أسئلة كثيرة … بلا إجابات!
اقترب «قيس» في نشاطٍ، وهو «يفرك» يديه، وقال: ماذا سنفعل اليوم؟
نظر الشياطين في دهشةٍ، ماذا يعني بسؤاله؟ وجلس وهو يقول: أليس اليوم عطلةً؟
كانت هذه الجملة كافيةً لأن يَضحكوا في عمق، ونظرت «إلهام» إلى «أحمد» مبتسمة، فوجدته غارقًا في التفكير …
كان «أحمد» ينظر من خلال الشرفة الزجاجية الواسعة، وقد تعلقت عيناه بالسماء، التي كانت تبدو زرقاء تمامًا في هذا الصباح.
رفعت «إلهام» صوتها وهي تقول: ألم تَسمع ماذا قال «قيس»؟
لم يَلتفِت «أحمد»، فأعادت «إلهام» سؤالها، حتى إن بقية الشياطين نظروا في اتجاهه.
قالت «ريما»: يبدو كأنه يعدُّ خطةً لمغامرةٍ جديدةٍ.
ابتسم «أحمد» دون أن ينظر إليها، فقالت «إلهام»: إنَّ «أحمد» يتمتَّع بقدرة غريبة على استخدام حواسه جميعًا في وقت واحد.
قال «أحمد» مبتسمًا: من حق «قيس» أن يقول جملته هذه، وأن يستمتع بيوم إجازة … فنحن عائدون من مغامرة. وغير أن ابتسامته لم تكن تحمل نفس المعنى … لقد كانت تعني شيئًا آخر.
قال «عثمان»: أعتقد أن إجازتنا تبدأ مع كل مغامرة وعندما تنتهي يبدأ العمل. فضحكوا جميعًا.
وقالت «زبيدة»: إنَّ «عثمان» على حق فالإنسان يقوم بإجازته، سعيًا وراء المتعة، وغالبًا ما يقضيها في السفر أو الانشغال بأشياء جديدة. وهذا ما نفعله دائمًا.
وبدأ الجدل حول مفهوم الإجازة، وكيف يُمكن قضاؤها غير أن «خالد» قطع الحديث عندما قال: الأهم أن تسمعوا ما قرأته بالأمس، عن الإنسان الآلي، الذي بدأ يأخذ مكان الإنسان البشري، حتى إنَّ مؤسسات كاملة الآن، يُديرها هذا الإنسان الجديد.
وتحول الحديث كلية إلى الإنسان الآلي، وكان «أحمد» يرقب الحديث باهتمام، مما جعله يقول في النهاية: إن اليابان، طورت الإنسان الآلي، فجعلته ذا ذاكرة. إنها تستطيع أن تلقنه أشياء، ثم تتركه يعمل، دون الحاجة إلى معونة من أحد، وأعتقد أن هذه هي الثورة الصناعية الجديدة.
وهكذا استمر الحديث غير أن «عثمان» قال بطريقته الساخرة: ربما يظهر شياطين آليون قريبًا، وتصبح هذه مشكلتنا.
ضحك الشياطين، إلا أن ضحكهم لم يَستمر؛ فقد انسابت موسيقى هادئة، جعلتهم يَلتفتون إلى مصدرها.
فقالت «إلهام» مُبتسِمة: إنَّ الإجازة قد بدأت بمفهوم «عثمان».
لقد كانت الموسيقى تعني أن على الشياطين أن يستعدوا ولذلك فقد صمتوا جميعًا، في انتظار أمر الاستدعاء …
وطالت فترة الصمت، دون أن يظهر جديد يَستدعيهم؛ فقام «قيس» وأحضر رقعة الشطرنج، ثم نظر إلى «باسم» الذي انتقل إليه بسُرعة لقد كانت بينهما مباراة لم يُكملاها بعد، وكانت هذه فرصة، ليستغرقا فيها … بدلًا من الانتظار …
ثم انضمَّت «إلهام» إلى «قيس»، وانضمَّت «ريما» إلى «باسم»، لقد كان كل اثنين يمثلان فريقًا في صراع الشطرنج.
في نفس الوقت، استمرَّ بقية الشياطين في حوارهم من جديد، حول الإنسان الآلي ومستقبله … إلا «أحمد» الذي ظلَّ مُستغرقًا في تفكيره، وكانت «إلهام» تنظر في اتجاهه بين كل فترة وأخرى، فترى وجهه الهادئ المتأمل ينظر إلى السماء … فجأة وقف طائر أبيض على حافة الشرفة، مما جعل «أحمد» يَلتفِت إليه، وكأن الطائر كان يقصد شيئًا، فقد ظلَّ هو الآخر ينظر إلى «أحمد» مما جعله يبتسم. غير أن الطائر لم يقف طويلًا؛ فقد نقر الزجاج بمنقاره، ثم طار مختفيًا.
في نفس اللحظة، دق جرس متقطِّع … وكان هذا يعني أن الاجتماع بعد خمس دقائق.
صاح «باسم»: كش.
فتنفَّس «قيس» في عمق، وأسرع «مصباح» عند سماع صيحة «باسم» وألقى نظره على رقعة الشطرنج، لقد كانت لعبة «باسم» ذكية بما يَكفي لأن يكسب الدور … إلا أن «قيس» لا يَستسلِم بسهولة، فنظر في ساعته وكأنه يُعطي نفسه فرصة للتفكير، أو تأجيل المباراة، وكان هذا ما حدث فعلًا؛ فقد رنَّ جرس آخر، جعل الشياطين يتَّجهون جميعًا إلى قاعة الاجتماعات …
دخلوا الواحد بعد الآخر، وأخذوا أماكنهم. كانت القاعة هادئة الضوء … وعلى الحائط المقابل، تظهر الخريطة الإليكترونية، غير أنها كانت بلا تفاصيل. إن الشياطين يعرفون، أن صورة الخريطة هي دائمًا بداية كل مغامرة؛ ففوقها تظهر جغرافية المكان الذي سيتحرَّكون إليه، ولذلك ظلت عيونهم معلَّقة بها. ورغم أن عدة دقائق قد مرت، إلا أنَّ شيئًا لم يظهر على الخريطة، حتى إنهم ظنوا أن المُغامَرة قد تكون داخل المنطقة العربية.
همس «خالد»: ربما نطير إلى الكويت أو السعودية.
رد «رشيد»: ولماذا لا تكون المسألة هنا.
ظهر التفكير العميق على وجوه الشياطين، إلا «أحمد» الذي كان يَرقُبهم في هدوء. غير أن تفكيرهم لم يستمر؛ فقد بدأت خطوات رقم «صفر» تقترب، كانت خطوات متمهِّلة، وكأنه يفكر في شيء ما، أو يقرأ شيئًا … اقتربت الخطوات أكثر فأكثر، حتى توقفت في نفس الوقت الذي أضيئت فيه الخريطة … حتى إن أضاءتها لفتَت نظر الشياطين … غرقت الخريطة في اللون الأزرق، فعرفوا أن ذلك يعني، أن المكان الذي سيذهبون إليه سوف يكون قريبًا من المحيط أو البحر.
لحظة، ثم جاء صوت رقم «صفر» الذي رحَّب بهم، ثم قال بصوت ظهرت فيه ابتسامة: ها أنتم تعودون من إجازة، لتبدءوا إجازة أخرى.
نظر الشياطين إلى «عثمان» والذي ابتسم بدوره ابتسامة عريضة.
قال رقم «صفر»: إنها مسألة مدهشة على كل حال. لكنها جذابة في نفس الوقت، ومُثيرة أيضًا.
صمت قليلًا، حتى يُعطي فرصة للكلمات كي يصل وقعها إلى نفوس الشياطين … ثم قال: إن عصابة «سادة العالم» تلعب لعبة جديدة … إنها تجمع عددًا من علماء العالم، وتقوم بتهريبهم من بلادهم. ورغم أن حكومات هذه البلاد، تعرف هذه الحقيقة إلا أنها فشلت في إيقاف تهريب العلماء. إن هناك حصارًا مضروبًا في مطارات هذه الدول، وفي موانيها، وكذلك في الطرق البرية التي تخرج منها. ومع ذلك يَختفي العلماء. وأنتم تعرفون ماذا يعني اختفاء عالم.
سكت مرة أخرى.
كان الشياطين يستمعون إليه في تركيز واهتمام. ثم ظهرت المملكة المتَّحدة فوق الخريطة … جزيرة وسط المياه الزرقاء. يحدها من الشرق بحر الشمال، ومن الغرب المحيط الأطلنطي … ومن الشمال بحر النرويج، ومن الجنوب بحر المانش. وفي غرب المملكة كانت تظهر أيرلندا، التي يفصلها عن المملكة البحر الأيرلندي، ومضيق سان جورج.
ظلَّ الشياطين يتأمَّلون تفاصيل الخريطة … وقطع تأملهم صوت رقم «صفر» يكمل حديثه: إن هناك مؤتمرًا عِلميًّا في المملكة المتحدة، يحضره علماء من جميع أنحاء العالم، غير أن العلماء ليسوا جميعًا هدفًا هذه المرة … ولكن عالم الذرة «د. جاسبروور» هو وحده الهدف، إنه عالم فرنسي … يحضر المؤتمر، وهناك طبعًا حراسة شديدة حوله ولكن من يدري، ماذا يمكن أن يفعلوا.
صمت رقم «صفر»، فنظر الشياطين إلى بعضهم. إنَّ المسألة إذن، هي خطف «د. جاسبروور» عالم الذرة. وهم سوف يَشتركون في حراسته، أو ربما تكون مهمَّتهم بعد ذلك.
قطع رقم «صفر» تفكيرهم قائلًا: إن المسألة ليست هي خطف «جاسبروور» فهذه مسألة عادية … إن المسألة أنه سوف يخرج من إنجلترا، بشكل عادي. وهذه هي المسألة الهامة.
فكر الشياطين بسرعة، ما دامت هناك حراسة مشدَّدة على العلماء، فكيف يمكن خطفه إذن، وحتى إذا خطفوه، فكيف يُمكن خروجه من إنجلترا، بطريقة عادية؟ هل يُخفونه في صندوق مثلًا، أو سيارة، أو أي شيء آخر؟ إن هذه الطريقة يُمكن كشفها!
ولم يستمرَّ تفكير الشياطين؛ فقد أكمل رقم صفر: إن هناك طبيب تجميل يعمل مع عصابة «سادة العالم». وهو يُعتبر أبرع طبيب تجميل في العالم، وهو ليس رجلًا سيئًا غير أنه سوف يقوم بمهمَّته تحت ضغط العصابة. فإما تنفيذ ما يريدونه، أو قتله.
سكت رقم «صفر»، بينما غرق الشياطين في التفكير … إن هذه المغامرة جديدة في النهاية فسوف يُجري الطبيب، عملية تجميل للعالم الذري، لكن، حتى هذه المسألة يمكن كشفها … مرة أخرى قال: إن الطبيب اسمه «روبرت كيم». وعيادته تقع في «بارك ستريت» أو شارع «بارك». إن عملاءنا في المملكة المتحدة أرسلوا إلينا تفاصيل ما سوف يحدث. وهذه معلومات لا يعرفها أحد غيرنا، كما تعلمون.
لم يَكمل رقم «صفر» كلامه، فقد سمع ثلاث دقات متوالية سريعة، جعلته يقول: معذرة لحظة واحدة.
عرف الشياطين أن هناك رسالة عاجلة في الطريق إلى المقرِّ السريِّ.
كانت أقدام رقم «صفر» تبتعد في سرعة غير طبيعية، وكان هذا يعني أن الرسالة عاجلة جدًّا، وهامة أكثر.
قال «بو عمير»: تبدو المسألة غامضة. فهناك حراسات متعدِّدة حول العلماء، فمن المؤكَّد أن كل عالم جاء من بلده بحراسته. بجوار الحراسة المفروضة في إنجلترا ذاتها.
قال «مصباح»: المسألة ليست الخطف؛ فالعصابة تستطيع تنفيذ ذلك بالتأكيد المسألة ما بعد الخطف …
تلك العملية التجميلية التي تحدث عنها رقم «صفر». قطع حديثهم صوت أقدامه القادمة في هدوء ثقيل واقترب حتى توقف، وقال: لقد خطفوا «جاسبروور».
ساد صمت ثقيل، بينما تلاقت أعين الشياطين في دهشة هل يمكن أن يتم ذلك بكل هذه السرعة؟ لكن الشياطين يعرفون جيدًا، أن عصابة «سادة العالم» لها من القوة والذكاء، ما يمكنها من أن تحقق ذلك فعلًا.
قطع الصمت سؤال ﻟ «ريما»: هل يمكن أن نعرف كيف خطفوه.
عاد الصمت مرة أخرى، ولم يجب رقم «صفر» بسرعة.
لقد مرَّت لحظات قبل أن يقول: برغم أن هذه ليست القضية الهامة، إلا أنني سأقول لكم. لقد اندسَّ رجال العصابة بين الحرس، واستطاعوا خطف «جاسبروور». لقد رسموا خطة جيدة؛ ففي الفندق الذي ينزل فيه، كان يقيم معه حراسه الفرنسيون، غير أنهم استطاعوا أن يتخلَّصوا منهم وببساطة طبعًا اصطحبوه كالعادة إلى المؤتمر وعندما انتهى من الجلسة، رافقوه بصورة عادية إلى الفندق … لكنهم في الطريق اختفوا به، إنَّ ذلك لم يُعلَن في إنجلترا حتى الآن … فهم يتكتَّمون الخبر، حتى يعثروا عليه … وقد ادَّعوا أنه مريض، وأنه يعتذر عن حضور بعض الجلسات، إنهم يحاولون أن يعطوا لأنفسهم وقتًا للبحث عنه … وقد أبلغوا جميع المطارات والموانئ والطرق بشكل سري، مع نشرة بأوصاف وصورة «جاسبروور» … لقد حدث ذلك أمس فقط … ثم صمت رقم «صفر».
كان الشياطين ينظرون إلى بعضهم دون أن يكون هناك شيء مشترك في تفكيرهم سوى سؤال: هل تمت عملية التجميل؟ وهل يُمكن أن تغير ملامح العالم؟
بعد لحظات قال رقم «صفر»: إن عملية التجميل، ليست مجرد إخفاء بعض ملامحه … إنها يمكن أن تكون عملية تغيير كاملة، إن أوصاف «جاسبروور». تقول إنه ليس وسيمًا تمامًا، وإن كان يتمتع بجاذبية في عامه الستين … ليس طويلًا، وإن كان أيضًا يميل إلى القصر. وممتلئًا بعض الشيء … قوي البُنيان، أزرق العينين … أشيب الشعر، خلع ضرسين فقط من فمه، واحد في الجانب الأيمن السُّفلي، والآخر في الجانب الأيسر العلوي.
صمت لحظة، ثم قال: لكن كل هذه التفاصيل، لا تفيد في كثير. إن «جاسبروور» يمكن أن يصبح شابًّا في الثلاثين مثلًا، دون أن يعرف أحد ذلك، إلا الدكتور «روبرت كيم».
نظر الشياطين إلى بعضهم في دهشة، بينما رن جرس متقطع سريع، جعل رقم «صفر» يختفي بسرعة دون أن يقول شيئًا.
وقفزت إلى أذهان الشياطين أسئلة كثيرة. كان أهمها: هل يُمكن أن يتحوَّل «جاسبروور» إلى شاب في الثلاثين؟ وهل يمكن أن يختفيَ تمامًا؟ وهل … وهل … أسئلة كثيرة كلها بلا إجابات.