Wave Image
الفصل الخامس

الحلاج بين فناءين

(١) الحلاج بين فناءين

١

إذا أوغل الصوفي علوًّا في معارج القدس، ألفى نفسَه ملتزمًا بشريعة تتناسب مع الدرجة التي بلغها من الارتقاء الروحي، فما هو حَسن عند عامة الناس ربما لا يتقبله الصوفي بقبول حسن، وقد يعرض عنه ولا يأخذ به. وهُم، على العكس منه، قد يستقبحون من أفعاله أو أقواله ما قد يرونه منافيًا للشرع الذي ينظم علاقاتهم على الصعيد الذي يقفون عليه، وليس من طبيعة هذا الخلاف أن يصل إلى حل، أو إلى كلمة سواء يجتمع عليها الطرفان ما ظل الناس متفاوتين في المدارك والمواهب، وما ظلُّوا متباينين في العقول والأمزجة. فلا العامة بقادرة على ارتقاء السلَّم، ولا الصوفي بقادر على النزول إليهم، وإن كان بعضهم يرى أن من واجبه أن يفعل ذلك، ومن هنا سوء الفهم المتبادل بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة، أو بين فقهاء الظاهر وبين الصوفية. وقد عبَّر الحسن بن منصور الحلاج عن هذه الحقيقة، وهو على خشبة الإعدام، بكلمة بليغة فاقت كل ما قيل على لسان أبطال وقفوا مثل موقفه. وقد جاء فيها:
«… وهؤلاء عبادُك قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك وتقربًا إليك، فاغفر لهم؛ فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عني ما سترتَ عنهم لما ابتُليتُ بما ابتُليتُ. فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد …»١
والحلاج، كغيره من الصوفية المتحققين، اكتشف تجريبيًّا أن في الإنسان بُعدًا مفارقًا، أو إن شئتَ، بُعدًا ميتافيزيقيًّا. لكنه لم يشأ كغيره من الصوفية أن يتكتم على هذه الحقيقة، فصرَّح بها فيما أشار إليه غيره إيماءً ورمزًا، أو غلَّفها بعبارات لا يسع «البرَّاني» أن ينفذ إليها أو يحيط بمعناها، صونًا للدُّرِّ أن تطأه أقدام الخنازير، كما حذر من ذلك السيد المسيح.٢

٢

لم يكن الحلاج يختلف عن غيره من الصوفية من حيث تقيده بالشريعة: فقد التزم بها كما التزموا، ولم يحد عنها قيد شَعرة كما لم يحيدوا. وكان يُكثر من أداء النوافل إلى جانب ما فرضه الكتاب والسُّنة من عبادات وطاعات كما كانوا يكثرون. ولعلَّه في هذه الناحية لم يكن يقصر عنهم، بل ربما زاد عليهم.٣ لكنه يختلف عنهم من حيث اقتصارهم على تفسير تجربتهم من خلال فهم معمق للنصوص المقدسة — وهم بهذا إنما يضعون تجربتهم في منظور الشريعة ويدرجونها في إطارها؛ قد يختلفون عن العامة في استشفاف المعاني العميقة والرموز الدقيقة، لكنهم لا يكسرون الأطر ولا يخترقون الحواجز.٤ أي إنهم كانوا يعمدون إلى قياس التجربة بمقياس الشريعة، لا العكس. وعند هذه النقطة بالذات كان اختلاف الحلاج عن صوفية عصره: لم يكتفِ الحلاج، كما فعل غيره من الصوفية، بالذهاب عمقًا بل رام الامتداد اتساعًا؛ لقد ضاق ذرعًا بالشريعة بما هي «حدود» فيما كانت تجربته تتنامى وتتعاظم، وبالعبادات بما هي من «السوى». لقد أراد تطويرًا في الشريعة بمقدار ما تسمح له تجربته الميتافيزيقية بالتطوير.٥ وهذا ما أدى به إلى الاصطدام بالصوفية الذين نبذوه وتبرءوا منه، حتى لقد قال له الجنيد: أحدثت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك!٦

٣

ثم إن الحلاج لم يقف عند حدود اختلافه مع الصوفية بل تعدَّاه إلى الاصطدام بالبيروقراطية العباسية في دعوته إلى تأسيس «دولة الروح» على أنقاض الخلافة؛ فكان له اتصالات بالقرامطة وغيرهم من الأحزاب العلوية أو الهاشمية يستعين بهم على تحقيق غرضه. فاصطدم به «فقهاء السلطان» الذين حكموا بقتله وتحريق جثته، ولم يسلم من فتاواهم بكفره وزندقته حتى بعد مماته.٧

٤

مَن يقرأ ديوان الحلاج وأخباره، وما اشتملت عليه من منظوم ومنثور، يرعه مبلغ ما فيها من تناقض بين أقصى الإيمان وأقصى الكفر: الإيمان الذي تدعو إليه الشريعة، والكفر الذي أدَّت إليه تجربته. اسمعه يقول: «ليس على وجه الأرض كفر إلا وتحته إيمان، ولا طاعة إلا وتحتها معصية أعظم منها …»٨ و«مَن فرَّق بين الكفر والإيمان فقد كفر، ومَن لم يفرِّق بين الكافر والمؤمن فقد كفر.»٩ في المطلق، حيث تتألف المتناقضات وتتواحد الأضداد، لا كفر ثمة ولا إيمان، لا خير ولا شر، لا نور ولا ظلام — وبالتالي، لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار. واسمعه يستهين بالجنة والنار: «… وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك، أستحقر الراسيات، وأستخف الأرضين والسموات، وبحقك لو بعت مني الجنة بلمحة من وقتي، أو بطرفة من أحرِّ أنفاسي لما اشتريتها. ولو عرضت عليَّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك مني.»١٠ أما في النسبي؛ حيث الحجاب مسدل على الحقيقة، أو إن شئتَ قلتَ، على القلوب والبصائر، وحيث المتناقضات على احتدامها والمتباينات على تفرُّدها، فلا سبيل إلا الشريعة يعمل الإنسان على هدًى منها، ولا طريق إلا العبادات يتطهر بها من أوضار الحياة اليومية، ومن متطلبات الغرائز. كيف يعمل بالشريعة مَن هو في المطلق، والشريعة لم تشرَّع إلا لمَن هو لاصق بعالم الزمان والمكان؟ ولذلك نجده يعبر عن هذه الحال الفذة بهذين البيتين اللذين أردناهما أن يكونا محور البحث في هذه المقال:

يقول الحلاج:

إذا بلغ الحب الكمال من الفتى
وغاب عن المذكور في سطوة الذِّكر
يشاهد حقًّا حين يشهده الهوى
بأن صلاة العارفين من الكفر١١

٥

ابن تيمية في محاولته تفسير هذين البيتين، يميِّز بين ثلاثة أنواع من الفناء:
  • أولها الفناء الشرعي: وهو أن يفنى الصوفي بعبادة الله تعالى عن عبادة ما سواه، وبحبِّه عن حبِّ ما سواه، ويقول: إن هذا تحقيق التوحيد والإيمان.١٢
  • وثانيها، أن يغيب أو يفنى بالمذكور عن الذِّكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى مَن لم يكن ويبقى ما لم يزل. ويصف شيخ الإسلام هذا النوع من الفناء ﺑ «مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة.»١٣
  • وأما النوع الثالث من الفناء وهو «الفناء عن وجود السوى» بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فهذا هو قول الملاحدة أهل الوحدة (يريد: وحدة الوجود!).١٤
يعقِّب ابن تيمية على قول الحلاج «وغاب عن المذكور» بالقول إنه كلام جاهل، ولا يحمد أصلًا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذِّكر، لا أن يغيب عن «المذكور» في سطوات الذِّكر — اللهمَّ إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق، ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهدات الفاسد؛ فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ويختم ابن تيمية شرحه بقوله: ولَعمري أن مَن شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر.١٥

٦

ويؤيد ما ذهب إليه ابن تيمية تلميذه ابن قيم الجوزية في شرحه على «منازل السائرين» لأبي إسماعيل الهروي (ت ٤٨١ﻫ) بالقول: إن شهود العبودية أكمل وأتمُّ من الغيبة عنها بشهود المعبود. فشهود المعبودية والمعبود درجة الكمَّل. والغيبة بأحدهما عن الآخر للناقصين. فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص؛ فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص.١٦ ثم يقول: «حتى إن من العارفين مَن لا يعتد بهذه العبادة، ويرى وجودها عدمًا، ويقول هي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل، لا يعتد بها.»١٧ ومقتضى ذلك أن يشهد الذاكر الذِّكر والمذكر كليهما، لا أن يغيب عن ذِكره بمذكور، أو عن مذكوره بذِكره. ولعل وراء هذا الموقف الذي اتخذه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والسلفية عمومًا اعتبارهم أن الأصل هو عالم التكليف، عالم الزمان والمكان، أو عالم النسبي؛ لأن ما يهم الناس من هذا الإنسان أو ذاك ليس تحققه بالتجربة الميتافيزيقية، بما هي شأن يخصه وحده، بل ما ينعكس عليهم من فائدة أو مصلحة تؤدي إلى الحفاظ على نظام الأشياء بما هي عليه، دون أن يعكر عليهم صفوهم نزوة ثائر، أو صيحة خارجي — خصوصًا إذا كانوا غير قادرين، بحكم طبعهم أو تكوينهم، على تلبية النداء أو التجارب مع الصيحة!

٧

خلافًا لابن تيمية وابن قيم الجوزية، يذهب الصوفية إلى رؤية الذاكر لذكره، أو العابد لعبوديته، من «الشرك الخفي»؛ لأن رؤية الذاكر لذكره في ذِكره، أو ذِكره لذِكره، هي رؤية لنفسه في ذِكره، ورؤيته لنفسه هي ذِكر لها، ورؤية النفس وذِكر النفس كلاهما حجاب وكل حجاب فمن السوى، وكل رؤية للسوى فنفي لشهود المذكور، أو هي «غيبة عن المذكور»! لكن يغير المعنى الذي أراده الحلاج.

وفي صدد الذِّكر وما يجب أن يكون عليه يقول الكلاباذي: حقيقة الذِّكر أن تنسى ما سوى المذكور في الذِّكر،١٨ ويقول ذو النون المصري: الذُّكر هو غيبة الذاكر عن الذِّكر١٩ لا عن «المذكور» كما يقول الحلاج. وينقل ابن عجيبة عن الواسطي قوله: «الذاكرون في ذِكره (أي الذين يذكرون أنفسهم في ذِكره) أشد غفلة من التاركين لذِكره، لأن ذِكره سواه»، ثم يعقِّب ابن عجيبة على الواسطي بقوله: يعني أن الذاكرين الله بالقلوب هم في حال ذِكرهم لله بلسانهم أكثر غفلة من التاركين لذِكره؛ لأن ذِكره باللسان وتكلفه يقتضي وجود النفس — وهو شرك، والشرك أقبح من الغفلة؛ هذا معنى قوله: «لأن ذِكره سواه؛ أي لأن ذِكر اللسان يقتضي استقلال الذاكر والفرض أن الذاكر محو في مقام العيان.»٢٠ وقد ذهب أبو القاسم الجنيد إلى أبعد مما ذهب إليه مَن تقدَّم ذِكرهم حين قال: مَن قال (الله!) عن غير مشاهدة فهو مفترٍ،٢١ لأن مقتضى المشاهدة الغيبة. ويقول أبو العباس الدينوري: اعلم أن أدنى الذِّكر أن ينسى ما دونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر — في الذِّكر — عن الذِّكر، ويستغرق بمذكوره عن الرجوع إلى مقام الذِّكر. وهذا حال فناء الفناء.٢٢

٨

عودًا إلى عبارة الحلاج الواردة في البيت الأول، وفيها قوله: وغاب عن المذكور في سطوة الذِّكر. نقول: لو كان غير الحلاج نطق بهذه العبارة لقلنا كما قال ابن تيمية «إنه كلام جاهل»، لِما انطوت عليه من تعارض شديد مع كل ما تقدَّم من أقوال الصوفية التي رأت سلامة الذِّكر «أن يغيب الذاكر بمذكوره عن ذِكره»، لا أن «يغيب عن المذكور». أما وأن الحلاج هو قائل هذا الكلام اقتضى أن نلتمس له تأويلًا يتمشَّى مع طبيعة التجربة الصوفية مستمدًّا من أقوال غيره من الصوفية. هنا ينهض أمامنا عدة احتمالات تأويل:
  • أولها: أن المذكور هو الحلاج نفسه من حيث أن الذاكر مذكور قبل أن يكون ذاكرًا، كما أن المريد «مراد» في الحقيقة، كما يؤكد ذلك الكلاباذي٢٣ والقشيري.٢٤ يقول أبو يزيد البسطامي: غلطت في ابتدائي في أربعة أشياءَ: توهمتُ أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه. فلما انتهيت رأيت ذِكره سبق ذِكري، ومعرفته تقدَّمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولًا حتى طلبته.٢٥ وقريب من هذا دعاء لأبي القاسم الجنيد يناجي فيه الحق تعالى بقوله: يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه، يا موفق العابدين لصالح ما عملوه، مَن ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك؟ ومَن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك؟٢٦ فالذاكر ابتداءً هو الحق تعالى: يذكر نفسه في ذِكر الإنسان له، والذاكر انتهاء هو الإنسان: يذكر الله في ذِكر الله له. أو قل المذكور ابتداءً هو الإنسان: يذكره الله فيذكره بنفسه فيذكره، والمذكور انتهاء هو الله: يذكره الإنسان في ذِكر الله لنفسه في ذِكر الإنسان له!
  • وثانيها: أن «المذكور» هو الكلام المذكور من باب نيابة الصفة عن الموصوف. وفي هذه الحال، يكون «المذكور» من السوى ما ظلَّ الصوفي ذاكرًا لذكره في ذِكره. وهذا ما حذَّر منه الواسطي بقوله: «الذاكرون في ذِكره أكثر غفلة من الناسين لذِكره، لأن ذكره سواه.» على نحو ما تقدم معنا، وفي صدد «ذكر الغفلة»، يقول القشيري: ومنهم، مَن غيرته، حين يرى الناس يذكرونه تعالى بالغفلة، فلا يمكنه رؤية ذلك وتشق عليه.٢٧ من ذلك ما يُروى عن أبي الحسين النوري أنه سمع رجلًا يؤذن فقال: طعنة وسم الموت! وسمع كلبًا ينبح فقال: لبيك وسعديك؛ فقيل له: إن هذا ترك للدين، فإنه يقول للمؤمن في تشهده: طعنة وسم الموت! ويلبي عند نباح الكلاب. فسئل في ذلك فقال: «أما ذلك فكان ذِكره لله على رأس الغفلة. وأما الكلب، فقال تعالى: وَإِن مِن شَيء إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ٢٨ فأتم الذِّكر وأعلاه درجة هو «الذِّكر مع وجود الغيبة عما سوى المذكور» كما يقول ابن عباد الرندي.٢٩ فإن كان «الكلام المذكور» من السوى، أي ذِكره تعالى على الغفلة، كانت غيبة الحلاج عن «المذكور في سطوة الذِّكر» مرتبة العارفين المحققين من الأولياء، وفي هذا المقام ينقطع ذِكر اللسان ويكون العبد محوًا في وجود العيان.٣٠
  • وثالثها: وهو أخطرها وأهمها، أن يكون «الحق» من السوى، في هذه الحال يكون الحق خلقًا، والخلق حقًّا. فكما أن الفناء عن الخلق يوجب بقاء في الحق، كذلك إن الفناء عن الحق يوجب بقاء في الخلق، الخلق المتحقق بكلية وجوده. لو كان الحلاج غير متحقق بهذه الحال لقلنا أن «غيبته عن المذكور»، كفر وزندقة دعوة إلى الوهبة نفسه. أما وأنها معاناته فهو غير مسئول عنها. لأن الصوفي تبدو عليه الأحوال في الذِّكر، ومنها غيبة الذاكر عن المذكور حالًا حائلة لا تدوم، كما يقول مصطفى كامل الشيبي.٣١ نحن هنا بإزاء حال فذة، لعلها الذروة في التجربة الصوفية، ويسميها ماسنيون ﺑ «تبادل الأدوار» حين يوزع العاشقين باستبدال كل منهما دوره بدور الآخر.٣٢

٩

وقد أشار إلى هذه الحال من «تبادل الأدوار» أبو طالب المكي في قوله إشارة ضمنية غير صريحة بقوله: «فلما أفردهم الله تعالى ممن سواهم أفردوه عما سواه، فاستولى عليهم ذكره، فاصطلم قلوبهم نوره تعالى، فاندرج ذِكرهم في ذِكره، فكان هو الذاكر لهم (أقول: وكانوا هم المذكورين!) وكانوا هُم المكان لمجاري قدرته عزَّ وجلَّ؛ فلا يوزن مقدار هذا الذِّكر، ولا يكتب كيفية هذا البر، فلو وُضعت السموات والأرض في كفَّة لرجح ذِكره تعالى لهم بهما، وهم الذين قال لهم (في حديث قدسي): فترى من واجهته بوجهي لعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه، لو كانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم، أول ما أعطيتهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أُخبر عنهم.»٣٣

وأصرح منه ما جاء فيما ينسبه أحمد بن عبد الجبار النفري إلى الحق تعالى من قوله له: «انتقب بي كما انتقبت بك تسر إليَّ كل عين فلا ترى عندي سواك، وتسري إليك فإذا سرت فلا ترى عندك سواي.» (من موقف «كدت لا أؤاخذه»)، أي احتجب بي كما احتجبت بك. هنا الحق حجاب الخلق، والخلق حجاب الحق وكل من الحق والخلق حجاب للآخر بالتبادل؛ فإذا احتجب الخلق بالحق صار الخلق حقًّا، وإذا احتجب الحق بالخلق صار الحق خلقًّا (باعتبار أن الخلق محلُّ تجليات الحق الأسمائية، لا الحق بما هو حق في ذاته!) أو تقول: إذا احتجب الخلق بالحق فنيَ الخلق عن نفسه وبقي الحق فصار حقًّا بما هو باقٍ بالحق. وإذا احتجب الحق بالخلق فني الحق عن نفسه (وهذا حادث نفسي يجري في قلب الصوفي عندما ينسخ تجلٍّ لاحق تجليًّا سابقًا!) فصار خلقًا بما هو باقٍ بالخلق!

يقول آرثر آبري في شرح هذه الفقرة (انتقب بي كما انتقبت بك …) من الموقف المذكور: «إن هذا تبادل الأشخاص الذي يحدث عند كمال الاتحاد الصوفي.»٣٤

وشبيه بهذا، وإن كان يذهب من منطلق آخر، قول ابن العربي:

الرب حق والعبد حق
يا ليت شِعري مَن المكلف؟
إن قلت عبد فذاك ميت
أو قلت رب. أنَّى يكلَّف؟٣٥

وقوله:

فيحمدني وأحمده
ويعبدني وأعبده٣٦

وقول ابن الفارض:

لها صلواتي بالمقام أقيمها
وأشهد فيه أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة٣٧

نقول: إذا كان تبادل الأدوار، أو تبادل الأشخاص، ينطوي على الذِّكر المتبادل فيكون الذاكر هو الحق والخلق مذكورًا، وعلى الحجاب المتبادل فيكون الحاجب هو الحق والخلق محجوبًا، وعلى الحمد المتبادل فيكون الحامد هو الحق والخلق محمودًا، وعلى العبادة فيكون العابد هو الحق والخلق معبودًا. نقول: إذا كان تبادل الأدوار، أو تبادل الأشخاص ينطوي على كل هذا، فهل ينطوي على «القتل» أيضًا؟ مِن منطلق أن الحب موت المحب في نفسه وانبعاثه حيًّا في المحبوب، في نفس اللحظة، نقول إن «القتل المتبادل» وارد أيضًا. فهذا جران العود النميري يقول:

كلانا يستميت إذا التقينا
وأبدى الحب خافتة الضمير
فأقتلها وتقتلني ونحيا
ونخلط ما نموت بالنشور
ولعل أبا يزيد البسطامي من هذا المنطلق قال: «بطشي به أشد من بطشه بي!»٣٨ فكأنه يقول: «حبه لي أشد من حبي له.»

١٠

لنأتِ الآن إلى الشطر الأخير من البيت الثاني: «بأن صلاة العارفين من الكفر.» نقول: إن الصوفية كثيرًا ما يعودون بالكلمة إلى حالتها الخاميَّة أو البدئية، إلى براءتها الأولى، دون الالتفات إلى ما تواضع عليه الناس من معانٍ جديدة لها تخفي، في كثير أو قليل، معناها الأولي البكر. فالعذاب يتحول إلى عذوبة في «وحدة الجنة والنار».

عند ابن العربي كما جاء في آخر الفص السابع من «فصوص الحكم».٣٩ وكذلك «الكفر» هو «الستر» عنده كما جاء في الفص الثالث.٤٠ وهكذا يكون: الكفر والستر والحجاب والسوى، أسماءً مترادفات تُستخدم في المصطلح الصوفي للتعبير عن مدلولات مغايرة للمدلولات المتعارف عليها في حياتنا اليومية. وقد مرَّ معنا أن الذاكرين (لأنفسهم) في ذِكره أشد غفلة من الناسين لذِكره، لأن ذِكره «سواه»! وكذلك المصلون حين لا يفنون عن رؤيتهم لصلاتهم أو عن أنفسهم في صلاتهم، إنما يقعون في «الشرك الخفي»؛ وما دامت ثنائية العابد والمعبود قائمة (وهذا مقام الفرق)، فالشرك واقع لا محالةَ، وما من سبيل إلى تخطي هذه الثنائية إلا حين يرتقي الصوفي إلى «مقام الجمع» أو «عين الجمع»؛ وعندئذٍ يفنى عن نفسه وعن الخلق فيتخلَّص من «لوثة الشرك»؛ وعندئذٍ تصحُّ صلاته إذ يصلي المعبود لنفسه من خلال صلاة العابد له، فيكون كلاهما مصليًّا واحدًا ساجدًا إلى حقيقته في كل سجدة، كما يقول ابن الفارض.

قلنا في بداية هذا البحث: «في المطلق، حيث تتآلف المتناقضات، وتتواحد المتضادات، لا كفر ثمة ولا إيمان، لا خير ولا شر، لا نور ولا ظلام — وبالتالي، لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار.» وقلنا: أما في النسبي، حيث الحجاب مسدل على الحقيقة، أو إن شئتَ قلتَ: على القلوب والبصائر، وحيث المتناقضات على احتدامها، والمتباينات على تفرُّدها، فلا سبيل إلَّا الشريعة يعمل الإنسان على هَدي منها، ولا طريق إلا العبادات يتطهر بها من أوضار الحياة اليومية ومن متطلبات الغرائز. والصوفي المتحقق، إذ يرجع من المطلق إلى النسبي، إنما يكرر «الخطيئة الأولى» التي هي قدره، مثلما كانت قدر أبويه آدم وحواء، كل ما يقوله أو يفعله في النسبي فهو نسبي؛ فإن كان خيرًا انطوى على شر، وإن كان إيمانًا انطوى على كفر، وإن كانت صلاة كانت صلاته من «الشرك الخفي»، أو الكفر، وعند الصوفي، الانتقال من الجمع إلى الفرق، كالهبوط من السماء إلى الأرض، خطيئة. من هنا كانت «صلاة العارفين من الكفر!»

١  أخبار الحلاج، تحقيق ل. ماسنيون وب. كراوس، باريس ١٩٣٦م (أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد)، ص٨.
٢  إنجيل متى ٧: ٦.
٣  أخبار الحلاج، ص٩٣.
٤  يقول أبو القاسم الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على مَن اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام. ويقول أيضًا: مَن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسُّنة (انظر الرسالة القشيرية، الجزء الأول ص١٣٤، القاهرة، بلا تاريخ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود ابن الشريف).
٥  عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام، ط٢، القاهرة ١٩٦٤م، من مقال لماسنيون بعنوان «المنحنى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام» ضمنه بدوي كتابه المشار إليه. انظر على وجه الخصوص ص٦٩ و٧٣ منه.
٦  يرجع إلى بحث للدكتور أحمد محمود صبحي بعنوان «التصوف: إيجابياته وسلبياته» مجلة عالم الفكر، العدد الثاني، ١٩٧٥م.
٧  يرجع من أجل تفاصيل محاكمة الحلاج إلى «شخصيات قلقة في الإسلام»، وخصوصًا إلى فصل بعنوان: المنحنى الشخصي لحياة الحلاج. وهو فصل ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي عن ماسنيون. كذلك إلى الدكتور كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج (المقدمة)، بغداد، بيروت، ١٣٩٤ﻫ/١٩٧٤م، الطبعة الأولى.
٨  أخبار الحلاج ص٨٨.
٩  نفس المرجع ص٧٤.
١٠  نفس المرجع ص٦٨.
١١  يرجع إلى الدكتور كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج، ص١٩٦–١٩٨. وإلى أخبار الحلاج ص٦٦. وفي المرجعين جاء «الصب» بدلًا من «الحب» والمعنى لا يستقيم إلا ﺑ «الحب».
١٢  نقله ماسنيون إلى «أخبار الحلاج»: ص٦٧ عن ابن تيمية في (مجموعة الرسائل والمسائل، مصر ١٣٤١ﻫ، ص١٠٥).
١٣  نفس المرجع ص٦٧.
١٤  نفس المرجع والصفحة.
١٥  نفس المرجع والصفحة.
١٦  ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت ١٩٧٢م/١٣٩٢ﻫ. الجزء الأول، ص١٥٠-١٥١.
١٧  نفس المرجع ص١٥١.
١٨  الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، تحقيق محمود أمين النواوي، الطبعة الأولى، مصر ١٣٨٩ﻫ/١٩٦٩م، ص١٢٣.
١٩  الرسالة القشيرية، الجزء الثاني، ص٤٦٨.
٢٠  ابن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم (حكم ابن عطاء السكندري)، الطبعة الثانية، مصر ١٣٩٣ﻫ/١٩٧٢م، ص١٠٤.
٢١  الكلاباذي ص١٢٥.
٢٢  طبقات السلمي، تحقيق نور الدين شريبة، الطبعة الثانية، مصر ١٣٨٩ﻫ/١٩٦٩م، ص٤٧٧.
٢٣  الكلاباذي ص١٦٦-١٦٧: «لأن المريد لله تعالى لا يريد إلا بإرادة من الله عز وجل تقدمت له. قال الله تعالى: يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ، وقال: رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وقال: ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا. فكانت إرادته لهم سبب إرادتهم له … ومَن أراده الله فمحال أن لا يريده العبد، فجعل المريد مُرادًا والمراد مريدًا، غير أن المريد هو الذي سبق اجتهاده كشوفه، المراد هو الذي سبق كشوفه اجتهاده.»
٢٤  الرسالة القشيرية، ج٢، ص٤٣٩.
٢٥  طبقات السلمي ص٧٢.
٢٦  نفس المرجع ص١٥٧.
٢٧  الرسالة القشيرية، ج٢، ص٥١٧.
٢٨  نفس المرجع ص٥١٨.
٢٩  ابن عباد الرندي، شرح الحكم العطائية، مصر ١٣٥٨ﻫ/١٩٣٩م، الجزء الأول ص٤١.
٣٠  نفس المرجع ص٤٢.
٣١  الشيبي، شرح ديوان الحلاج، ص١٩٨.
٣٢  نقله الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى «شطحات الصوفية» الطبعة الثانية، الكويت ١٩٧٦م، ص١٠، عن (ماسنيون «بحث في أصول المصطلح الفني للصوفية المسلمين» ص٩٩، باريس ١٩٢٢م).
٣٣  أبو طالب المكي، قوت القلوب مصر ١٣٨٠ﻫ/١٩٦١م، ج١، ص٢٤٣.
٣٤  آرثر آربري، شرح «المواقف والمخاطبات» لأحمد بن عبد الجبار النفري، لندن ١٩٣٥م ص٢١٩ (القسم الإنكليزي).
٣٥  ابن العربي، الفتوحات المكية، تحقيق الدكتور عثمان يحيى، القاهرة ١٣٩٢ﻫ/١٩٧٢م، السفر الأول، ص٤٢.
٣٦  ابن العربي، فصوص الحكم، شرح أبو العلا عفيفي، بيروت، بلا تاريخ، الجزء الأول ص٨٣.
٣٧  ديوان ابن الفارض، تحقيق فوزي عطوى، بيروت ١٩٦٩م، التائية الكبرى، ص٤٧.
٣٨  عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، ص٣٨.
٣٩  ابن العربي، فصوص الحكم، «فص حكمة عليَّة في كلمة إسماعيلية» حيث جاء في الصفحة ٩٤:
فلم يبقَ إلا صادق الوعد وحده
وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد
وبينهما عند التجلِّي تباين
يسمى عذابًا من عذوبة طعمه
وذاك له كالقشر والقشر صاين
٤٠  ابن العربي، فصوص الحكم، «فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية» حيث جاء في الصفحة ٧٤ تفسير قوله تعالى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، يقول الشيخ الأكبر: «ما ينتجون ولا يظهرون (إلا فاجرًا) أي مظهرًا ما ستر، (كفارًا) أي ساترًا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤