك لا بدَّ باقٍ بغيره، أو
كنتَ باقيًا في شيء فأنت لا محالة فانٍ عن سواه.
وهذا أمر طبيعي، بما أن الإنسان عاجز عن جمع همَّته،
أو تسليط انتباهه، على أكثر من موضوع واحد في نفس
اللحظة. هذه الورقة التي أكتب عليها إن فكرتُ فيها
(طولها، عرضها، لونها، إلخ …)، تعذَّر عليَّ أن أكتب
عليها، وإن فكرتُ في الكتابة أو فيما أكتب، تعذَّر
عليَّ التفكير في الورقة. في الحالة الأولى، يُقال
في المصطلح الصوفي: أنا باقٍ في الورقة، فانٍ عن
الكتابة. وفي الحالة الثانية، يقال: أنا فانٍ عن
الورقة، باقٍ بالكتابة.
وخير مثال يوضح لغير المختص حالَي الفناء والبقاء
الممثِّل السينمائي أو المسرحي الذي يؤدي دورًا رسمه
له المخرج، الممثِّل في هذه الحالة يتكلم كلامًا غير
كلامه هو، ويأتي أفعالًا ليسَت أفعاله هو، بل كلامه
وأفعاله كلام وأفعال الشخصية التي يقوم بتمثيلها.
فالممثل، في أثناء التمثيل، فانٍ عن نفسه، باقٍ
بدوره.
مثال آخر، كثيرًا ما يذكره الصوفيةُ في تصانيفهم،
ما قاله قيس ليلى لما سُئِل عن ليلى أين هي؟ أجاب:
أنا ليلى، فقيس، لما قال ما قال، كان فانيًا عن
نفسه، باقيًا بليلى.
قلنا إن الفناء والبقاء متلازمان: فلا فناء بلا
بقاء، ولا بقاء بلا فناء. والفناء الصوفي، تخصيصًا،
هو فناء عن الخلق وبقاء بالحق. والصوفي أبدًا ما بين
فناء وبقاء. لكن بقاءه ليس دومًا بقاء بالحق،
لاضطراره، بحكم بشريَّته، إلى الانصراف إلى بعض
شئونه اليومية، فهل يُقال، في هذه الحالة، إنه باقٍ
بهذه الشئون، فانٍ عن الحق؟ تخلصًا من تعبير «الفناء
عن الحق» الذي لا يليق بالصوفي، بل ولا يليق حتى
بالمؤمن غير الصوفي، أن يتفوَّه به أمام الحضرة
الإلهية، اصطلح الصوفية على تسمية هذه الحالة بمقام
«الفرق» في مقابل مقام «الجمع»: «فإثبات الخلق من
باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع.»
١
٢
ووحدة الشهود نوع من التوحيد يختلف عن توحيد
الإيمان الذي نصَّت عليه الشريعة، من حيث إن التوحيد
الأول توحيد يقيني، تجريبي، أو ذوقي، على حدِّ
المصطلح الصوفي. بينما التوحيد الشرعي إيماني، نقلي،
يلتمس إليه الدليل بالنظر العقلي. وعلى هذا فإن
التوحيد الشهودي، أو وحدة الشهود، حال أو تجربة، لا
فكر ولا اعتقاد. يقول الدكتور أبو العلا عفيفي: هو
التوحيد الناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلَّى في قلب
الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تجلُّ عن
الوصف وتستعصي على العبارة، وهي الحال التي يستغرق
فيها الصوفي ويفنى عن نفسه وعن كل ما سوى الحق، فلا
يشاهد غيره لاستهلاكه فيه بالكلية.
٢ ويقول: هذا هو الفناء الصوفي بعينه، وهو
أيضًا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف
معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري (إذ
يقول): «إنه بمقدار ما يعرف العبد من ربه يكون
إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار
الذات.» فإن العبد إذا انكشف له شمول القدرة
والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلَّت الرسوم
والآثار الكونية في شهوده وتوارت إرادته وقدرته
وفعله في إرادة الحق وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء
الذي هو عين البقاء؛ لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق
ويبقى بالله وحده. هذه أيضًا هي الحال التي يسميها
الصوفية «وحدة الشهود»
٣ وينقل عفيفي عن التهانوي، في «نتائج
الأفكار القدسية»، قوله: «والتوحيد عند الصوفية
معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك
بألا يحضر في شهوده غير الواحد جلَّ جلاله.»
٤ كذلك ينقل عنه قوله: فيرى صاحب هذا
التوحيد كل الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة
ذاته (أي ذات الحق)
٥ وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه في جميع
المخلوقات كأنها مدبرة لها وهي أعضاؤها.
٦ ثم يقول التهانوي: ويرشد فهم هذا المعنى
إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه
والتعطيل، كما طعن فيهم (أي الصوفية)
٧ طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة
والذوق؛ لأنه إذ لم يثبتوا معه غيره فكيف يعتقدون
حلوله فيه أو تشبيهه به، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
٨
يعقِّب عفيفي على عبارة التهانوي بقوله: ولكن قول
التهانوي إن الصوفية لا يُثبتون مع الله غيره، ولا
مع صفاته صفات أخرى، ولا مع أفعاله أفعالًا أخرى،
إذا أُخذ على إطلاقه لا يجعل الصوفية من القائلين
بالتوحيد، بل بوحدة الوجود، وهو معنًى للتوحيد كادت
المدرسة البغدادية في القرن الثالث — ومن زعمائها
أبو القاسم الجنيد — أن تقول به.
٩
٣
قبل أن نتناول هذه النقطة الأخيرة، ننظر كيف عبَّر
الصوفية عن هذا النوع من التوحيد؛ أعني وحدةَ
الشهود:
-
(١)
سُئل بعض العلماء عن التوحيد فقال: هو
اليقين. فقال السائل: بيِّن لي ما هو.
فقال: معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم
فعل الله عز وجل لا شريك له. فإذا فعلت
ذلك فقَد وحدته.
١٠
قوله: اليقين، وهو عند القوم درجة
أعلى من الإيمان، يعني المشاهدة أو الشهود.
١١
-
(٢)
قال الجنيد: التوحيد معنًى تضمحلُّ
فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم، ويكون
الله تعالى كما لم يزل. يعقِّب على هذا
القول الشيخ زكريا الأنصاري بقوله: أي
هو معنًى يخلقه الله في قلب الموحِّد
ويغلب على قلبه حتى لا يرى غيره — تعالى
— كما في الأزل.
١٢
-
(٣)
وقال الجنيد: أيضًا وقد سُئِل عن
توحيد الخاص فقال: أن يكون العبد شبحًا
بين يدي الله — سبحانه — تجري عليه
تصاريفُ تدبيره، في مجاري أحكام قدرته
في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه،
وعن دعوة الخلق له، وعن استجابته بحقائق
وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه، بذهاب
حسِّه وحركته، لقيام الحق — سبحانه — له
فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد
إلى أوله فيكون كما كان قبل أن يكون.
١٣
-
(٤)
والمهمُّ في هذا التوحيد قوله: «أن
يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان
قبل أن يكون»، فهو يشير — كما يقول
السراج الطوسي — إلى قوله تعالى
وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ
مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم
ذُرِّيَّتَهُم الآية.
١٤ وتكملة الآية
وَأَشهَدَهُم عَلَى
أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم
قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن
تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا
كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ
(الأعراف: ١٧٢) أي إن شهادة الخَلق للحق
بوحدانيته وربوبيته قد أخذها الله تعالى
من بني آدم في الميثاق الأول، في عالم
الغيب قبل أن يوجَدوا في عالم الشهادة،
عندما كانوا مجرد إمكانية وجود، أو مجرد
وجود بالقوة، وقبل أن ينتقلوا إلى وجود
بالفعل في هذا العالم. فإذا فني الصوفي
عن نفسه وعن الخلق كان في حال مماثلة
لحاله في عالم الذر؛ لا بل في نفس هذه
الحال.
-
(٥)
وقال رويم: التوحيد محو آثار البشرية
وتجرُّد الألوهية
١٥ أي فناء الخَلق وبقاء
الحق.
-
(٦)
وقال الشبلي: وقد غلا في توحيده،
غلوًّا أدَّى به إلى تكفير الموحِّد: من
أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن
أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو
جاهل، ومن وهِم أنه واصل فليس له حاصل،
ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق
فيه فهو غافل، ومن ظن أنه قريب فهو
بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكلما
ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في
أتمِّ معانيكم فهو مصروف مردود إليكم،
مُحدَث مصنوع مثلكم.
١٦
مفتاح توحيد الشبلي هو العبارة الأخيرة التي تفيد
استحالة توحيد المُحدَث (الخَلق) للقديم (الحق)، لأن
توحيد المحدَث محدث مثله، فهو — بهذا الاعتبار — عدم
أو بحكم العدم، وإثبات وجود آخر مع الله الذي له
وحده الوجود، شرك أو إلحاد به على حدِّ تعبير الشبلي
— وهذا ما أدَّى ببعضهم إلى القول: ما وحَّد اللهَ
غيرُ اللهِ.
١٧
٤
يقول عفيفي: إن السراج (أبو نصر السراج الطوسي
صاحب «اللمع») والقشيري (أبو القاسم القشيري صاحب
الرسالة الشهيرة المعروفة باسمه) أدركا إمكان
الانتقال من وصف حال الفناء الصوفي إلى وضع نظرية
ميتافيزيقية في طبيعة الوجود كنظرية الحلول أو المزج
أو وحدة الوجود:
١٨ أي الانتقال من قول الصوفي «إنني في حال
خاصة هي حال الوجد أو الفناء؛ لا شعور لي إلا بالله،
أو أنني لا أشهد سوى الله.» إلى القول بأنه لا وجود
إلا الله. وهذا الانتقال طبيعي، واحتمال الوقوع فيه
احتمال كبير، ولكنه ليس انتقالًا منطقيًّا.
١٩ ثم يتابع عفيفي: فإن للصوفي أن يشعر بما
يشاء، وأن يعبِّر عن شعوره كيفما شاء، ولنا أن
نصدِّق ما يقوله في وصفه شعوره أو لا نصدق، ولكن ليس
له أن يبني على هذا الشعور نظرية في طبيعة الوجود؛
إذ الشعور ليس نوعًا من أنواع العلم ولا يصحُّ أن
يبني عليه نظرية في طبيعة الوجود من حيث هو وجود.
٢٠ ثم يخلص عفيفي إلى القول: فلا بدَّ إذن
من أن نفرِّق في وضوح بين «وحدة الشهود» و«وحدة
الوجود». ولعلَّ هذا الخلط بين الوحدتين هو الذي
أدَّى ببعض الباحثين في التصوف الإسلامي من
المستشرقين إلى القول بأن فكرة وحدة الوجود هي
الفكرة الأساسية المسيطرة على هذا التصوف برُمَّته.
وإن من التجنِّي أن يوصف متصوفة القرنين الثالث
والرابع أمثال أبي يزيد البسطامي والجنيد البغدادي
والشبلي بأنهم من القائلين بوحدة الوجود في حين أن
أقوالهم صريحة في وحدة الشهود المرادفة للتوحيد.
٢١
٥
يُستفاد مما تقدَّم:
- أولًا: أن وحدة الشهود أو الفناء عن
الخلق هي، بالمصطلح الصوفي، «حال» لا
فكرة ولا اعتقاد، وهي الحال التي
يقول الصوفية أنهم لا يرون فيها غير
الله.
- ثانيًا: أن انتقال الصوفي من القول إنه لا
يرى غير الله إلى القول إنه لا وجود
إلا الله، انتقال «طبيعي» ولكنه غير
منطقي كما يقرِّر عفيفي.
- ثالثًا: إن وحدة الوجود نظرية ميتافزيقية
أو عقيدة تنظر إلى الله والعالم على
أنهما كينونة واحدة، أو هي القول
بانتفاء ثنائيَّة الحق والخَلق،
وإثبات الوجود للحق وحده. وقد يعبِّر
عنها بعضُهم بالحلول، لكن هذا غير دقيق.٢٢
٦
تبيَّن معنا، فيما تقدَّم، أن ثمة تلازمًا بين
الفناء والبقاء، بحيث لا يوجد فناء بلا بقاء، ولا
بقاء بلا فناء، بل إن الفناء هو عين البقاء. وهما
حقيقة واحدة ولا فرق بينهما إلا بالاعتبار، أو قل
أنهما مظهران من حقيقة واحدة: أحدهما سلبي (الفناء)
وثانيهما إيجابي (البقاء). كما تبين معنا أن وحدة
الشهود تَسمية أخرى للفناء، ووحدة الوجود تسمية أخرى
للبقاء، وكلتا التسميتَين — وشأنهما في هذا كشأن
الفناء والبقاء — تعبِّر عن حقيقة واحدة، ولا فرق
بينهما إلا بالاعتبار، حتى ليمكننا القول إن وحدة
الشهود هي عين وحدة الوجود، قياسًا على القول إن
الفناء هو عين البقاء.
لكننا لو
عُدنا إلى مثال: الممثِّل … الذي يؤدي دور شخصية
معينة، لا يمكننا التمييز بين ثلاث أحوال: أولها،
فناء الممثِّل عن نفسه، وثانيها، بقاؤه في الشخصية
التي يلعب دورها. وثالثها، بقاء الشخصية التي يلعب
دورها فيه؛ فهي التي تنطق بلسانه فيما هو ينطق
بلسانها، وهي التي تفعل من خلاله فيما هو يفعل من
خلالها، وعلى هذا قد يعني بقاء الصوفي في الحق بقاءً
للحق في الخلق أيضًا. ومن هنا قال الحلاج: «ما في
الجبَّة غير الله!»
ويمكننا أن نلاحظ هذه الأطوار الثلاثة في وصف
عفيفي للتجربة الصوفية إذ يقول: ولكن العبد الفاني
عن نفسه، الباقي بربِّه، ليس في حالة سلبية محضة كما
قد سبق إلى الأوهام، لأن بقاءه بالله يشعره بنوع من
«الفاعلية» لا عهد له به، إذ يرى نفسه وكأنه منفِّذ
للإرادة الإلهية مدبر لكل ما يجري في الوجود، محرِّك
للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور عليه كل شيء.
٢٣
٧
نعود الآن إلى قول عفيفي إن انتقال الصوفي من
القول إنه لا يرى غير الله إلى القول بأنه لا وجود
إلا الله هو انتقال «طبيعي»، لكنه «غير منطقي»،
فنتساءل متى كان الطبيعي غير منطقي، ونحن ما استفدنا
المنطق إلا من طبيعة الأشياء؟ ثم إننا لا نستطيع أن
نفهم لماذا يعترض عفيفي على الصوفي أن يبني على
شعوره نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود من حيث هو
وجود؟ تُرى، ماذا كان عسى أن يكون عليه الفكر
الإسلامي لولا ابن عربي؟
أما قوله إن
الشعور ليس نوعًا من أنواع العلم ففيه غموض من حيث
أنه لم يبين لنا ماذا يقصد بالعلم. ثم لماذا لا تكون
المحصلة الشعورية علمًا على صعيدها الخاص؟ أم لعل
الصوفي قد اصطنع شعوره اصطناعًا أو تكلفه تكلفًا؟
حسبه أن يكون صادقًا في تجربته وفي التعبير عنها.
هذا، على الرغم من أن عفيفي يعترف بأن تجربة وحدة
الشهود هي «أخصُّ مظهر من مظاهر الحياة الصوفية
إطلاقًا بقطع النظر عمن يحصل له هذا الشهود، ومن
موطنه وجنسه ودينه»، مؤكِّدًا «أن الوثائق المعتمدة
تثبت أنها حالة عالمية جرَّبها كبار الصوفية على
اختلاف أديانهم وأجناسهم وأطلقوا عليها أو رمزوا
إليها بأسماء مختلفة.»
٢٤
وليس يخفى على دارس أن الحقيقة العلمية، بالمعنى
الحديث، تتصف بالعالمية والتكرار، ولم يبقَ إلا
«الحتمية» تتصف بها التجربة الصوفية حتى تندرج في
جملة الحقائق العلمية، بعد اتصافها بالعالمية
والتكرار، على نحو ما يبيِّن عفيفي نفسه.
٨
يقول عفيفي، وهو في صدد تبرئةِ ذي النون المصري من
«تهمة» وحدة الوجود: وقد يُقال في بعض ما أُثر عنه
من أقوال في المحبة الإلهية نفحة من نفحات وحدة
الوجود (أقول: تأمل هنا كلمة «نفحة»!) لأنه لا يرى
في الوجود شيئًا إلا ورأى الله فيه. ولكن القول
بوجود نظرية في وحدة الوجود في هذا العصر المبكِّر
من عصور التصوف (يريد القرن الثالث) مبالغة لا مبرر
لها. والأَولى أن توصف أقوال ذي النون المصري
والجنيد — بل وأبي يزيد البسطامي — بأنه نفثات قلوب
فاضت بالمحبة الإلهية واستبدت بها وحدة الشهود لا
وحدة الوجود كما أشرنا إلى ذلك مرارًا.
٢٥
كذلك يستبعد عفيفي أن يكون ابن الفارض من أصحاب
وحدة الوجود، إذ يقول: … ومع استثناء بعض أبيات لابن
الفارض في تائيَّته الكبرى (نظم السلوك) عليها مسحة
وحدة الوجود (أقول: تأمل هنا أيضًا كلمة «مسحة»!) لا
تملك إلا أن نعُدَّه متصوفًا ينزع في حبِّه الإلهي
منزع أصحاب وحدة الشهود لأنه لم يسلك طريق النظَّار
— كما فعل ابن عربي في أكثر ما كتب — من وضع
المقدمات واستخلاص النتائج، ومن تحليل المعاني
الفلسفية وتأويل الآيات القرآنية والأحاديث بشتى
أساليب التأويل؛ لينفذ منها إلى مذهبه. يقول عفيفي:
لم يفعل ابن الفارض شيئًا من هذا ولكنه استسلم لوجده
وسأستغرق في حبِّه، وغاب عن نفسه وعن كلِّ ما حوله،
فلم يشهد شيئًا إلا شهد الله فيه: فاعلًا ومؤثرًا،
ولم يقع نظره على جميل إلا رآه مرآة ينعكس على
صفحتها الجمال الإلهي المطلق.
٢٦
٩
إذَن، في بعض أقوال ذي النون المصري في المحبة
«نفحة» من نفحات وحدة الوجود، وفي بعض أشعار ابن
الفارض «مسحة» من وحدة الوجود. هكذا يصرُّ عفيفي على
أن وحدة الوجود لا يمكن أن تكون إلا نظرية يسلك فيها
صاحبها طريق النظَّار (= المنظِّرين) من وضع
المقدمات واستخلاص النتائج … إلخ؛ لكنه ما دام يعترف
«بالنفخة» و«المسحة»، فلماذا لا يعترف «بالحال»،
شأنها في هذا كشأن وحدة الشهود؟ ثم، ألا يحقُّ لنا
أن نتساءل: من أين هبَّت هذه «النفحة»، ومن أين طلعت
هذه «المسحة»؟ إن كانت من داخل التجربة فلا يحقُّ
لنا أن نقبلها أو نرفضها إلا بمقدار ما يحق لنا أن
نقبل أو نرفض وحدة الشهود.
تقدم منا القول إن وحدة الوجود هي، في الأصل،
«حال» لا تختلف، من هذه الناحية، عن «حال» وحدة
الشهود، وأنها تشكل جانبًا آخر من التجربة الصوفية،
وهو جانب البقاء في مقابل الفناء الذي ما هو إلا
وحدة الشهود.
يقول ابن عجيبة في تعريف له بحاليِّ الفناء
والبقاء: إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل
شيء، وتغيبك عن كل شيء، سوى الواحد الذي (ليس كمثله
شيء)، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حقٍّ بلا خلق،
كما أن البقاء هو شهود خلق بحقٍّ … فمَن عرف الحق
شهده في كل شيء ولم يرَ معه شيئًا، لنفوذ بصيرته من
شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود
عالم المُلك إلى شهود قضاء الملكوت. ومن فنيَ به
وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء ولم
يثبت مع الله شيئًا.
٢٧
بعبارة أخرى، إن الفناء أو وحدة الشهود هو امتصاص
التجلِّيات الإلهية في مبدئها، أو هو اختزال الدائرة
في نقطة المركز، بينما البقاء هو شيوع المبدأ الإلهي
في تجلِّياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة.
في الحالة الأولى يغيب الخلق في الحق، وفي الثانية
يتجلى الحق في الخلق. والخلق والحق أبدًا ما بين
غياب وتجلٍّ. وهكذا لا يصحُّ أبدًا الاعتماد على أحد
طرفَي المعادلة وإهمال الآخر.
١٠
مرَّ معنا إشارة السراج إلى الآية ١٧٢ من سورة
الأعراف في معرض تفسيره لمفهوم توحيد الخاصة عند
الجنيد في قوله (أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون
كما كان من قبل أن يكون). والآية المذكورة، وهي أي
الميثاق الأول الذي أخذه الله تعالى من بني آدم وهُم
في عالم الذرِّ شهادة منهم له — تعالى — بالربوبية،
أي وهم بعدُ لم يُخلقوا، أي وهم في حكم العدم، أو
بالمصطلح الصوفي، في حال الفناء هذه الآية أصل قرآني
لحال وحدة الشهود؛ لأن الذي أنطقهم، وهم بعدُ لم
يُخلقوا، وأشهدهم على ربوبيته، إنما هو الحق تعالى،
لا هم؛ فكأن الحق قد شهد لنفسه بنفسه بالربوبية بما
بثَّه فيهم من علمه بتوحيده لذاته. ولذلك قال بعضهم:
ما وحَّد اللهَ غيرُ الله، والتوحيد للحق من الخلق
طفيلي، كما مرَّ معنا. وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو
العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ الآية ١٨ من
سورة آل عمران، كما يرى ذلك صاحب اللمع.
٢٨ أقول وهذا أصل قرآني ثان لوحدة الشهود
أو حقيقة التوحيد. فكأن توحيد الخلق للحق لا يتم إلا
بإمحاء الخلق واضمحلالهم، بحيث لا يبقى غير الحق،
وهذا بحد ذاته شهادة على نفسه بنفسه بالوحدانية، كما
تقدَّم. أو كأن شهادة التوحيد لا تكون إلا بتوحيد
الشهادة، بأن يكون الموحد واحدًا، وهو الحق تعالى،
أو الخلق — يا للتناقض! — في حال غيابهم عن الحق،
وفي هذه الحالة أيضًا لا يكون الموحَّد إلا
الحق!
والحق — تعالى — هو الذي يحيي ويميت، ويُفني
ويُبقي، وينفي ويُثبت. فإذا مات الإنسان عن أنيته
حيي بالله، وإذا فني عن نفسه بقي في الله، وإذا نفى
وجوده ثبت بالله، بذلك يكون كلُّ فعل من أفعاله،
وكلُّ قول من أقواله، من الله وبالله ولله، ويكون
القائل والفاعل، بل والموحد، هو الله!
١١
والآن، ما حظ وحدتَي الشهود والوجود من شهادتي
السلام «أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله»؟
نحن نذهب إلى أن هاتين الشهادتين تمثلان حالي وحدة
الشهود (الفناء) ووحدة الوجود (البقاء) خير تمثيل:
فالشهادة الأولى إذ تنفي الألوهة عن كل ما سوى الله
تعالى وتثبتها لله تعالى وحده إنما تنفي الوجود
أيضًا عن كل ما سواه تعالى من حيث إن كل الموجودات
غيره صائرة إلى زوال، بما هي مخلوقة محدثة لا حظَّ
لها في قدم، وتثبت الوجود لله تعالى وحده بما هو
الوجود القديم الأبدي.
والشهادة الأولى إذ تنفي الوجود عن الخلق وتثبته
للحق، إنما تحرر الألوهة من المحسوس وتثبت لها صفة
الإطلاق، وهي — في الوقت نفسه — دعوة للإنسان إلى
التحرر من عبادة المحسوس، ورفض كل عبودية منه للخلق.
لكن الإنسان وحده — معتمدًا على وسائله الخاصة — لا
يستطيع أن يحقق هذا التحرر، لأن النسبي (المحسوس) لا
سبيل لنسبيٍّ مثله (الإنسان) أن يقوى عليه، بل لا
بدَّ من مواجهة النسبي بالمطلق. فاقتضى الأمر توجهًا
من المطلق إلى النسبي بمقدار ما اقتضى توجهًا من
النسبي إلى المطلق، فكان من الأول الوحي ومن الثاني
العبادة والخضوع (الإسلام)؛ فالذي أوجد العالم، ليس
استقلاله عن المطلق بل تبعيته له بما هو نسبيٍّ.
وهذا مقتضى الشهادة الثانية. وإذا كانت الشهادة
الأولى تحرر الألوهة من المحسوس؛ فإن الشهادة
الثانية تعود فتقيد المحسوس بالألوهة، بعد أن كانت
هذه مقيدة به، فيكون العالم موجودًا بمقدار ما هو
خاضع (مسلم) لله، ويكون الإنسان موجودًا بمقدار ما
هو حر من عبوديته للمحسوس، لأن عبوديته للمطلق هي
عين حريته من النسبي.
١٢
نخلص من كلِّ ما تقدَّم: أن وحدة الوجود هي، في
الأصل، حال قبل أن تكون نظرية وأنها — إلى جانب وحدة
الشهود — جزء لا يتجزأ من التجربة الصوفية. وعلى هذا
يمكننا القول، مجاراة لبعض المستشرقين، إن السمة
الغالبة على التصوف الإسلامي برمَّته هي سمة وحدة
الوجود. كما يمكننا التمييز، مجاراة للدكتور عفيفي،
بين وحدة الوجود بما هي حال — وقد اعترف عفيفي بذلك
اعترافًا ضمنيًّا — ووحدة الوجود بما هي نظرية. لكن
هذه النظرية غير آتية من فراغ، بل أساسها التجربة
وقوامها الذوق، تناولها العقل فصاغ منها نظامًا
فكريًّا قد يَقبل به البعض، أو يرفضه كُلًّا أو
بعضًا. وكِلا الرفض والقبول إغناء للحياة
الإنسانية.
هذا، وأغلب الظن أن حال وحدة الوجود تحصل للصوفي
عندما يبدأ يصحو من غيبته عن العالم، وقبل أن يعود
إلى أرض الواقع تمامًا. في هذه الحالة، لا يكون
الصوفي «باقيًا» في شهود الله وحده، ولا في شهود
العالم وحده، بل في شهودهما معًا، فيرى الله في كل
شيء، ويرى كل شيء في الله، ثم ما يلبث أن تتلاشى
رؤيته لله تدريجيًّا بمقدار ما تزيد رؤيته للعالم،
حتى يحطَّ على أرض الواقع تمامًا ويعود إلى حياته
اليومية.
وكنا ميزنا
أطوارًا ثلاثة في التجربة الصوفية: الفناء، البقاء،
التفرقة. في الفناء يقول الصوفي: هو هو! وفي البقاء
يقول: أنا هو! وفي التفرقة (البقاء في العالم) يقول:
أنا أنا وهو هو!
لكن، هل وحدة الوجود هي الحلول؟ للجواب عن هذا
السؤال بحث آخر.
(٢) معيارات التمييز بين وحدة الوجود والحلول
١
تكلَّمنا في المقال السابق عن وحدة الوجود بما هي،
في المصطلح الصوفي، «حال» تشكل جزءًا لا يتجزأ من
التجربة الصوفية، وقلنا إنها مرادفة لحال «البقاء»
وملازمة لحال «الفناء» التي ترادف «حال» وحدة
الشهود.
بقي علينا أن نتكلم على «وحدة الوجود»، بما هي
نظرية أو عقيدة أو مذهب وهي النظرية التي انعقد لواء
زعامتها للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي.
وكنا أشرنا في المقال المذكور إشارة عابرة إلى
وحدة الوجود من حيث هي نظرية، وقلنا إنها نظرية
ميتافيزيقية أو عقيدة تنظر إلى الله والعالم على
أنهما كينونة واحدة، أو هي القول بانتفاء ثنائية
الحق والخلق، وإثبات الوجود للحق وحده. وقد يعبِّر
عنها بعضهم بالحلول وقد عقبنا على ذلك بالقول: ولكن
هذا غير دقيق!
لكن القول بأن الله والعالم كينونة واحدة بدون
تحفظ قد يؤدي بنا إلى القول بالحلول كما يؤدي بنا
إلى نفس النتيجة لو أننا نفينا ثنائية الحق والخلق
نفيًا تامًّا. أما إثبات الوجود للحق وحده فأحد
معيارات التمييز بين الحلول ووحدة الوجود كما سوف
نبين فيما بعدُ.
٢
إن نظرية وحدة الوجود تعترف بثنائية الحق والخلق،
وتنفيها في نفس الوقت. فهي تحافظ على الثنائية فيما
تقول بالوحدة، وتحافظ على الوحدة فيما تقول
بالثنائية. أي أنها ثنائية في وحدة، أو وحدة في
ثنائية، لكنها تمنح الوحدة قيمة مطلقة والثنائية
قيمة نسبية، والسبب في ذلك قِدم الحق وحدث الخلق.
فالخلق، أو العالم محدث غير قديم. وأن وجوده بهذه
الصفة ليس إلا وجودًا عابرًا، بما هو صائر إلى زوال،
بينما الحق تعالى موجود أزلًا، وموجود أبدًا، بل هو
الوجود بامتياز. وبذلك يكون وجود الخلق، قياسًا إلى
وجود الحق، وجودًا كالعدم، أو هو اللاوجود. فكل ما
له بداية ونهاية فهو محدث لا حظَّ له في قِدم. وهو
بهذه الصفة لا وجود له إلا ما بين بدايته ونهايته.
أما قبل البداية وبعد النهاية فعدم محض على صعيد
الخلق بما هو خلق؛ إذَن فثنائية الحق والخلق معترف
بها بمقدار وجود الخلق ما بين نشأته ومآله. وإلا
فالوجود للحق تعالى وحده، لأنه الوجود بامتياز. وعلى
هذا تكون ثنائية الحق والخلق ذات قيمة نسبية، ووجود
الحق وحده ذو قيمة مطلقة. أو تقول إن ثنائية الحق
والخلق شأن عابر، بينما وجود الحق وحده هو الثابت
والدائم، أو تقول إن وجود الحق وجود حقيقي، ووجود
الخلق وجود اعتباري.
٣
ثمة معيار آخر هو التنزيه والتشبيه، أو المباينة
والمحايثة على حدِّ تعبير ابن قيم الجوزية
٢٩ أو التقييد والإطلاق على حد قول ابن عربي.
٣٠ فإن كان الحق مباينًا أو مفارقًا للخلق
مباينةً مطلقة، كان الخلق موجودًا بذاته، ولم يكن
حادثًا، وكان حدًّا للألوهة. ويؤدي بنا إلى نفس
النتيجة القول بأن الحق محايث للخلق محايثة مطلقة
بلا مباينة فيكون الله تعالى، في هذه الحالة،
محدودًا بحدود العالم، متناهيًا كتناهي العالم،
نسبيًّا كنسبيته؛ إذَن لا بد من الاعتراف بكلتا
صفتَي التنزيه والتشبيه، أو المباينة (المفارقة)
والمحايثة (الكمون
immanence أو
البطون
indwelling).
وأكثر الذين يهجمون على مذهب وحدة الوجود، وينعتون
أصحابه بالحلول، إنما هُم من القائلين بمفارقة
الألوهة للعالم مفارقة مطلقة
٣١ وقد أخذ البروفيسور نيكلسون، ومن بعده
طوني سبنسر، بهذا المعيار، وإن كان أولهما لم يتمسك
به دائمًا على حد قول هذا الأخير. يقول
سبنسر:
يتمسك الصوفية تمسكًا شديدًا، من حيث مفهومهم لله،
بالعقيدة الإسلامية الأصلية القائمة على تنزيه الله
عن الحوادث والممكنات … ولذلك إذا فهمنا كلمة الحلول
pantheism على
معناها الحقيقي (وهي القول بأن الله متحد بالعالم في
الزمان والمكان اتحادًا تامًّا وحصريًّا)،
٣٢ لم نجد فيهم مَن يعتقد بشيء كالحلول؛
على الرغم مما يقال عنهم خلاف ذلك وقد بيَّن
البروفيسور نيكلسون — وإن كان لا يتمسك دائمًا
بالمعيار الذي وضعه هو نفسه — أنه «ما دامت المفارقة
أمرًا معترفًا به؛ فإن أشد التوكيدات المتضمنة معنى
الكمون ليست من قبيل الحلول بل من قبيل إحاطة
الألوهة بكل شيء
panentheism».
٣٣
٤
وقد جمع ابن عربي التنزيه والتشبيه: وبالجملة
فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون
أن يفصلوه تعالى بالكلية عن العالم من شدة التنزيه
فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة
القرب فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيرون:
«فتارة يقولون هو، وتارة يقولون ما هو، وتارة يقولون
هو ما هو»، وبذلك ظهرت عظمته تعالى.
٣٤
ويقول الشيخ الأكبر في الفص الثالث من فصوص الحكم:
اعلم — أيَّدك الله بروح منه — أن التنزيه عند أهل
الحقائق في الجانب الإلهي عين التحديد والتقييد.
فالمنزه إما جاهل أو صاحب سوء أدب.
٣٥
وفيما يتعلق بالتشبيه يقول: وكذلك مَن شبهه وما
نزهه؛ فقد قيده وحدده وما عرفه. ومَن جمع معرفته بين
التنزيه والتشبيه بالوصفين على الإجمال — لأنه
يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم
من الصور — فقد عرفه مجملًا لا على التفصيل كما عرف
نفسه مجملًا لا على التفصيل.
٣٦
ومن أقواله الدالة على التشبيه قوله: فإن للحق في
كل خلق ظهورًا؛ فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن
عن كل فهم، إلا عن فهم مَن قال إن العالم صورته
وهويته، وهو الاسم الظاهر. كما أنه بالمعنى، روح ما
بطن، فهو الباطن؛ فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة
الروح المدبر للصورة.
٣٧
٥
ثمة معيار ثالث هو الإقرار بأن الله تعالى واجب
الوجود بذاته، وأن العالم واجب الوجود بغيره، يترتب
على هذا القول بأن الله تعالى مطلق بل هو المطلق،
وأن العالم نسبي، وأن النسبي تابع للمطلق وخاضع له.
وعند ابن عربي أن الخلق يشترك مع الحق في كل صفة
واسم إلا الوجوب بالذات: ولا شك أن المحدث قد ثبت
حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لا مكانه لنفسه.
فوجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار. ولا بد
أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته، غنيًّا في
وجوده بنفسه غير مفتقر، وهو الذي أعطى الوجود بذاته
لهذا الحادث فانتسب إليه. ولما اقتضاه لذاته كان
واجبًا به. ولما كان استناده إلى مَن ظهر عنه لذاته،
اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء
من اسم وصفة ما عدا الوجوب الذاتي؛ فإن ذلك لا يصح
في الحادث وإن كان واجب الوجود ولكن وجوبه بغيره لا بذاته.
٣٨
إن هذا المعيار وثيق الصلة بمعيار القِدم والحدث،
لأن واجب الوجود بذاته لم يوجد بإيجاد موجد، ولذلك
كان له القِدم، وبالتالي الغنى عن العالمين، على
خلاف واجب الوجود بغيره الذي يفتقر إلى ما يوجده،
يحدثه.
٦
إن نظرية وحدة الوجود قد نأت بنفسها عن عقيدة
الحلول لاعتمادها المعيارات الثلاثة المتقدمة، وهي:
اتصاف الله تعالى بالقِدم ونفي المحايثة المطلقة عنه
والوجوب الذاتي.
أما الحلولية فيرون أن الله والعالم واحد من كل
وجه: فإن كنت تقول بقِدم الله فمعنى قولك أن العالم
قديم أيضًا، وإن قلت أن الله واجب الوجود بذاته
فمعنى ذلك أن العالم واجب الوجود بذاته أيضًا. كذلك
لا تقول الحلولية بمباينة الله عن العالم بل
بالمحايثة المطلقة ولا بانفصال الله عن عالم الزمان
والمكان، بل بانحصاره فيه تمامًا.
يقول آ. س. رابوبرت: يرى أصحاب هذا المذهب (مذهب
الحلول) أن الله في هذا العالم وأنه كل شيء في كل
شيء، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلة في هذا
العالم مترادفان … وتدل الكلمة
٣٩ على أن هذا المذهب يرى الله هو كل شيء
وإن كل شيء هو الله، وليس الله والعالم منفصلين
بعضهما عن بعض بل شيء واحد من عنصر واحد، ولا يرى أن
الله قائم بذاته، منفصل عن العالم، كما يرى مذهب
المؤلهة — المشبِّهين — ومذهب العقليين، بل ينزه
الله عن كل أوصاف البشر، وينكر أن يكون الله مشخصًا
قائمًا بذاته، ويقول لا فرق بين الله والعالم، وأن
الله هو الخالق المدبر والعلة الفاعلة على الدوام
وهو روح فكرتها العالم، والعالم عندهم مظهر الله
والطبيعة شعاره؛ ذلك لأنه لو كان هناك شيء غير الله
لكان محدودًا ولما وُجد في كل مكان ولما كان قادرًا
على شيء، وعندهم أن الله حالٌّ في كل ذرة من ذرات
العالم وفي كل حبة من رمال الصحراء، وفي كل نبتة من
نباتات الحقول، وفي كل ورقة من أوراق الأشجار
يلاعبها الهواء، وفي كل دابة تدبُّ على الغبراء.
٤٠
٧
واضح أن هذا المفهوم يختلف عن مفهوم وحدة الوجود
من حيث اعتباره الحق تعالى غير قائم بذاته بل في
العالم، أو بعبارة أخرى غير واجب الوجود بذاته بل
واجب الوجود بغيره، مما يترتب عليه افتقاره إلى
العالم. كذلك يختلف عن مفهوم وحدة الوجود من حيث
تجريده الألوهة من صفة المفارقة، وإثبات المحايثة
لها في العالم بصفة مطلقة، وهذا نتيجة منطقية لقولهم
أن الله غير قائم بذاته وواجب الوجود بغيره في نفس
الوقت. ويترتب على ذلك أن نقول إن الله قديم وحادث،
أو إن العالم قديم وحادث، وأن نقول إن الله والعالم
كليهما خالق ومخلوق في نفس الوقت.
٨
يقول المستشرق السويسري ف. شيئون
F. Schuon في
تعريف له بالحلول ما يلي: تقوم فكرة الحلول على
التسليم بوجود اتصال غير منقطع بين المنتهى وغير
المنتهى، يتعذر علينا فهمه إلا أن نسلم ابتداءً
بوجود وحدة مادية بين المبدأ الأنطولوجي الذي هو محل
بحث في كل فلسفة إلهية وبين نظام التجلي، وهو مفهوم
يفترض سلفًا وحدة مادية وبالتالي انتفاء الألوهة، أو
أن نخلط الوحدة الجوهرية بين الألوهة والتجلي
بالوحدة المادية. إن فكرة الحلول تقوم على ما قد
بينَّاه، لا على شيء سواه. لكن يبدو أن بعض العقول
قد بلغ منها العناد مبلغًا أعيت معالجته كل دواء؛
فهي تأبى إلا أن تنحرف بهذه الفكرة البالغة البساطة
عن حقيقتها، هذا إن لم يكن الهوى أو المصلحة من وراء
تشبثهم بأداة جدلية كاصطلاح الحلول الذي يسمح لهم
بإلقاء ربية عامة على عقائدَ معينة يعتبرونها مزعجة
لهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تمحيص هذه العقائد
بحد ذاتها، وحتى حين لا تكون فكرة الله أكثر من
مفهوم عن «المادة العالمية» (مادة أولية)، ويكون
المبدأ الأنطولوجي خارجًا عن نطاق البحث بالتالي،
يظل الهجوم على فكرة الحلول أمرًا لا مسوِّغ له
ألبتَّة، ما دامت «المادة الأولية» متعالية أو
ممتنعة على ما يصدر عنها من نواتج. فلو كان فهمنا
لله أنه «الوحدة البدئية»، أي جوهر صرف، لم يكن لشيء
أن يتواحد به ماديًّا أما أن ننعت مفهوم «الوحدة
الجوهرية» بالحلول، فمعناه أننا ننكر في نفس الوقت
نسبية الأشياء، وننسب إليها حقيقة مستقلة عن الكائن
أو عن «الوجود» كما لو كان من الممكن أن توجد
حقيقتان متمايزتان جوهريًّا، أو «وحدتان»، أو
«وحدانيتان».
والنتيجة الحتمية لهذا المنطق هي المادية ليس إلا؛
ذلك أننا عندما لا نعود نفهم التجلِّي متحدًا
جوهريًّا بالمبدأ، لا يعود التسليم بهذا المبدأ أكثر
من مسألة تصديق، وما إن ينهار هذا السبب العاطفي حتى
لا يبقى ثمة سبب آخر يجعلنا نسلم بشيء آخر غير
التجلي، والتجلي الحسي تخصيصًا.
٤١
٩
من الكلام المتقدم نخلص إلى أن شيئون يؤكِّد وجود
صلة أو وحدة قائمة بين المبدأ الأنطولوجي (الحق)
وبين تجلياته (الخلق)، وأن هذه الصلة أو الوحدة ذات
طبيعة جوهرية لا مادية، وأن هذه الوحدة الجوهرية هي
التي تميز عقيدة وحدة الوجود (وإن لم يذكر ذلك
صراحة) من الحلول، الذي يعتبر الوحدة بين الحق
والخلق ذات طبيعة مادية. وأنه بدون هذه الوحدة
الجوهرية، يكون للعالم حقيقة مستقلة عن الحق ولا
يعود الإيمان بالحق قائمًا إلا على أساس عاطفي من
التصديق حتى إذا انهار هذا الأساس لم يبقَ شيء
يحملنا على التسليم بشيء آخر غير العالم المادي
المحسوس.
وشيئون في هذا إنما ينضم إلى الشيخ الأكبر الذي
ينفي الارتباط الجسماني بين الحق والخلق في قوله:
أما الارتباط الجسماني فلا يصحُّ بين العبد والرب؛
لأنه تعالى ليس كمثله شيء فلا يصح به ارتباط من هذا
الوجه أبدًا؛ لأن «الذات» له الغنى عن العالمين،
بخلاف الارتباط المعنوي (ويسميه شيئون الوحدة
الجوهرية)؛ فإنه من جهة مرتبة الألوهية وهذا واقع
بلا شك لتوجه الألوهية على إيجاد جميع العالم
بأحكامها ونسبتها وإضافتها.
٤٢
وهنا يمكننا أن نتبين معيارًا رابعًا متفرعًا عن
معيار (نفي المحايثة المطلقة) يتعلق بتحديد طبيعية
الصلة بين الحق والخلق بما هي من طبيعة معنوية، غير
جسمانية، كما يقول ابن عربي، ومن طبيعة جوهرية، غير
مادية، كما يقول شيئون.
١٠
لكن ابن عربي لا يتوقَّف عند قوله: «لتوجه
الألوهية على إيجاد جميع العالم بأحكامها ونسبتها
وإضافتها»، بل يصف هذا التوجه الآتي من قبل مرتبة
الألوهية بالافتقار، الأمر الذي قد يبدو اختراقًا
لمعيار الوجود الذاتي؛ لكنه يبين طبيعة هذا الافتقار
فيقول: وهي (أي الألوهية) التي استدعت الآثار؛ فإن
قاهرًا بلا مقهور وقادرًا بلا مقدور، وخالقًا بلا
مخلوق، وراحمًا بلا مرحوم، صلاحية ووجودًا وفعلًا،
محال، ولو زال سر هذا الارتباط لبطلت أحكام الألوهية
لعدم وجود مَن يتأثر. فالعالم يطلب الألوهية وهي
تطلبه، والذات المقدس غني عن هذا كله.
٤٣
نقول: إن هذا نوع من الضرورة الميتافيزيقية
اقتضتها طبيعة كون الخالق خالقًا أو هو نوع من تحقيق
الذات بدونه تظل الألوهية إمكانية وجود، لا وجودًا
فاعلًا ومؤثرًا، وهو أدخل في باب الغاية من الخلق في
مثل قوله تعالى:
وَمَا خَلَقتُ
الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ
(الذاريات: ٥٦) وفي تفسير ابن عباس (إلا ليعرفوني)
٤٤ أو قوله تعالى في الحديث القدسي: «كنت
كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فيه —
أو فبي — عرفوني.»
٤٥ أو هو من قبيل «حاجة» المحسن الكريم إلى
الإحسان وإلى مَن يتقبل منه إحسانه؛ إذ بدون المتقبل
لا يمكن أن يسمى المحسن محسنًا.
بقي أن نعرف أن الشيخ الأكبر يميز بين الذات
الإلهية وبين مرتبة الألوهية. فالأولى مجردة عن
الصفات والأسماء، وهي الغنية عن العالمين. أما
الثانية، وهي الذات متصفة بالصفات والأسماء؛ فتحتاج
إلى خلق الأشياء لكي ترى ذواتها فيها. أي إن فعل
الخلق حصل من مرتبة الألوهية التي تتوجه على إيجاد
العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها والصلة بين الحق
والخلق إنما جاءت من هذه المرتبة، لا من «الذات»
الذي له الغنى عن العالمين فالألوهة — يقول الدكتور
حامد نصر أبو زيد — وسيط أو برزخ بين الذات الإلهية
والعالم. وهي تقابل كلًّا منهما بذاتها وتفصل بينهما
بذاتها هي الجامع وهي الفاصل، بين الذات الإلهية
والعالم في نفس الوقت. لكنها لا توجد بين الذات
والعالم وتلغي ثنائيتهما بل الأحرى القول إنها تجمع
بينهما، كما تحفظ لكل منهما استقلاله المتميز في نفس الوقت.
٤٦
ولعل خير ما يوضِّح طبيعة الافتقار من الحق إلى
الخلق ومن الخلق إلى الحق ما ينطوي عليه فعل الخلق
نفسه، لنأخذ صفة العلم مثلًا؛ فهذه الصفة تتطلب، لكي
تتحقق معلومًا يتعين فيه العلم، وعالمًا تقوم به هذه
الصفة، أي تتطلب ذاتًا عالمة وموضوعًا معلومًا فمن
أسمائه تعالى العالم (عالم الغيب والشهادة) ومن
صفاته العلم؛ فذاته التي تتصف بالعلم، وهي مرتبة
الألوهية من ذاته تعالى، تنعكس على مرآة (وهي مرآة
اعتبارية للتمثيل صورة المعلوم)؛ فترى الذات نفسها
في صورة المعلوم، من حيث إن الخلق ما هو إلا
«امتداد» للذات تصير به موضوعًا. أي إن الموضوع هو
الذات في العالم الخارجي، أو هو «الذات خارج الذات»
مع التوكيد أن تعبيرَي «العالم الخارجي» و«خارج
الذات»، تعبيران اصطلاحيان اعتمدناهما بُغية
التوضيح، هذه الصورة المنعكسة، أي صورة المعلوم،
يسميها ابن عربي «بالقابل» كما يسميها أيضًا «بالعين الثابتة».
٤٧
١١
قبل الانتقال إلى إيراد نقاط الالتقاء والافتراق
بين مذهب وحدة الوجود والحلول، نورد فيما يلي موجزًا
لبعض المنطلقات الرئيسية التي تنهض عليها وحدة
الوجود، ثم نجري مقارنة سريعة بينها وبين عقيدة
العموم، وأعني بها ظاهر الشريعة.
- أولًا: قِدم الحق تعالى وحدث العالم،
والحق قديم بإطلاق؛ لكن العالم ليس
حادثًا من كل وجه. فهو قديم
باعتبارين: أولهما «وجوده» في علم
الله القديم، وثانيهما أن الحق تعالى
غير مفارق للعالم بإطلاق؛ ولذلك يمكن
القول إن العالم حقٌّ وخلق.
- ثانيًا: تعترف وحدة الوجود بالمباينة إلى
جانب المحايثة، وبالتنزيه مع
التشبيه، والإطلاق مع التقييد،
والمفارقة
transcendence
مع الكمون
immanence
وتقرر أن الصلة بين الحق والخلق
معنوية وجوهرية، غير مادية.
- ثالثًا: الحق واجب الوجود بذاته، والخلق
واجب الوجود بغيره. والخلق مفتقر إلى
الحق من كل وجه، والحق له الغنى عن
العالمين. وإن كان ثمة افتقار من
الحق فهو من «مرتبة الألوهية» لا من
«الذات». مع البيان أن افتقار الموجد
إلى «الإيجاد» هو من غير طبيعة
افتقار الموجد إلى «الوجود».
- رابعًا: التمييز بين «الذات الإلهية»
العارية عن الأسماء والصفات، وبين
«الذات الإلهية» متصفة بالصفات
والأسماء، وهي «مرتبة
الألوهية».
- خامسًا: الوجود بحقٍّ لله تعالى وحده،
وليس للخلق إلا وجود اعتباري. يترتب
على ذلك أن ثنائية الحق والخلق، أو
العبد والرب، ذات قيمة نسبية، على
حين أن الوحدة، وحدة وجود الحق، ذات
قيمة مطلقة. وتبعًا لذلك يمكن القول
إن لا وجود إلا للحق تعالى
وحده!
١٢
ترفض عقيدة العموم منطلق المحايثة أو الكمون رفضًا
قاطعًا. وهذا المنطلق يشكل نقطة أساسية تفترق فيها
وحدة الوجود عن ظاهر الشريعة، التي تقول بالمفارقة
المطلقة. كما ترفض التقييد وتقول بالإطلاق. وأما
التشبيه فتقول به بحدود ما جاء في الكتاب والسُّنة،
ولكن بلا كيف.
٤٨ كذلك ترفض عقيدة العموم التمييز بين
الذات العارية عن الصفات والأسماء وبين مرتبة
الألوهية كما ترفض مبدأ عدم وجود العالم، أو القول
بألا وجود إلا للحق تعالى وحده، وتعتبره حيلة من
أصحاب وحدة الوجود لكي ينفذوا بواسطتها إلى القول
بأن العالم والله شيء واحد.
٤٩
وتلتقي عقيدة العموم مع وحدة الوجود على القول
بقِدم الحق تعالى وحدث العالم، ولكنها تختلف معها في
قولها بقِدم العالم النسبي؛ لأن وحدة الوجود لا تقول
بالمفارقة المطلقة وتقول بها عقيدة العموم.
وكذلك تلتقي عقيدة العموم مع وحدة الوجود في
التمييز بين كون الحق تعالى واجب الوجود بذاته وكون
الخلق واجب الوجود بغيره. ولا تقبل فكرة الافتقار من
الحق إلى الخلق لرفضها التمييز بين «الذات» و«مرتبة
الألوهية» كما تقدَّم.
١٣
مرَّ معنا أن مذهب الحلول يقول بكمون الألوهة في
العالم وانحصارها فيه تمامًا؛ بحيث يجعل من الألوهية
والعالم اسمين مترادفين، وأنه — تبعًا لذلك — ينفي
أن يكون للألوهية وجود خارج العالم؛ أي أنه ينفي عن
الألوهة صفة المفارقة. هذه النقطة هي الفيصل الأساسي
الذي يفرِّق وحدة الوجود عن مذهب الحلول. وهي من
ناحية ثانية، النقطة التي يتلاقى عندها المذهبان مع
الفارق بأن مذهب الحلول يقول بالمحايثة المطلقة،
بينما لا تقول وحدة الوجود بإطلاق المحايثة
بنسبيَّتها من حيث اعترافها بصفة المفارقة.
بل بتعبير أدق نقول إن وحدة الوجود تقول باحتواء
الألوهة للعالم. وهذا أفضل من تعبير
المحايثة.
وأما باقي المنطلقات التي تنهض عليها وحدة الوجود
كالقدم والحدث، والوجود بالذات والوجود بالغير فلا
محل لها في مذهب الحلول؛ زيادة على ذلك أن مذهب
الحلول يرى أن الصلة بين الألوهة والعالم من طبيعة
مادية ليس إلا.
وأخيرًا، نوجز الفروق فيما بين عقيدة العموم
والحلول ووحدة الوجود بالصيغ التالية:
- عقيدة العموم: الحق حقٌّ، والخلق خلق.
- مذهب الحلول: الحق هو الخلق أو الخلق هو
الحق.
- وحدة الوجود: الحق حقٌّ، والخلق حقٌّ
وخلق.
وبتطبيق هذه الصيغة على العلاقة بين الله
والإنسان، يمكننا القول:
- عقيدة العموم: هو هو، وأنت أنت.
- مذهب الحلول: هو أنت أو أنت هو.
- وحدة الوجود: هو هو، وأنت هو ما هو.
(٣) مصادر وحدة الوجود من الكتاب والسُّنة
١
وحدة الوجود، بما هي حال أو تجربة، يستحيل أن يكون
لها مصدر آخر غير «التجربة» من حيث إن هذه حال تطرأ
على الصوفي، بل تقتحمه اقتحامًا، من دون أن يكون له
أو لإرادته دخل في صنعها. فهذه التجربة هي من النوع
الذي يصنع الإنسان، ولا يصنعه الإنسان. لكن وحدة
الوجود، بما هي «نظرية» أو «مذهب» قد نجد لها أصولًا
إسلامية وغير إسلامية، بفعل تلاقح الثقافات وتفاعلها
فيما بينها.
لذلك لا بد لكل باحث في التصوف من التمييز بين
التصوف، بما هو تجربة أو ذوق على حد تعبير الصوفية،
وبين التصوف بما هو تعبير عن هذه التجربة أو ترجمة
لأحوالها. وما نشأ الاختلاف بين القائلين بأصالة
التصوف الإسلامية وبين القائلين بغربته عن الإسلام
أو استيراده من ثقافات أخرى إلا بسبب الخلط أو عدم
التمييز بين التصوف ذوقًا أو تجربة، وبين الوصف
أدبًا وفكرًا يترجم فيهما الصوفي معاناته وما يكابده
في طريقه إلى الحق تعالى.
٢
كنَّا بينَّا في البحث الأول أن شهادتي الإسلام
«أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» قد
انطوتا، تحليليًّا، على نفي الألوهية — وبالتالي
الوجود — عن العالم وإثباتها لله تعالى وحده، ثم على
إثبات العالم موجودًا بالله تعالى، غير منفصل عنه
بما هو مهبط رسالات رسله، وملتقى نبوات أنبيائه. فهو
— العالم — موجود لهذه الصفة، وليس له معنى الوجود
غير إسلامه لله تعالى وخضوعه له: وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ طَوعًا
وَكَرهًا. (آل عمران: ٨٣). فكأن الاعتراف
بوجود العالم قد اقتضى منه اعترافًا بوجود الله
تعالى يتمثل ﺑ «الإسلام» له والاتباع لوحيه، والعمل
بشريعته.
وقلنا إن نفي الوجود عن العالم (السوي) وإثباته
لله تعالى وحده يماثل حال الفناء، وهي الحال التي لا
يرى فيها الصوفي غير الحق تعالى؛ فكأن المبدأ هنا
يمتص تجلياته و«يشفطها»: يَومَ
نَطوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلكُتُبِ (الأنبياء: ١٠٤). وقلنا إن
إثبات العالم (السوي) موجودًا بالله تعالى، وجودًا
لا انفصال له عنه، يماثل حال البقاء، وهي الحال التي
لا يرى فيه الصوفي شيئًا إلا ويرى الله فيه. وبذلك
يمكننا القول إن شهادتي الإسلام قد انطوتا على
التجربة الصوفية (الفناء والبقاء) في كل أبعادها
وبالتالي على وحدتَي الشهود والوجود.
غير أن القرآن الكريم سوى الشهادتين وهما مستمدتان
منه وفي السُّنَّة الشريفة آيات وأحاديث كثيرة،
اعتمدها أصحاب وحدة الوجود تأييدًا لمذهبهم وتأسيسًا
لقواعده ذهبوا في تأويلها مذاهب ربما لا تلقى قبولًا
لدى الكثيرين ممن يقفون عند ظاهر الحرف ولا يتعدونه
إلى ما يشتمل عليه من باطن غير محدود.
٣
لذلك لا نرى بدًّا، قبل الإتيان على ذكر المصادر
القرآنية والنبوية التي استند إليها أصحاب مذهب وحدة
الوجود، من إلمامة سريعة نبين فيها مذهب القوم
وطريقهم في التأويل.
يقول الشريف الجرجاني في تعريفاته: التأويل صرف
اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان
المحتمل الذي يراه موافقًا بالكتاب والسُّنة مثل
قوله تعالى:
يُخرِجُ الحَيَّ
مِنَ المَيِّتِ إن أراد به إخراج الطير
من البيضة … كان تفسيرًا، وإن أراد إخراج المؤمن من
الكافر، أو العالم من الجاهل كان تأويلًا.
٥٠ ويقول في «المُئول»: ما ترجح من المشترك
بعض وجوهه بغالب الرأي. لأنك متى تأملت موضع اللفظ
وصرفت اللفظ عما يحتمله من الوجوه إلى شيء معين بنوع
رأي فقد أولته إليه. قوله «من المشترك» قيد اتفاقي
وليس بلازم إذ المشكل والخفي إذا علم بالرأي كان
مُئولًا أيضًا، وإنما خصه بغالب الرأي لأنه لو ترجح
بالنص كان مفسرًا لا مُئولًا.
٥١
لكن الصوفية عمومًا، وأصحاب وحدة الوجود منهم
خصوصًا، ربما لا يتقيدون إلا بما تمليه عليهم
اللحظة، أو الوقت، بحسب المصطلح الصوفي؛ فالصوفي
«ابن وقته»، أو هو بحكم الوقت
٥٢ وهم يستندون في تأويل آي القرآن الكريم
والسُّنة الشريفة إلى حديث النبي
ﷺ: ما من
آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ولكل حد مطلع.
٥٣
يقول القاشاني، وهو أحد شارحي «فصوص الحكم» لابن
عربي: فمن الظهر إلى المطلع مراتب محصورة، ولكن يجب
أن يفهم أول المعاني من ذلك اللفظ بحسب وضع ذلك
اللسان، وترتب عليه سائرها بحسب الانتقالات الصحيحة؛
فيكون الحق مخاطبًا للكل بجميع تلك المعاني، من
المقام الأقدم، الذي هو الأحدية إلى آخر مراتب الناس
الذي هو لسان العموم.
٥٤
على أن القيصري، وهو شارح آخر لكتاب «فصوص الحكم»،
يفسر الحديث المتقدم تفسيرًا أوضح وأشمل إذ يقول:
فظهره (أي القرآن الكريم) ما يفهم من ألفاظه ويسبق
الذهن إليه، وبطنه المفهومات اللازمة للمفهوم الأول،
وحده ما ينتهي (عنده) غاية إدراك الفهوم والنقول،
ومطلعه ما يفهم منه على سبيل الكشف والشهود من
الإشارات الإلهية. فالمفهوم الأول، الذي هو الظهر،
للعوام والخواص، والمفهومات … اللازمة (للمفهوم
الأول الذي هو البطن)، للخواص فقط، والحد للكاملين
منهم (أي للكمل من الخواص)، والمطلع لخلاصة أخص
الخواص كأكابر الأولياء، وكذلك الحكم في الأحاديث
القدسية والكلمات النبوية له ظهر وبطن وحد ومطلع.
٥٥
ويقول الشيخ الأكبر: ولما علمت الأنبياء والرسل
والورثة (يريد: العلماء بما هم ورثة الأنبياء) أن في
العالم وأممهم من هم بهذه المثابة (أي مثابة صاحب
الفهم الدقيق الغائص على درر الحكم، كما يقول الشيخ
نفسه)، عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع
فيه اشتراك الخاص والعام، فيَفهم منه الخاصُّ ما
فَهِم منه العام وزيادة مما صح له به اسم أنه خاص،
فيتميز به عن العامي.
٥٦
قوله «الغائص على درر الحكم» يفيد باطنها الذي جاء
التعبير عنه باللسان الظاهر وأبسط مثال على ذلك، وقد
تقدَّم ذِكره في البحث الثاني، قوله تعالى:
وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلَّا لِيَعبُدُونِ الذاريات: ٥٦. ما
يفهمه العموم من قوله تعالى
إِلَّا لِيَعبُدُونِ أداء الفرائض التي
افترضها الله تعالى على عباده من صلاة وصوم وحجِّ
البيت إلخ … لكن الصوفية يئولون (العبادة) إلى
(المعرفة)، من حيث إن هذه مبطونة في العبادة، إذ لا
يُعقل أن يعبد الإنسان ما لا يَعرف، لأن المعرفة
لازمة للعبادة وهم يستندون في هذا إلى تفسير ابن
عباس للآية المذكورة.
٥٧
إنما سقنا هذه المقدمة الوجيزة لكي نتفهم كيف يعمد
الصوفية إلى استبطان النصوص القرآنية والأحاديث
النبوية والكشف عن معانيها. فالصوفية — بالإضافة إلى
المعاني الظاهرة المعتمدة لدى أرباب الشريعة —
يئولون آيات الكتاب الكريم من المرتبة التي ارتقوا
إليها، معتمدين لا على فهمهم هُم، بل على ما يُلقى
في «روعهم» من الحق تعالى في «الوقت»، وإن شئتَ
قلتَ: في «لحظة التجلِّي». فالمُئول هنا إنما هو
الحق تعالى في الحقيقة لا الصوفي. والتأويل، هنا،
ليس فاعلية من فاعليات العقل البشري المحدد، وإنما
هو الإلهام والفتح والكشف.
٤
المصادر الإسلامية التي اعتمدها الصوفية عمومًا،
وأصحاب مذهب وحدة الوجود خصوصًا تنقسم، كما تقدَّم
معنا، إلى قسمين: قرآنية ونبوية. والنبوية تشتمل على
الأحاديث القدسية والأحاديث الشريفة:
(أ) المصدر القرآني
من أكثر الآيات القرآنية التي تداولتها أقلام
أصحاب وحدة الوجود التي نوردها هنا تمثيلًا لا
حصرًا، مبينين كيف وظَّفها الصوفية، ولا سيما
ابن عربي، في دعم مذهبهم في وحدة الوجود، الآيات
التاليات:
-
وَإِذ قَالَ
رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِل فِي الأَرضِ خَلِيفَة
(البقرة: ٣٠).
-
هُوَ الأَوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيم
(الحديد: ٣).
-
أَلَم تَرَ إِلَى
رَبِّكَ كَيفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَو
شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا
(الفرقان: ٤٥).
-
وَمَا رَمَيتَ
إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللهَ
رَمَى (الأنفال: ١٧).
-
فَإِذَا
سَوَّيتُهُ (آدم) وَنَفَختُ فِيهِ مِن
رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ (الحجر:
٢٩).
-
كُلُّ شَيء
هَالِك إِلَّا وَجهَهُ
(القصص: ٨٨).
-
كُلُّ مَن
عَلَيهَا فَان وَيَبقَى وَجهُ
رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ
وَالإِكرَامِ (الرحمن:
٢٦).
-
فَأَينَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ
اللهِ (البقرة: ١١٥).
-
وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب
أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ (البقرة:
١٨٦).
-
وَنَحنُ أَقرَبُ
إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ
(ق: ١٦).
-
وَفِي الأَرضِ
آيَات لِلمُوقِنِينَ وَفِي
أَنفُسِكُم أَفَلَا
تُبصِرُونَ (الذاريات:
٢٠-٢١).
٥
إِنِّي جَاعِل فِي الأَرضِ
خَلِيفَة والمراد بالخليفة آدم (ع) وهو
يرمز إلى الإنسان الكامل الذي تجمَّعت فيه جميع
الأسماء الإلهية التي لا يبلغها الإحصاء. وهو بهذه
الصفة قد جمع بين صورة العالم وصورة الحق. وهما —
الصورتان — يدا الحق تعالى المشار إليهما في مخاطبة
الله تعالى لإبليس بقوله:
مَا
مَنَعَكَ أَن تَسجُدَ لِمَا خَلَقتُ
بِيَدَيَّ.
٥٨
يقول الشيخ الأكبر: ولهذا كان آدم خليفة؛ فإن لم
يكن ظاهرًا بصورة مَن استخلفه فيما استخلفه فيه فما
هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا
التي استخلف عليها — لأن استنادها إليه فلا بد أن
يقوم بجميع ما تحتاج إليه — وإلا فليس بخليفة عليهم.
فما صحَّت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته
الظاهرة من حقائق العالم وصوره وأنشأ صورته الباطنة
على صورته تعالى، ولذلك قال فيه «كنتُ سمعه وبصره»
(إشارة إلى حديث قرب النوافل الذي سوف نذكره فيما
بعدُ) ما قال كنتُ عينه وأذنه؛ ففرق بين الصورتين
وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة
ذلك الموجود ولكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة، فما
فاز إلا بالمجموع.
٥٩
لكن ما الغاية من خلق هذا الإنسان الخليفة؟ يجيب
الشيخ الأكبر: هي أن يرى الله تعالى عينه في كون
جامع يحصر الأمر كلَّه لكونه متصفًا بالوجود، ويظهر
به سره إليه؛ فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل
رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه يظهر
له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم
يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له.
٦٠
٦
هُوَ الأَوَّلُ
وَالآخِرُ فالأولية التي يتصف بها الحق
تعالى ليست بمعنى أنه أول الممكنات إذ لو كان كذلك
لم يكن هو الآخر، لكنه الآخر لا بمعنى أنه آخر
الممكنات بل بمعنى رجوع الأمر إليه كلِّه. يقول
الشيخ الأكبر؛ فبهذا صحَّ له الأزل والقِدم، وانتفت
عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم، فلا
تنسب إليه مع كونه الأول. ولهذا قيل فيه الآخر، فلو
كانت أوليته أولية وجود التقيد (باعتبار الموجودات
مقيدة بشروط وجودها)، لم يصح أن يكون الآخر للمقيد،
لأنه لا آخر للممكن، لأن الممكنات غير متناهية فلا
آخر لها. وإنما كان آخرًا لرجوع الأمر كلِّه إليه
بعد نسبة ذلك إلينا، فهو الآخر في عين أوليته،
والأول في عين آخريته.
٦١
وَالظَّاهِرُ
وَالبَاطِنُ. كل خلق فله ظاهر وباطن،
بما هو انعكاس لتجلياته الأسمائية تعالى: فللقرآن
الكريم ظاهر وباطن، كما مرَّ معنا قبل قليل. وكذلك
للإنسان ظاهر وباطن. وكذلك لكل شيء. فالإنسان ظاهره
خلق وباطنه حق؛ لكن ظاهره هو صورة اسمه تعالى
«الظاهر»، والحق هو باطن هذه الصورة. وفي هذا المعنى
يقول الشيخ الأكبر: فالحق هو الظاهر في كل مفهوم
(مدرك) وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم مَن قال إن
العالم صورته وهويته، وهو الاسم الظاهر. كما أنه
بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من
صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة
٦٢ ويقول أيضًا: فأنت له (للحق) كالصورة
الجسمية لك، وهو (الحق) لك كالروح المدبر لصورتك
٦٣ بعبارة أخرى، إن الحق تعالى من العالم
بمنزلة الروح من الجسد. والشيخ عندما قال إن العالم
صورة الحق وهويته إنما عرف العالم بالحق، وعندما قال
أن الحق روح ما ظهر قد عرف الحق بالعالم. لكن باطن
العالم لا يتناهى، ولذلك لا يتناهى الحق.
٧
أَلَم تَرَ إِلَى رَبِّكَ
كَيفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَو شَاءَ لَجَعَلَهُ
سَاكِنًا. العالم من الحق تعالى كالظل
من صاحب الظل، لا وجود له إلا به. يقول الشيخ
الأكبر: اعلم أن المقول عليه «سوى الحق»، أو مسمى
العالم، هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل
الله، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم؛ لأن الظل
موجود لا شك بالحس.
٦٤
يقول القاشاني في شرحه على فصوص الحكم: أي ما يقال
عليه سوى الحق في العرف العام وأما في العرف الخاص
عند أهل التحقيق ليس سوى الحق وجود. ولو اعتبر السوى
(العالم) بالاعتبار العقلي الذي هو الصفات والتعينات
التي هي حقائق الأسماء عند نسبها إلى الذات لقيل فيه
(أي العالم) صور أسماء الحق؛ إذ ليس في الوجود إلا
هو وأسماؤه باعتبار معاني الصفات فيه لا غير؛ فإذا
اعتبرت الوجود الإضافي المتعدد بتعينات الأعيان التي
هي صور معلومات الحق سميته سوى الحق والعالم، وهو
بالنسبة إلى الحق، أي الوجود المطلق كالظل للشخص.
فالوجود الإضافي، أي المقيد بقيود التعينات، (هو)
ظلُّ الله. فهو، أي الظل، عين نسبة الوجود إلى
العالم وتقيده بصورها؛ فإن الوجود من حيث إضافته إلى
العالم يسمى سوى الحق، وإلا فالوجود حقيقة واحدة هي
عين الحق. فهو، من حيث الحقيقة، عين الحق، ومن حيث
نسبته إلى العالم غيره. ولهذه النسبة ولأجلها قيل:
الظل موجود بلا شك في الحس.
٦٥
٨
وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ
وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى. الإنسان لا يسند
فعلًا إلى نفسه إلا عندما يعي أنه منقطع عن جذوره،
أو عندما لا يعي أنه متصل بمصدر وجوده. فإذا ارتقى
عن أنيته الضيقة، وانطلق في رحاب الكلية، أدرك أن
فعله يرجع إلى مَن أقدره على الفعل، وأن فعله متأثر
بكل ما في الكون، ومؤثر في كل ما فيه، في نفس الوقت.
ففعل الرمي الذي صدر عن الرسول
ﷺ هو حقيقة
لله تعالى، مجاز للرسول
ﷺ. وفي هذا الصدد
يقول الشيخ الأكبر: والعين ما أدركت إلا الصورة
المحمدية التي ثبت لها الرمي في الحس، وهي التي نفى
الله الرمي عنها أولًا، ثم أثبته لها وسطًا، ثم عاد
بالاستدراك أن الله هو الرامي في صورة محمدية.
٦٦
٩
كُلُّ شَيء هَالِك إِلَّا
وَجهَهُ. كُلُّ مَن
عَلَيهَا فَان وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو
الجَلَالِ وَالإِكرَامِ. ما يفنى لا
يوصف بوجود، وإنما يوصف به مَن يبقى، وهو الحق
تعالى. فالعالم — ومنه الإنسان — وإن وجد حالًا،
زائل مآلًا، ومن هنا قرر أصحاب وحدة الوجود عدم
العالم. لأنه لو كان العالم يوصف بوجود، كما يوصف به
الحق تعالى، لكان شريكًا له في أزليته وأبديته.
وفناء العالم، كما بينَّا في مقال سابق، يعتبر أحد
المرتكزات الأساسية في مذهب وحدة الوجود التي تميزه
من نظرية الحلول.
قال ابن عطاء السكندري
٦٧ في (التنوير): فما سوى الله تعالى، عند
أهل المعرفة لا يوصف بوجود ولا فقد؛ إذ لا يوجد معه
غيره لثبوت أحديته. ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا
ما وجد. ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقدِ
الأعيان، ولأشرق نور الإيقان، فغطَّى وجود الأكوان.
٦٨
١٠
فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجهُ اللهِ. تؤكد هذه الآية، أو هذا
الجزء من الآية، أن الله تعالى لا يتحيَّز مكانًا
بعينه، بل هو سار في كل مكان إطلاقًا. فكما أن الله
تعالى لا يحده زمان، من حيث إن له القِدم، كذلك لا
يحدُّه مكان من حيث إن غير المحدود في الزمان غير
محدود في المكان. إذ إن حده في مكان هو حد له في
الزمان والعكس صحيح أيضًا. فالزمان — كما هو معروف —
قياس حركة المادة المتحيزة في مكان. وإنما يصير
المكان مكانًا بما يتحيز فيه من جسم، ولولا الجسم لم
يكن المكان مكانًا بل مطلق فراغ. وبما أن الحق تعالى
منزه عن الجسمية كان من المحال احتواءه في مكان، بل
هو يحتوي المكان، وكان من المحال احتواءه في الزمان،
بل هو يحتوي الزمان.
فهو الأول والآخر: لا أوَّل قبله ولا آخر بعده. بل
إن ابن عربي يذهب إلى أن الاعتقاد بالله تعالى على
نحو دون آخر هو تنسيب له إذ يحصره في الاعتقاد، حتى
لكأن الاعتقاد بحد ذاته نوع من المكانية يجب تنزيه
الله تعالى عنها: فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفِّر
بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر
بما هو عليه. فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات
كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد
دون عقد فإنه يقول
فَأَينَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، وما ذكر
أينًا (مكانًا) من أين.
٦٩
١١
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب.
وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن
حَبلِ الوَرِيدِ.
وَفِي الأَرضِ آيَات
لِلمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا
تُبصِرُونَ.
كل هذه الآيات الكريمة تفيد قُرب الله تعالى من
الإنسان، بل هو تعالى أقرب إليه من نفسه، كما تفيد
أن آياته تعالى منبثَّة في العالمين: الخارجي (في
الأرض) والداخلي (في أنفسكم)، إنما يراها الذين
ارتقوا من مرتبة الإيمان إلى مرتبة اليقين. واليقين،
عند القوم، المشاهدة.
٧٠
يعقِّب الشيخ الأكبر على قوله تعالى
وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ
الوَرِيدِ بقوله: وما خصَّ إنسانًا من
إنسان. فالقُرب الإلهي من العبد لا خفاء به في
الإخبار الإلهي. فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين
أعضاء العبد وقواه (يشير إلى حديث قُرب النوافل كما
سنرى بعد قليل) وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى
فهو حق مشهود في خلق متوهم. فالخلق معقول والحق
محسوس ومشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود. وما
عدا هذَين الصنفَين؛ فالحق عندهم معقول والخلق مشهود.
٧١
(ب) المصدر النبوي
وأما المصادر النبوية التي استند إليها أصحاب
وحدة الوجود فهي كثيرة، نذكر فيما يلي منها
أكثرها تداولًا واستشهادًا، وهي قسمان: أحاديث
شريفة، وأحاديث قدسيَّة:
- أولًا: أحاديث
شريفة، من الأحاديث
الشريفة نقتصر على ذِكر هذه
الثلاثة:
-
«إن الله خلق آدم على صورته.»
٧٢
-
«مَن عرف نفسه عرف ربه.»
٧٣
-
«إن الله كان ولا شيء معه.»
٧٤
- ثانيًا: أحاديث
قدسية، أمَّا الأحاديث
القدسية فنذكر منها حديثَين لعبا
دورًا بالغ الأهمية في التأسيس لمذهب
وحدة الوجود، وهما حديثا «قرب
النوافل» و«الكنز المخفي». أما
أولهما فنصُّه كما يلي:
«من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب. وما
تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته
عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى
أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره
الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي
يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني
لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن
قبض نفس المؤمن يكره الموت. وأنا أكره مساءته.»
٧٥
وأما الثاني فنصُّه: كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت
أن أُعرف فخلقت الخلق فبه (أو فبي) عرفوني.
٧٦
١٢
«إن الله خلق آدم على صورته.» يقول الدكتور أبو
العلا عفيفي: كان للحسين بن منصور الحلَّاج أكبر
الأثر في وضع أساس النظرية الفلسفية الصوفية التي
عُرفت عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي بنظرية
الإنسان الكامل، وقُدر لها أن تلعب دورًا هامًّا في
تاريخ التصوف الإسلامي منذ عهدهما. فالحلاج أول مَن
تنبَّه إلى المغزى الفلسفي الذي تضمنه الأثر اليهودي
(…) المشهور القائل بأن الله تعالى خلق آدم على
صورته، أي على الصورة الإلهية.
٧٧ لكن عفيفي يؤكد، من دون أن يستند إلى
دليل، أن الصوفية ينسبون هذا القول خطأً إلى النبي
عليه السلام.
٧٨
أن يكون الحديث المذكور قد جاء في سِفر التكوين من
العهد القديم؛ فأمر لا يرقى إليه شك
٧٩ لكن الذي لا يرقى إليه شك أيضًا أن
الوحي المحمدي قد جاء
مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ
وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ (المائدة: ٤٨)
بذلك ينسحب على الحديث المذكور ما ينسحب على الآيات
القرآنية، بل وعلى بعض السور (مثلًا سورة يوسف) هذا
فضلًا عن أن في سور القرآن الكريم من قوة الإيحاء
والتأثير في المتأمل، بل في القارئ المتفهم ما يفوق
ما انطوى عليه الأثر التوراتي المذكور منهما.
فالحلاج، في أشهر أقواله الشِّعرية التي رأى فيها
عفيفي وغيره استلهامًا للأثر التوراتي المذكور في
تكوين نظريته عن الإنسان من حيث هو لاهوت وناسوت
٨٠ إنما استلهم قوله تعالى:
إِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ
إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِن طِين. فَإِذَا
سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ سَاجِدِينَ (ص: ٧١-٧٢). وهذه
الأبيات هي:
سبحان مَن أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
فاللاهوت هو روح الله المشار إليها في قوله تعالى:
وَنَفَختُ فِيهِ مِن
رُوحِي، والناسوت هو صورة آدم
الجسمانية، والسجود المأمور به الملائكة إما لفعل
خلق الإنسان إجمالًا، وإما (للنفخة) تخصيصًا. قوله
(في صورة الآكل والشارب) إشارة إلى قوله تعالى:
وَقُلنَا يَا آدَمُ اسكُن
أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا
رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا (البقرة: ٣٥).
قوله (حتى لقد عاينه خلقه) يريد به خلقه من الملائكة
بما هم غير مؤهلين لرؤيته تعالى إلا من وراء حجاب،
ولذلك لا يرون منه غير الناسوت!
١٣
يقول الشيخ الأكبر: فلما أبان أنه نفخ فيه من
روحه، فما اشتاق إلا لنفسه. ألا تراه خلقه على صورته
لأنه من روحه؟ وكنَّى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من
نفس الرحمن؛ فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر
عينه، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارًا لا
نورًا فبطن نفس الرحمن فيما كان به الإنسان إنسانًا.
٨١
ويقول في موضع آخر: وليست صورته سوى الحضرة
الإلهية. فأوجد في هذا المختصر الشريف، الذي هو
الإنسان الكامل، جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج
عنه في العالم الكبير المنفصل، وجعله روحًا للعالم
فسخَّر له العلو والسفل لكمال الصورة. فكما أنه ليس
شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمده، كذلك ليس شيء من
العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة
صورته. فقال تعالى: وَسَخَّرَ
لَكُم مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ
جَمِيعًا مِنهُ.
فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان، علِم ذلك مَن
علِمه — وهو الإنسان الكامل — وجهِل ذلك مَن جهله،
وهو الإنسان الحيوان.
٨٢
١٤
«مَن عرف نفسه عرف ربه.» يقول الشيخ الأكبر:
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه؛ فإن
معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه. لذلك قال عليه
السلام: مَن عرف نفسه عرف ربه؛ فإن شئت قلت بمنع
المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول؛ فإنه سائغ
فيه، وإن شئت قلتَ بثبوت المعرفة. فالأول أن تعرف أن
نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك، والثاني أن تعرفها
فتعرف ربك.
٨٣
نقول: وإن شئتَ قلتَ إنك لا تعرف ربك إلا بقدر ما
تعرف نفسك، فتكون معرفتك بربك محدودة بحدود معرفتك
بنفسك، وبالتالي إنك تجهل من ربك بقدر ما تجهل من
نفسك. «فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في
رؤيته أسماءه وظهور أحكامه وليس سوى عينه.»
٨٤
١٥
«إن الله كان ولا شيء معه.» وقد درج الصوفية على
تذييل هذا الحديث بقولهم: «وهو الآن على ما عليه كان.»
٨٥ يريدون بذلك أن العالم لا وجود له على
الحقيقة وإنما الوجود هو لله تعالى وحده. وقد تقدَّم
معنا أن انتفاء الوجود عن العالم، من حيث إنه حادث
صائر إلى زوال، هو أحد المعيارات الهامة التي تتميز
بها نظرية وحدة الوجود عن مذهب الحلول.
١٦
«… (فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه وبصرَه) إلخ» يقول
الشيخ الأكبر: وقد قال (الحق تعالى) عن نفسه إنه عين
قوى عبده في قوله
كنتُ
سمعه، وهو قوة من قوى العبد، و
بصره وهو قوة من قوى
العبد، و
لسانه هو عضو
من أعضاء العبد،
ورجله
ويده فما اقتصر في التعريف على القوى
فحسب حتى ذَكر الأعضاء: وليس العبد بغير لهذه
الأعضاء والقوى. فعين مسمى لعبد هو الحق، لا عين
العبد هو السيد، فإن النسب متميزة بذاتها وليس
المنسوب إليه متميزًا؛ فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع
النسب. فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات.
٨٦
١٧
«كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق
فبه (أو فبي) عرفوني» هذا الحديث يثير في الذهن
المفهومات والقيم التالية:
- (أ)
الوجود في قوله تعالى (كنتُ).
- (ب)
المحبة، بما هي دافع ذاتي إلى الخلق،
في قوله (فأحببتُ).
- (جـ)
المعرفة، بما هي الغاية من الخلق، في
قوله (أن أُعرف).
- (د)
الخلق، بما هو وسيلة لمعرفة الخلق
للحق تعالى في قوله (فخلقتُ
الخلقَ).
أما قوله: «فبه (أبو فبي) عرفوني» فمن تذييلات
الصوفية، وهو يدل على مقامين: مقام معرفة الحق
بالخلق كما في قوله تعالى:
وَفِي الأَرضِ آيَات لِلمُوقِنِينَ وَفِي
أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ
(الذاريات: ٢٠-٢١) وإلى هذا المقام ينضم حديث «مَن
عرف نفسه عرف ربه» المتقدِّم الذِّكر. والمقام
الثاني مقام معرفة الخلق بالحق، وهو أعلى مرتبة من
المقام الأول. يقول ابن العريف: فالعالم (يريد
المتفقه في الدين) يستدل إليَّ، والعارف (يريد
الصوفي الواصل) يستدل بي.
٨٧ ويقول أبو يزيد البسطامي: عرفتُ اللهَ
بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله.
٨٨
وقد أجمل
الشيخ الأكبر هذين المقامين في قوله: فإن بعض
الحكماء، وأبا حامد (يريد: الإمام الغزالي) ادعوا
أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط نعم،
تعرف ذات قديمة أولية لا يعرف أنها إله حتى يعرف
المألوه. فهو (المألوه) الدليل عليه (الإله). ثم بعد
هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين
الدليل على نفسه وعلى ألوهيته.
٨٩
وفي المحبة ودورها في فعل الخلق يقول الشيخ
الأكبر: فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه.
فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك،
ولأن العالم أيضًا يحب شهود نفسه وجودًا كما شهدها
ثبوتًا، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى
الوجود حركة حب من جانب الحق وجانبه (يريد: من جانب
العالم)؛ فإن الكمال محبوب لذاته، وعلمه تعالى
بنفسه، من حيث هو غني عن العالمين، هو له. وما بقي
إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من
هذه الأعيان أعيان العالم، إذا وجدت. فتظهر صورة
الكمال بالعلم المحدث والقديم فتكمل مرتبة العلم
بالوجهين، وكذلك تَكمل مراتب الوجود.
٩٠
في ختام هذا البحث، لا نجدُ خيرًا من إيراد مقطع
للشيخ الأكبر لخَّص فيه مذهبه في وحدة الوجود، من
حيث العلاقة بين الحق والخلق، لعل الكثيرين من
الشعراء الحديثين يغبطون الشيخ عليه:
لو علمتَه لم يكن هو
ولو جهلك لم تكن أنت
فبعلمه أوجدك
وبعجزك عبدته
فهو هو لهو، لا لك
وأنت أنت، لأنت وله!
فأنت مرتبط به
ما هو مرتبط بك
الدائرة، مطلقة، مرتبطة
بالنقطة
النقطة، مطلقة، ليست مرتبطة
بالدائرة.
نقطة الدائرة، مرتبطة بالدائرة
٩١