ظاهرة الشَّطح في التصوُّف الإسلامي
(١) البحث الأول
١
٢
نقول: إن الشطح المعبر عن «تبادل الأدوار» لا يحصل إلا عند ذروة الاتحاد، وهي النقطة التي يتقاطع عندها الحق والخلق، أو الزمان والأزل، لا عند وصيد الاتحاد أو عتبته. يؤكد ذلك ما جاء في المقطع المنقول توًّا: فتدرك (النفس) أن الله هي وهي هو وهذا اتحاد. وكذلك قوله: «وفيه يتبين هذه الهوية الجوهرية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه، فيتحدث على لسان الحق؛ لأنه صار والحقُّ شيئًا واحدًا وهذا أيضًا اتحاد.» أما قوله: «ومَن أذاع فقد شطح … والمذاع سر بين العبد والرب؛ لأن التفرقة انتفت وصار اتحاد … فإقرار صريح بأن الشطح (المعبر عن تبادل الأدوار) يجري في ذروة الاتحاد، لا عند الوصيد وحسب!»
٣
فالاتحاد — في نظرنا — يقتضي المساواة التامة بين العاشق والمعشوق، أو بين الحق والخلق. لأن جدلية التجربة الصوفية (نفي الإنسان لإثبات الألوهة ونفي الألوهة لإثبات الإنسان والتركيب الناتج عن نفي النفي الذي يتمثَّل في ثبوت الإنسان في الألوهة وثبوت الألوهة في الإنسان) تبدأ من نقطة اضمحلال البشرية أو الفناء عن النفس والخلق، أو الفناء عن السوى، أو فناء الصوفي في الله. وفي ذروة فناء الصوفي في الله، أو امتصاص التجلِّي في المبدأ، أو اندراج الخلق في الحق، يبقى «المبدأ» بلا تجلٍّ أو لا خلق، فيكون مجرد «أزل»، أو «لا وجود». لكن فناء الصوفي في الحق هو — في نفس الوقت — فناء للحق في الخلق، أو امتصاص للمبدأ في التجلي، مما يترتب عليه — في نفس الوقت أيضًا — أن يوجد الحق في الخلق، وأن يوجد الخلق في الحق وعندما قال أبو يزيد البسطامي: (بطشي به أشدُّ من بطشه بي)، كان يعبر عن هذه الحقيقة. فتبادل الأدوار إنما هو تعبير عن الإفناء المتبادل، بمقدار ما هو تعبير عن الإيجاد المتبادل. إن فعل الفناء — بحد ذاته — يصدر عن المبدأ، ويكون التجلي محلَّه، ما هو إلا فناء للمبدأ نفسه، في نفس الوقت. وفي المقابل، إن فعل البقاء يصدر عن المبدأ ويكون التجلي محله، وما هو إلا بقاء للمبدأ نفسه. فكأن الصوفي يقول: «أفناني فأفنيتُه، وأبقاني فأبقيتُه!» وهكذا نرى تبادل الأدوار يجري في الذروةِ، لا عند الوصيد.
٤
٥
٦
هنا تنهض أمامنا الملاحظاتُ التاليةُ:
- أولًا: لا نجد تفسيرًا لماذا نسيَ الدكتور بدوي، وهو في صدد تعريف الشطح، قول ماسينيون: «لكن مَن المخاطِب ومَن المخاطَب؟ الأحرى أن يكون كلاهما واحدًا، وهذا هو الأصل في تحريم إذاعة ما يجري في النفس إبان هذه الحال. ومَن أذاع فقد شطح.»١٨ (قلتُ: ولعل الأَولى أن يقال: ومَن شطح فقد أذاع!) وقد كان حريًّا به أن يعين من أي جهة جاء هذا التحريم، وهو لو فعل لوجد أن عبارة «دون إذن إلهي» الواردة في تعريف الجرجاني، لها معنًى من عدة أوجه. من هذه الأوجه أن للحق — تعالى — فيما نحن بصدده صفتين: صفة التشريع وصفة التحقيق. فصفة التشريع تجعل منه الحارس الساهر على الشريعة كما جاء بها الكتاب والسُّنة، ودليلها قوله تعالى: إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر ١: ٩). وصفة التحقيق، وهي مكاشفة العبد بسرِّه — تعالى — التي تنطق عن نفسها على لسان الصوفي. فعلماء الظاهر لا يستطيعون إدراك هذه الحقيقة؛ لأنهم ينظرون إلى الموضوع من موقعهم هُم لا من موقع الصوفي. ولذلك تُعتبر الأقوال التي تصدر عنه وهو في حالة الجذب، مخالفة للشريعة والله تعالى لا يأذن بذلك، بل يحض على التمسك بتعاليمه والائتمار به بأوامره والانتهاء عن نواهيه. فالجرجاني يصف كلمة الشطح بقوله إنها «دعوى حق» لكنه ما يلبث أن يستدرك؛ فيقول إنها تصدر عن العارف «من غير إذن إلهي»؛ فكلمة الشطح صحيحة من وجهة نظرِ الحقيقة، وهي غير صحيحة من وجهة نظرِ الشريعة، وهي بالتالي غيرُ مأذون بها.
- ثانيًا: الشريعة للعموم، والحقيقة للخصوص. الشريعة حدود والحقيقة لا حدود. ولا بد للحقيقة من الاختباء وراء حجاب الشريعة في دخولها إلى عالم الزمان والمكان، وفي تفاعلها مع التاريخ. بذلك تكون الشريعة هي الصدفة التي تحفظ الدرة من العطب. الشريعة تكليف، أوامر ونواهٍ وعبادات. والحقيقة تعريف وتشريف. تعريف الحق بنفسه للخاصة من أوليائه وتشريف لهم بهذا التعريف لأنه لم يأتِ بكسب منهم، بل هبة منه تعالى يهبها مَن يشاء من عباده، وهم غير مأمورين بتبليغها وهي — بهذا الاعتبار — «سِر» بين الله — تعالى — وبين العارف، لا يملكه هذا الأخير حتى يفشيه؛ فإذا أفشاه كان إفشاؤه له تصرفًا فيما لا يملك. والصوفي لا يفشي أسرار الحق وهو في حالة الصحو — أعني مقام ثنائية العبد والرب — لأنه — وهو في ذروة المواحدة — قد اتَّصف بجميع صفات الحق تعالى، ومنها صفتا التشريع والتحقيق. فبالتحقيق يعرف السر، وبالتشريع يحافظ عليه فلا يشيعه؛ لأن إشاعته تجعل المحدود (= الشريعة) غير محدود، مما يؤدي إلى التهاون في مراعاة الأحكام. فإذا شطح المريد، وهو في حال سُكر، أي عن اضطرار وغلبة، فصفة الحارس الساهر على حدود الشريعة التي استمدها من الحق لا تأذن له بالبوح، لكنه في نفس الوقت لا تؤاخذه بشطحه، لأن السَّكران في حكم غير المكلف أو ناقص الأهلية؛ فالسكران الشارب للخمر، وهو في حال أخف وطأة ممن تجرع الخمر الإلهية، إذا أخلَّ بالقانون والنظام أوجد فيه القاضي ظروفًا مخففة للعقوبة أو أعفاه منها بالكلية لا لأن إخلاله بالنظام مأذون به، بل لأنه اجترح مخالفته عن غير وعي منه؛ فعلى قدر الوعي تكون المسئولية. أو قُل إن سلطان الحقيقة إذا ظهر لم يقف في وجهه شكل؛ فهو كالسيل الجارف لا تمنحه حدود ولا ترده سدود. إنه بمثابة «القوة القاهرة» في المصطلح الحقوقي.
- ثالثًا: حفلَ الأدب الصوفي وافتن افتنانًا منقطع النظير في التماس التأويلات من الكتاب والسُّنة لشطحات الصوفية، كما فعل أبو القاسم الجنيد بالكثير من شطحات أبي يزيد البسطامي.١٩ فإذا جاءت الشطحة، بعد التأويل، متفقة مع الكتاب والسُّنة عُدَّت في «حكم المأذون بها» عملًا بالقاعدة الشرعية المعروفة في بيع المتطوع لمال غيره: «الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة»، وإذا لم يمكن تأويلها تطوى ولا تروى ولا تؤدَّى، كما يقول ابن تيمية وكثير غيره من الفقهاء والصوفية؛٢٠ وعندئذٍ تكون «من غير إذن إلهي.» وتكون عبارة الجرجاني من قبيل الاحتياط وسد الذرائع لكيلا يحتذيها من ليس له قدم في علوم القوم، اتباعًا للأولياء وتقليدًا لهم، فيأثم!
- رابعًا: قول الدكتور بدوي: «وما لجئوا إليه إلا من باب الاعتذار عن تلك الكلمات دفاعًا عن الصوفية ضد الفقهاء وخصوم الصوفية. إن هذا القول لا ينطبق على قول الجرجاني: «من غير إذن إلهي.» الذي هو إدانة صريحة لمَن يشطح، بقدر ما ينطبق على قوله حين يصنف الشطح بأنه «دعوى حق»!»
٧
٨
لسنا ندري مقدار ما في هذا الكلام لبدوي ومقدار ما فيه لماسينيون أو جلسون، الذي سينقل عنه بدوي مباشرة بعد هذه الفقرة فكرة التوسط بين الله والناس في المسيحية. على كل حال يحتاج الأمر إلى بعض الملاحظات والتصويبات:
- أولًا: إن صفتَي البُعد والقرب الإلهيَّين، أو المفارقة والبطون، تمثِّل كل منهما قيمة نفسية إنسانية، وتعين موقف الإنسان من الألوهة، وهما عنصران من عناصر التوازن النفسي … وكل وضع يميل بعنصر من عناصر التوازن بعيدًا عن نقطة المركز، سرعان ما تقلبه النفس، في نزوعها إلى التوازن، إلى ضده تحقيقًا لتوازنها ومعافاتها، وهو ما يُعرف عند هيراقليطس بالانقلاب الضدي أو الانقلاب المضاد enantiodromia ويكون الناتج التركيبي توسطًا بين الأقصيَين.
- ثانيًا: خلافًا لما يذهب إليه بدوي أو ماسينيون أو جلسون، ليس إسلام الشريعة، كتابًا وسُنَّة، هو الذي أوغل في البُعد، بل هو إسلام التاريخ؛ ونعني به تفاعل النص مع الواقع الخارجي من خلال الإنسان في سياق الزمان والمكان، والضرورات التي تقتضي تكييفًا أو تكيُّفًا بين قطبَي الذات والموضوع، فإسلام الشريعة، كتابًا وسُنة، اشتمل على كلتا قيمتي المفارقة والبطون، أو البُعد والقرب بما يكفل تحقيق التوازن النفسي في الإنسان المسلم، لكن إسلام التاريخ كان مضطرًّا لأسباب مرحلية (كما يمكننا القول هذه الأيام) وهو يواجه الوثنية الجاهلية التي كانت تمثل امتصاص «المبدأ الإلهي» في تجلياته، أو اغتراب الألوهة في أشياء العالم حتى لقد كانت «تُصنع» من التمر وتؤكل عند الحاجة أو تبول عليها الثعالب؛ أقول: كان إسلام التاريخ مضطرًّا إلى دفع صفة المفارقة إلى أقصاها في مواجهة منتهى البطون في الوثنية حتى يصل إلى التصوف الجامع بين الحقيقة والشريعة. لقد قوبل نفي الألوهة بنفي الإنسان وصولًا إلى إثبات الألوهة في الإنسان وإثبات الإنسان في الألوهة؛ وبذلك أعيد للنصوص التي اشتملت على قيمة القرب محلها من الاعتبار، بعد أن كان إسلام الصدر الأول مقتصرًا على قيمة المفارقة وحدها وكان يُفسر أو يُئول كل نص فيه معنى القرب أو البطون لصالح قيمة المفارقة، حتى لقد انتهى الأمر بالمعتزلة إلى القول بنفي الصفات عن الألوهة.٢٢
- ثالثًا: ونحن نعتقد أن الشطح ما هو إلا صيحة دهشة تنطلق من الصوفي؛ إذ يفاجأ أن الله أقرب إليه مما كان يظن (من حيث إن ثقافة عصره قد علمته صفة المفارقة فقط!) ويتحقق تجريبيًّا من أن الله تعالى … «أقرب إليه من حبل الوريد!» ثم إن هذه الصيحة يمكن اعتبارها، من جانب آخر، صيحة تحدٍّ واحتجاج على ثقافة العصر التي أوغلت في «الأحادية» إلى مداها الأقصى ولسان حاله يقول: «إن الإله الذي عرفته هو غير إلهكم الذي صورته عقولكم العاجزة الضعيفة، ولذلك أرفضه!»
٩
١٠
هذا، ومع ذلك فقد نجد في المسيحية مثل هذه الشطحات:
«أنا الرب الإله القدير باديًا في صورة الإنسان.»
ومثل:
«ليس كملاك أو رسول جئتُ، ولكن كالرب الإله الآب.»
ومثل:
١١
- أولًا: لأن المبادرة في التجربة الصوفية تأتي من الله لا من الإنسان. وكلُّنا يعلم أن المريد مراد قبل أن يكون مريدًا، والمحب محبوب قبل أن يكون محبًّا، بل إن الذاكر مذكور قبل أن يكون ذاكرًا. في التجربة الصوفية، المبادرة دائمًا تأتي من الله تعالى، ولا خيار فيها للإنسان، والدكتور بدوي عندما يعلق الاتحاد المطلق بالألوهة على ثقة الصوفي بنفسه، يهوديًّا كان أم غير يهودي، فمن حيث إمكانية بلوغ هذا الاتحاد، يجعل الخبرة تابعة لإرادة الإنسان حتى ليستطيع كل مَن يتطلع إليها أن يختبرها. وهذا مجافٍ للحقيقة.
- ثانيًا: لماذا غاب عن الدكتور بدوي أن اليهود يعتقدون بأنهم «شعب الله المختار»، وأن الله اختصهم من دون أمم العالم برعايته ومحبته. ويزعمون أنهم أَبنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (المائدة: ١٨) وأن الله كلَّم نبيهم موسى تكليمًا؟ هل هذا كله ما تنتفي معه معاني الأُنس والحب والقرب وما يطوف بها من معان هي وحدها التي تشجع المرء على الاقتراب من الحضرة؟ هذا على افتراض أن ثبوت هذه المعاني في النفس يشجِّع المرء على الاقتراب من الحضرة، وانتفاءها يثنيه عن الدنو منها.
- ثالثًا: إن الدكتور بدوي — على ما يبدو — لا يفرِّق بين الشطح والاتحاد الصوفي، مما يترتب عليه، منطقيًّا، القول بأن مَن لا يشطح فهو غير واصل أو غير متحد، أو أن مَن يصل أو يتحد لا بد له من أن يشطح. وسوف نعالج في فقرات تاليات هذا التخبط الذي وقع فيه صاحب شطحات الصوفية.
١٢
ما يلفتنا في الشواهد المتقدمة جنوح الطرفين: الخوف والمحبة، إلى التلاقي والانقلاب المضاد المتمثل في عبارة و«عندما تغرق الروح في خوف الله تتفجر فيها شعلة الحب.»
مما تقدَّم نخلص إلى القول بأن الشطح تعبير عن دهشة الصوفي؛ إذ يفاجأ بأن الألوهة أقرب إليه مما تعلمه من الفقهاء أو علماء الكلام الذين أعطوا قيمة المفارقة صفة الإطلاق استجابة لضرورة تاريخية ونفسية ناشئة عن مواجهة إسلام الصدر الأول للوثنية الجاهلية وما أعطته من إطلاق لصفة البطون. والشطح، من جهة دليل على حصول قلق في بنية الصوفي النفسية أوقعه فيها الغلو في قيمة المفارقة. وهو من جهة ثانية، إيذان بأن التوازن آخذ مجراه في هذه البنية — إن كُتب لصاحبها السلامة! نتيجة لتلاقي قيمة المفارقة بقيمة البطون، مما يخفف من غلوائها ويحُد من مطلقيتها، إذ يجعل منها قيمة نسبية.
وليس من الضروري أن يشترط في الشطح تجربة الاتحاد، كما ليس من الضروري أن يشترط فيه تبادل الأدوار؛ لأن هذَين الشرطَين قد يصدقان على نوع معين من الشطح، وهو الشطح الذي يتكلم فيه الحق على لسان الخلق، أو الخلق على لسان الحق، ومثاله شطحة أبي يزيد البسطامي عندما قال: «سبحاني ما أعظم شأني!»
(٢) البحث الثاني
١
يربط الدكتور عبد الرحمن بدوي بين التوحيد في أعلى درجاته وبين ظاهرة الشطح، مؤكدًا أن مَن لم يبلغ هذا المقام لا يمكن أن تُنسب إليه ظاهرة الشطح، فما هو هذا التوحيد؟ يقول صاحبُ شطحات الصوفية:
٢
في كلام الدكتور بدوي شيء غير قليل من التناقض فضلًا عن قلَّة الدقة في تمييز العلة من المعلول. ويمكننا إجمال ما لنا عليه من ملاحظات في النقاط التالية:
- أولًا: قوله إن المعرفة تصدر عن الشطح من شأنه أن يعلق معرفة العارف على صدور الشطح عنه. والصحيح أن كلًّا من المعرفة والشطح يصدر عن الخبرة (وهي خبرة مواحدة أو اتحاد أو توحيد). وقد يعرف العارف ولا يشطح، خصوصًا إذا تم إعداده على يد شيخ مرشد يلقنه قيمتي القرب والبُعد، أو البطون والمفارقة، على نحو متوازن. مثلًا لم يؤثر عن الجنيد، وهو شيخ الصوفية، أنه شطح!
- ثانيًا: قوله والشطحات إنما تصدر من أهل المعرفة يتناقض مع قوله الأول من أن «المعرفة تصدر عن الشطح»، إلا أن يكون بين المعرفة والشطح علاقة سببية متبادلة، وهذا غير صحيح.
- ثالثًا: قوله إن علامة العارف، أول دخوله في المعرفة، الشطح؛ ومَن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصح أن يُسلك في عداد العارفين بالمعنى الصحيح. هنا أيضًا يعلق المعرفة على الشطح؛ لا بل يجعل من الشطح مرتبة مَن لم يبلغها لا يصح أن يُسلك في عداد العارفين؛ فكأنما أصبح الشطح عنده مقامًا من المقامات التي ينبغي للصوفي أن يتدرج صعودًا كي يبلغه. مع أن الشطح، في حقيقة الأمر ليس كذلك. وكنا بيَّنا أن الشطح مرهون بعنصر «المفاجأة» الناتجة عن تحقيق الصوفي بأن الله تعالى هو غير ما تلقنه في أوساط الفقهاء وعلماء الكلام الذين ذهبوا بقيمة المفارقة إلى حدها الأقصى؛ الأمر الذي استوجب من قيمة البطون، وهي قيمة نفسية كامنة في الإنسان أن تعدل من رجحان كفَّة المفارقة تحقيقًا للتوازن النفسي. وهذا التعديل قد يجري بشكل مفاجئ عندئذٍ يكون الشطح، أو بشكل هادئ فلا يكون ثمة شطح. والتوازن الحاصل هو المطلوب في التجربة الصوفية؛ بحيث لا ترجح قيمة المفارقة ولا تشيل قيمة البطون. وفي الحالين يكون الصوفي عارفًا، لا يقدح في عرفانه عدم الشطح. يؤيد ما ذهبنا إليه قول الدكتور بدوي نفسه ناقلًا عن جلسون وهو في صدد تعليل ظاهرة الشطح، قوله إنها ناشئة عن تماس الأطراف، الناشئ بدوره عن الغلو في الفارق بين الخالق والمخلوق، الذي قابله غلوٌّ في التوحيد بين العابد والمعبود.٤٥
٣
ولكن، ما هو السكر المفضي إلى الشطح؟
- (١)
السكر غيبة بوارد قوي.
- (٢)
السكر أشد من الغيبة.
- (٣)
الفرق بين السكر والغيبة أن هذه قد تكون للعباد من موجبات الرغبة والرهبة ومقتضيات الخوف والرجاء، بينما لا يكون السكر إلا لأصحاب المواجيد.
- (٤)
إنما يحصل السكر إذا كوشف الصوفي بنعت الجمال. أما إذا ظهر سلطان الحقيقة (= الجلال)؛ فصفة العبد الثبور والقهر.
- (٥)
في السكر يغيب الصوفي عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء.
النقطة الأخيرة هي التي تهمنا هنا، بما تدل عليه من ثنائية العبد والرب التي تنفي التوحيد، وبالتالي المعرفة، مع ثبوت السكر — والشطح احتمالًا. فالصوفي في حال السكر، يغيب عن تمييز الأشياء لكنه لا يغيب عن الأشياء، وعدم غيبته عنها يعني بقاءه معها. وفي هذه الحالة، لا يكون في منزلة التوحيد وإن سكر، ولا يبلغ مقام المعرفة وإن شطح. فها هنا سكر ولا توحيد، وشطح ولا معرفة — هذا إن كان السكر لا بدَّ مفضيًا إلى شطح!
يُستدل من عبارتي وارد قوي والمكاشفة بنعت الجمال أن بدوي رجع إلى القشيري في وصف حالة السكر، لكنه لم يشر إلى ذلك، أما عبارة «وينتشي فؤاده أقوى انتشاء» التي لا تقول شيئًا؛ فهي من إنشاء الدكتور فقط!
أما العلاقة بين السكر والشطح فهي علاقة عموم وخصوص بحيث يمكننا القول إن كل شاطح فسكران، لكن ليس كل مَن يسكر يشطح بالضرورة. ويظل الشطح عندنا متوقفًا على عنصر المفاجأة؛ إذ يفاجأ فيها الشاطح بإله يختلف اختلافًا كليًّا عما تعلمه أو تلقنه قبل أن يلقاه!
٤
وقد مرَّ معنا توًّا قول بدوي: «إنما يقصد بالسكر هنا انتشاء الروح بمكاشفة الحق لها بسرِّه وبأنه هو هي وهي هو؛ فتطرب أشد الطرب لاكتشافها هذه الحقيقة؛ فسكرها إذَن شدة غبطتها بمعرفة سر وجودها وهو أن وجودها هو وجود الله أو أنها هي الله أو أنه ليس ثم إلا الله.»
هذه الفقرة التي نقلها بدوي عن ابن تيمية الذي يبين فيها موقفه من ظاهرة الشطح حفلت — كما نرى — بالمصطلحات الصوفية ففيها «الحال» و«الفناء» و«الغيبة» و«السوى» و«الوجد» و«السكر»، فلماذا يفهم بدوي هذه الألفاظ جميعًا على ما أراده الصوفية منها، ويستثني منها لفظة السكر ويجعل مراد ابن تيمية منها «السكر الجسماني»؟
ثم لماذا غاب عن بدوي، وهو يروي عن ابن تيمية، أن هذا الأخير عدَّ البسطامي، وهو أكبر الشاطحين، من الأصحاء، ثم بعد ذلك نرمي شيخ الإسلام بأنَّه «عدو الصوفية اللدود»؟!
-
إن أبا يزيد في قوله «سبحاني»! يدعو إلى نفسه بالألوهية، ويترتَّب على ذلك أن يقف الناس منه إما بالقبول أو الرفض، وما نحسب بدوي يختلف مع ابن تيمية في رفض دعوة أبي يزيد إلى نفسه!
-
إن أبا يزيد، وهو في حميا الاتحاد أو المواحدة بالله، نطق الله على لسانه فلا يكون أبو يزيد هو الناطق في هذه الحالة، وإنما هو الله تعالى. وهذا تأويل قد يقبله ابن تيمية؛ لأنه يَعُد مثل هذه الكلمات التي تصدر عن الصوفي إنما تصدر في حال «الفناء الناقص»! والفناء الناقص كما يراه شيخ الإسلام وغيره من أئمة السلفية هو أن يغيب العبد بالعبادة عن المعبود، أو بالمعبود عن العبادة، لأن مثل هذه العبادة عدم؛ فهي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل لا يعتد بها.٥٦
-
إن أبا يزيد، وقد كوشف بسر الألوهية، أعلن عن سرِّها تحت وطأة السكر، وما كان له أن يعلن عنه في غير هذه الحال؛ ولذلك يكون معفًى من المسئولية فلا يجب عليه حد أو قصاص والتماس بعض العذر له بالسكر؛ لكيلا يشجع العامة على الاقتداء به وتقليده في حال صحوهم، وفي هذا مصلحة للجماعة كما لا يخفى، ما دام مضمون مثل هذه الشطحات لا يمكن أن يصير «عقيدة ظاهرية»!
٥
حيال هذه الاحتمالات وإمكان اختلاط الأمر على عامة الناس، وحيال احتمال تشييد عقائد أو نِحل مضادة للإسلام، أليس الأسلم «أن تُطوى (هذه الشطحات) ولا تُروى ولا تُؤدى» سواءً أكنَّا من أنصار «مذهب الشطح» أم من خصومه؟ فابن تيمية، من ناحية، أفتى بعدم مسئولية الشاطح؛ ومن ناحية ثانية، بعدم تداول الشطحات، خوفًا على العامة من الفتنة.
٦
٧
نقول: لقد أخطأ بدوي الفهم عندما لم يفرِّق بين حالَي الصحو والسكر في «تحديد القيمة الذاتية لهذه الكلمات». فالعبارة المستشنعة التي تصدر في حال الصحو لا يمكن اعتبارها من الشطح لما فيها من شُبهة التكلف وقلَّة الصدق. ثم لماذا نسي بدوي قوله: «والمرء لا يبلغ منزلة التوحيد إلا في حال السكر وما يتلوها والسكر يقتضي بالضرورة الشطح؛ فالشطح إذَن مرحلة ضرورية في طريق التوحيد … إلخ.»
من النقول التي أوردناها عن كتاب «شطحات الصوفية» لا يبدو أن ثمة خلطًا، لا عن قصد ولا عن غير قصد، بين السكر الجسماني والسكر الروحي، خصوصًا وأن اصطلاح «السكر» اصطلاح متداول ومعروف في أوساط الصوفية وغيرهم من أئمة الشريعة، كما يُعرِّفه الدكتور بدوي أكثر من مرة نقلًا عن القشيري أو عن ماسينيون، بل حتى عن ابن تيمية نفسه الذي يعرِّف السكر بأنه «وجد بلا تمييز». ومَن يعرِّف السكر على هذا النحو، فهل يحق لنا أن نتهمه بالخلط — عن قصد — بين السكر الروحي والسكر الجسماني؟
٨
لكن، ما الذي دعا أصحاب هذا الرأي إلى اللجوء إلى هذه الصيغة التوفيقية، كما يسميها الدكتور بدوي، بين أن تكون الشطحات مأذونًا بها وغير مأذون بها في نفس الوقت؟
يجيبنا صاحب «شطحات الصوفية» بما يلي:
٩
لعل أوَّل انطباع نكوِّنه عن مثل هذا التعليل أن الصوفي قادر على كتمان ما يرِد على لسانه من شطح، وبهذا تنتفي عنه صفة الاضطرار والغلبة التي تحت وطأتها ينطق بما ينطق؛ أي إن للعامل الخارجي (وهو هنا السلطان) قوة مثل قوة العامل الداخل (الوارد القوي) على الأقل. أو إن للعامل الخارجي قوة أكبر من قوة وارده حتى يحول دونه وما يلهم بقوله من شطح. وعلى هذا يكون الصوفي الشاطح متكلفًا غير صادق فيما يصدر عنه؛ وبذلك لا يكون الشطح «ظاهرة صوفية سليمة»، ولا يكون الشطح «هذه الظاهرة الممتازة» كما يقول عنها الدكتور بدوي. أو أن الصوفية الذين جاءوا بعد الحلاج لم يكونوا «عارفين» بالمعنى الدقيق، ما دام الدكتور بدوي يعلق المعرفة على الشطح، ومَن لا يشطح فليس بعارف، على ما تقدم من أقواله.
ثم يورد الدكتور بدوي هذا البيت من الشِّعر:
١٠
- أولًا: هذا الحشد الكبير من الشطحات المنسوبة إلى الصوفية، ولا سيما أبي يزيد البسطامي والحلاج والشبلي وغيرهم، ليس من الضروري أن تكون كلها صادرة عنهم تخصيصًا. بل نحن نذهب إلى أنها جاءت بفعل قانون «تلاقي الأطراف» الذي عبَّر عن نفسه من خلال آلية إسقاط جَرَت على ألسنة العامة ونسبتها إلى صوفية مشهود لهم برسوخ القَدم في ميدان التصوف. فالعامي لو أراد أن ينسب شطحًا لنفسه لقُوبل بالرفض والشجب؛ لكنه حين ينسبه إلى أبي يزيد مثلًا حري به أن يقابل بقبول. وقد مرَّ معنا أن الفقهاء وعلماء الكلام ذهبوا بصفة المفارقة الإلهية إلى حدها الأقصى، تقليدًا لمسلمي الصدر الأول، حتى أنهم جعلوا منها صفة مطلقة لا تقبل النقض والتعديل، ووصلوا — بالتالي — إلى نفي صفة القرب والبطون؛ هذا على الرغم من اشتمال الكتاب والسُّنة على هذه الصفة الأخيرة غير مكتفين بذلك، بل عمدوا إلى تأويل كل آية أو أثر فيه دلالة مريحة على صفة القرب أو البطون تأويلًا يتماشى مع صفة المفارقة. لقد كان من شأن هذا أن يُحدث اختلالًا في التوازن النفسي عند الجماعة المسلمة حملها على الذهاب بصفة القرب أو البطون إلى أقصاها التي عبرت عن نفسها من خلال الشطح، وكان الشطح هو التعويض الطبيعي عن هذا الخلل، من ناحية، وصولًا إلى موقف متوازن يجمع بين قيمتَي المفارقة والبطون، وبذلك يتحقق التوازن النفسي عند الجماعة والأفراد. هذا الدور التعويضي قامت به «الخافية الجامعة» التي راحت تُطلق على ألسنة العامة الشطحات المتوهمة؛ لتحلها في الواعية وتتناقلها في رائعة النهار منسوبة إلى هذا الصوفي أو ذاك، ملتمسة له العذر بالسكر تارة، أو مُئولة ما يمكن تأويله منها بما يتماشى مع ظاهر الشريعة تارة أخرى.
- ثانيًا: كان لاستقرار صفة القرب أو البطون في النفس بتأثير الشطحيات الفعلية منها أو المفتعلة، أثر كبير في انتفاء عنصر «المفاجأة» انتفاء لم يَعُد معه الصوفي الواصف يواجه إلهًا لا عهد له به إلهًا بعيدًا كل البُعد، مفارقًا كل المفارقة، بل هو الآن أمام إله يعرفه، «إله أقرب إليه من حبل الوريد» لا يفاجأ بقربه، إله «هو عند حسن ظن عبده به، إن مشى (هذا) إليه ذراعًا مشى (الله) إليه باعًا …» إذَن بقدر ما يستقر مفهوم القرب ينتفي عنصر المفاجأة، وبمقدار ما ينتفي عنصر المفاجأة ينتفي الشطح.
- ثالثًا: لقد عملت تربية المريدين والسالكين على أيدي مشايخ الطرق على تهيئة الأولين لتقبل صفة البطون أو القرب تدريجيًّا فكان ذلك وِقاءً لهم من عنصر المفاجأة التي قد تذهب بعقول مَن يتعرضون للألوهة بدون دليل مرشد يهديهم إلى سواء السبيل. وقد قلنا فيما تقدم إن غرس قيمة البطون في نفس السالك من شأنه أن يوازن بين القيمتَين فلا ترجح إحداهما على الأخرى.
- رابعًا: كثير من الأقوال أو الأشعار التي تُنسب إلى الصوفية يمكن اعتبارها من الشطح، ومع ذلك ليست منه، من حيث إنها لم تصدر تحت تأثير «غيبة بوارد قوي»، على حد تعبير القشيري، مثال ذلك هذان البيتان لابن الفارض في تائيته الكبرى:
أي أن الإنسان يصلي لنفسه من خلال صلاته لله، والله يصلي لنفسه من خلال صلاة الإنسان له. أو — إن شئتَ قلتَ — إن الإنسان يصلي لله وإن الله يصلي للإنسان في نفس الوقت، فالمصلِّي والمصلَّى له واحد. مثل هذا القول لا يمكن اعتباره من الشطح «الذي هو حديث عن التجربة في التجربة»، وإنما هو حديث عن التجربة خارج التجربة، أو هو — في اصطلاح الصوفية — حديث جرى في مقام الفرق عما جرى في مقام الجمع؛ وهو — بهذا الاعتبار— لا يُعَد من الشطح ويدخل في هذا الباب أكثر الأشعار المنسوبة إلى الحلاج وأكثر أشعار أصحاب مذهب وِحدة الوجود أو إحاطة الألوهة بالوجود وكتاباتهم كابن عربي والجيلي والصدر القونوي ومَن سواهم. بذلك تصبح «أنا الحق» الحلاجية نقطة في بحر شطحيات هؤلاء القوم هذا إن صحت تسميتنا لها أنها شطحيات.
(٣) البحث الثالث
١
فيما يُنسب إلى رابعة العدوية من شطح يقول الدكتور بدوي:
٢
لنرَ الآن ما في «تجديفات» رابعةَ من ظاهر مستشنع وباطن مستقيم. يقول صاحب «شطحات الصوفية»:
يذهب ابن تيمية إلى أن هذا القول كذب على رابعةَ. لكن بدوي يرد كلام ابن تيمية بقوله:
نقول: إن كان ابنُ تيمية ينفي هذا القول عن رابعةَ أن تكون فاهت به، ونفيه هذا غيرُ مبني على أساس من الأسانيد التاريخية بل على أساس عقلي هو استحالة نسبته إلى رابعة، وهي العابدة المؤمنة والقول المنسوب إليها يدل على الكفر؛ فإن إثبات الدكتور بدوي نسبة هذا القول إلى رابعة ليس مبنيًّا على غير الأساس الذي بنى عليه ابن تيمية نفي نسبته إليها. فالدكتور بدوي لم يقدِّم دليلًا واحدًا على صحة نسبة هذا القول أو غيره إلى رابعة أم تراه يكتفي بالرواية المنقولة ويعتبرها دليلًا كافيًا؟ الشيء الثابت الوحيد أن هذا القول قد قيل. أما مَن قاله، وكيف كانت روايته؟ ومَن هم رواته؟ وهل كانوا موثوقين أم غير موثوقين؟ فهذا ما لا سبيل للتحقق منه. وفي هذه الحالة يستوي الإثبات والنفي، أكانت رابعة قالته أم لم تقله!
٣
إذا سلَّمنا بأن ظاهر كلام رابعة وتجديفها على الحج هو ظاهر مستشنع؛ فإن من حقنا أن نبحث عن باطنه المستقيم الذي يسوغ لرابعة ولغيرها أن تقول ما تقول. الشيء الوحيد الذي قاله صاحب شطحيات الصوفية مما يمكن اعتباره من قبيل الباطن المستقيم، في نظر الدكتور بدوي قوله إن رابعةَ بهذا القول إنما تجرد الحج من معناه الحسي؛ الأمر الذي يشعر بأن للحج، في نظر الدكتور بدوي. معنيين: أحدهما حسي والآخر معنوي أو روحي. غير أن صاحب «شطحات الصوفية» لا يذكر لنا المعنى الروحي الذي تنطوي عليه مناسك الحج. ولقد كان حريًّا به أن يقول إن للحج ظاهرًا وباطنًا وأن رابعة أرادت بتجديفها المزعوم أن تخترق حجاب الظاهر لكي تنفذ منه إلى معناه الباطن؛ من محدودية الظاهر إلى لامحدودية الباطن!
٤
٥
لكن، متى تكون الكعبة صنمًا في نظر الصوفي؟ بل متى تكون العبادات أصنامًا؟ لا تكون العبادات كذلك إلا عندما تصبح حجابًا عن الحق تعالى، من ذلك إذا استشعر الصوفي فيها لذة روحية، وراح يدمن هذه العبادات طمعًا في مزيد من هذه «اللذة»! في هذه الحالة تصبح العبادات من «السوى» ومتى تصبح من السوى تكن من «الشرك الخفي». يقول ابن عباد الرندي:
٦
أما قول رابعة: «وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه؛» فقد يعني أن الله تعالى لم يكن خارج الكعبة، بل كان فيها دائمًا من حيث إن حركة الولوج تبدأ من الخارج وتنتهي في الداخل؛ فالذي يكون في الداخل أصلًا لا يقال إنه قام بفعل دخول يؤيد ذلك الطرف الثاني من المعادلة وهو قولها ولا خلا منه، مما يعني أنه مقيم فيه.
وربما يعني هذا القول مفارقة الألوهة للمخلوقات وبطونها فيها في نفس الوقت، وهي الحال التي يمكن أن نسميها بحال ما بين البينَين؛ فالألوهة مفارقة وباطنة في نفس الوقت، أو هي غير مفارقة ولا كامنة في نفس الوقت. وهكذا يكون الله تعالى ما ولج (بيته) ولا خلا منه. وإذا كان الحال كذلك، فلا ارتباط بين قولها المزعوم «هذا الصنم المعبود في الأرض»، وبين قولها اللاحق ما ولجه الله ولا خلا منه!
٧
ولعل من المفيد هنا أن ننقل عن السيدة وداد السكاكيني جانبًا من الفصل الذي عقدته على حجات رابعة العدوية لما يلقيه من ضوء على مراد الصوفية العاشقة من قولها المنسوب إليها عن الكعبة المشرفة. تقول السيدة سكاكيني:
ثم تمضي السيدة سكاكيني في كلامها عن رابعة لكي تصل إلى ذِكر الكرامات المنسوبة إلى الصوفية العاشقة؛ حيث تقول:
– ارحلوا وحدكم، ما كان اتكالي عليكم لما ارتحلت بل ثقتي بالله وحده … وجلست رابعة قرب حمارها تدعو ربها وترجو منه الرحمة قائلة: إلهي لقد دعوتني إلى زيارة بيتك، ولقد نفق حماري في الطريق وأنا بالفيافي وحيدة.
نظنُّ أن من حقنا أن نسأل الدكتور بدوي ماذا عساه أن يقول في هاتين الحكايتين المتقدمتين؟ هل كان يكذِّبهما أم يصدِّقهما؟ فإن كذَّب فإلى أي الأسانيد التاريخية كان يستند في تكذيبه؟ وإن صدَّق، فهل تراه كان يعتبر مجرد الرواية كافيًا للتصديق كشأنه عندما صدَّق ما رُوي عنها من تجديف على الكعبة؟
هنا الكعبة تحجُّ إلى رابعة و«تسعى إليها». هكذا تنقلب الأدوار وتتبادل المواقع، ولعل هذا يشعرنا بنوع آخر من المواحدة في ذروة الفناء الصوفي حيث يصبح الإنسان إلهًا والإله إنسانًا، عبَّر فيه الرواة، إذ نسبوه إلى رابعة، عن حاجة الجماعة إلى الارتفاع بالأنثى إلى حظها من الألوهة بعد أن أفرط «المجتمع الأبوي» في الاقتصار على المبدأ المذكور وحده تعبدًا إليه وتقديسًا له.
٩
١٠
ومن شيمة النموذج البدئي، وهو قيمة سيكولوجية أساسًا، أن يأخذ من التاريخ الدنيوي أقلَّه ومن الحقيقة النفسية أكثرها. وهذا سياق سيكولوجي يتخذ لنفسه مسارًا كثيرًا ما يتعارض مع الوقائع التاريخية المعروفة بما «يسقطه» على الشخص النموذج من ملامح وقسمات غير تاريخية بطبيعتها، وفي نفس الوقت ليس من طبيعة الأشياء أن تحدث في الواقع الدنيوي؛ لأن هذا السياق يبتغي من وراء إسقاط هذه الملامح والقسمات أن يرتفع بذلك الواقع إلى واقع قدسي لا يخضع لنواميس الزمان والمكان، وأن يبطل الشرط البشري.
في هذا الضوء ينبغي النظر في الكرامات المنسوبة إلى رابعة، والأقوال التي قيل إنها نطقت بها. فهذه الكرامات ليس من الضروري أن تكون جرت على يد رابعة، كذلك ليس من الضروري أن تكون نطقت بهذه الأقوال. وربما يقلل من شأن هذه الكرامات أو هذه الأقوال أن تكون رابعة قد اجترحتها أو فاهت بها، بما هي امرأة لا تمثل سوى نفسها أو حقيقتها الفردية، بما هي كذلك. إنما تمثِّل رابعة نموذجَ البدء القدسي، الجانب المؤنث منه، الذي أحدث إغفاله خللًا في التوازن النفسي عند الإنسان المسلم. وهذه الكرامات والشطحات أو التجديفات المنسوبة إلى رابعة منظورٌ إليها في هذا الضوء، لا مجال للارتياب في صحَّتها؛ بما هي تعبر عن مسعى النفس المسلمة إلى تحقيق التوازن. كذلك لا مجال هنا إلى التمحيص التاريخي ما دامت الحقيقة النفسية قائمة ماثلة. لذلك لا معنى لإثبات ما نُسب إلى رابعة من تجديف، كما لا معنًى لنفي ما نُسب إليها منه، من حيث إن المنهج الصحيح الذي يتفق مع درس الحقائق النفسية هو في نظرنا اعتبار رابعة معبرة عن جنوح الجماعة نحو التوازن بإعطاء المبدأ المؤنث حقه من القدسية.
(٤) محاولة في شرح نماذج من شطحات الصوفية
يعتبر أبو يزيد البسطامي وأبو بكر الشبلي والحسين بن منصور الحلاج أكبر الشاطحين في تاريخ التصوف الإسلامي؛ لم يسبقهم من الصوفية مَن تقدمهم، ولم يلحق بهم مَن تأخر عنهم اللهمَّ إلا الشاطحين من أصحاب «وحدة الوجود» الذين يندرج شطحُهم فيما اصطلحنا على تسميته في غير مكان باسم «شطح الصحو» تمييزًا له من «شطح السكر»؛ وقد كان للحلاج من كليهما نصيب وافر.
وفي هذا البحث سوف نأتي على ذِكر أهم الشطحات التي صدرت عن هؤلاء مبينين ما ذهب إليه الشرَّاح في تأويلها بما يجعلها مقبولة من وجهة نظر الشريعة، وهم في تأويلهم هذا إنما يحاولون رأب ما انصدع من إطار يحرصون كل الحرص على أن يبقى سليمًا من شبهة العبث أو الدس أو التقول الذي قد يأتي من خارج دائرة الصوفية، بل ربما حتى من خارج دائرة الإسلام.
ولئن كان القدامى ذهبوا في تأويل شطحات الصوفية إلى وجوب مطابقتها مع الشريعة، لقد ذهبنا نحن في «تفسيرها» إلى وجوب مطابقتها مع طبيعة التجربة الصوفية، بما هي المعيار الوحيد الذي ينبغي الركون إليه، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الشطحات أو تلك تصح نسبتها إلى هذا الصوفي أو ذاك، وبصرف النظر عما إذا كانت تتفق مع ظاهر الشريعة أو تتناقض معه.
والشطحات التي نتناولها فيما يلي بالشرح والتحليل؛ هي إما بسطاميات أو شبليات أو حلاجيات تبعًا لنسبتها للبسطامي أو للشبلي أو للحلاج.
أولًا: بسطاميات
- (١) «سبحاني ما أعظم شأني.»: رُوي عن أبي يزيد البسطامي أنه نطق بهذه العبارة.٩١ ويروون عنه أيضًا أنه لما سئل عن معناها قال في تفسيرها: قلتُ يومًا سبحان الله! فناداني الخالق في سرِّي: هل في عيب تنزِّهني عنه؟ قلتُ: لا يا رب فقال: فنفسك نزِّه عن ارتكاب الرذائل. فأقبلتُ على نفسي بالرياضة حتى تنزهت عن الرذائل، وتحلَّت بالفضائل، فصرت أقول: سبحاني ما أعظم شأني، من باب التحديث بالنعمة.٩٢
ونحن نرى أن هذه التأويلات أشبه ما تكون بالحيل الفقهية المعروفة عند الحنفية الذين اشتهروا بإيجاد «المخارج الشرعية» بغية التسهيل على الناس. فهي، أي هذه التأويلات، لا تتصدى لطبيعة الخبرة الصوفية التي أفضت بالصوفي إلى قول ما قال، بل تحاول أن تجد لأقواله تأويلات بعيدة عن الخبرة، وفي نفس الوقت قريبة من الشريعة؛ بحيث تفهمها العامة وتسوغها لئلا تضل وتزل بها القَدم.
والخبرة، كما نراها، تقوم في نهاية المطاف على تحقق الإنسان في الألوهة، وتحقق الألوهة في الإنسان، بعد أن تكون قد سلكت طريق نفي الإنسان لإثبات الألوهة، ونفي الألوهة لإثبات الإنسان. وقد عبَّر عنها الصوفية بجدلية الفناء والبقاء؛ الفناء عن الخلق والبقاء في الحق. وهي أشبه ما تكون بجدلية الحياة والموت: موت عن حياة دنيا وانبعاث جديد في حياة ثانية والجنين إذ يخرج من رحم أمه إنما يموت عن الحياة الرحمية لكي ينبعث في حياته الرضيعية؛ حيث يعيش مستوًى آخر من الحياة أعلى وأرحب. والخبرة أيضًا أن يعرف الإنسان نفسه، ووسيلته إلى هذه المعرفة هتك الحجب عن «مصباح القلب». الحجب هي الجانب البشري الغريزي الجسداني من الإنسان، والمصباح هو الجانب الإلهي منه، بؤرة التجليات الأسمائية، وهي حقيقته، بل جوهره وماهيته! ومَن عاش ليالي «التعتيم» زمن الحرب يعرف كيف كنا نغلف المصابيح بالورق القاتم ونطلي زجاج النوافذ بالأزرق. الإنسان المحجوب عن الله تعالى، أو إن شئت قلتَ عن حقيقته الإلهية، بما هي بؤرة التجليات الأسمائية، حاله يشبه حال تلك المصابيح. فإذا امتدت إليه يد العناية تفك عن قلبه الأغلفة والقماطات (وهذا ما يعرف بالفناء في المصطلح الصوفي) كوشف بحقيقة الجمال، وخوطب بلغة الوحي، وفهِم عن الله تعالى قوله: فَكَشَفنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد (ق: ٢٢).
أو تقول: الذي قال «سبحاني ما أعظم شأني!» هو الله وأبو يزيد في نفس الوقت، وهو وقت تنعدم فيه ثنائية الحق والخلق؛ فإن نظرنا إلى الظاهر قلنا إن الذي نطق بهذه العبارة هو أبو يزيد، وإن نظرنا إلى الباطن قلنا إن الله تعالى هو الذي نطق بها سيكولوجيًّا، يمكننا القول إن أبا يزيد عندما قال: «سبحاني ما أعظم شأني!» كان في حال من انكفاء إسقاطات القداسة من الخارج إلى الداخل أو الامتلاء بالتجليات الأسمائية؛ وهي حال يمكن تسميتها بارتداد الموضوع إلى الذات التي نشأ عنها؛ من حيث إن الموضوع ذات جعلت لنفسها من نفسها موضوعًا في العالم الخارجي. أي أن الألوهة، من موقع إنساني، ما هي إلا الذات الإنسانية متموضعة، بفعل سياق الإسقاطات القدسية؛ فإذا ارتد الموضوع إلى الذات، تضخمت هذه وانتفخت وراحت تقتات من نرجسيتها. وهذه حال مرضية، من وجهة نظر الصحة النفسية. فالنفس التي لا تسقط قيمها القدسية على العالم الخارجي نفس معصوبة، لا تحلم ولا تتخيل؛ نفس فقدت توازنها لعطل طرأ على وظائفها التعويضية تنفق طاقة ولا تعوضها!
وقد قلنا، في غير مكان، إن الشطح بما هو ظاهرة نفسية يشعرنا، من جهة، بأن ثمة خللًا في التوازن النفسي يعاني منه الشاطح، ومن جهة ثانية هو إيذان بأن البنية النفسية قد وضعت أولى خطاها على طريق التوازن. فأبو يزيد، عندما قال «سبحاني ما أعظم شأني!» كان عكس وجهة إسقاطاته فصارت تأتيه من الخارج إلى الداخل فامتلأ بالألوهة، وأعني بها التجليات الأسمائية بعد إذ كان فارغًا منها!
ولعلنا نتساءل عن أسباب هذا الارتداد والانكفاء. أغلب الظن أنه يأتي من قبل الخافية (=اللاشعور)، وهي شأن غير تاريخي، لكي تعدل من الموقف الواعي الذي أفرط في اعتبار الألوهة مفارقة للإنسان. فأقصى البُعد يعوضه أدنى القرب. ومغالاة الواعية في التوجه إلى العالم الخارجي يستثير الخافية لكي تكبح جماح الواعية منبهة لها بأن ثمة عالمًا داخليًّا أخذه بالاعتبار!
- (٢) «بطشي به أشد من بطشه بي.»: ويُروى أن أبا يزيد كان يسمع تلاوة الآية القرآنية إِنَّ بَطشَ رَبِّكَ لَشَدِيد، فقال أبو يزيد: و«حياته إن بطشي أشد من بطشه»٩٦ وقد ذهب ابن عربي في تأويل هذه الشطحة إلى القول: إن بطش العبد معرًّى من الرحمة؛ فليس عنده حال بطشه من الرحمة شيء. وبطش الحق بكل وجه فيه رحمة بالمبطوش به، فهو رحيم في بطشه. والله — سبحانه وتعالى — حينما قال: إن بطش ربك لشديد. أعقب ذلك بقوله إنه يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود. إنه سبحانه غفور ودود في بطشه، وحينما تحدث عن بطش الإنسان قال سبحانه وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فبطش الإنسان فيه جبروت، وبطش الله مشرب بالرحمة.٩٧
إذَن، ما معنى «بطشي به أشد من بطشه بي»؟!
قلنا، في غير مكان، إن التجليات الأسمائية ينسخ اللاحق منها السابق؛ فتجلي اسمه الغفور، مثلًا، ينسخ تجلي اسم المنتقم، وتجلي اسمه الرحيم ينسخ تجلي اسمه الجبار بعبارة أخرى، إن الألوهة — بمقدار ما هي قيمة مركوزة في قلب الإنسان — تتداولها هي أيضًا جدلية الفناء والبقاء، تمامًا مثلما تتداول الصوفي تقلبات أحواله. فالفناء والبقاء كلاهما يعتوران الألوهة في تجلياتها الأسمائية كما يعتوران الصوفي، بمقدار ما هو انعكاس هذه التجليات. والمواحدة، أو تبادل الأدوار على حد تعبير ماسينيون، تقتضي الإفناء والإبقاء المتبادلين. يترتب على ذلك القول إنه في نفس اللحظة التي يفنى فيها الصوفي عن نفسه. تفنى الألوهة أيضًا عن نفسها. ونفس اللحظة هذه هي أيضًا نفس لحظة بقاء الصوفي في الألوهية، وبقاء الألوهة في الصوفي. وبما أن المبادرة في التجربة الصوفية تأتي دائمًا من الألوهة، كان حبُّ الألوهة للإنسان أعظم من حبِّ هذا الأخير لها. ولئن كان الحب ليس إلا موت المحب وانبعاثه في محبوبه في نفس اللحظة، كان معنى قول أبي يزيد «بطشي به أشد من بطشه بي» يحتمل أيضًا معنى «حبُّه لي أعظم من حبي له!» ولقد كان هذا الحب - القتل هو ما رمى إليه جران العود النميري في قوله:
الكعبة هي التمثيل الأرضي لبيته المعمور السماوي، وبيت الله على الأرض يناظر بيته في السماء؛ كلاهما في نقطة المركز. وكما أن الكائنات السماوية تطوف حول بيته المعمور في السماء، كذلك تطوف الكائنات الأرضية حول بيته العتيق على الأرض. وفي المواحدة الصوفية، ينتقل الصوفي من المحيط إلى المركز، وعند هذا الانتقال يصبح كل شيء — ما عداه هو — من السوى. وبالتالي كل شيء يطوف حوله، بما في ذلك البيت العتيق!
- (٤) «كنتَ لي مرآة فصرتُ أنا المرآة.»: ١٠١ الأصل أن الله تعالى خلق الخلق لكي يعرفوه؛ إذ كان كنزًا مخفيًّا وأحبَّ أن يُعرف، كما جاء في حديثه القدسي. ولما خلق الله آدم، محل تجلياته الأسمائية، كان له كالمرآة كما يقول ابن عربي؛١٠٢ لأن المعرفة تحتاج إلى نقطة ارتكاز خارجية تتموضع فيها الذات بحيث تكون موضوعًا لرؤية ذاتها. وبذا تكون الذات ذاتًا وموضوعًا في نفس الوقت. إن آدم، في هذه الحالة، هو الذات الإلهية متموضعة خارج ذاتها، وعلى قدر جلاء المرآة ينعكس جلاء الرؤية، وتكون الرؤية أظهر وأبين. ولما أن عصى آدمُ ربَّه عرا صفحة المرآة «غبش»، ففقدت رواءها وجلاءها فتعيَّن عليها من بعدُ أن تجلو نفسها لكي تأتي جديرة بالناظر إليها والواقف أمامها.
في البداية، كان أبو يزيد يترسَّم خُطا ربه تعالى ويطهِّر نفسه ويزكيها، ولا يرى نفسه إلا من خلال مرآة الحق تعالى. فالحق مرآته يرى فيه نفسه، حتى إذا اكتمل التطهير، وتخلَّص من رقِّ عبوديته للأشياء، صار جديرًا بأن يرى الحق تعالى نفسه فيه؛ إذ تواحد أبو يزيد بآدم قبل المعصية.
- (٥) «كما تنسلخ الحية من جلدها.»: يُروى عن أبي يزيد أنه قال: «انسلختُ من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ثم نظرتُ إلى نفسي؛ فإذا أنا هو.»١٠٣
هذه الصورة الحسية تختصر التجربة الصوفية: فالانسلاخ عن النفس (الشهوات) أو عن الأنية هو ما يعبر عنه الصوفية بالفناء عن الخلق وعندما فني عن نفسه وعن الخلق نظر إلى نفسه فرأى أنه هو، أي أنه هو الحق؛ وهو ما يعبر عنه الصوفية بالبقاء في الحق، أي تحققه في الألوهة.
والفناء الصوفي هو ما اصطلحنا على تسميته بفك القماطات عن المولود الإلهي الجديد، أي عن الجانب الإلهي من الإنسان، ونعني به بؤرة الإسقاطات الإلهية أو محل التجليات الأسمائية. وبذلك يكون في الإنسان جانبان: أحدهما بشري (ظاهر)، وثانيهما إلهي (باطن). وقدر البشري أن يخضع للإلهي، وهذا هو طريق الآلام، وإن شئتَ قلتَ: هذا هو طريق الإسلام.
- (٦) «مَن رآني لا تحرقه النار»: يروي ابن عطاء السكندري في شرح لقصيدة «ولي الله أبي مدين» القصة التالية:
- (٧)«طاعة الرب وطاعة العبد.»: يُروى عن أبي يزيد قولُه: طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك.١٠٥ وفي تفسير هذا نقول:
كما أن المحبين يتبادلون أشخاصهم، كذلك يطيع بعضهم بعضًا؛ فإذا كان فناء الخلق في الحق ينطوي أيضًا على فناء الحق في الخلق، كذلك إن بقاء الخلق في الحق ينطوي على بقاء الحق في الخلق؛ مما ينجم عنه مواحدة الإرادتين؛ فما يريده الحق يريده الخلق، وما يريده الخلق يريده الحق. إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد!
- (٨) «اللوح المحفوظ»: يُروى عن أبي يزيد، وقد سُئل عن اللوح المحفوظ، أنه قال: أنا اللوح المحفوظ.١٠٨ واللوح المحفوظ هو لوح القدر، وهو أم الكتاب (يُلاحظ هنا أنه يمثل المبدأ المؤنث السماوي!) وهو متحرك في ثابت. والله تعالى خلق العالم من أجل الإنسان، وخلق الإنسان من أجل نفسه، وجعله خليفته على الأرض. فإذا تجرد الإنسان من كدورة الغرائز، وارتفع إلى مستوى «مرآة الله» المجلوة، أحبَّه الله تعالى، فإذا أحبَّه كان «سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.» على ما جاء في الحديث القدسي المشهور. وكما أن الله — تعالى — يقول في كتابه العزيز: يَمحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ، كذلك إن الإنسان مؤهل ابتداءً لأن «يمحو ويثبت» في نفس اللحظة التي يمحو فيها الله ما يشاء ويثبت. فكل محو أو إثبات منه تعالى إنما غايته ونهايته الإنسان، وكل محو أو إثبات من الإنسان إنما غايته ونهايته الله تعالى.
ثانيًا: شبليات
- (١) «أنا معكم حيثما كنتم.»: هذه العبارة جزء من كلام قاله الشبلي لأناس كانوا عنده في داره، فلما أرادوا الانصراف قال لهم: «مرُّوا، أنا معكم حيثما كنتم … أنتم في رعايتي وفي كلايتي.»١٠٩
في هذا الكلام إشارة صريحة إلى قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُم أَينَمَا كُنتُم وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير (الحديد: ٤). والذين يؤثرون الاعتذار عن الصوفي يعمدون إلى تأويله بالقول إن الصوفي في حال الفناء وإن الناطق على لسانه هو الله تعالى، وإن الصوفي لا دور له فيه، وفي هذه الحالة، لا ينسب الصوفي شيئًا لنفسه.
- (٢) «لو التفت سري إلى العرش»: ذُكر أن الشبلي أخذ من يد إنسان كسرةَ خبز فأكلها، ثم قال: «إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق.»١١٠
في هذا الكلام وعي لثنائية الحق والخلق وتقدير واقعي لما ينطوي عليه الخلق من ضعف وعجز من جهة، ومعرفة بما ينطوي عليه الحق من قوة وجبروت، من جهة ثانية. غير أن هذه القوة هي قوة الإنسان أيضًا عندما يفنى الخلق عن نفسه ويصير بالحق حقًّا.
وفي هذا الكلام أيضًا ما يشير إلى تجمع التجليات الإلهية (=الإسقاطات الإلهية وهي حقيقة الإنسان) في بؤرة الذات الإنسانية التي ما تلبث أن تعيد إنتاج هذه الإسقاطات أو التجليات في ألوهة مفارقة؛ فهذه الإسقاطات الثانية لو اتجهت نحو الخلق (عرشًا كان أم كرسيًّا) لأحرقته.
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الإسقاطات أو التجليات إن هي إلا التجليات الجلالية لا الجمالية، وقد كانت بمثابة تعويض عن العجز الذي يشعر به الشبلي عندما أحس بالجوع. والعجز والجوع من التجليات الجلالية التي لا قِبل للإنسان إلا بالاعتراف بها؛ الأمر الذي يجعله يعي مقام الاضطرار أو العبودية وما يستتبعه ذلك من وجوب التواضع والإذعان والتحلي بفضيلة الصبر والمجاهدة. قال تعالى: وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقص مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة: ١٥٥).
يُستفاد من ذلك أن في الإنسان يجتمع مقامَا العبودية والحرية: في العبودية يحتاج إلى كسرة خبز، وفي الحرية ينعتق من رق المكونات ويخضعها إلى سلطانه.
- (٣) ذكرُ غير الله شرك: كان الشبلي، رحمه الله، يقول للحصري: «إن مرَّ بخاطرك ذِكر جبريل وميكائيل عليهما السلام أشركتَ.»١١٣
ليس هذا الكلام من قبيل الشطح، وإنما هو من قبيل توحيد الخاصة؛ وذلك حين يجري توحيد الحق لنفسه بنفسه على ما يشاء من خلقه، وهو لا يحصل إلا في حال الفناء عن السوى، وانعدام الاثنينية؛ فإن خطر ببال الصوفي، وهو في هذه الحال، خاطرٌ غير الحق، كان ذلك إثباتًا لوجود هذا «الغير».
- (٤) «هل في الدارين غيري؟»: يُروى عن أبي بكر الشبلي قوله: «أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري؟»١١٦
قلنا إن الصوفي، وهو في حال الفناء، لا ينسب شيئًا لنفسه. وقد ذهب أكثر المتأوِّلة للشطح إلى أن الصوفية إنما نطقوا بما نطقوا به، وهم في حال الفناء عن النفس والعالم؛ فيكون الناطق بالتالي هو الحق حقيقة، والصوفي رسمًا ومجازًا. إن هذا أحد الأوجه الممكنة للتفسير. والوجه الممكن الآخر هو أن الصوفي في حال البقاء ينسب كل شيء لنفسه؛ وهو إنما يفعل ذلك إذا انكفأت إسقاطات الألوهة إلى الداخل، وعندئذٍ لا يكون بقاؤه في الحق وحسب، وإنما يكون بقاء الحق فيه أيضًا. هو ذا الشبلي ينسب إلى نفسه كل قول يصدر في العالم كما يسمع كل شيء فيه؛ هو المتكلم وهو المخاطب في نفس الوقت؛ لأنه هو الموجود الوحيد في العالم: «فهل في الدارين غيري؟!»
- (٥) النقطة والباء: يُروى عن أبي بكر الشبلي قوله: «أنا النقطة تحت الباء!»١١٧ كثيرًا ما يرمز إلى الألوهة بالنقطة بما هي مركز الدائرة، ومنها ينداح الوجود دوائر إلى حيث لا نهاية والألوهة، عند والتر ستيس، هي النقطة التي يلتقي عندها الزمان بالأزل.١١٨
ثالثًا: حلاجيات
أكثر الشطح المنسوب إلى الحسين بن منصور الحلَّاج يرتد إلى شطح الصحو دون شطح السكر؛ من حيث إن شطحه يعبر عن «عقيدة» شيدها الحلاج لنفسه ولأتباعه. وهي عقيدة مستمدة من خبرته الصوفية، ومن الأوجه الكثيرة التي تحتملها العقيدة الإسلامية في شمولها وكليتها وما انطوت عليه من مطلقات عامة تتصف بالمرونة وعدم تقيدها بظرف معين.
ثم إن العقيدة الحلاجية، بما هي مستمدة من خبرته الصوفية، لا تتعارض مع الإسلام في جوهره، وإن تعارضت مع فهم معين للكتاب والسُّنة أُريد له أن يسود حقبة طويلة بما لقيه من دعم السلطة وتأييدها وما استتبع ذلك من رفض أنواع الفهم الأخرى وملاحقة أصحابها واضطهادهم.
لن نتعرَّض الآن للعقيدة الحلاجية؛ فإن لذلك موضعًا آخر، وإنما نكتفي هنا بأن نورد منها ما تقتضيه طبيعة الشطحات التي سنتناولها فيما يلي:
- (١) «أنا الحق»: أكثر الذين تناولوا هذه الشطحة ذهبوا إما إلى أن الحلاج قالها على الحكاية، كما لو سُمع وهو يتلو آية لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدنِي، أو أن الحق تعالى قالها على لسانه، والحلاج فانٍ عن نفسه مستهلك في شهوده.
لكن أقرب التفسيرات إلى التجربة الصوفية التفسير الذي يذهب إلى أن الحلاج كان — حينما نطق بهذا القول — فانيًا عن نفسه مستهلكًا في شهوده، وكان الحق — تعالى — هو الناطق بلسان الحلاج حقيقة والحلاج رسمًا. أي أنه لا دورَ للحلاج في هذا القول، وهو مجرد أداة ليس أكثر. ومستند هذا المذهب الحديث القدسي المشهور الذي جاء فيه: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.»
إن هذا التأويل ينال رضا الفقهاء من أهل الظاهر؛ من حيث إنه ينفي عن الإنسان كل دور له، لا في الخبرة الصوفية وحسب، وإنما في كل ميدان من ميادين الحياة. لأن الصوفي — كما قلنا — لا ينسب شيئًا لنفسه وهو في حال الفناء، وينسب كل شيء إليها في حال البقاء. والصوفية يحتاطون بوصف هذه الحال بالقول إنها «بقاء بالحق». وقد قلنا أيضًا إن بقاء الخلق في الحق ينطوي أيضًا على بقاء الحق في الخلق نظرًا لانعدام الاثنينية الذي يتيح نسبة كل فعل أو قول إلى الخلق مثلما يمكن نسبته إلى الحق؛ فإن قلنا إن الذي قال أنا الحق هو الحلاج فقولنا صحيح، وإن قلنا إن الذي قالها هو الحق فقولنا صحيح أيضًا.
وقد جاءت قولة الحلاج هذه متضمنة في كتابه «الطواسين» الذي ألَّفه في السجن ولم يُكشف عنه النقاب إلا بعد استشهاده يقول الحلاج في هذا الكتاب:
واضح من هذا التعليل الذي يقدمه الحلاج أنه يعتبر العلاقة بين المؤثر والأثر ذات طبيعة عضوية لا ميكانيكية؛ أي إن الأثر غير منفصل عن المؤثر من كل وجه، أو أن العلة مبطونة في المعلول؛ وبالتالي إن الأثر دليل على المؤثر الذي لا يعرف إلا بما ينتج عنه من آثار؛ حتى ليمكننا القول إن الأثر هو المؤثر، لكنه ليس به في نفس الوقت، مثلما يمكننا القول إن هذه اللوحة هي الفنان الذي أبدعها وليست به في نفس الوقت؛ فهي هو من حيث إنه ذاته وقد أصبحت موضوعًا في العالم الخارجي، وهي ليست به من حيث إن ذاته ظلت محتفظة بجوهرها بما هي ذات صرفة في معزل عن تجلياتها أو إسقاطاتها أو ابداعاتها.
- (٢) عين الجمع: ينقل ابنُ الجوزي، صاحب «تلبيس إبليس»، أن ابن عطاء (وهو أحمد بن عطاء الأدمي تلميذ الحسين بن منصور الحلاج) قُتل لأنه قال بمقالة الحلاج. قال أبو بكر بن ممشاد:
حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها لا بالليل ولا بالنهار؛ ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابًا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان. فوجه إلى بغداد؛ فأحضر «الحلاج» وعرض عليه «الكتاب»؛ فقال: هذا خطي وأنا كتبته. فقالوا: كنتَ تدَّعي النبوة فصرتَ تدَّعي الربوبية؟ فقال: ما أدَّعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله تعالى واليد فيه آلة؟! فقيل له: هل معك أحد؟ فقال: نعم، ابن عطاء، وأبو محمد الجريري، وأبو بكر الشبلي. وأبو محمد الجريري يتستَّر، والشبلي يتستَّر؛ فإن كان فابن عطاء. فأُحضِر الجريري وسُئل فقال: قائل هذا كافر … يُقتل مَن يقول هذا!
وسُئل الشبلي فقال: من يقول هذا يُمنع.
- (٣) اللاهوت والناسوت: يُروى عن الحلاج قوله هذه الأبيات الثلاثة:
يقول أبو العلا عفيفي إن هذه الأبيات تضمن الحلول بالمعنى المسيحي، وفيها إشارة إلى ثنائية الطبيعة الإنسانية:
نقول: إن الحلاج لم يأخذ هذين الاصطلاحين عن المسيحيين السريان بالمفهوم المسيحي؛ لأنه يتعذر تركيبهما أو تنزيلهما في المنظور الإسلامي الذي ينطلق منها الحلاج في تجربته الصوفية.
الأبيات الثلاثة تستحضر قول الله تعالى: وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِن صَلصَال مِن حَمَإ مَسنُون. فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: ٢٨-٢٩) وعلى هذا يكون معنى الأبيات:
سبحان الله الذي أبدى ظاهره (ناسوته) أو آدم من حيث هو مجتمع تجلياته الأسمائية أو إن شئتَ قلتَ بؤرة إسقاطاته الأسمائية حقيقة باطن ألوهيته (حقيقة أنوار تجلياته الأسمائية وهو ما عبر عنه باللاهوت) التي كانت محجوبة عن خلقه من الملائكة. أي أن ظاهر الإله (آدم أو الناسوت أو محل تجلياته الأسمائية) أبدى عن باطنه الإلهي (مصدر التجليات أو الإسقاطات الأسمائية، أو اللاهوت الذي تمثل بالنفخة في قوله: وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي)، وفي البيت الثاني إشارة إلى ظهور الألوهة في صورة الإنسان (من حيث هو مجتمع تجلياته أو إسقاطاته الأسمائية) الذي يأكل ويشرب إشارة إلى قوله تعالى: يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا (البقرة: ٣٥). ويشير البيت الثالث إلى أن الملائكة رأوا الله تعالى رؤية العين؛ لكن تحت حجاب الناسوت بما أن طبيعتهم لا تؤهلهم للاتحاد الصوفي؛ فيرونه باطنًا لا ظاهرًا، أو يرونه باطنًا وظاهرًا.
- (٤) «أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا»: ينسب إلى الحلاج قوله هذَين البيتَين:
يقول العلامة نيكلسون في دائرة المعارف الإسلامية:
يميز علماء المسلمين بين نوعين من الاتحاد: حقيقي ومجازي. وينقسم الاتحاد الحقيقي قسمين، تبعًا لاستعمال اللفظ، للدلالة على:
-
(أ)
صيرورة الذاتَين شيئًا واحدًا كأن يصير عمرو زيدًا أو زيد عمرًا.
-
(ب)
صيرورة شيءٍ ما شيئًا آخر غيره لم يكن موجودًا من قبلُ، كأن يصير زيد شخصًا آخر لم يكن موجودًا من قبل.
والاتحاد بهذا المعنى الحقيقي بالضرورة مستحيل.
وينقسم الاتحاد المجازي إلى ثلاثة أقسام:
-
(أ)
أن يتحول شيء إلى شيء آخر دفعة واحدة أو بالتدريج، كتحول الماء إلى هواء مثلًا (في هذا المثال تفسد طبيعة الماء بأن ترتفع صورته النوعية عن هيولاه وتحل محلها الصورة النوعية للهواء) أو كتحول السواد بياضًا (في هذا المثال يرتفع عرض من أعراض موضوع ما ويحل محله عرض آخر).
-
(ب)
أن يصير شيء شيئًا آخر بطريق التركيب، فينتج عن ذلك شيء ثالث، كأن يصير التراب طينًا، بعد خلطه بالماء.
وهذه الأقسام الثلاثة من الاتحاد المجازي تقع بالفعل.
ومعنى الاتحاد، في اصطلاح المتصوفة، هو اتحاد المخلوق بالخالق، أو النظرية التي تذهب إلى أن هذا الاتحاد أمر ممكن.
ويعتبر المتصوفة بوجه عام كلًّا من تصور امتزاج الاثنين في كائن واحد ومذهب الحلول، أي تجسد الخلق في المخلوق، من الآراء الضالة بحجة أنها تتضمن مجانسة بين الوجودين، وهذا يناقض عقيدة «التوحيد» الحقيقي التي لا تعترف بأي وجود حقيقي غير وجود الله. والاتحاد بهذا المعنى يتضمن كائنَين يصيران شيئًا واحدًا، بينما الفرد في عُرف المتصوفة المتمسكين بأهداب الدين ليس إلا ظاهرة تفنى في الحق الواحد الأبدي. وهم يعبرون عن ذلك بقولهم: «الفناء في الحق.»
فالشجاعة، في مثالنا، هي الجوهر الواحد الذي يتمثل في المظاهر الكثيرة. إن الكون ينظمه سلك واحد موحد كما ينظم الخيط حبات المسبحة. والميل إلى رؤية العالم موحدًا ميل مشروع وحقيقي بمقدار ما هو مشروع وحقيقي الميل إلى رؤيته مجزءًا ومتفرقًا.
ثم إن التمييز بين نوعين من الاتحاد حقيقي ومجازي، والقول بأن أولهما مستحيل والثاني ممكن لا معنًى له ما دام الاتحاد المجازي اتحادًا حقيقًا على صعيده الخاص. فالاتحاد بمعنى التحول حقيقي ما دام التحول حتى في الأشياء الحسية أمرًا ممكنًا. فكما تتحول دودة القز؛ إذ تخترق الشرنقة إلى فراشة، كذلك تتهتك الحجب عن حقيقة الإنسان، وتنفك القماطات عن المولود الجديد ويتكشف جوهره المجانس للسلك الواحد الموحد الذي ينظم مسبحة الكون في كل أقطاره.
والقول باستحالة الاتحاد الصوفي قياسًا على استحالة الاتحاد الحقيقي في الأشياء الحسية قول مردود؛ لأن تجربة الاتحاد الصوفية لا تستمد مقوماتها من عالم الزمان والمكان المحكوم بنواميس صارمة؛ فهي، بحكم طبيعتها، تجاوز أو خرق لهذه النواميس وبعد فماذا يعني قول الحلاج:
من دون أن نتقيد بالكلمات الاصطلاحية والقول بأن هذَين البيتَين يعبران عن الناتج التركيبي بين المتمثل في ثبوت الألوهة في الإنسان وثبوت الإنسان في الألوهة. فالمحب (= الإنسان) هو المحبوب (= الله)، والمحبوب (= الله) هو المحب (= الإنسان). أو تقول إن المحبَّ هو الله والمحبوب هو الإنسان، ولا فرقَ في العبارتين ما دامت الاثنينية معدومة.
نحن هنا بإزاء وحدة وجودية تحب نفسها بنفسها. نرجسية؟ أغلب الظن أن الأمر كذلك. وهذه حال ارتداد إسقاطات الألوهية الصادرة عن الإنسان إلى ذاته بعد أن كانت موضوعًا خارج الذات. وإذ تنكفئ الإسقاطات تتضخم الذات وتغدو الأنية أكثر من مجرد أنية بسيطة، أو أكثر من أنية واحدة (الأنية + الإسقاطات المنكفئة)؛ ولذلك قال في الشطر الثاني من البيت الأول «نحن» بينما كان قال في الشطر الأول «أنا»!
قوله: «نحن روحان حللنا بدَنَا» قد يعني الحلول لمَن يفصل فصلًا حادًّا أو مطلقًا بين الروح والمادة، ونحن نرى أن هذا الفصل من مبتدعات العقل البشري اقتضتها أو فرضتها طبيعة الوظائف العقلية التي لا تستطيع فهم الظاهرات إلا مجزأة. ولذلك ينتفي القول بالحلول حين نعلم أن المادة روح كثيفة والروح مادة لطيفة، وأن العلاقة بين المبدأ وتجلياته هي علاقة الكل بأجزائه، وأن الجزء غير منفصل عن الكل، وأن الجزء يتبع الكل (= إسلام!).
والبيت الثاني مؤداه أنك إذا نفذت ببصرك أو بصيرتك إلى ما وراء حجاب الناسوت (الظاهر) وأبصرت حقيقتي اللاهوتية (الباطن)؛ فتكون قد أبصرت الحق تعالى، وإذا أبصرته فتكون قد أبصرتني وأبصرته في نفس الوقت؛ من حيث إننا مظهران لحقيقة واحدة، إن نظرت إليها من الخارج قلتَ ناسوت، وإن نظرتَ إليها من الداخل قلتَ لاهوت.