اللاهوت والناسوت عند الحلاج
(١) اللاهوت والناسوت عند الحلاج
١
والدكتور عفيفي، إذ يبحث في «مصادر» التصوف الإسلامي جريًا على عادة المستشرقين وولعهم بردِّ الثقافة الإسلامية إلى مصادر غير إسلامية، يقرر أن التصوف الإسلامي كان لبعض العقائد المسيحية أثر فيه: «فقد قال الصوفية بالحلول بالمعنى المسيحي كالحسين بن منصور الحلاج الذي يقول:
٢
٣
لكن الحلاج لم يوضح ماذا يعني باللاهوت والناسوت، كما فعل الشيخ الأكبر، مما جعل الدكتور عفيفي يتعسف في التماس الفرق بين فهم ابن العربي وفهم الحلاج لهما. يقول عفيفي في شرح قول ابن العربي:
إنك إذا تكلمت عن الإنسان الذي هو الإنسان الكبير أو العالم فاعلم أنه عين الذات الإلهية لا غيرها، وهو (الإنسان) عينها (عين الذات) من حيث هو (الإنسان) ظاهرها (ظاهر الذات) وهي (الذات الإلهية) باطنه (باطن الإنسان). أو إن شئت فقل إن العالم عين الأسماء الإلهية التي هي عين الذات. (أو تقول):
(٢) إنك إن تكلمت عن الإنسان الذي هو الجنس البشري فاعلم أنه، من حيث كمال صورته التي تتجلى فيه جميع كمالات الحق، عين الحق التي يرى بها نفسه في مرآة الوجود. يتابع عفيفي: وقد أشار إلى هذا المعنى ذاته في الفصل الأول في قوله (يريد الشيخ الأكبر): «لمَّا شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئتَ قلتَ أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله فيه، لكونه متصفًا بالوجود، ويظهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة إلخ …» يتابع عفيفي: فبالإنسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يعرف الحق، وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره: فهو عينه لأنه أكمل مجلًى من مجاليه، وهو له بمثابة العين الباصرة التي يدرك بها صاحبه ما حوله من الوجود. يقول عفيفي وإلى هذا المعنى أيضًا أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتيه المشهورين:
٤
قبل أن ننتقل إلى موقف الدكتور عبد الرحمن بدوي من الحلاج، نحب أن نؤكد أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج هما نفس اللاهوت والناسوت عن ابن العربي ما دام كلاهما لا يقصرانه على شخص بعينه، بل يجعلانهما عامَّين في كل إنسان، ويزيد الشيخ الأكبر على الحلاج أن جعلهما موجودَين في كل شيء زيادة على الإنسان.
إن ما يعنينا من كلام الدكتور بدوي المتقدم ليس وجود فرقة صوفية تقول بالحلول أو لا تقول به، بل تقريره أن الحلاج حلولي.
٥
- أولًا: الحلاج يذهب مذهب الحلولية.
- ثانيًا: إن الحلاج بنى مذهبه في الحلول على أثر توراتي يقول إن الله خلق آدم على صورته.
- ثالثًا: إن الحلاج أخذ الحلول عن المسيحية في تقريره اجتماع اللاهوت والناسوت في الإنسان عمومًا، ولم يقصرهما على إنسان بعينه، بل جعلهما عامَّين في النوع البشري.
- رابعًا: إن اللاهوت والناسوت عند الحلاج هما غيرهما عند ابن العربي.
٦
لنأخذ في معالجة هذه النقاط الأربع واحدة واحدة بادئين بأولاها، فنقول: إن القول بالحلول أو عدمه يتوقف على ما إذا كانت مفارقة المبدأ الإلهي لتجلياته المتمثلة في الإنسان والعالم مطلقة أو نسبية. فإن كانت المفارقة مطلقة كان كل مساس بها حلولًا، وإن كانت نسبية أمكننا النظر في ما ورد على لسان هذا الصوفي أو ذاك مما يستشم منه رائحة حلول إن كان لم يقل بخلافه. ومعيارنا في هذا أنه لا يصح اعتبار المبدأ مفارِقًا لتجلياته مفارَقة مطلقة، كما لا يصح اعتباره كامنًا بصفة مطلقة. إذ يترتب على إضفاء صفة الإطلاق على مفارقة المبدأ لتجلياته القول بوجود مطلقين: الله والعالم، وهذا يؤدي إلى القول بوجود «إلهَين»، مما يتناقض مع عقيدة التوحيد الإسلامية. كما يترتب على ذلك أيضًا القول بأن العالم يحد من لا نهائية الألوهة. ويترتب على إضفاء صفة الإطلاق على كمون المبدأ الإلهي في تجلياته القول بمطلقية العالم من دون الله، وهذا وثنية، إذ ليست الوثنية غير إضفاء صفة الإطلاق على النسبي!
ونحب أن نؤكد منذ البداية، منعًا لكل التباس أو سوء فهم، أن كلًّا من المفارقة والبطون قيمة نفسية قائمة في داخل الإنسان تعين موقفه من الألوهة من حيث استشعاره القرب أو البُعد. ونحن نذهب إلى أن هاتَين القيمتَين موروثتان في بنية الإنسان النفسية. فإذا قلنا إن الله كامن أو باطن في الإنسان عمومًا، وفي هذا الإنسان أو ذاك خصوصًا؛ فلا نعني بذلك أنه كامن فيه أنطولوجيًّا، بل تفتحًا أكبر لقيمة البطون على حساب قيمة المفارقة والعكس صحيح أيضًا.
وبما أن العلاقة جدلية بين القيمتَين، كانت كلٌّ منهما، مأخوذة على حدة، قيمة نسبية، وكانت كل منهما قابلة لأن تطفو على السطح أو تنزل إلى العمق في محل الأخرى. بعبارة أخرى، لكلٍّ منهما ظاهر وباطن: فظاهر الكمون المفارقة، وباطن المفارقة الكمون. أو إن شئتَ قلت: تحت كل مفارقة بطون، أو تحت كل بطون مفارقة. يترتب على ذلك اختلاف موقف الإنسان من الألوهة بين أن يكون البطون هو الغالب أو تكون المفارقة هي الغالبة.
والمفارقة والبطون، بما هما قطبان نفسيان مهمتهما إقامة التوازن النفسي بين تلمس القرب واستشعار البُعد في آن واحد، جاء الإسلام، كتابًا وسُنة، مشتملًا على هذَين الجانبَين، تحقيقًا لهذا التوازن في حياة الإنسان الداخلية. والمفارقة والبطون، شأنهما كشأن كل طرفين، حقيقان بأن ينقلب أحدهما إلى ضده إذا ما وصل إلى نهايته العظمى.
٧
كذلك يتوقف القول بالحلول أو عدمه على نظرتنا إلى الإنسان: أهو محدود بجسمانيته أم أن فيه بُعدًا مفارقًا يتجاوز حدود هذه الجسمانية. فعلى القول الأول، تكون كل صلة له بعالم الغيب هي من قبيل الحلول، وهذا يترتب عليه القول بإبطال الوحي والنبوَّات والرسالات. وعلى القول الثاني، أي القول بأن في الإنسان بُعدًا مفارقًا أو ميتافيزيقيًّا، يقف الإنسان في نقطة المركز بين الله والعالم، يتلقى الوحي والإلهام منه تعالى ليقوم بأعباء «الخلافة» التي كلفه الله تعالى القيام بها عندما أسجد له الملائكة. إن البُعد المفارق في الإنسان يجد تعبيره في كمون الألوهة فيه!
٨
قلنا، قبل قليل، إن الإسلام، كتابًا وسُنة، جاء مشتملًا على جانبي المفارقة والبطون، تحقيقًا للتوازن، في نفس الإنسان، وتعبيرًا عن هاتين القيمتَين في نفس الوقت. وهذا يدعونا إلى التمييز بين إسلام النص والإسلام في سيره التاريخي. والنص ما إن يتفاعل، من خلال الإنسان، مع الواقع التاريخي (عالم الزمان والمكان) حتى يطرأ عليه التعديل والتبديل: يسعى النص إلى إقامة التوازن في حياة الجماعة والأفراد، وهؤلاء يكيفونه فيما يحاولون التكيف معه. فالنص أبدًا ما بين تكييف وتكيف، وكذلك موقف الجماعة والأفراد منه أبدًا ما بين تكييف وتكيف. وهذا التكييف والتكيف المتبادلان ليس من الضروري أن يجريا بصورة واعية، بل هما يجريان في «الخافية» (اللاشعور) في الأعم الأغلب. ونحن نعلم أن ليس من طبيعة النفس البشرية عمومًا أن ترتقي، سلوكًا وفهمًا، إلى مستوى النص، إذ هو حالة مثالية سكونية: أيسر عليه أن تنحدر به وأن تهمله فلا تعمله. حتى إذا اختل التوازن في قلب الجماعة اختلالًا يصل بأحد طرفيه إلى نهايته القصوى، نشأت الكوارث والمحن لتصحيح الأوضاع، وعاد النص لكي يحتل مكانته من التقدير والاعتبار!
٩
لقد جاء الإسلام التاريخي مجدِّدًا للإبراهيمية الحنيفية، والوثنية العربية في أحط دركات انحدارها (أي، عند نهايتها القصوى) حتى لقد باتت الأشياء أعز مكانة من الإنسان وأرفع منه منزلة وكلما كانت الألوهة حسيَّة كان أدعى إلى الاستخفاف بها: (أرب يبول الثعلبان برأسه؟!) وكانت قيم الأخلاق التي تنضح عن الجماعة تعبِّر عن مستوى هذه الألوهة من ولوغ في ملذات الحواس وتمرغ في وحول الغرائز، وما يجره ذلك على الجماعة من تباغض وتناحر. لذلك لم يكن بد أمام الإسلام التاريخي من أن يُشهر، لأسباب لعلها مرحلية، سلاح الألوهة المجردة في مقابلة الحسية، وأقصى المفارقة في وجه أدنى المقاربة. فانقلب الحس تجريدًا، والبطون مفارقة، والقرب بُعدًا. كان هذا النوسان يجري في أعماق الإنسان، وفي معزل عن واعيته الظاهرة: حوادث نفسية تجري في «خافية الجماعة»، ما لبثت حتى اخترقت حجاب الواعية على هيئة عقائد وأفكار وتيارات ومدارس ومذاهب نشعر أن المنهج التاريخي وحده غير كافٍ لتعليلها. ولعل من أسرار انتصار الدعوة الإسلامية وانتشارها الصاعق السريع، أنها جاءت تنقل ما بأعماق «الخافية الجامعة» إلى سطح الواعية. نقول هذا دون أن نغفل عن الجانب الأهم والأساسي: تعبير الدعوة الإسلامية عن العقل العربي في معانقته للمطلق واستشرافه لحقيقة الوجود!
لقد طفا على سطح الحياة الثقافية الإسلامية الموقف الذي اضطر الإسلام إلى اتخاذه بحكم الضرورة التاريخية والنفسية — أعني به موقف المفارقة المطلقة، أو تنزيه الألوهة تنزيهًا مطلقًا، أو استشعار البُعد المطلق بما هو وظيفة نفسية، بسبب مواجهته للوثنية الجاهلية المغرقة في الحس. ولقد استمر هذا الموقف، بحكم قوة التقليد مؤيِّدًا بما كان عليه المسلمون في الصدر الأول، وربما كان هذا الموقف هو الأساس فيما عُرف بمرحلتي نفي الإنسان لإثبات الألوهة، ونفي الألوهة لإثبات الإنسان. فكما أن الحق ينفي الخلق لإثبات نفسه، كذلك إن الخلق ينفي الحق لإثبات نفسه (ولا نريد بالحق هنا «الحق بما هو حق بذاته»، بل صور تجلياته المنعكسة على مرآة القلب، وهي صور ينسخ اللاحق منها السابق، فهي أبدًا ما بين فناء وبقاء. والنفي والإثبات المتبادلان بين الحق والخلق لا يعدوان كونهما حوادث نفسية تجري في داخل الصوفي!) وما بين الإثبات والنفي في تعاقبهما مثل ما بين الحياة والموت: صيرورة في وحدة وجودية أشبه ما تكون بالبحر يعلوه الموج لكنه ما يلبث حتى يتلاشى فيه. وهي صيرورة وجودية قد يترجمها الصوفي إلى عقيدة في «وحدة الوجود»، وهي ما يعبر عنه في المصطلح الصوفي ﺑ «البقاء بالحق». ونحن نرى أن هذا البقاء بالحق ليس بقاءً للخلق بالحق وحسب، وإنما هو بقاء للحق (صور تجلياته) بالخلق أيضًا، وفي نفس اللحظة. بينما حال التنافي، وهي حال «وحدة الشهود»، هي حال فناء الخلق بالحق، وفي نفس الوقت فناء الحق بالخلق. وهذا الطرف من المعادلة يسكت عنه الصوفية ولا يظهر إلا في الشطح!
١٠
عودًا إلى ما يزعمه البعض من «حلولية» الحلاج، نقول: إن الحلاج لم يكن قطُّ حلوليًّا. فالحلول، بمعنى أن الله متواحد بالعالم تواحدًا تامًّا وحصريًّا في الزمان والمكان، أمر أبعد ما يكون عن مفهوم الصوفي. فالحقيقة الإلهية أو النهائية، في نظر صوفية جميع الأديان. مفارقة جوهريًّا لعالم الزمان والمكان. لكن هذه المفارقة يصحبها عمومًا توكيد يساويها على البطون الإلهي، من حيث إن الحقيقة الإلهية هي الجوهر الأعمق لكل شيء. ثم إن الكمون الإلهي ينطوي على وحدة داخلية معينة بين الأزلي ودائرة الكائن المحدود — على مواحدة معينة بين الإلهي وأشياء الزمان والمكان. وهذه المواحدة هي التي أعطتنا الانطباع بالحلول، مع أن المواحدة هي غير «الوحدة أو الذات» الصرفة والخالصة. ويبدو هذا على أكثر ما يكون وضوحًا في نطاق العلاقات البشرية. إن اعتبار الشخصية ممتنعة عن التواصل بحكم الفطرة لهو أمر في منتهي السطحية. فالشخصية تحمل بين جنباتها القدرة على الرحمة والعطف الشديد مشاركة حقيقية في معاناة الآخرين حتى لتصبح هذه المعاناة معاناتنا. في العصور اللاحقة ﺑ «عقيدة السلفية»، الذي تميز باعتبار الألوهة مفارقة للحوادث مفارقة مطلقة؛ مما أدى إلى انكفاء الآيات الأحاديث المتضمنة لمعاني القرب أو الكمون بعيدًا عن الواعية، وصارت تئوَّل تأويلًا يفرغها من مدلولاتها، واحتلت هذه التأويلات مكانة لا تقل قدسية عن قدسية النص بادعاء أنها منقولة عن السلف وأنه لا يحق لغير هؤلاء أن ينازعهم فهمهم للآيات والأحاديث — كل ذلك لمصلحة المفارقة المطلقة!
١١
ويبدو أن قيمة المفارقة اقتضت من تاريخ الإسلام ثلاثة قرون حتى وصلت إلى نهايتها القصوى، لكي تنقلب من بعدُ إلى ضدها المكافئ المعدل الذي تمثل، في العالم الخارجي، بالتصوف بما هو حركة اجتماعية، تحقيقًا للتوازن النفسي في قلب الجماعة المسلمة، ذلك التوازن الذي أصابه الخلل نتيجة للمغالاة في قيمة المفارقة — هذا، ناهيك عن الدعوات الغالية التي كانت تقول بألوهية هذا الإمام أو ذاك!
فقولة الحلاج «أنا الحق» كانت النقيض المكافئ للاشيئية الإنسان أو ﻟ «عدم الخلق!» فلئن كان وجود الحق يقتضي عدم الخلق، لقد كان الرد المناسب الذي يعدل من غلو هذا الموقف قولة «أنا الحق!» التي تعني أيضًا، في جملة ما تعني، «عدم الحق!» ولئن كانت الوثنية، بما هي اغتراب الألوهة في الأشياء، تمثل نفي الألوهة، لقد آل الأمر بالموقف الإسلامي التاريخي، بما هو اغتراب الإنسان في الألوهة، إلى نفي الإنسان. ولئن كان هذا الموقف، أعني الموقف التاريخي، في بُعده الظاهري، ينفي الإنسان في سبيل إثبات الألوهة، لقد انتهى الموقف الصوفي، وهو من الإسلام بُعده الباطني، إلى نفي الألوهة في سبيل إثبات الإنسان. إلا أن أيًّا من هذين الموقفين لا يحقق التوازن النفسي المطلوب. لذلك لا بد من اجتماعهما معًا في صيغة تعيد إلى النصوص التي اشتملت على معاني القرب اعتبارها؛ بحيث يتم الاعتراف بكلتا صفتَي المفارقة والبطون في علاقة جدلية تكون فيها الألوهة مفارقة وغير مفارقة في نفس الوقت، باطنة وغير باطنة في نفس الوقت. أو إن شئتَ قلتَ: باطنة في مفارقة، أو مفارقة في بطون!
والحلول، كما نفهمه، هو امتصاص المبدأ في تجلياته على نحو ينفي عنه صفة الإطلاق والمفارقة. والحلول، على هذا المفهوم، لم يقُل به أحد من الصوفية على ما نحسب، ولم يقُل به الحلاج؛ لأنه يتنافى مع طبيعة التجربة الصوفية التي يتحقق الصوفي من خلالها بصفة المفارقة تحققًا تجريبيًّا. وإذا أخذنا نحن بمعيار الاعتراف بصفة المفارقة إلى جانب القول بصفة الكمون الإلهي في الإنسان والعالم، أمكننا التعرف على ما إذا كان الحلاج أو غيره قد قال بالحلول أم لم يقُل.
١٢
١٣
صحيح إن الأثر التوراتي الذي أشار إليه عفيفي قد جرى تداوله كثيرًا في أوساط الصوفية، ونحن لا ننفي تأثيره، لكننا ننفي أن يكون هو المؤثر الوحيد كما يريدنا عفيفي أن نصدِّق.
ثم ماذا يعني فعل الخلق بحد ذاته؟ أليس يعني أن تصير الذات موضوعًا للخالق، وفي نفس الوقت تبقى الذات ذاتًا والموضوع موضوعًا على صعيد من البطون والكمون مع ذلك؟ لماذا يحب الفنان مبدعاته؟ أليس لأنها ذاته، وقد وجدت له موقعًا في العالم الخارجي. فمبدعاته هي هو، وفي نفس الوقت ما هي هو! إننا إذ نحب ما نبدع؛ فلأننا نبدع ما نحب!
فالصورة ليست هي الأصل وتجليات الذات ليست هي الذات. إنما الصورة انعكاس فعل التجلي، أي هي أثر التجلي، وأثر الحق حق. ولما قال الحلاج قولته المشهورة التي قامت من أجلها الدنيا ولم تقعد — لما قال:
«أنا الحق!» لم يكن يعني غير هذا. ولما قالها عللها بنفس التعليل المتقدم:
لقد كان الحلاج يعبر بهذا عن سعي النفس المسلمة إلى التوازن الداخلي الذي أخل به الاقتصار على قيمة المفارقة، والمبالغة بها إلى حد إعطائها صفة الإطلاق. فلما وصلت إلى طرفها الأقصى (نفي الإنسان في سبيل إثبات الألوهة) انقلبت إلى طرفها الأقصى المضاد (نفي الألوهة في سبيل إثبات الإنسان)، وصولًا إلى النقطة المتوسطة بين الأقصيين (إثبات الألوهة في الإنسان وإثبات الإنسان في الألوهة) وهو ما يمكن أن نعبر عنه بوجود الخلق بالحق، ووجود الحق بالخلق، مع التوكيد على نسبية الخلق ومطلقية الحق، لأن المساواة لا يمكن أن تكون تامة من كل وجه: فلله المركز الأول ولخليفته المركز الثاني، أو قل إن العلاقة بين الخالق والمخلوق هي كالعلاقة بين الكل والجزء.
١٤
نأتي الآن إلى النقطة الثالثة، وهي تقرير الدكتور عفيفي أن الحلاج أخذ الحلول عن المسيحية في قوله باجتماع اللاهوت والناسوت في الإنسان عمومًا ولم يقصرهما على المسيح وحده كما فعلت المسيحية. تثير هذه النقطة عدة مسائل أهمها: هل المسيحية بحد ذاتها ديانة حلولية أم هي حلولية من وجهة نظر إسلامية؟ ثم أي المسيحية أخذ عنها الحلاج مذهبه في الحلول — افتراضًا بأنه أخذ الحلول عن المسيحية أهي مسيحية مجمع خلقدونية أم مسيحية النساطرة؟
لسنا هنا في صدد تقرير ما إن كانت المسيحية بحد ذاتها حلولية أم لا، فنحن غير مؤهلين، من موقع إسلامي، للبت بهذا الموضوع الدقيق. فللمسيحية لاهوتها وكهنوتها، وهو صاحب الاختصاص في شرح العقيدة وإزالة ما يعلق في الأذهان عنها من فهم ترى أنه غير صحيح، وتثبيت ما ترى أنه الصحيح.
إنَّا نعلم أن المسيح، ابن الله الوحيد، هو رب واحد.
في طبيعتَين بدون امتزاج ولا تغيير، وبدون تقسيم.
وتفريق، ودون أن يلغي هذا الاتحاد تمايز الطبيعتين.
إذَن الطبيعتان الإلهية (اللاهوت) والبشرية (الناسوت) غير ممتزجتين وغير متفرقتين وغير منقسمتَين، في نفس الوقت، لكنهما متحدتان، واتحادهما لا يلغي تمايز أحدهما عن الأخرى، بل تبقى خواص كل منهما على حالها، أي لا مجال هنا للقول ﺑ «الفناء الصوفي». ولسوف نرى، بعد قليل، أن الحلاج متناقض حيال طبيعة العلاقة بين اللاهوت والناسوت، وأن أحدهما وهو اللاهوت، يفني الآخر ويلغيه.
أكثر من ذلك، هناك وجه آخر للتناقض حين يقرر الحلاج أن الناسوت ناسوته وهو (ناسوت الحلاج)، وأن اللاهوت لاهوت الله — هذا في مخاطبته لله تعالى. وكان قرر في الأبيات الثلاثة (سبحان مَن أظهر ناسوته … أن كلًّا من اللاهوت والناسوت هما لله تعالى!) ونحن نعلم أن المسيحية تعلم أن اللاهوت والناسوت هما لأقنوم «الابن»، «الكلمة» المتجسد، وأنه لا دخل لأقنوم «الآب»، ولا لأقنوم الروح القدس، فيهما.
- أولًا: المسيحية تقول بأن اللاهوت والناسوت غير ممتزجين، والحلاج يقول مرة إنهما ممتزجان ومرة يقول إنهما غير ممتزجين.
- ثانيًا: إن اتحاد اللاهوت والناسوت لا يلغي أحدهما الآخر في المسيحية (امتناع الفناء الصوفي)، بينما يقول الحلاج باستهلاك الناسوت في اللاهوت.
- ثالثًا: يقرر عفيفي أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج «طبيعتان لا تتحدان أبدًا، بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء»، كما مرَّ معنا في بداية هذا البحث، بينما تذهب المسيحية إلى أن اللاهوت والناسوت «متحدان»، لكنهما «غير ممتزجين»!
١٥
١٦
نأتي الآن إلى النقطة الرابعة، وهي النقطة التي حاول فيها الدكتور عفيفي أن يفرق بين مفهوم اللاهوت والناسوت عند الحلاج عن مفهومها عند ابن العربي. وكنا ذكرنا في مطلع هذا البحث أن اللاهوت والناسوت عند الحلاج، كما يذهب عفيفي «طبيعتان في الإنسان لا تتحدان أبدًا بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء»، على حين أنهما عند ابن العربي «مجرد وجهين لحقيقة واحدة، إذا نظرنا إلى صورتهما الخارجية سميناها ناسوتًا، وإن نظرنا إلى باطنها وحقيقتها سميناها لاهوتًا.» يتابع عفيفي: «فصفتا اللاهوت والناسوت، صفتان متحققتان لا في الإنسان وحده، بل في كل موجود من الموجودات، مرادفتان لصفتي الظاهر والباطن، أو لكلمتي الجوهر والعرض.» وكنا أشرنا، في مطلع هذا البحث أيضًا، إلى أن عفيفي كاد ألا يفرق بين اللاهوت والناسوت عند الحلاج عنهما عند ابن العربي في قوله: «فبالإنسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يعرف الحق وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره.» ثم يتابع عفيفي: وإلى هذا المعنى أيضًا أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتَيه المشهورَين «سبحان مَن أظهر ناسوته …» لكن عفيفي، بعد أن تورط في تقرير الفرق بين المفهومين ما لبث أن استدرك تناقضه فراح يصطنع التعمق ويتكلف الدقة بقوله: «غير أننا يجب ألا نغفل عن الفرق الكبير بين الحلاج وابن عربي: فالأول حلولي يرى أن الله قد يحل في الإنسان فتظهر بذلك كمالاته وأسرار ألوهيته. أما الثاني فاتحادي يرى أن الإنسان هو المظهر الكامل الدائم لله، وأنه لا فرق بين ناسوت ولاهوت إلا بالاعتبار.»
نقول: إن هذا التناقض الذي وقع فيه عفيفي، ثم هذا التدارك يبينان عن اعتراف جزئي بوحدة المفهومين عند الحلاج وابن العربي. ودليلنا على ذلك حجر الزاوية الذي شيد عليه الحلاج رؤيته لله والإنسان وهو قوله: «إن لم تعرفوه فاعرفوا أثره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأنني ما زلت أبدًا بالحق حقًّا.» فالحق، من هذا المنظور، مؤثر وأثر، باطن غير مرئي، وظاهر مرئي، أو بعبارة أخرى: لاهوت وناسوت. والعلاقة بينهما، أي بين الحق في مظهريه، هي كما حددها الحلاج نفسه بقوله: «ما انفصلت البشرية عنه ولا اتصلت به»، كما مرَّ معنا من قبلُ. وهو، بهذه الصيغة، يوازن بين قيمتي المفارقة والبطون، مما ينفي عنه القول بالحلول نفيًا قاطعًا، هذا إذا فهمنا الحلول أنه امتصاص المبدأ في تجلياته على نحو ينفي عنه صفة المفارقة والإطلاق.
١٧
وبعد، ماذا يقول الصوفية في تفسير «سبحان مَن أظهر ناسوته …»؟
نقول: إن هذا التفسير يعبر عن امتصاص التجلي في المبدأ، ونعني به «الفناء الصوفي»، أو «وحدة الشهود»، من حيث إن الحق تعالى يشهد لنفسه بنفسه بالوحدانية، فيكون الخلق محوًا في مقام العيان. بينما تتحدث أبيات الحلاج عن ظهور الحق في مظهر الخلق، أو عن تجلي اللاهوت في حجاب الناسوت، خصوصًا وأن الأبيات تتحدث عن خلق الله لآدم على سبيل الحكاية، لا على سبيل الاتحاد الصوفي الذي يتم عادة بصيغة المتكلم، فيكون الحق هو المتكلم حقيقة والصوفي مجازًا أو رسمًا.
فتكون العلاقة بين اللاهوت (التجليات الأسمائية) وبين الناسوت (انعكاس التجليات الأسمائية) كالعلاقة بين الشمس وانعكاسها على صفحة الماء. فالشمس موجودة في الماء وغير موجودة فيه في وقت واحد: موجودة في انعكاسها، في صورتها، وغير موجودة في ذاتها، على صفحة الماء. كذلك نقول: إن الناسوت، بما هو انعكاس للتجليات، هو اللاهوت وغير اللاهوت في وقت واحد. أو نقول إن الناسوت هو اللاهوت في الزمان والمكان واللاهوت هو الناسوت في المطلق.
على ضوء هذه المقدمة القصيرة، نشرح الأبيات الثلاثة على النحو التالي:
سبحان مَن (سبحان الله الذي) أظهر ناسوته (محل انعكاس تجلياته) سر سنا لاهوته الثاقب (حقيقة أنوار تجلياته الأسمائية في خلقه للإنسان متمثلًا في آدم). ثم بدا (ناسوته أي آدم) لخلقه (من الملائكة المأمورين بالسجود له) ظاهرًا في صورة الآكل والشارب بعد تعين التجليات الأسمائية في صورة آدم وقول الله تعالى له ولزوجه: يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا … (الآية). حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب (حتى لقد رآه خلقه من الملائكة رؤية العين في مظهر الناسوت بما هُم غير مؤهلين للرؤية الصوفية!)
وعلى هذا يكون الحق في تجلياته الأسمائية لاهوت الإنسان، والإنسان من حيث هو انعكاس هذه التجليات، ناسوت الحق وناسوت الحق حق، ولذلك قال الحلاج: أنا الحق!