ثم بدأت … المواجهة!
مرَّ الوقت سريعًا حتى أصبحت الساعة العاشرة والنصف … أخذ الشياطين يدورون في الحجرة، وكأنهم مسجونون إلا «أحمد» الذي كان لا يزال يقف في النافذة في انتظارها … فجأةً تناهى إلى سمعه صوت أقدام تقترب من الشارع، فاقترب من النافذة أكثر، وانحنى يتسمع صوت الخطوات وعندما اقترب الصوت أكثر، عرف فيه صوت أقدام «هدى». تنفس في ارتياح، ثم استدار ونظر إلى الشياطين الذين كانوا قد جلسوا … في صمت. وعندما رأوا تعبير وجهه، قفز «عثمان»: هل أتت؟
قال «أحمد» مبتسمًا: ومتى لا يعود الشياطين.
مرت لحظات، وهم يرقبون الباب الذي فتح في هدوء، ثم ظهرت «هدى» وهي ترسم ابتسامة واثقة على وجهها. تقدمت إلى الداخل، ثم جلست. التف الشياطين حولها، فسألها «بو عمير» في لهفة: هل قابلت الدكتورة «اليانور»؟
أجابت: نعم.
أحمد: هل هي التي عرفتها في الصورة؟
هدى: نعم هي.
التقت أعين الشياطين، حتى إن «هدى» تساءلت: وهل يجب أن أقابل أحدًا آخر؟
شرح لها «أحمد» ما حدث من لقاء «عثمان» في المستشفى، بتلك التي قدمت نفسها على أنها «اليانور جاكسي» … وبرغم أن الدهشة ظهرت على وجه «هدى» في البداية، إلا أنها قالت: أظن أن هذه مسألة طبيعية أن تظهر «اليانور» مزيفة.
صمتت «هدى» قليلًا، ثم قالت: إن اللقاء كان رقيقًا جدًّا. ولقد تحدثنا كثيرًا في أمور مختلفة … ومن الغد، سوف أبدأ عملي هناك، لقد اقتربنا خلال الحديث، وأظن أنني لن أستغرق وقتًا طويلًا في معرفة الكثير عن الدكتور «روبرت كيم» … خصوصًا وأننا تحدثنا أيضًا عن جراحة التجميل، وعن عملها مع «روبرت».
سألها «رشيد»: وما هي طبيعة العمل الذي سوف تقومين به.
قالت «هدى»: إن الدكتورة «اليانور»، تعمل في مستشفى «هاملتون» وهو يبعد عن لندن بحوالي خمسين كيلومترًا … إنها تعيش مع أمها العجوز، وهي سيدة رقيقة تمامًا، وأمها «جاكسي» تظلُّ وحدها طوال فترة غياب ابنتها … وسوف أكون مجرد مُرافِقة لها، أقضي معها الوقت. فهناك من يقوم بأعمال المنزل، لكن لفترات معينة ثم ينصرف، وسوف يبدأ يوم العمل من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً.
قال «عثمان»: هذا يعني أنكِ لن تجلسي كثيرًا مع الدكتورة.
قالت «هدى»: ربما، ولكن السيدة «جاكسي»، سوف تكون مصدرًا جيدًا للمعلومات أيضًا.
تعدَّدت مناقشة الشياطين، ثم انصرفوا للنوم، حتى تبدأ «هدى» عملها صباحًا، لأنها لا بد أن تصحو في السابعة … فالدكتورة لا تسكن بعيدًا … بجوار أن أحدًا لن يوصلها، حتى لا تلفت النظر. هدأت حركة الليل، وأصبح الصمت يحوط كل شيء، إلا تلك الدقات الرتيبة التي كان يحدثها الشتاء عندما يشتد المطر، لقد غرق الشياطين في النوم، بعد أن حققوا خطوات طيبة هذا النهار … ولكن «أحمد» كان الوحيد الذي ظل مستيقظًا، لقد كان يقلب الأمور في ذهنه حتى يصل إلى بداية الخيط. إن المطلوب هو معرفة شكل الدكتور «جاسبروور» بعد أن أجريت له عملية التجميل، وبدون ذلك فلن يتمكَّن من تحقيق شيء.
فكر «أحمد»: إن دخول «عثمان» المستشفى، وتردده عليه، ثم لقاءه بالدكتور «روبرت كيم»، سوف يجعله زبونًا عاديًّا، ولن يلفت نظر أحد، ووصول «هدى» إلى بعض المعلومات من منزل «اليانور جاكسي» سوف يفتح الطريق أمام الشياطين، لاتخاذ الخطوة التالية.
ظلَّ «أحمد» مستغرقًا في التفكير حتى غلبه النوم، غير أنه استيقظ بعد ساعة، ونظر في ساعة يده، فوجَدَها الثانية صباحًا. أخذ يستمع إلى دقات المطر على زجاج النافذة، الذي كان يعكس إضاءة الشارع. فكر: هل يُمكن أن تكون «هدى» مراقبة من العصابة؟ أخذ يقلب الموقف في ذهنه. وقال لنفسه: إنني أحتاج إلى النوم الآن، فمنذ الغد تبدأ خطوات أخرى. أخذ يمارس تمارينه النفسية حتى ينام. ولم تمض عشر دقائق، حتى كان قد استغرق في النوم.
وعندما استيقظ في الصباح، كان الشياطين يَجلسُون في الحجرة … ابتسم وهو يقول لقد تأخَّرت، أظن أن «هدى» قد انصرفت.
قال «عثمان»: نعم … إن الساعة الآن تُشير إلى الثامنة والنصف، وهذا يعني أنها تسلمت عملها منذ نصف ساعة.
عندما انتهوا من إفطارهم، خرجوا يتجوَّلون في المدينة، كانت آثار شتاء الليلة الماضية لا تزال واضحة برغم العمل الجاد الذي لاحظوه وهم يتجوَّلون، في الشوارع. وعندما اقتربت الساعة من الواحدة، أخذوا طريقهم إلى الفندق، حتى يستعد «عثمان» لمقابلة «د. روبرت كيم».
وفي الثانية إلا الربع، ودعهم «عثمان» ثم أخذ طريقه إلى المستشفى.
جلسوا في حجرة «أحمد» في انتظار إشارة ما، من «عثمان» أو «هدى». لكن برغم مرور الوقت، إلا أن شيئًا لم يصل إليهم …
وعندما دقت الساعة الرابعة تمامًا، كان «عثمان» يفتح الباب وهو يبدو ضاحكًا، وأخذ يقص عليهم ما حدث … حديثه مع «اليانور» المزيفة، ولقاءه بالدكتور «روبرت» الذي استطاع أن يعقد معه علاقة طيبة.
رغم اعتذار الدكتور عن إجراء أي عملية الآن، لأنه مشغول جدًّا. فلديه أكثر من عشر عمليات تجميل. ارتبط بمواعيدها. لكنه قال ﻟ «عثمان» في نهاية اللقاء: إنه يُسعده أن يلقاه دائمًا.
قال «عثمان» في نهاية الحديث: إنَّ المستشفى يكاد يكون محاصرًا من الداخل تمامًا … والدكتور لا يتحرَّك إلا تحت أعين تراقبه.
سأله «أحمد»: ماذا كانت حالة الدكتور؟
فكر «عثمان» قليلًا وكأنه يستعيد صورة الدكتور «روبرت» ثم قال: كان برغم رقته، يبدو مهمومًا، وحزينًا. حتى إنه تحدث بعض الوقت، عن قسوة العمل الذي يقوم به، بالرغم من حبه له. وقد لاحظت أنه غيَّر مجرى الحديث عندما دخلت «اليانور»، تُخبره أن حجرة العمليات سوف تكون جاهزة للحالة الجديدة في تمام السادسة.
تساءل «رشيد»: كان الدكتور يستطيع أن يُخبر أي إنسان بما حدث …
وقبل أن يكمل كلامه، قاطعه «أحمد» قائلًا: لا تنس أن العصابة يمكن أن تنهي حياته لو حدث أي شيء، حتى ولو بعد انكشاف الموقف … إن الدكتور يعرف ذلك جيدًا.
امتد الصمت حتى قطعه «بو عمير» قائلًا: أظن أن «هدى» هي التي تملك الآن مفتاح الموقف كله، عندما تحصل على معلومات.
انقضى النهار، واقتربت الساعة من الثامنة. فجأة أعطى جهاز الاستقبال إشارة، قال «أحمد» على إثرها: أظن أنها … «هدى».
جاءت الرسالة قصيرة وسريعة. كانت تقول: سوف أتأخر بعض الوقت.
كانت الرسالة القصيرة تعني أن «هدى» في طريقها للحصول على معلومات هامة … ولذلك، أخذ الشياطين يقطعون الوقت في انتظار وصولها … لكن الوقت تأخر، بما جعلهم يفكرون في شيء آخر، لقد انتهى تفكيرهم إلى الخروج والذهاب إلى منزل الدكتورة «اليانور».
وقد حدد «أحمد» طريقة التحرك: سوف أذهب أنا و«بو عمير»؛ فخروج «عثمان» يلفت النظر، بعد أن أصبح معروفًا للمستشفى، وقد نلتقي بأحد من رجال العصابة الذين رأوا «عثمان». وسوف نرسل إليكم تفاصيل تحركنا.
ولم تمضِ دقائق، حتى كان «أحمد» و«بو عمير» يقطعون شارع «بارك» إلى شارع «كوري»، حيث تسكن الدكتورة «اليانور». كان الجو باردًا جدًّا، غير أن السماء لم تكن تمطر، وعندما انتهى شارع «بارك» انحرفا إلى شارع «كوري». كانت الإضاءة خافتة، ولم يكن هناك أحد يمر في الشارع.
لكن فجأة همس «بو عمير»: انظر إلى يسارك قليلًا.
نظر «أحمد» بطرف عينه. كان هناك رجل يلبس معطفًا ثقيلًا … ويَمشي في هدوء … أبطأ سيرهما حتى يتمكنا من رؤية الرجل جيدًا، كان منزل الدكتور «اليانور» يقع في نهاية الشارع، في نفس الاتجاه الذي يتَّجهه الرجل.
همس «أحمد»: ينبغي أن ندخل في شارع «يورك» ونراقب الموقف، إن المنزل سوف يكون تحت أعينِنا.
انحرَفا إلى شارع يورك، فوجدا رجلًا يقف تحت أحد أعمدة النور. كان يبدو مُستغرقًا في قراءة ورقة صغيرة.
التفت «أحمد» وألقى نظرة سريعة في اتجاه منزل الدكتورة، ثم همس: إنَّ «هدى» تخرج من الباب.
ظهر ضوء غمر الشارع فجأة، ثم اقترب صوت موتور سيارة. ومرت بجانبهما ثم تجاوزتهما. في نفس اللحظة، استدارا عائدين، ولمح «بو عمير» الرجل الواقف تحت عمود النور وهو ينظر في اتجاههما بسرعة، ثم يستغرق في قراءة الورقة من جديد.
نقل ما رآه «لأحمد» الذي همس يبدو أنهما من رجال العصابة، وهما يراقبان منزل الدكتورة.
استمرا في سيرهما حتى وصلا شارع «بارك» وكانت «هدى» تسير أمامهما. في نفس الوقت الذي كانت فيه السيارة، تسير ببطء، وكأنها تَرصُد شيئًا. وفَهِما الموقف تمامًا.
فجأة التفتت «هدى» خلفها، فخشيا أن تناديهما لكنها استمرت في طريقها. وكأنها لم ترهما، فظلا في سيرهما، حتى دخلَت «هدى» من باب الفندق فلم يدخلا خلفها، بل استمرا في سيرهما حتى لا يلفتا نظر أحد … قطعا الشارع حتى تأكَّدا أنه لا يوجد أحد، فعادا مسرعين وعندما دخلا حجرة «أحمد» كانت «هدى» تجلس وحولها «عثمان» و«رشيد».
أخذت «هدى» تنقل إلى الشياطين ما حدث طوال اليوم … قالت في البداية إنَّ المنزل مراقب، وإنها لاحظت ذلك منذ أن دخلت في الصباح، غير أن أهم ما قالته «هدى»، هو ذلك السؤال الذي سألته للدكتورة بعد أن جلسا في أول الليل: لماذا لا تقوم بإجراء عمليات التجميل؟ وعرفت من إجابة «اليانور» أنها طبيبة تخدير، وليسَت جرَّاحة، وأن عملها يعتبر في نفس أهمية العملية الجراحية. ثم أخذت تحدثها عن خطوات العملية، فعرفت منها أن الدكتور «كيم» يقوم بصبِّ تمثال من الجبس لوجه من يريد أن يُجري له العملية. ثم يقوم بدراسة الوجه، وإجراء التجارب عليه، حتى يصل إلى الشكل الأمثل. بعدها يصبُّ تمثالًا آخر للوجه في صورته النهائية … وهي نفس الصورة التي سوف يكون عليها الوجه، وأنه يَحتفظ بهذه التماثيل في متحف خاص بالمستشفى. وعرفت أيضًا أن كلَّ تمثالين يحملان الاسم الأخير من الاسم الكامل للمريض. ودائمًا يكون الاسم مكتوبًا على قاعدة التمثال.
قال «أحمد» عندما ذكرت «هدى» هذه المعلومات لقد تحدد الموقف وهذه مهمة «عثمان» القادمة.
هتف «عثمان»: غدًا؟
فقال «أحمد»: لا بعد يومين.
صمت قليلًا ثم قال: سوف تذهب إلى المستشفى في الواحدة ظهرًا، وسوف تدخل بشكل عادي … وعليك أن تعرف أين يوجد هذا المتحف … إن مهمتنا الآن، هي الحصول على تمثال «د. جاسبروور»، بعد أن أجرى العملية.
ثم حدد الشياطين خطوات التنفيذ كلها، ولذلك فلم يكن أمامهم شيء يَفعلونه، إلا انتظار موعد ذهاب «عثمان» إلى المستشفى، في نفس الوقت تظل «هدى» في عملها العادي في منزل الدكتورة. شيء واحد فعلوه، هو حراسة «هدى» أثناء عودتها في الليل، خصوصًا وأنها أصبحت تتأخَّر بعد الثامنة … خاصة بعد أن بدأت علاقتها «باليانور»، تتوطد.
كان قد مر يوم منذ وضعوا خطة التنفيذ. وعندما اقتربت الساعة من الثامنة مساءً. وضع «أحمد» مكياجًا يُغير به شكله، ثم اصطحب «رشيد»، حتى لا يَلفت شكلُه عيونَ رجال العصابة، وحتى يكون وجودهما عاديًّا. اقتربا من شارع «كوري»، عندما كانت الساعة تدقُّ الثامنة والنصف. لم يكن أحد بالشارع. ظلا يقطعان الشارع في بطء، حتى نهايته. وعندما استدارا للعودة، لمحا «هدى» من بعيد تخرج من باب المنزل. وأسرعا قليلًا حتى يكونا أكثر قربًا منها. مضت دقائق، وهما خلفها، وهي تسير في هدوء.
فجأة، ظهرت سيارة مسرعة. وانحرفت بشدة في اتجاه «هدى» حتى كادت تصدمها. إلا أنَّ «هدى» كانت منتبهة تمامًا، فقفزت بعيدًا عن السيارة، التي ظلَّت في سرعتها، غير أن الموقف تغير، فقد ظهر رجلان خلف «هدى»، واقتربا منها بسرعة، حتى أصبحا يسيران بجوارها. أسرع «أحمد» و«رشيد»، في نفس اللحظة التي مد فيها أحد الرجلين يده، يُمسك بيد «هدى». سارت «هدى» معه، لكنها فاجأته بحركة دائرية جعلت الرجل يدور في الهواء، ثم يسقط على الأرض. وقبل أن يتمكن الآخر من «هدى» كان «رشيد» يطير في الهواء، ليُفاجئه بمشط قدمه في وجهه، ليسقط هو الآخر. قام الرجل الأول بسرعة، إلا أن «أحمد» عاجله بقبضة قوية في وجهه جعلته يترنَّح، وقبل أن يستعيد توازنه، ضربه مرةً أخرى، فانحنى وهو يئنُّ. ثم ضربه بكلتا يديه فسقط على الأرض.
كان «رشيد» يقف مُبتسمًا، فقد اندفع الرجل الثاني هاربًا. وعندما استعدَّ الثلاثة للسير، كانت السيارة قد عادت من جديد بنفس اندفاعها، ثم توقَّفت فجأة. وقبل أن ينزل منها أحد كان الشياطين قد قفزوا يحاصرونها، فاندفعت هاربة. وعرف الشياطين، أن المواجهة قد بدأت.