الحلاج بين فناءين
(١) الحلاج بين فناءين
١
٢
٣
٤
يقول الحلاج:
٥
-
أولها الفناء الشرعي: وهو أن يفنى الصوفي بعبادة الله تعالى عن عبادة ما سواه، وبحبِّه عن حبِّ ما سواه، ويقول: إن هذا تحقيق التوحيد والإيمان.١٢
-
وثانيها، أن يغيب أو يفنى بالمذكور عن الذِّكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى مَن لم يكن ويبقى ما لم يزل. ويصف شيخ الإسلام هذا النوع من الفناء ﺑ «مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة.»١٣
-
وأما النوع الثالث من الفناء وهو «الفناء عن وجود السوى» بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فهذا هو قول الملاحدة أهل الوحدة (يريد: وحدة الوجود!).١٤
٦
٧
خلافًا لابن تيمية وابن قيم الجوزية، يذهب الصوفية إلى رؤية الذاكر لذكره، أو العابد لعبوديته، من «الشرك الخفي»؛ لأن رؤية الذاكر لذكره في ذِكره، أو ذِكره لذِكره، هي رؤية لنفسه في ذِكره، ورؤيته لنفسه هي ذِكر لها، ورؤية النفس وذِكر النفس كلاهما حجاب وكل حجاب فمن السوى، وكل رؤية للسوى فنفي لشهود المذكور، أو هي «غيبة عن المذكور»! لكن يغير المعنى الذي أراده الحلاج.
٨
- أولها: أن المذكور هو الحلاج نفسه من حيث أن الذاكر مذكور قبل أن يكون ذاكرًا، كما أن المريد «مراد» في الحقيقة، كما يؤكد ذلك الكلاباذي٢٣ والقشيري.٢٤ يقول أبو يزيد البسطامي: غلطت في ابتدائي في أربعة أشياءَ: توهمتُ أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه. فلما انتهيت رأيت ذِكره سبق ذِكري، ومعرفته تقدَّمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولًا حتى طلبته.٢٥ وقريب من هذا دعاء لأبي القاسم الجنيد يناجي فيه الحق تعالى بقوله: يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه، يا موفق العابدين لصالح ما عملوه، مَن ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك؟ ومَن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك؟٢٦ فالذاكر ابتداءً هو الحق تعالى: يذكر نفسه في ذِكر الإنسان له، والذاكر انتهاء هو الإنسان: يذكر الله في ذِكر الله له. أو قل المذكور ابتداءً هو الإنسان: يذكره الله فيذكره بنفسه فيذكره، والمذكور انتهاء هو الله: يذكره الإنسان في ذِكر الله لنفسه في ذِكر الإنسان له!
- وثانيها: أن «المذكور» هو الكلام المذكور من باب نيابة الصفة عن الموصوف. وفي هذه الحال، يكون «المذكور» من السوى ما ظلَّ الصوفي ذاكرًا لذكره في ذِكره. وهذا ما حذَّر منه الواسطي بقوله: «الذاكرون في ذِكره أكثر غفلة من الناسين لذِكره، لأن ذكره سواه.» على نحو ما تقدم معنا، وفي صدد «ذكر الغفلة»، يقول القشيري: ومنهم، مَن غيرته، حين يرى الناس يذكرونه تعالى بالغفلة، فلا يمكنه رؤية ذلك وتشق عليه.٢٧ من ذلك ما يُروى عن أبي الحسين النوري أنه سمع رجلًا يؤذن فقال: طعنة وسم الموت! وسمع كلبًا ينبح فقال: لبيك وسعديك؛ فقيل له: إن هذا ترك للدين، فإنه يقول للمؤمن في تشهده: طعنة وسم الموت! ويلبي عند نباح الكلاب. فسئل في ذلك فقال: «أما ذلك فكان ذِكره لله على رأس الغفلة. وأما الكلب، فقال تعالى: وَإِن مِن شَيء إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ.»٢٨ فأتم الذِّكر وأعلاه درجة هو «الذِّكر مع وجود الغيبة عما سوى المذكور» كما يقول ابن عباد الرندي.٢٩ فإن كان «الكلام المذكور» من السوى، أي ذِكره تعالى على الغفلة، كانت غيبة الحلاج عن «المذكور في سطوة الذِّكر» مرتبة العارفين المحققين من الأولياء، وفي هذا المقام ينقطع ذِكر اللسان ويكون العبد محوًا في وجود العيان.٣٠
- وثالثها: وهو أخطرها وأهمها، أن يكون «الحق» من السوى، في هذه الحال يكون الحق خلقًا، والخلق حقًّا. فكما أن الفناء عن الخلق يوجب بقاء في الحق، كذلك إن الفناء عن الحق يوجب بقاء في الخلق، الخلق المتحقق بكلية وجوده. لو كان الحلاج غير متحقق بهذه الحال لقلنا أن «غيبته عن المذكور»، كفر وزندقة دعوة إلى الوهبة نفسه. أما وأنها معاناته فهو غير مسئول عنها. لأن الصوفي تبدو عليه الأحوال في الذِّكر، ومنها غيبة الذاكر عن المذكور حالًا حائلة لا تدوم، كما يقول مصطفى كامل الشيبي.٣١ نحن هنا بإزاء حال فذة، لعلها الذروة في التجربة الصوفية، ويسميها ماسنيون ﺑ «تبادل الأدوار» حين يوزع العاشقين باستبدال كل منهما دوره بدور الآخر.٣٢
٩
وأصرح منه ما جاء فيما ينسبه أحمد بن عبد الجبار النفري إلى الحق تعالى من قوله له: «انتقب بي كما انتقبت بك تسر إليَّ كل عين فلا ترى عندي سواك، وتسري إليك فإذا سرت فلا ترى عندك سواي.» (من موقف «كدت لا أؤاخذه»)، أي احتجب بي كما احتجبت بك. هنا الحق حجاب الخلق، والخلق حجاب الحق وكل من الحق والخلق حجاب للآخر بالتبادل؛ فإذا احتجب الخلق بالحق صار الخلق حقًّا، وإذا احتجب الحق بالخلق صار الحق خلقًّا (باعتبار أن الخلق محلُّ تجليات الحق الأسمائية، لا الحق بما هو حق في ذاته!) أو تقول: إذا احتجب الخلق بالحق فنيَ الخلق عن نفسه وبقي الحق فصار حقًّا بما هو باقٍ بالحق. وإذا احتجب الحق بالخلق فني الحق عن نفسه (وهذا حادث نفسي يجري في قلب الصوفي عندما ينسخ تجلٍّ لاحق تجليًّا سابقًا!) فصار خلقًا بما هو باقٍ بالخلق!
وشبيه بهذا، وإن كان يذهب من منطلق آخر، قول ابن العربي:
وقوله:
وقول ابن الفارض:
نقول: إذا كان تبادل الأدوار، أو تبادل الأشخاص، ينطوي على الذِّكر المتبادل فيكون الذاكر هو الحق والخلق مذكورًا، وعلى الحجاب المتبادل فيكون الحاجب هو الحق والخلق محجوبًا، وعلى الحمد المتبادل فيكون الحامد هو الحق والخلق محمودًا، وعلى العبادة فيكون العابد هو الحق والخلق معبودًا. نقول: إذا كان تبادل الأدوار، أو تبادل الأشخاص ينطوي على كل هذا، فهل ينطوي على «القتل» أيضًا؟ مِن منطلق أن الحب موت المحب في نفسه وانبعاثه حيًّا في المحبوب، في نفس اللحظة، نقول إن «القتل المتبادل» وارد أيضًا. فهذا جران العود النميري يقول:
١٠
لنأتِ الآن إلى الشطر الأخير من البيت الثاني: «بأن صلاة العارفين من الكفر.» نقول: إن الصوفية كثيرًا ما يعودون بالكلمة إلى حالتها الخاميَّة أو البدئية، إلى براءتها الأولى، دون الالتفات إلى ما تواضع عليه الناس من معانٍ جديدة لها تخفي، في كثير أو قليل، معناها الأولي البكر. فالعذاب يتحول إلى عذوبة في «وحدة الجنة والنار».
قلنا في بداية هذا البحث: «في المطلق، حيث تتآلف المتناقضات، وتتواحد المتضادات، لا كفر ثمة ولا إيمان، لا خير ولا شر، لا نور ولا ظلام — وبالتالي، لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار.» وقلنا: أما في النسبي، حيث الحجاب مسدل على الحقيقة، أو إن شئتَ قلتَ: على القلوب والبصائر، وحيث المتناقضات على احتدامها، والمتباينات على تفرُّدها، فلا سبيل إلَّا الشريعة يعمل الإنسان على هَدي منها، ولا طريق إلا العبادات يتطهر بها من أوضار الحياة اليومية ومن متطلبات الغرائز. والصوفي المتحقق، إذ يرجع من المطلق إلى النسبي، إنما يكرر «الخطيئة الأولى» التي هي قدره، مثلما كانت قدر أبويه آدم وحواء، كل ما يقوله أو يفعله في النسبي فهو نسبي؛ فإن كان خيرًا انطوى على شر، وإن كان إيمانًا انطوى على كفر، وإن كانت صلاة كانت صلاته من «الشرك الخفي»، أو الكفر، وعند الصوفي، الانتقال من الجمع إلى الفرق، كالهبوط من السماء إلى الأرض، خطيئة. من هنا كانت «صلاة العارفين من الكفر!»