Wave Image
الفصل الرابع

اللاهوت والناسوت عند الحلاج

(١) اللاهوت والناسوت عند الحلاج

١

اللاهوت والناسوت مصطلحان مسيحيان أخذهما الحلاج عن الإمامية كما يقرر ماسينيون في «آلام الحلاج»١ وعن الشيعة الإسماعيلية، وهم فرع من الإمامية، كما يقرر في «أخبار الحلاج»٢ وعن النساطرة القنائية كما سوف نبين فيما بعدُ. وهذا المصطلحان إنما استخدمتهما المسيحية للدلالة على الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص السيد المسيح (ع). فالمسيح، من وجهة نظر نصرانية، إنسان وإله في آن واحد: إنسان بما هو مولود من السيدة العذراء من نسل داود الملك، وإله بما هو مولود من الروح القدس.
يذهب الدكتور أبو العلا عفيفي إلى أن الحلاج قد استعمل هذين الاصطلاحين للدلالة على ناحيتين مختلفتين في الطبيعة الإنسانية هما اللاهوت والناسوت،٣ ولكنه تجاوز حدود النظرية المسيحية إلى نظرية بطبيعة الإنسان بوجه عام،٤ يقول عفيفي: ويرجع أصل نظرة الحلاج إلى الإنسان على هذا النحو إلى تأثره بالأثر اليهودي المشهور القائل بأن الله تعالى خلَق آدم على صورته،٥ أي على الصورة الإلهية، وبنى على هذا الأثر نظريته في الحلول.٦

والدكتور عفيفي، إذ يبحث في «مصادر» التصوف الإسلامي جريًا على عادة المستشرقين وولعهم بردِّ الثقافة الإسلامية إلى مصادر غير إسلامية، يقرر أن التصوف الإسلامي كان لبعض العقائد المسيحية أثر فيه: «فقد قال الصوفية بالحلول بالمعنى المسيحي كالحسين بن منصور الحلاج الذي يقول:

سبحان مَن أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب.»٧
ويقرر عفيفي أن اللاهوت والناسوت، في نظر الحلاج، طبيعتان لا تتحدان أبدًا، بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء.٨ ثم يقول: وهكذا اعترف الحلاج لأول مرة في تاريخ الإسلام بتلك الفكرة التي أحدثت فيما بعدُ انقلابًا بعيد المدى عن الفلسفة الصوفية: أعني فكرة تأليه الإنسان واعتباره نوعًا خاصًّا من الخلق لا يدانيه في لاهوتيته نوع آخر.٩ وفي مكان آخر، يقول عفيفي١٠ وقد رُوي عن الحلاج أبيات أخرى صريحة في الحلول، والحلول عقيدة يقرنها المسلمون دائمًا بالمسيحية: فهو يصف روحه والروح الإلهي في حالة مزج تامٍّ حيث يقول:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال

٢

وفي مقدمته على شرح «فصوص الحكم» يُجري الدكتور عفيفي مقارنة بين مفهوم اللاهوت والناسوت عند الحلاج وبين مفهومهما عند ابن العربي فيقول: أخذ ابن عربي هذه الفكرة الحلاجية، ولكنه اعتبر اللاهوت والناسوت مجرد وجهين، لا طبيعتين منفصلتين، لحقيقة واحدة، إذا نظرنا إلى صورتها الخارجية سميناها ناسوتًا وإن نظرنا إلى باطنها وحقيقتها سميناها لاهوتًا. فصفتا اللاهوت والناسوت بهذا المعنى صفتان متحققتان، لا في الإنسان وحده، بل في كل موجود من الموجودات، مرادفتان لصفتي الظاهر والباطن، أو لكلمتي الجوهر والعرض. والحق الذي يتجلى في جميع صور الوجود يتجلى في الإنسان في أعلى صور الوجود وأكملها. ولذا ظهرت فيه هاتان الصفتان ظهورًا لا يدانيه فيه موجود آخر. على هذا الأساس بنى ابن عربي نظريته في الإنسان ومنزلته من الحق والخلق.١١
أما مفهوم اللاهوت والناسوت عند ابن العربي فنجده في الفص الخامس عشر، فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية؛ حيث يقول الشيخ الأكبر: اعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئًا إلا حيَيَ ذلك الشيء وسرت الحياة فيه … فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى لاهوتًا، والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح. فسُمي الناسوت روحًا بما قام به.١٢

٣

لكن الحلاج لم يوضح ماذا يعني باللاهوت والناسوت، كما فعل الشيخ الأكبر، مما جعل الدكتور عفيفي يتعسف في التماس الفرق بين فهم ابن العربي وفهم الحلاج لهما. يقول عفيفي في شرح قول ابن العربي:

فإنَّا عينه فاعلم
إذا ما قلت إنسانًا

إنك إذا تكلمت عن الإنسان الذي هو الإنسان الكبير أو العالم فاعلم أنه عين الذات الإلهية لا غيرها، وهو (الإنسان) عينها (عين الذات) من حيث هو (الإنسان) ظاهرها (ظاهر الذات) وهي (الذات الإلهية) باطنه (باطن الإنسان). أو إن شئت فقل إن العالم عين الأسماء الإلهية التي هي عين الذات. (أو تقول):

(٢) إنك إن تكلمت عن الإنسان الذي هو الجنس البشري فاعلم أنه، من حيث كمال صورته التي تتجلى فيه جميع كمالات الحق، عين الحق التي يرى بها نفسه في مرآة الوجود. يتابع عفيفي: وقد أشار إلى هذا المعنى ذاته في الفصل الأول في قوله (يريد الشيخ الأكبر): «لمَّا شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئتَ قلتَ أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله فيه، لكونه متصفًا بالوجود، ويظهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة إلخ …» يتابع عفيفي: فبالإنسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يعرف الحق، وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره: فهو عينه لأنه أكمل مجلًى من مجاليه، وهو له بمثابة العين الباصرة التي يدرك بها صاحبه ما حوله من الوجود. يقول عفيفي وإلى هذا المعنى أيضًا أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتيه المشهورين:

سبحان مَن أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا لخلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
لكن عفيفي ما يلبث أن يستدرك تناقضه مع ما كان قاله بخصوص الفرق بين مفهوم الحلاج ومفهوم ابن العربي للاهوت والناسوت،١٣ فيقول: «غير أننا يجب ألا نغفل عن الفرق الكبير بين الحلاج وابن عربي: فالأول حلولي يرى أن الله قد يحل في الإنسان فتظهر بذلك كمالاته وأسرار ألوهيته. أما الثاني فاتحادي يرى أن الإنسان هو المظهر الكامل الدائم لله، وأنه لا فرق بين ناسوت ولاهوت إلا بالاعتبار.١٤

٤

قبل أن ننتقل إلى موقف الدكتور عبد الرحمن بدوي من الحلاج، نحب أن نؤكد أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج هما نفس اللاهوت والناسوت عن ابن العربي ما دام كلاهما لا يقصرانه على شخص بعينه، بل يجعلانهما عامَّين في كل إنسان، ويزيد الشيخ الأكبر على الحلاج أن جعلهما موجودَين في كل شيء زيادة على الإنسان.

يبدي الدكتور بدوي استغرابه مما أورده السراج الطوسي في «لمعه»؛ حيث يقرر السراج أنه لم يعرف من الحلولية أحدًا، بقوله: وواضح من هذا النص أن السراج ليس فقط ينكر الحلول، بل وينكر أيضًا أو يشك في أن يقول به أحد من الصوفية، ويورد الخبر كله في صيغة الشك، ويقرر أنه لم يصح عنده خبران هناك فرقة صوفية تقول بذلك. ولم يوضح السراج ما اسم هذه الجماعة القائلة بالحلول. وهو أمر غريب يسترعي النظر؛ لأن السراج كان واسع الاطلاع جدًّا على مذاهب كبار مشايخ الصوفية.١٥

إن ما يعنينا من كلام الدكتور بدوي المتقدم ليس وجود فرقة صوفية تقول بالحلول أو لا تقول به، بل تقريره أن الحلاج حلولي.

٥

نوجز ما تقدم في النقاط التالية:
  • أولًا: الحلاج يذهب مذهب الحلولية.
  • ثانيًا: إن الحلاج بنى مذهبه في الحلول على أثر توراتي يقول إن الله خلق آدم على صورته.
  • ثالثًا: إن الحلاج أخذ الحلول عن المسيحية في تقريره اجتماع اللاهوت والناسوت في الإنسان عمومًا، ولم يقصرهما على إنسان بعينه، بل جعلهما عامَّين في النوع البشري.
  • رابعًا: إن اللاهوت والناسوت عند الحلاج هما غيرهما عند ابن العربي.

٦

لنأخذ في معالجة هذه النقاط الأربع واحدة واحدة بادئين بأولاها، فنقول: إن القول بالحلول أو عدمه يتوقف على ما إذا كانت مفارقة المبدأ الإلهي لتجلياته المتمثلة في الإنسان والعالم مطلقة أو نسبية. فإن كانت المفارقة مطلقة كان كل مساس بها حلولًا، وإن كانت نسبية أمكننا النظر في ما ورد على لسان هذا الصوفي أو ذاك مما يستشم منه رائحة حلول إن كان لم يقل بخلافه. ومعيارنا في هذا أنه لا يصح اعتبار المبدأ مفارِقًا لتجلياته مفارَقة مطلقة، كما لا يصح اعتباره كامنًا بصفة مطلقة. إذ يترتب على إضفاء صفة الإطلاق على مفارقة المبدأ لتجلياته القول بوجود مطلقين: الله والعالم، وهذا يؤدي إلى القول بوجود «إلهَين»، مما يتناقض مع عقيدة التوحيد الإسلامية. كما يترتب على ذلك أيضًا القول بأن العالم يحد من لا نهائية الألوهة. ويترتب على إضفاء صفة الإطلاق على كمون المبدأ الإلهي في تجلياته القول بمطلقية العالم من دون الله، وهذا وثنية، إذ ليست الوثنية غير إضفاء صفة الإطلاق على النسبي!

وقد اعتمد معيار نسبية الكمون والمفارقة البروفسور نيكلسون (وإن كان لم يتمسك به دائمًا كما يقول سدني سبنسر) بقوله: «ما دامت المفارقة معترفًا بها، فإن أشد التوكيدات على الكمون ليس من الحلول …»١٦

ونحب أن نؤكد منذ البداية، منعًا لكل التباس أو سوء فهم، أن كلًّا من المفارقة والبطون قيمة نفسية قائمة في داخل الإنسان تعين موقفه من الألوهة من حيث استشعاره القرب أو البُعد. ونحن نذهب إلى أن هاتَين القيمتَين موروثتان في بنية الإنسان النفسية. فإذا قلنا إن الله كامن أو باطن في الإنسان عمومًا، وفي هذا الإنسان أو ذاك خصوصًا؛ فلا نعني بذلك أنه كامن فيه أنطولوجيًّا، بل تفتحًا أكبر لقيمة البطون على حساب قيمة المفارقة والعكس صحيح أيضًا.

وبما أن العلاقة جدلية بين القيمتَين، كانت كلٌّ منهما، مأخوذة على حدة، قيمة نسبية، وكانت كل منهما قابلة لأن تطفو على السطح أو تنزل إلى العمق في محل الأخرى. بعبارة أخرى، لكلٍّ منهما ظاهر وباطن: فظاهر الكمون المفارقة، وباطن المفارقة الكمون. أو إن شئتَ قلت: تحت كل مفارقة بطون، أو تحت كل بطون مفارقة. يترتب على ذلك اختلاف موقف الإنسان من الألوهة بين أن يكون البطون هو الغالب أو تكون المفارقة هي الغالبة.

والمفارقة والبطون، بما هما قطبان نفسيان مهمتهما إقامة التوازن النفسي بين تلمس القرب واستشعار البُعد في آن واحد، جاء الإسلام، كتابًا وسُنة، مشتملًا على هذَين الجانبَين، تحقيقًا لهذا التوازن في حياة الإنسان الداخلية. والمفارقة والبطون، شأنهما كشأن كل طرفين، حقيقان بأن ينقلب أحدهما إلى ضده إذا ما وصل إلى نهايته العظمى.

٧

كذلك يتوقف القول بالحلول أو عدمه على نظرتنا إلى الإنسان: أهو محدود بجسمانيته أم أن فيه بُعدًا مفارقًا يتجاوز حدود هذه الجسمانية. فعلى القول الأول، تكون كل صلة له بعالم الغيب هي من قبيل الحلول، وهذا يترتب عليه القول بإبطال الوحي والنبوَّات والرسالات. وعلى القول الثاني، أي القول بأن في الإنسان بُعدًا مفارقًا أو ميتافيزيقيًّا، يقف الإنسان في نقطة المركز بين الله والعالم، يتلقى الوحي والإلهام منه تعالى ليقوم بأعباء «الخلافة» التي كلفه الله تعالى القيام بها عندما أسجد له الملائكة. إن البُعد المفارق في الإنسان يجد تعبيره في كمون الألوهة فيه!

٨

قلنا، قبل قليل، إن الإسلام، كتابًا وسُنة، جاء مشتملًا على جانبي المفارقة والبطون، تحقيقًا للتوازن، في نفس الإنسان، وتعبيرًا عن هاتين القيمتَين في نفس الوقت. وهذا يدعونا إلى التمييز بين إسلام النص والإسلام في سيره التاريخي. والنص ما إن يتفاعل، من خلال الإنسان، مع الواقع التاريخي (عالم الزمان والمكان) حتى يطرأ عليه التعديل والتبديل: يسعى النص إلى إقامة التوازن في حياة الجماعة والأفراد، وهؤلاء يكيفونه فيما يحاولون التكيف معه. فالنص أبدًا ما بين تكييف وتكيف، وكذلك موقف الجماعة والأفراد منه أبدًا ما بين تكييف وتكيف. وهذا التكييف والتكيف المتبادلان ليس من الضروري أن يجريا بصورة واعية، بل هما يجريان في «الخافية» (اللاشعور) في الأعم الأغلب. ونحن نعلم أن ليس من طبيعة النفس البشرية عمومًا أن ترتقي، سلوكًا وفهمًا، إلى مستوى النص، إذ هو حالة مثالية سكونية: أيسر عليه أن تنحدر به وأن تهمله فلا تعمله. حتى إذا اختل التوازن في قلب الجماعة اختلالًا يصل بأحد طرفيه إلى نهايته القصوى، نشأت الكوارث والمحن لتصحيح الأوضاع، وعاد النص لكي يحتل مكانته من التقدير والاعتبار!

٩

لقد جاء الإسلام التاريخي مجدِّدًا للإبراهيمية الحنيفية، والوثنية العربية في أحط دركات انحدارها (أي، عند نهايتها القصوى) حتى لقد باتت الأشياء أعز مكانة من الإنسان وأرفع منه منزلة وكلما كانت الألوهة حسيَّة كان أدعى إلى الاستخفاف بها: (أرب يبول الثعلبان برأسه؟!) وكانت قيم الأخلاق التي تنضح عن الجماعة تعبِّر عن مستوى هذه الألوهة من ولوغ في ملذات الحواس وتمرغ في وحول الغرائز، وما يجره ذلك على الجماعة من تباغض وتناحر. لذلك لم يكن بد أمام الإسلام التاريخي من أن يُشهر، لأسباب لعلها مرحلية، سلاح الألوهة المجردة في مقابلة الحسية، وأقصى المفارقة في وجه أدنى المقاربة. فانقلب الحس تجريدًا، والبطون مفارقة، والقرب بُعدًا. كان هذا النوسان يجري في أعماق الإنسان، وفي معزل عن واعيته الظاهرة: حوادث نفسية تجري في «خافية الجماعة»، ما لبثت حتى اخترقت حجاب الواعية على هيئة عقائد وأفكار وتيارات ومدارس ومذاهب نشعر أن المنهج التاريخي وحده غير كافٍ لتعليلها. ولعل من أسرار انتصار الدعوة الإسلامية وانتشارها الصاعق السريع، أنها جاءت تنقل ما بأعماق «الخافية الجامعة» إلى سطح الواعية. نقول هذا دون أن نغفل عن الجانب الأهم والأساسي: تعبير الدعوة الإسلامية عن العقل العربي في معانقته للمطلق واستشرافه لحقيقة الوجود!

لقد طفا على سطح الحياة الثقافية الإسلامية الموقف الذي اضطر الإسلام إلى اتخاذه بحكم الضرورة التاريخية والنفسية — أعني به موقف المفارقة المطلقة، أو تنزيه الألوهة تنزيهًا مطلقًا، أو استشعار البُعد المطلق بما هو وظيفة نفسية، بسبب مواجهته للوثنية الجاهلية المغرقة في الحس. ولقد استمر هذا الموقف، بحكم قوة التقليد مؤيِّدًا بما كان عليه المسلمون في الصدر الأول، وربما كان هذا الموقف هو الأساس فيما عُرف بمرحلتي نفي الإنسان لإثبات الألوهة، ونفي الألوهة لإثبات الإنسان. فكما أن الحق ينفي الخلق لإثبات نفسه، كذلك إن الخلق ينفي الحق لإثبات نفسه (ولا نريد بالحق هنا «الحق بما هو حق بذاته»، بل صور تجلياته المنعكسة على مرآة القلب، وهي صور ينسخ اللاحق منها السابق، فهي أبدًا ما بين فناء وبقاء. والنفي والإثبات المتبادلان بين الحق والخلق لا يعدوان كونهما حوادث نفسية تجري في داخل الصوفي!) وما بين الإثبات والنفي في تعاقبهما مثل ما بين الحياة والموت: صيرورة في وحدة وجودية أشبه ما تكون بالبحر يعلوه الموج لكنه ما يلبث حتى يتلاشى فيه. وهي صيرورة وجودية قد يترجمها الصوفي إلى عقيدة في «وحدة الوجود»، وهي ما يعبر عنه في المصطلح الصوفي ﺑ «البقاء بالحق». ونحن نرى أن هذا البقاء بالحق ليس بقاءً للخلق بالحق وحسب، وإنما هو بقاء للحق (صور تجلياته) بالخلق أيضًا، وفي نفس اللحظة. بينما حال التنافي، وهي حال «وحدة الشهود»، هي حال فناء الخلق بالحق، وفي نفس الوقت فناء الحق بالخلق. وهذا الطرف من المعادلة يسكت عنه الصوفية ولا يظهر إلا في الشطح!

١٠

عودًا إلى ما يزعمه البعض من «حلولية» الحلاج، نقول: إن الحلاج لم يكن قطُّ حلوليًّا. فالحلول، بمعنى أن الله متواحد بالعالم تواحدًا تامًّا وحصريًّا في الزمان والمكان، أمر أبعد ما يكون عن مفهوم الصوفي. فالحقيقة الإلهية أو النهائية، في نظر صوفية جميع الأديان. مفارقة جوهريًّا لعالم الزمان والمكان. لكن هذه المفارقة يصحبها عمومًا توكيد يساويها على البطون الإلهي، من حيث إن الحقيقة الإلهية هي الجوهر الأعمق لكل شيء. ثم إن الكمون الإلهي ينطوي على وحدة داخلية معينة بين الأزلي ودائرة الكائن المحدود — على مواحدة معينة بين الإلهي وأشياء الزمان والمكان. وهذه المواحدة هي التي أعطتنا الانطباع بالحلول، مع أن المواحدة هي غير «الوحدة أو الذات» الصرفة والخالصة. ويبدو هذا على أكثر ما يكون وضوحًا في نطاق العلاقات البشرية. إن اعتبار الشخصية ممتنعة عن التواصل بحكم الفطرة لهو أمر في منتهي السطحية. فالشخصية تحمل بين جنباتها القدرة على الرحمة والعطف الشديد مشاركة حقيقية في معاناة الآخرين حتى لتصبح هذه المعاناة معاناتنا. في العصور اللاحقة ﺑ «عقيدة السلفية»، الذي تميز باعتبار الألوهة مفارقة للحوادث مفارقة مطلقة؛ مما أدى إلى انكفاء الآيات الأحاديث المتضمنة لمعاني القرب أو الكمون بعيدًا عن الواعية، وصارت تئوَّل تأويلًا يفرغها من مدلولاتها، واحتلت هذه التأويلات مكانة لا تقل قدسية عن قدسية النص بادعاء أنها منقولة عن السلف وأنه لا يحق لغير هؤلاء أن ينازعهم فهمهم للآيات والأحاديث — كل ذلك لمصلحة المفارقة المطلقة!

١١

ويبدو أن قيمة المفارقة اقتضت من تاريخ الإسلام ثلاثة قرون حتى وصلت إلى نهايتها القصوى، لكي تنقلب من بعدُ إلى ضدها المكافئ المعدل الذي تمثل، في العالم الخارجي، بالتصوف بما هو حركة اجتماعية، تحقيقًا للتوازن النفسي في قلب الجماعة المسلمة، ذلك التوازن الذي أصابه الخلل نتيجة للمغالاة في قيمة المفارقة — هذا، ناهيك عن الدعوات الغالية التي كانت تقول بألوهية هذا الإمام أو ذاك!

فقولة الحلاج «أنا الحق» كانت النقيض المكافئ للاشيئية الإنسان أو ﻟ «عدم الخلق!» فلئن كان وجود الحق يقتضي عدم الخلق، لقد كان الرد المناسب الذي يعدل من غلو هذا الموقف قولة «أنا الحق!» التي تعني أيضًا، في جملة ما تعني، «عدم الحق!» ولئن كانت الوثنية، بما هي اغتراب الألوهة في الأشياء، تمثل نفي الألوهة، لقد آل الأمر بالموقف الإسلامي التاريخي، بما هو اغتراب الإنسان في الألوهة، إلى نفي الإنسان. ولئن كان هذا الموقف، أعني الموقف التاريخي، في بُعده الظاهري، ينفي الإنسان في سبيل إثبات الألوهة، لقد انتهى الموقف الصوفي، وهو من الإسلام بُعده الباطني، إلى نفي الألوهة في سبيل إثبات الإنسان. إلا أن أيًّا من هذين الموقفين لا يحقق التوازن النفسي المطلوب. لذلك لا بد من اجتماعهما معًا في صيغة تعيد إلى النصوص التي اشتملت على معاني القرب اعتبارها؛ بحيث يتم الاعتراف بكلتا صفتَي المفارقة والبطون في علاقة جدلية تكون فيها الألوهة مفارقة وغير مفارقة في نفس الوقت، باطنة وغير باطنة في نفس الوقت. أو إن شئتَ قلتَ: باطنة في مفارقة، أو مفارقة في بطون!

وجدير بالذِّكر أن التجربة الصوفية تحتوي على طرفي المعادلة من حيث إنها تمرُّ وعندما يتواحد القديس مع الناس في آلامهم وآثامهم، لا يترتب على هذا التواحد أن يفقد شخصيته بل تغتني هذه الشخصية وترحب. كذلك يتواحد الله في صميم امتلاء كمالاته ومجده بجميع الكائنات حتى في ابتعادها عنه، ويسكن قلوبهم، ويصبح هو العالم في انفصاله الظاهري عنه.١٧

والحلول، كما نفهمه، هو امتصاص المبدأ في تجلياته على نحو ينفي عنه صفة الإطلاق والمفارقة. والحلول، على هذا المفهوم، لم يقُل به أحد من الصوفية على ما نحسب، ولم يقُل به الحلاج؛ لأنه يتنافى مع طبيعة التجربة الصوفية التي يتحقق الصوفي من خلالها بصفة المفارقة تحققًا تجريبيًّا. وإذا أخذنا نحن بمعيار الاعتراف بصفة المفارقة إلى جانب القول بصفة الكمون الإلهي في الإنسان والعالم، أمكننا التعرف على ما إذا كان الحلاج أو غيره قد قال بالحلول أم لم يقُل.

١٢

ومن أقوال الحلاج في التنزيه أو المفارقة: «الحق تعالى عن الأين والمكان، وتفرد عن الوقت والزمان، فتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدس عن إدراك العيان، وعما تحيط به أوهام الظنون. تفرد عن الخلق بالقدم، كما تفردوا عنه بالحدث.»١٨
ومن أقواله أيضًا: «أمر بشهادة وحدانيته، ونهى عن وصف كنه هويته، وحرم على القلوب الخوض في كيفيته، وأفحم الخواطر عن إدراك لاهوتيته، فليس منه يبدو للخلق إلا الخبر.»١٩
ومن أقواله التي تجمع بين البطون والمفارقة، أو بين القرب والبُعد، قوله: «يا مَن لازمني في خلدي قربًا، وباعدني بعد القِدم من الحدث غيبًا، تتجلى عليَّ حتى ظننتك الكل، وتسلب عني حتى أشهد بنفيك. فلا بُعدك يبقى، ولا قربك ينفع، ولا حربك يغني، ولا سلمك يؤمن.»٢٠
وأخيرًا وليس آخرًا، استطاع الحلاج أن يصوغ هذه المعادلة بين المفارقة والبطون بقوله: «ما انفصلت البشرية عنه ولا اتصلت به.»٢١ فهما بين دفع وجذب، وبُعد وقرب، وانفصال واتصال، وظهور وخفاء.
إن الصوفي يستشعر المفارقة الإلهية أو البُعد أكثر من غيره؛ لأنه يتحقق فيه، كما يتحقق في القرب، تجريبيًّا، كما تقدَّم. بينما يؤمن به غيره اعتقادًا أو نقلًا. وعلى هذا، فالصوفي الذي يقف عند البطون ولا يتعداه إلى المفارقة ينفي عن نفسه صوفيته، ويكذب على الله والناس. جاء في موقف «القرب» للنفري: «وقال لي: تجدني ولا تجدني — ذلك هو البُعد. تصفني ولا تدركني بصفتي — ذلك هو البُعد تسمع خطابي لك من قلبك وهو مني — ذلك هو البُعد. تراك (ترى نفسك) وأنا أقرب إليك من رؤيتك (لنفسك) ذلك هو البُعد.٢٢ بعبارة أخرى، كل قرب في مقام الفرق فهو بُعد، وما دامت ثنائية الرب والعبد قائمة فلا قرب هناك مهما كان «قريبًا»!»

١٣

نأتي الآن إلى النقطة الثانية، وهي المتعلقة بقول الدكتور عفيفي بأن الحلاج بنى مذهبه في الحلول على أثر توراتي يقول إن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة الله.٢٣

صحيح إن الأثر التوراتي الذي أشار إليه عفيفي قد جرى تداوله كثيرًا في أوساط الصوفية، ونحن لا ننفي تأثيره، لكننا ننفي أن يكون هو المؤثر الوحيد كما يريدنا عفيفي أن نصدِّق.

لقد جاء في الحديث القدسي: «مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إليَّ عبد بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.»٢٤ ما جاء في سِفر التكوين من أن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة الله تعالى، لا يزيد كثيرًا على ما انطوى عليه هذا الحديث من معان. ثم إن مَن يتأمل في الآيات القرآنية التي تدور حول مكانة الإنسان في هذا العالم، يجد أن الأثر التوراتي المذكور أقل تأثيرًا من خطاب الله تعالى للملائكة: إِنِّي جَاعِل فِي الأَرضِ خَلِيفَة (البقرة: ٣٠)، وأقل تأثيرًا من قوله تعالى للملائكة وهو يأمرهم بالسجود لآدم قائلًا: فإذا سويته (آدم) ونفخت فيه من روحي فقعوا (أيها الملائكة) له (لآدم) ساجدين (ص: ٧٢).

ثم ماذا يعني فعل الخلق بحد ذاته؟ أليس يعني أن تصير الذات موضوعًا للخالق، وفي نفس الوقت تبقى الذات ذاتًا والموضوع موضوعًا على صعيد من البطون والكمون مع ذلك؟ لماذا يحب الفنان مبدعاته؟ أليس لأنها ذاته، وقد وجدت له موقعًا في العالم الخارجي. فمبدعاته هي هو، وفي نفس الوقت ما هي هو! إننا إذ نحب ما نبدع؛ فلأننا نبدع ما نحب!

إن الحلاج لم يقل غير هذا في تصوره لفعل الخلق كما يوجزه لنا الدكتور أحمد محمود صبحي بعبارته: «تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وفي الأزل حيث كان الحق لا شيء معه نظر إلى ذاته فأحبها وأثنى على نفسه فكان هذا تجليًّا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد وكانت هذه المحبة علة الوجود، والسبب في الكثرة الوجودية. ثم شاء الحق — سبحانه — أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلًا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها؛ فنظر في الأزل وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر، فكان آدم من حيث ظهور الحق بصورته هو هو.»٢٥

فالصورة ليست هي الأصل وتجليات الذات ليست هي الذات. إنما الصورة انعكاس فعل التجلي، أي هي أثر التجلي، وأثر الحق حق. ولما قال الحلاج قولته المشهورة التي قامت من أجلها الدنيا ولم تقعد — لما قال:

«أنا الحق!» لم يكن يعني غير هذا. ولما قالها عللها بنفس التعليل المتقدم:

«إن لم تعرفوه (الله) فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر. وأنا الحق لأنني ما زلت أبدًا بالحق حقًّا … وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطعت يداي، ما رجعت عن دعواي!»٢٦ أي أنه حق بمقدار ما هو أثر من آثار تجليات الله، وهو حق بمقدار ما هو موجود بالله، وهو حق بمقدار ما هو غير مستقل عن الله، وكل خلق حق بهذا المعنى!

لقد كان الحلاج يعبر بهذا عن سعي النفس المسلمة إلى التوازن الداخلي الذي أخل به الاقتصار على قيمة المفارقة، والمبالغة بها إلى حد إعطائها صفة الإطلاق. فلما وصلت إلى طرفها الأقصى (نفي الإنسان في سبيل إثبات الألوهة) انقلبت إلى طرفها الأقصى المضاد (نفي الألوهة في سبيل إثبات الإنسان)، وصولًا إلى النقطة المتوسطة بين الأقصيين (إثبات الألوهة في الإنسان وإثبات الإنسان في الألوهة) وهو ما يمكن أن نعبر عنه بوجود الخلق بالحق، ووجود الحق بالخلق، مع التوكيد على نسبية الخلق ومطلقية الحق، لأن المساواة لا يمكن أن تكون تامة من كل وجه: فلله المركز الأول ولخليفته المركز الثاني، أو قل إن العلاقة بين الخالق والمخلوق هي كالعلاقة بين الكل والجزء.

١٤

نأتي الآن إلى النقطة الثالثة، وهي تقرير الدكتور عفيفي أن الحلاج أخذ الحلول عن المسيحية في قوله باجتماع اللاهوت والناسوت في الإنسان عمومًا ولم يقصرهما على المسيح وحده كما فعلت المسيحية. تثير هذه النقطة عدة مسائل أهمها: هل المسيحية بحد ذاتها ديانة حلولية أم هي حلولية من وجهة نظر إسلامية؟ ثم أي المسيحية أخذ عنها الحلاج مذهبه في الحلول — افتراضًا بأنه أخذ الحلول عن المسيحية أهي مسيحية مجمع خلقدونية أم مسيحية النساطرة؟

لسنا هنا في صدد تقرير ما إن كانت المسيحية بحد ذاتها حلولية أم لا، فنحن غير مؤهلين، من موقع إسلامي، للبت بهذا الموضوع الدقيق. فللمسيحية لاهوتها وكهنوتها، وهو صاحب الاختصاص في شرح العقيدة وإزالة ما يعلق في الأذهان عنها من فهم ترى أنه غير صحيح، وتثبيت ما ترى أنه الصحيح.

إن العلاقة بين اللاهوت (الطبيعة الإلهية) والناسوت (الطبيعة البشرية) في المسيح كانت مدار خلافات ووجهات نظر متباينة، بل ومتضاربة أحيانًا، وصلت إلى حد نفي الألوهية في المسيح (النساطرة)، وإلى حد نفي البشرية فيه (المونوفيزية).٢٧ وكان من أثر هذه الاختلافات انعقاد مجمع خلقيدونية في عام ٤٥١م الذي قرر حلًّا وسطًا بين الطرفين الأقصيين، وجاء بالصيغة التالية:

إنَّا نعلم أن المسيح، ابن الله الوحيد، هو رب واحد.

في طبيعتَين بدون امتزاج ولا تغيير، وبدون تقسيم.

وتفريق، ودون أن يلغي هذا الاتحاد تمايز الطبيعتين.

ومع بقاء خواص كل من الطبيعتين على حالها.٢٨

إذَن الطبيعتان الإلهية (اللاهوت) والبشرية (الناسوت) غير ممتزجتين وغير متفرقتين وغير منقسمتَين، في نفس الوقت، لكنهما متحدتان، واتحادهما لا يلغي تمايز أحدهما عن الأخرى، بل تبقى خواص كل منهما على حالها، أي لا مجال هنا للقول ﺑ «الفناء الصوفي». ولسوف نرى، بعد قليل، أن الحلاج متناقض حيال طبيعة العلاقة بين اللاهوت والناسوت، وأن أحدهما وهو اللاهوت، يفني الآخر ويلغيه.

ووجه التناقض الذي وقع فيه الحلاج أنه في الوقت الذي يقرر أن اللاهوت والناسوت ممتزجان (قوله: «مزجت روحك في روحي … ونحن نعلم أن اللاهوت والناسوت في المسيحية غير ممتزجين)، نجده يقرر، في مكان آخر، وهو يخاطب الله تعالى بقوله: ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير ممازجة إياها (و) لاهوتيتك مستولية على ناسوتيتي غير مماسة لها.»٢٩

أكثر من ذلك، هناك وجه آخر للتناقض حين يقرر الحلاج أن الناسوت ناسوته وهو (ناسوت الحلاج)، وأن اللاهوت لاهوت الله — هذا في مخاطبته لله تعالى. وكان قرر في الأبيات الثلاثة (سبحان مَن أظهر ناسوته … أن كلًّا من اللاهوت والناسوت هما لله تعالى!) ونحن نعلم أن المسيحية تعلم أن اللاهوت والناسوت هما لأقنوم «الابن»، «الكلمة» المتجسد، وأنه لا دخل لأقنوم «الآب»، ولا لأقنوم الروح القدس، فيهما.

إذَن، اللاهوت والناسوت، عند الحلاج، ممتزجان في قوله «مزجت روحك في روحي …» وغير ممتزجين ولا متماسين في قوله «ناسوتيتي غير مماسة لها.» نحن هنا أمام ثلاثة أوجه من أوجه الاختلاف بين مفهوم الحلاج للاهوت والناسوت وبين مفهومهما في المسيحية:
  • أولًا: المسيحية تقول بأن اللاهوت والناسوت غير ممتزجين، والحلاج يقول مرة إنهما ممتزجان ومرة يقول إنهما غير ممتزجين.
  • ثانيًا: إن اتحاد اللاهوت والناسوت لا يلغي أحدهما الآخر في المسيحية (امتناع الفناء الصوفي)، بينما يقول الحلاج باستهلاك الناسوت في اللاهوت.
  • ثالثًا: يقرر عفيفي أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج «طبيعتان لا تتحدان أبدًا، بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء»، كما مرَّ معنا في بداية هذا البحث، بينما تذهب المسيحية إلى أن اللاهوت والناسوت «متحدان»، لكنهما «غير ممتزجين»!

١٥

يذكر ماسنيون في «المنحنى الشخصي لحياة الحلاج» أنه كان بين أنصار الحلاج نصارى دخلوا الإسلام وتخرجوا في المدارس النسطورية بدير قنا وتقلدوا منصب الوزارة في بغداد.٣٠ نقول: وهذا سبب قوي يحملنا على «الظن» بأن الحلاج اقتبس اصطلاحي «اللاهوت والناسوت» عن هؤلاء النساطرة. غير أننا لا نظن مع ذلك أنه قد ارتضى لنفسه أن يقف عند مجرد استخدام الاصطلاحين و«تنزيلهما» في منظوره الخاص، كأن يقتبسهما بكل ما يحملانه من مفهومات وأبعاد درج النساطرة على تحميلهما. بل ونزيد، إن الحلاج حتى في حال ارتضائه ذلك — أي قبوله بما انطوى عليه الاصطلاحان من معان — يظل المفهوم النسطوري للعلاقة بين اللاهوت والناسوت في المسيح (ع) أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية، أعني المسيحية الملتزمة عقيدة خلقيدونية. فالنساطرة «أفرطوا في تمييزهم بين المسيح إلهًا والمسيح إنسانًا، ولم يرضوا فيه إلا اتحادًا أدبيًّا معنويًّا، اعتباريًّا ونسبيًّا. فأفضى بهم هذا إلى تقسيم المسيح وتجزئته. ولقد أوهنوا العلاقة بين الطبيعة البشرية و(الكلمة) الإلهي؛ فتصوروا الطبيعة البشرية مستقلة، قائمة بذاتها في مقام الأقنوم.»٣١
وكان نسطور يفهم الاتحاد بين الله والإنسان في يسوع «أشبه شيء بالاتصال والقربى عن طريق الأنس والرضوان».٣٢

١٦

نأتي الآن إلى النقطة الرابعة، وهي النقطة التي حاول فيها الدكتور عفيفي أن يفرق بين مفهوم اللاهوت والناسوت عند الحلاج عن مفهومها عند ابن العربي. وكنا ذكرنا في مطلع هذا البحث أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج، كما يذهب عفيفي «طبيعتان في الإنسان لا تتحدان أبدًا بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء»، على حين أنهما عند ابن العربي «مجرد وجهين لحقيقة واحدة، إذا نظرنا إلى صورتهما الخارجية سميناها ناسوتًا، وإن نظرنا إلى باطنها وحقيقتها سميناها لاهوتًا.» يتابع عفيفي: «فصفتا اللاهوت والناسوت، صفتان متحققتان لا في الإنسان وحده، بل في كل موجود من الموجودات، مرادفتان لصفتي الظاهر والباطن، أو لكلمتي الجوهر والعرض.» وكنا أشرنا، في مطلع هذا البحث أيضًا، إلى أن عفيفي كاد ألا يفرق بين اللاهوت والناسوت عند الحلاج عنهما عند ابن العربي في قوله: «فبالإنسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يعرف الحق وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره.» ثم يتابع عفيفي: وإلى هذا المعنى أيضًا أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتَيه المشهورَين «سبحان مَن أظهر ناسوته …» لكن عفيفي، بعد أن تورط في تقرير الفرق بين المفهومين ما لبث أن استدرك تناقضه فراح يصطنع التعمق ويتكلف الدقة بقوله: «غير أننا يجب ألا نغفل عن الفرق الكبير بين الحلاج وابن عربي: فالأول حلولي يرى أن الله قد يحل في الإنسان فتظهر بذلك كمالاته وأسرار ألوهيته. أما الثاني فاتحادي يرى أن الإنسان هو المظهر الكامل الدائم لله، وأنه لا فرق بين ناسوت ولاهوت إلا بالاعتبار.»

نقول: إن هذا التناقض الذي وقع فيه عفيفي، ثم هذا التدارك يبينان عن اعتراف جزئي بوحدة المفهومين عند الحلاج وابن العربي. ودليلنا على ذلك حجر الزاوية الذي شيد عليه الحلاج رؤيته لله والإنسان وهو قوله: «إن لم تعرفوه فاعرفوا أثره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأنني ما زلت أبدًا بالحق حقًّا.» فالحق، من هذا المنظور، مؤثر وأثر، باطن غير مرئي، وظاهر مرئي، أو بعبارة أخرى: لاهوت وناسوت. والعلاقة بينهما، أي بين الحق في مظهريه، هي كما حددها الحلاج نفسه بقوله: «ما انفصلت البشرية عنه ولا اتصلت به»، كما مرَّ معنا من قبلُ. وهو، بهذه الصيغة، يوازن بين قيمتي المفارقة والبطون، مما ينفي عنه القول بالحلول نفيًا قاطعًا، هذا إذا فهمنا الحلول أنه امتصاص المبدأ في تجلياته على نحو ينفي عنه صفة المفارقة والإطلاق.

١٧

وبعد، ماذا يقول الصوفية في تفسير «سبحان مَن أظهر ناسوته …»؟

يقول أبو بكر الشبلي: إن هذا توحيد الخاصة. وهو وجود عظمة وحدانية الله تعالى وحقيقة قربه، بذهاب حس العبد وحركته لقيام الله تعالى فيما أراد منه … وهو أن يوحدك الله ويفردك له ويشهدك ذلك ويغيبك به عما يشهدك، وهذا صفة توحيد الخاصة.٣٣

نقول: إن هذا التفسير يعبر عن امتصاص التجلي في المبدأ، ونعني به «الفناء الصوفي»، أو «وحدة الشهود»، من حيث إن الحق تعالى يشهد لنفسه بنفسه بالوحدانية، فيكون الخلق محوًا في مقام العيان. بينما تتحدث أبيات الحلاج عن ظهور الحق في مظهر الخلق، أو عن تجلي اللاهوت في حجاب الناسوت، خصوصًا وأن الأبيات تتحدث عن خلق الله لآدم على سبيل الحكاية، لا على سبيل الاتحاد الصوفي الذي يتم عادة بصيغة المتكلم، فيكون الحق هو المتكلم حقيقة والصوفي مجازًا أو رسمًا.

وهناك شرح آخر جاء فيه: «ما أطهر مَن أوجد الله ناسوته، ويعنون به آدم (ع) الذي أظهر فيه سناء الربوبية، وحقائق أنوار القدرة وجلال لطائف الصنع والحكمة، وغضاضة العقل. ومن هذه المشكاة تجلت الفطرة البديعة بصورة آدم للعارفين صنائع العرفان القديم دون مخالطة أو ممازجة مع التنزيه عن أشكال الحدثان.»٣٤
غير أننا لا نطمئن إلى هذا الشرح الذي لا يشرح شيئًا، بل يزيد الأبيات غموضًا فوق غموضها. وفيما يلي محاولتنا المتواضعة لشرح الأبيات الثلاثة التي أُشكل فهمها على بعض الدارسين حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب: فمن قائل إن الحلاج عبَّر بها عن مذهبه في الحلول، كما يقول الدكتور عفيفي، ومن قائل إن الحلاج يريد بها آدم والمسيح، كما يحلو لإبراهيم شكر الله أن «يقرأ نفسه» من خلال قراءته لهذه الأبيات.٣٥ نحن نرى أن مفتاح تفسير هذه الأبيات هو معرفة المقصود من اصطلاحي اللاهوت والناسوت خلافًا لما ذهب إليه عفيفي، نحن نفهم اللاهوت أنه «الذات الإلهية في تجلياتها الأسمائية «والناسوت» انعكاس التجليات الأسمائية متفرقة في أشياء العالم ومجتمعة في الإنسان.» بعبارة أخرى، اللاهوت هو التجليات الأسمائية مطلقة»، والناسوت هو التجليات نفسها متعينة في الإنسان. أو إن الناسوت هو صور هذه التجليات نفسها في الزمان والمكان.

فتكون العلاقة بين اللاهوت (التجليات الأسمائية) وبين الناسوت (انعكاس التجليات الأسمائية) كالعلاقة بين الشمس وانعكاسها على صفحة الماء. فالشمس موجودة في الماء وغير موجودة فيه في وقت واحد: موجودة في انعكاسها، في صورتها، وغير موجودة في ذاتها، على صفحة الماء. كذلك نقول: إن الناسوت، بما هو انعكاس للتجليات، هو اللاهوت وغير اللاهوت في وقت واحد. أو نقول إن الناسوت هو اللاهوت في الزمان والمكان واللاهوت هو الناسوت في المطلق.

على ضوء هذه المقدمة القصيرة، نشرح الأبيات الثلاثة على النحو التالي:

سبحان مَن (سبحان الله الذي) أظهر ناسوته (محل انعكاس تجلياته) سر سنا لاهوته الثاقب (حقيقة أنوار تجلياته الأسمائية في خلقه للإنسان متمثلًا في آدم). ثم بدا (ناسوته أي آدم) لخلقه (من الملائكة المأمورين بالسجود له) ظاهرًا في صورة الآكل والشارب بعد تعين التجليات الأسمائية في صورة آدم وقول الله تعالى له ولزوجه: يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا … (الآية). حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب (حتى لقد رآه خلقه من الملائكة رؤية العين في مظهر الناسوت بما هُم غير مؤهلين للرؤية الصوفية!)

وعلى هذا يكون الحق في تجلياته الأسمائية لاهوت الإنسان، والإنسان من حيث هو انعكاس هذه التجليات، ناسوت الحق وناسوت الحق حق، ولذلك قال الحلاج: أنا الحق!

١  L. Massignon, La Passion De Hallag, Tome III, Paris 1975, p. 14.
٢  أخبار الحلاج، تحقيق ماسنيون، و، ب، كراوس، باريس ١٩٣٦م. (أعادت طبعه بالآفست مكتبة المثنى ببغداد) المقدمة الفرنسية، ص٤٩.
٣  شرح الدكتور أبو العلا عفيفي على فصوص الحكم لابن العربي، بيروت، بلا تاريخ، المقدمة ص٣٥.
٤  أبو العلا عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، بيروت، بلا تاريخ، ص٢٢٠.
٥  العهد العتيق: ٢٦-٢٧.
٦  مقدمة عفيفي على فصوص الحكم ص٣٥.
٧  عفيفي، التصوف الثورة الروحية ص٧٨.
٨  مقدمة عفيفي على فصوص الحكم ص٣٥.
٩  نفس المرجع والصفحة.
١٠  التصوف الثورة الروحية ص٧٨-٧٩.
١١  مقدمة عفيفي على فصوص الحكم ص٣٥-٣٦.
١٢  ابن عربي، فصوص الحكم، ج١، ص١٣٨.
١٣  مقدمة عفيفي على فصوص الحكم ص٣٥-٣٦.
١٤  شرح عفيفي على فصوص الحكم ص١٨٩-١٩٠.
١٥  الدكتور عبد الرحمن بدوي تاريخ التصوف الإسلامي، الكويت ١٩٧٥م، ص٨٨.
١٦  سدني سبنسر، التصوف في أديان العالم، المملكة المتحدة ١٩٦٣م ص٣٠٦.
١٧  نفس المرجع السابق، ص٣٢٨.
١٨  أخبار الحلاج ص٨١.
١٩  نفس المرجع السابق، ص٨٣.
٢٠  نفس المرجع ص١٤.
٢١  نفس المرجع ص١١٧.
٢٢  النفري، المواقف والمخاطبات، شرح آرثر آربري، لندن ١٩٣٥م، موقف القرب ص٣.
٢٣  مقدمة عفيفي على فصوص الحكم ص٣٥.
٢٤  الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، جمع محمد المدني، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م/١٣٨٧ﻫ، مصر، ص٦٦.
٢٥  مجلة «عالم الفكر» المجلد السادس، العدد الثاني ١٩٧٥م، ص٤٨.
٢٦  أخبار الحلاج ومعه الطواسين، مصر ١٩٧٠م، ص١٠٠.
٢٧  غرديه وقنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، نقله إلى العربية الشيخ الدكتور صبحي الصالح والأب الدكتور فريد جبر، بيروت ١٩٦٧م، الجزء الثاني ٣٠٣ -٣٠٤ و٣٠٩ -٣١٠ و٣١٧.
٢٨  نفس المرجع السابق، ص٣٢٠.
٢٩  أخبار الحلاج، تحقيق ماسنيون وكراوس، ص٨.
٣٠  الدكتور عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام، فصل المنحنى الشخصي لحياة الحلاج مصر ١٩٦٤م، ص٦٦.
٣١  غرديه وقنواتي، ج٢، ص٣٠٩ -٣١٠.
٣٢  نفس المرجع السابق، ص٣٠٤.
٣٣  الدكتور مصطفى كامل الشيبي، شرح ديوان الحلاج، بغداد/بيروت ن ١٣٩٤ﻫ/١٩٧٤م، ص١٥٣.
٣٤  نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
٣٥  مجلة أدب، بيروت، العدد الخامس، شتاء ١٩٦٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤