أصل الحياة على الأرض
يبدأ البحث عن الحياة في الكون بسؤال عميق هو: ما الحياة؟ سيخبرك علماء الأحياء الفلكية بأمانة أن هذا السؤال ليس له إجابة بسيطة أو مقبولة بوجه عام. ولن يفيد كثيرًا القول إننا نعرف الحياة حين نراها. فبصرف النظر عن السمات التي نحددها كي نفصل الكائنات الحية عن غير الحية على الأرض، يمكننا دومًا العثور على مثال يمحو هذا الفاصل أو يجعله غير واضح. فبعض الكائنات الحية، أو كلها، ينمو أو يتحرك أو يموت، لكن هذا يسري بالمثل على أشياء لا يمكننا وصفها بالحية إطلاقًا. هل تعيد الحياة إنتاج نفسها؟ الأمر عينه يحدث مع النار. هل تتضمن الحياة إنتاج أشكال جديدة؟ الأمر عينه تفعله بعض البلورات التي تنمو في المحاليل المائية. يمكننا بالقطع القول إنك تستطيع التعرف على بعض أشكال الحياة عند رؤيتها — فمن هذا الذي قد يفشل في رؤية الحياة في أسماك السلمون أو طيور العُقاب؟ — لكن أي شخص على ألفة بالحياة بأشكالها المتنوعة سيقرُّ بأن العديد من الكائنات ستظل غير مُكتشفة تمامًا حتى يتكفل الحظ الحسن ومهارة أحد الخبراء بالكشف عن طبيعتها الحية.
بما أن الحياة قصيرة، علينا الاعتماد على معيار فضفاض، ملائم عمومًا، للحياة. وها هو المعيار: الحياة تتكون من مجموعات من الأجسام القادرة على التكاثر والتطور. ولن ندعو أي مجموعة من الأشياء بالحية فقط لأنها تصنع المزيد من نفسها. فلكي تكون مؤهلة للحياة، عليها أيضًا أن تتطور إلى أشكال جديدة مع مرور الوقت. هذا التعريف إذن يزيل إمكانية الحكم على أي جسم منفرد بأنه حي. وبدلًا من ذلك علينا فحص نطاق من الأجسام في الفضاء وأن نتابعها مع مرور الوقت. قد يكون هذا التعريف للحياة مقيِّدًا، لكننا سنستخدمه في الوقت الحالي.
بينما فحص علماء الأحياء أشكال الحياة المختلفة على كوكبنا، اكتشفوا سمة عامة للحياة على الأرض. فالمادة الموجودة داخل كل كائن حي أرضي تتكون بالأساس من أربعة عناصر كيميائية فقط، وهي الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين. أما بقية العناصر الأخرى فتشكل أقل من واحد بالمائة من كتلة الكائن الحي. وخلاف الأربعة عناصر الأساسية هناك كميات ضئيلة من الفسفور، الذي يعد أهم هذه العناصر والضروري وجوده في أغلب أشكال الحياة، إضافة إلى كميات أصغر من الكبريت والصوديوم والماغنسيوم والكلور والبوتاسيوم والكالسيوم والحديد.
لكن هل يمكننا أن نخلص إلى أن هذه التركيبة من العناصر للحياة على الأرض لا بد أن تنطبق على أشكال الحياة الأخرى في الكون؟ هنا يمكننا تطبيق مبدأ كوبرنيكوس بحذافيره. فالعناصر الأربعة التي تؤلف جسم الحياة على الأرض تظهر أيضًا في قائمة أكثر العناصر وفرة في الكون، هذه القائمة القصيرة المكونة من ستة عناصر. وبما أن العنصرين الآخرين على القائمة، وهما الهيليوم والنيون، لا يتَّحدان نهائيًّا بأي عنصر آخر — إلا فيما ندر — فالحياة على الأرض تتألف من أكثر العناصر وفرة وأكثرها نشاطًا من الناحية الكيميائية في الكون. ومن كل التنبؤات التي يمكننا عملها بشأن الحياة على الكواكب الأخرى، فإن أكثرها يقينًا هو أن الحياة هناك ستتكون من العناصر نفسها التي تستخدمها الحياة على الأرض. ولو كانت الحياة على كوكبنا تتكون بالأساس من أربعة عناصر نادرة للغاية في الكون، على غرار النيوبيوم والبيسموث والجاليوم والبلوتونيوم، لكان لدينا سبب قوي للاعتقاد بأننا نمثل حالة خاصة في الكون. لكن بدلًا من ذلك فالتركيب الكيميائي للحياة على كوكبنا يحثُّنا على التحلي بالتفاؤل بشأن إمكانية وجود حياة خارج كوكب الأرض.
تناسب تركيبة الحياة على الأرض مبدأ كوبرنيكوس بأكثر مما قد نظن بشكل مبدئي. فلو كنا نعيش على كوكب مكون بالأساس من الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين، لما كانت حقيقة تكون الحياة من هذه العناصر الأربعة لتمثل أي مفاجأة لنا. لكن كوكب الأرض يتألف بالأساس من الأكسجين والسليكون والماغنسيوم، وطبقاته الخارجية تتكون في أغلبها من الأكسجين والسليكون والألومنيوم والحديد. واحد فقط من هذه العناصر، الأكسجين، يظهر على قائمة العناصر التي تتألف منها الحياة. وحين ننظر إلى محيطات الأرض، المكونة بالكامل تقريبًا من الأكسجين والهيدروجين، من المثير للدهشة أن الحياة بها تقوم على الكربون والنيتروجين، بدلًا من الكلور أو الصوديوم أو الكبريت أو الكالسيوم أو البوتاسيوم، وهي أكثر العناصر القابلة للذوبان في الماء المالح. إن توزيع العناصر في الكائنات الحية على الأرض يشبه تركيبة النجوم أكثر بكثير من تركيبة الأرض نفسها. ونتيجة لذلك تتوافر العناصر المكونة للحياة في الكون أكثر من توافرها على الأرض، وهي بداية طيبة لمن يأملون في العثور على الحياة في مواضع متعددة.
فور التأكيد على حقيقة أن المادة الخام للحياة موجودة بوفرة في أرجاء الكون، يمكننا بعد ذلك التساؤل: كم مرة يؤدي وجود تلك العناصر — إلى جانب وجود مكان تتجمع عليه هذه المواد ومصدر للطاقة على غرار نجم قريب — إلى ظهور الحياة نفسها؟ في يوم ما، حين نكون قد أجرينا مسحًا جيدًا للأماكن الممكن ظهور الحياة فيها بالقرب من الشمس سنملك إجابة صحيحة من الناحية الإحصائية لهذا السؤال. لكن في غياب مثل هذه البيانات، علينا أن نسلك سبيلًا غير مباشر للإجابة وأن نتساءل: كيف بدأت الحياة على الأرض؟
•••
لا يزال الغموض يكتنف نشأة الحياة على الأرض. وجهلنا ببداية الحياة على الأرض ينبع في أساسه من حقيقة أن الحدث الذي جعل المادة غير الحية تتحول لمادة حية — مهما كانت طبيعته — وقع منذ مليارات الأعوام ولم يخلِّف أي آثار يمكن تتبعها. فلا يوجد سجل حفري أو جيولوجي لتاريخ الأرض للفترة التي تسبق الأربعة مليارات عام الماضية. ومع هذا فالفترة في تاريخ المجموعة الشمسية بين ٤٫٦ و٤ مليارات عام مضت — أي أول ٦٠٠ مليون عام بعد تكون الشمس وكواكبها — تضم الفترة التي يؤمن أغلب علماء الحفريات القديمة — المتخصصين في إعادة بناء الحياة التي وجدت في حقب زالت منذ زمن بعيد — بأن الحياة ظهرت فيها على الكواكب.
يرجع غياب جميع الأدلة الجيولوجية من الحقب التي تزيد في العمر عن ٤ مليارات عام إلى حركة القشرة الأرضية، المعروفة عامة بالانجراف القاري وعلميًّا بتكتونيات الصفائح. فهذه الحركات، التي تسببها الحرارة الصاعدة من باطن الأرض، تجبر قطعًا من قشرة كوكبنا على الانزلاق أو التصادم أو الاحتكاك بعضها ببعض بشكل مستمر. وقد تسببت حركة تكتونيات الصفائح في الدفن البطيء لكل شيء كان موجودًا على سطح الأرض. ونتيجة لذلك، ليس لدينا سوى القليل من الصخور التي تزيد أعمارها عن ملياري عام، وليس لدينا أي صخور يزيد عمرها عن ٣٫٨ مليارات عام. هذه الحقيقة، إضافة إلى الاستنتاج المنطقي بأن أغلب أشكال الحياة البدائية لم يكن لها سوى فرص ضئيلة في أن تُخلِّف وراءها أدلة من الحفريات، جعلت كوكبنا يخلو من أي سجل موثوق به للحياة خلال أول مليار أو ملياري عام من عمر الأرض. وأقدم دليل دامغ على وجود الحياة لا يرجع تاريخه إلا إلى ٢٫٧ مليار عام «فقط»، مع وجود إشارات غير مباشرة على وجود الحياة بما يسبق هذا التاريخ بنحو مليار عام.
يؤمن أغلب علماء الحفريات بأن الحياة ظهرت على الأرض منذ ما لا يقل عن ٣ مليارات عام، ومن الممكن أن تكون ظهرت بالفعل منذ ٤ مليارات عام، في خلال أول ٦٠٠ مليون عام بعد تكون كوكب الأرض. يستند استنتاجهم إلى افتراض منطقي بشأن الكائنات الأولية. فمنذ أقل من ٣ مليارات عام مضت بقليل بدأت كميات وفيرة من الأكسجين في الظهور في الغلاف الجوي للأرض. ونحن نعلم هذا من واقع السجل الجيولوجي للأرض بشكل مستقل عن أي بقايا للحفريات؛ فالأكسجين يعزز الصدأ البطيء للصخور الغنية بالحديد، وهو ما يسبب وجود درجات اللون الحمراء المحببة للصخور الموجودة في وادي جراند كانيون في أريزونا. أما الصخور التي يعود تاريخها لما قبل حقبة الأكسجين فلا تظهر عليها مثل هذه الألوان أو أي علامات أخرى لوجود عنصر الأكسجين.
مثَّل ظهور الأكسجين في الغلاف الجوي أعظم تلوث حدث على الإطلاق. فأكسجين الغلاف الجوي يفعل ما هو أكثر من الاتحاد بالحديد؛ إذ إنه يأخذ الطعام من أفواه الكائنات البدائية (مجازيًّا) من خلال الاتحاد بجميع الجزيئات البسيطة التي كان يمكن لأشكال الحياة الأولية التغذي عليها. ونتيجة لذلك، كان ظهور الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض معناه أن جميع أشكال الحياة وجب عليها إما أن تتكيف معه أو أن تموت، وأنه لو لم تكن الحياة موجودة قبل هذا الوقت، لكان سيستحيل ظهورها بعده؛ لأن الكائنات التي ستظهر لم تكن لتجد أي شيء لتأكله؛ لأن غذاءها الأساسي قد صدأ بفعل الأكسجين. عمل التكيف التطوري على هذا التلوث بشكل طيب في حالات عدة، وهو ما تشهد عليه كل الحيوانات التي تتنفس الأكسجين. كما أن الاختباء من الأكسجين حقق النجاح ذاته. فإلى يومنا هذا تحتوي معدة كل حيوان — بما فيها الإنسان — على مليارات الكائنات التي تعيش في البيئة الخالية من الأكسجين التي نوفرها لها، ومن شأنها أن تموت لو تعرضت للهواء.
•••
في مصادفة عجيبة، تضم هذه الفترة المفقودة من التاريخ الجيولوجي — التي ظهرت فيها الحياة — الفترة المسماة بفترة القصف أيضًا، التي تغطي بضع مئات الملايين من الأعوام التالية على تكون الأرض. إن كل جزء من سطح الأرض تعرَّض وقتها لسيل منهمر من الأجسام. فخلال الملايين الأولى من الأعوام ضربت أجسام ساقطة — في حجم ذلك الجسم الذي تسبب في «فوهة النيزك» في أريزونا — كوكبنا عدة مرات في كل قرن، إضافة إلى ارتطام أجسام أخرى أكبر بكثير، يمتد قطر الواحد منها أميالًا عديدة، بالأرض كل بضعة آلاف من الأعوام. وقد تسبب كل ارتطام كبير من هذه في إعادة تشكيل سطح الأرض، وبهذا من شأن مائة ألف ارتطام كهذا التسبب في تغيرات شاملة في طبوغرافيا كوكبنا.
كيف أثرت هذه الارتطامات على نشأة الحياة؟ يخبرنا علماء الأحياء بأنها ربما تكون قد تسببت في ظهور الحياة وفنائها على سطح الكوكب، ليس مرة واحدة، بل عدة مرات. إن أغلب المواد الساقطة على الأرض خلال فترة القصف تكونت في الأساس من المذنبات، التي هي في جوهرها كرات جليدية ضخمة محملة بصخور وأتربة دقيقة. وقد تكون «ثلج» المذنبات من الماء المتجمد وثاني أكسيد الكربون المتجمد، والمعروف بالثلج الجاف. وإلى جانب الثلج والرمال والصخور الغنية بالأملاح المعدنية والمعادن، احتوت المذنبات التي ضربت الأرض خلال مئات الملايين الأولى من الأعوام على العديد من الأنواع المختلفة من الجزيئات الصغيرة، مثل الميثان والنشادر والكحول الميثيلي وسيانيد الهيدروجين والفورمالدهايد. هذه الجزيئات، إلى جانب الماء وأول وثاني أكسيد الكربون، تمثل المادة الخام للحياة. فجميعها تتكون من الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأكسجين، وجميعها تمثل الخطوات الأولى في بناء الجزيئات المعقدة.
يبدو إذن أن انهمار المذنبات أمد الأرض ببعض الماء لمحيطاتها وبالمادة الخام التي يمكن أن تبدأ الحياة منها. ربما تكون الحياة نفسها قد وصلت الأرض في هذه المذنبات، مع أن حرارتها المنخفضة، التي تصل في المعتاد إلى مئات الدرجات الفهرنهايتية تحت الصفر، تمنع تكون الجزيئات المعقدة. لكن سواء وصلت الحياة إلى الأرض مع المذنبات أم لا، فمن المحتمل أن تكون الأجسام الكبرى التي ضربت الأرض خلال فترة القصف قد تسببت في تدمير الحياة التي ظهرت من قبل على الأرض. فربما تكون الحياة قد بدأت، على الأقل في أكثر صورها البدائية، بصورة متكررة، بحيث تعيش كل مجموعة جديدة من الكائنات مئات أو آلافًا أو حتى ملايين الأعوام، إلى أن ينشر اصطدام أحد الأجسام الكبيرة الدمار في الأرض مفنيًا صور الحياة كافة، ثم تظهر الحياة مجددًا، ثم تُدمَّر مجددًا بعد مرور فترة مشابهة من الوقت.
يمكننا الوثوق بقدر ما بفكرة النشوء المتكرر للحياة على الأرض من واقع حقيقتين راسختين؛ الأولى: هي أن الحياة ظهرت على كوكبنا في وقت مبكر من تاريخه وليس متأخرًا؛ أي خلال الثلث الأول من عمر الأرض. وإذا استطاعت الحياة — وهو ما حدث بالفعل — الظهور في المليار عام الأولى من عمر الأرض، فمن الممكن أن تفعل هذا في فترة أقل بكثير. فنشأة الحياة لا تحتاج أكثر من ملايين قليلة، أو بضع عشرات الملايين، من الأعوام. ثانيًا: نحن نعرف أن اصطدام الأجسام الكبيرة بالأرض، على فترات تقدر بعشرات الملايين من الأعوام، دمر أغلب أنواع الكائنات الحية على ظهر الكوكب. أشهر هذه الحوادث هو انقراض العصر الطباشيري الثلثي الذي وقع منذ ٦٥ مليون عام وأفنى جميع الديناصورات غير الطائرة، إلى جانب عدد كبير من الأنواع الأخرى. وحتى حادث الانقراض هذا لم يصل في قوته إلى حادث انقراض العصر البرمي الترياسي الشامل الذي وقع منذ ٢٥٢ مليون عام، وتسبب في فناء حوالي ٩٠ بالمائة من جميع أنواع الكائنات البحرية و٧٠ بالمائة من جميع أنواع الكائنات الفقارية الأرضية، ولم تنج منه سوى الفطريات التي صارت الشكل المهيمن للحياة على الأرض.
نتج حادثا انقراض العصر الطباشيري الثلثي والعصر البرمي الترياسي الشاملين عن اصطدام نيزكين يصل قطرهما من عشرة إلى عشرين ميلًا بالأرض. وقد عثر علماء الجيولوجيا على فوهة اصطدام هائلة عمرها ٦٥ مليون عام، تتوافق مع الوقت الذي وقع فيه انقراض العصر الطباشيري الثلثي، وتمتد عبر شمال شبه جزيرة يوكاتان وقاع البحر المتاخم لها. كما اكتُشفت فوهة أكبر منها يتوافق عمرها مع انقراض العصر البرمي الترياسي بالقرب من الساحل الشمالي الغربي لأستراليا، لكن هذا الموت الشامل ربما نتج عن شيء آخر إلى جانب الاصطدام؛ انفجارات بركانية متواصلة مثلًا. وحتى المثال الوحيد لانقراض الديناصورات في العصر الطباشيري الثلثي يذكرنا بالضرر العظيم على الحياة الذي يمكن لمذنب أو كويكب أن يتسبب فيه. وأثناء فترة القصف من المؤكد أن الأرض لم تترنح بفعل هذا النوع من التصادمات وحسب، بل أيضًا من التأثيرات الأخطر بكثير لاصطدام أجسام تصل أقطارها إلى ٥٠ و١٠٠ — بل وحتى ٢٥٠ ميلًا — بالأرض. ومن المؤكد أن كل واحد من هذه التصادمات تسبب في القضاء على الحياة، إما بشكل تام أو بشكل كبير، حتى إن نسبة بسيطة للغاية من الكائنات هي التي تمكَّنت من البقاء حية، ومن المؤكد أن هذه التصادمات حدثت بتواتر أعلى من تصادمات الأجسام البالغ قطرها عشرة أميال اليوم. إن معرفتنا الحالية بعلم الفلك والأحياء والكيمياء والجيولوجيا تشير إلى أن الأرض في بداياتها كانت مستعدة لإنتاج الحياة، بينما كانت البيئة الكونية المحيطة بها مستعدة للقضاء على هذه الحياة. وفي أي مكان تكون فيه نجم وكواكبه حديثًا، فقد يتسبب القصف العنيف للحطام المتخلف عن عملية التكون في محو جميع أشكال الحياة على تلك الكواكب.
منذ أكثر من ٤ مليارات عام ارتطم الجزء الأكبر من الحطام المتخلف عن عملية تكون المجموعة الشمسية بالكواكب أو تحرك إلى مدارات لا تحدث فيها أي تصادمات. ونتيجة لذلك تغيرت المنطقة المجاورة لكوكبنا تدريجيًّا من منطقة قصف متوالٍ إلى السكون العام الذي نستمتع به اليوم، والذي يقطعه فقط، على فترات تقدر بملايين عديدة من الأعوام، حوادث اصطدام بأجسام كبيرة بما يكفي لتهديد الحياة على الأرض. وبإمكانك مقارنة تهديد التصادمات في الماضي البعيد واليوم كلما نظرت إلى القمر المكتمل. فسهول الحمم العملاقة التي تشكل وجه القمر وتجعله يشبه وجه الإنسان هي نتيجة للتصادمات المروعة التي وقعت منذ حوالي ٤ مليارات عام، مع نهاية فترة القصف، بينما الفوهة المسماة تايكو، والبالغ عرضها خمسة وخمسين ميلًا، نتجت عن اصطدام أصغر، لكن مؤثر للغاية، وقع بعد انقراض الديناصورات من سطح الأرض مباشرة.
إننا لا نعرف هل ظهرت الحياة منذ ٤ مليارات عام، واستمرت بالرغم من عاصفة التصادمات المبكرة، أم أنها ظهرت فقط بعد أن سادت فترة من الهدوء النسبي. هذان السيناريوهان يضمان احتمالية أن تكون الأجسام الساقطة هي التي حملت معها بذرة الحياة إلى الأرض، سواء في فترة القصف أو بعدها بوقت وجيز. إذا بدأت الحياة وانتهت بشكل متكرر بينما تسببت الأجسام الساقطة من السماء في إشاعة الفوضى، فلا بد أن العمليات التي تسببت في نشأتها عمليات نشطة، وعلى هذا يمكننا أن نتوقع حدوث هذه العمليات مرارًا وتكرارًا في عوالم أخرى مشابهة لعالمنا. ومن ناحية أخرى، إذا نشأت الحياة على الأرض مرة واحدة فحسب، إما من الأرض نفسها أو جاءت بذرتها من الكون، فربما تكون هذه النشأة قد حدثت بمحض الصدفة.
في كلتا الحالتين السؤال الحاسم بشأن الكيفية التي بدأت بها الحياة على الأرض، سواء مرة واحدة أو عدة مرات، ليس له إجابة وافية، مع أن التخمينات بشأن هذا الموضوع لها تاريخ طويل ومثير للاهتمام. وتنتظر مَن يستطيعون حل هذا اللغز مكاسب عظيمة. وعلى مر التاريخ، من ضلع آدم إلى وحش فرانكنشتاين، أجاب البشر عن هذا السؤال من خلال الاستعانة بفكرة قوة الحياة الغامضة التي تبث الحياة في الجماد.
يقال كثيرًا إن جميع الظروف المطلوبة للإنتاج الأولي لكائن حي متوافرة الآن، وظلت كذلك على الدوام. لكن لو (ويا لها من لو كبيرة!) أمكننا تصور وجود بركة صغيرة دافئة تتوافر بها كافة أنواع النشادر وأملاح الفسفور والضوء والحرارة والكهرباء، إلخ، بحيث تكوِّن مركبًا بروتينيًّا كيميائيًّا يكون مستعدًّا للمرور بالمزيد من التغيرات الأكثر تعقيدًا، ففي يومنا هذا سيُمتَص مثل هذا المركب على الفور، وهو ما لم يكن ليحدث قبل وجود الكائنات الحية.
من المنظور العلمي لا شيء ينجح كالتجارب التي يمكن مقارنتها بالواقع. وفي عام ١٩٥٣، سعيًا لاختبار فكرة داروين عن نشوء الحياة في برك أو أحواض المد، أجرى ستانلي ميلر، الذي كان وقتها طالب دراسات عليا يعمل بجامعة شيكاغو مع الحاصل على جائزة نوبل هارولد يوري، تجربة شهيرة تحاكي الظروف الموجودة داخل بركة مياه افتراضية مبسطة للغاية موجودة على كوكب الأرض المبكر. ملأ ميلر ويوري قارورة مختبر بالماء جزئيًّا، ثم وضعا أعلى هذا الماء مزيجًا غازيًّا من بخار الماء والهيدروجين والنشادر والميثان. ثم سخنا القارورة من الأسفل، بحيث تبخَّر جزء من محتواها واندفع عبر أنبوب زجاجي طويل نحو قارورة أخرى، حيث حاكت شحنات كهربية تأثير البرق. ومن هناك عاد المزيج مجددًا إلى القارورة الأصلية، في دورة تتكرر مرارًا على مدار بضعة أيام، عوضًا عن بضعة آلاف من الأعوام. وبعد هذه الفترة الزمنية المتواضعة للغاية وجد ميلر ويوري أن الماء في القارورة الدنيا صار غنيًّا ﺑ «مادة لزجة عضوية» هي مركب من جزيئات عديدة معقدة، من بينها أنواع مختلفة من السكر، إضافة إلى اثنين من أبسط الأحماض الأمينية، الألانين والجوانين.
بما أن جزيئات البروتين تتكون من عشرين نوعًا من الأحماض الأمينية مرتبة في أشكال بنيوية متباينة، تقطع تجربة ميلر-يوري، في غضون وقت وجيز للغاية، شوطًا طويلًا على الطريق من أبسط الجزيئات حتى جزيئات الحمض الأميني التي تشكل الوحدات البنائية للكائنات الحية. كما نجحت تجربة ميلر-يوري في تكوين بعض الجزيئات المعقدة نسبيًّا المسماة بالنيوكليوتيدات، التي تعد العنصر الأساسي المكون لجزيء الحمض النووي؛ ذلك الجزيء العملاق الذي يحمل تعليمات تكوين نسخ جديدة من الكائن. ومع هذا لا يزال الطريق طويلًا حتى تنشأ الحياة من المختبرات التجريبية. فثمة صدع كبير للغاية، لم ترأبه تجارب الإنسان ولا اختراعاته، يفصل بين تكوين الأحماض الأمينية — حتى لو أنتجت تجاربنا جميع الأحماض العشرين، وهو ما لم يحدث — وبين الحياة نفسها. لقد وُجدت جزيئات الحمض الأميني في بعض من أقدم النيازك وأقلها تغيرًا، والمُعتقد أنها ظلت دون تغير قرابة اﻟ ٤٫٦ مليارات عام التي تشكل تاريخ المجموعة الشمسية. يدعم هذا الافتراض العام القائل إن العمليات الطبيعية يمكنها إنتاج الأحماض الأمينية في مواقف متباينة كثيرة. إن النظرة المتوازنة للنتائج التجريبية ترى أنه لا يوجد ما يدعو إلى المفاجأة؛ فأبسط الجزيئات الموجودة في الكائنات الحية تتكون بسرعة في مواقف عديدة، لكن هذا لا ينطبق على الحياة. وبهذا يظل السؤال المحوري هو: كيف يمكن لمجموعة من الجزيئات — حتى تلك التي تقوم عليها الحياة — أن تولد الحياة نفسها؟
بما أن الأرض في بداياتها لم تُتح لها أسابيع بل ملايين عدة من الأعوام كي تنتج الحياة، يبدو أن نتائج تجربة ميلر-يوري تدعم نموذج برك المد الخاص ببداية الحياة. لكن في الوقت الحالي يرى أغلب العلماء الساعين لتفسير نشأة الحياة أن هذه التجربة كانت قاصرة للغاية في أساليبها. وقد نتج تغير وجهة نظرهم ليس من الشك في نتائج التجربة، بل من إدراكهم لخطأ محتمل في الفرضية التي تقوم عليها التجربة من الأساس. ولتفهم هذا الخطأ علينا التمعن فيما أوضحه لنا علم الأحياء بخصوص أقدم أشكال الحياة.
•••
يعتمد علم الأحياء التطوري في وقتنا الحالي على الدراسة الحريصة لأوجه الشبه والاختلاف بين الكائنات الحية في جزيئات كل من الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين، الدنا، والحمض النووي الريبي، الرنا، اللذين يحملان المعلومات التي تخبر الكائن الحي بالكيفية التي يعيش ويتكاثر بها. وقد مكَّنت المقارنة الحريصة لهذين الجزيئين المعقدين الضخمين إلى حدٍّ بعيد علماء الأحياء، ومن بينهم الرائد العظيم في هذا المجال كارل وويس، من تكوين شجرة تطورية للحياة تسجل «المسافات التطورية» بين أشكال الحياة المختلفة، والمحددة من خلال مقدار عدم التطابق بين هذه الكائنات من حيث جزيئي الدنا والرنا.
تتألف شجرة الحياة من ثلاثة فروع عظيمة؛ العتائق والبكتيريا وحقيقيات النوى، وهي تحل محل «الممالك» البيولوجية التي كان يُعتقد في الماضي أنها التقسيمات الجوهرية. تضم حقيقيات النوى جميع الكائنات التي تملك خلاياها مركزًا محددًا أو نواة تحتوي على المادة الوراثية التي تنظم تكاثر هذه الخلية. هذه السمة تجعل حقيقيات النوى أكثر تعقيدًا من النوعين الآخرين بكثير، وفي الواقع كل أشكال الحياة المألوفة للعين غير الخبيرة تندرج تحت هذا الفرع. بوسعنا أن نستنتج منطقيًّا أن حقيقيات النوى ظهرت بعد العتائق أو البكتيريا. ولأن البكتيريا تبعد عن بداية شجرة الحياة أكثر من العتائق — لسبب بسيط هو أن دنا ورنا البكتيريا قد تغير أكثر — تمثل العتائق، كما يوحي اسمها، أقدم أشكال الحياة. وهنا تظهر المفاجأة: فعلى العكس من البكتيريا وحقيقيات النوى تتكون العتائق بالأساس من «كائنات البيئات المتطرفة»، التي تحب أن تعيش فيما نطلق عليه الظروف المتطرفة: أي درجات الحرارة القريبة من درجة غليان الماء أو أعلى منها، أو درجة الحمضية العالية، أو المواقف الأخرى التي من شأنها القضاء على أي شكل آخر من أشكال الحياة. (بطبيعة الحال لو كان لدى كائنات البيئات المتطرفة علماء أحياء، كانوا سيعتبرون أنفسهم في وضع طبيعي ويعتبرون الكائنات التي تعيش في درجة حرارة الغرفة كائنات البيئات المتطرفة.) تميل الأبحاث الحديثة على شجرة الحياة إلى القول إن الحياة بدأت بكائنات البيئات المتطرفة، ثم بعد ذلك تطورت إلى أشكال الحياة التي تستفيد مما نطلق عليه الظروف الطبيعية.
في هذه الحالة لن تتجاوز فكرة داروين عن «البرك الصغيرة الدافئة» أو أحواض المد التي حاكتها تجربة ميلر-يوري مكانة الفرضيات المرفوضة. والأمر عينه ينطبق على الدورات المعتدلة من الجفاف والبلل. وبدلًا من ذلك فإن من يسعون للعثور على الأماكن التي بدأت فيها الحياة سيتعيَّن عليهم البحث عن الأماكن التي يخرج منها الماء شديد السخونة، والمشبع ربما بالأحماض، من باطن الأرض.
خلال العقود القليلة الماضية تمكَّن علماء المحيطات من اكتشاف مثل هذه الأماكن، إلى جانب اكتشاف أشكال الحياة العجيبة التي تدعمها. ففي عام ١٩٧٧ اكتشف اثنان من علماء المحيطات أثناء توجيههم لغواصة في أعماق المحيط أول الشقوق الحرارية العميقة، والممتدة مسافة ميل ونصف الميل تحت السطح الهادئ للمحيط الهادي بالقرب من جزر جالاباجوس. في هذه الشقوق تتصرف القشرة الأرضية على نحو أشبه بالموقد المنزلي الذي يولد ضغطًا شديدًا داخل القدر شديد التحمل ذي الغطاء المقفل، فيسخن الماء لدرجات حرارة تتجاوز درجة الغليان الطبيعية دون السماح له بالغليان فعلًا. ومع رفع الغطاء بشكل جزئي يندفع الماء الساخن المضغوط من أسفل القشرة الأرضية داخل حوض المحيط البارد.
يحمل الماء شديد السخونة المندفع من هذه الشقوق أملاحًا معدنية ذائبة سرعان ما تتجمع وتتصلب بحيث تحيط الشقوق بمداخن عملاقة مسامية، تبلغ ذروة حرارتها عند المركز وذروة البرودة عند الأطراف حيث يكون الاتصال المباشر بماء المحيط. وعلى امتداد درجات الحرارة المتدرجة تعيش أشكال لا حصر لها من الحياة لم يسبق لها أن رأت الشمس ولا تهتم البتة بالحرارة الآتية من الشمس، مع احتياجها للأكسجين الذائب في مياه البحر، الذي بدوره يأتي نتيجة وجود حياة قائمة على الشمس على السطح. هذه الجراثيم شديدة التحمل تعيش على الطاقة الحرارية القادمة من باطن الأرض، التي تمزج الحرارة المتخلفة عن عملية تكون الأرض مع الحرارة المنتجة على نحو متواصل بفعل التحلل الإشعاعي للنظائر غير المستقرة مثل الألومنيوم-٢٦، الذي يستمر لملايين الأعوام، والبوتاسيوم-٤٠، الذي يستمر مليارات الأعوام.
قرب هذه الشقوق، في أقصى الأعماق التي لا يستطيع ضوء الشمس اختراقها، وجد علماء المحيطات ديدانًا أنبوبية يصل طولها إلى طول الإنسان، تعيش وسط مستعمرات كبيرة من البكتيريا والكائنات الأخرى الصغيرة. إن الحياة قرب الشقوق البحرية العميقة لا تعتمد في الحصول على طاقتها على ضوء الشمس، كما تفعل النباتات في عملية التمثيل الضوئي، بل تعتمد على «التمثيل الكيميائي»، بمعنى إنتاج الطاقة من التفاعلات الكيميائية، التي تعتمد بدورها على الحرارة الآتية من باطن الأرض.
كيف يحدث التمثيل الكيميائي؟ الماء الساخن المندفع من الشقوق البحرية العميقة يخرج مشبعًا بمركبات الهيدروجين-الكبريت والهيدروجين-الحديد. تربط البكتيريا الموجودة قرب الشقوق هذه الجزيئات بذرات الهيدروجين والأكسجين الموجودة في جزيئات الماء، وبذرات الكربون والأكسجين الموجودة في جزيئات ثاني أكسيد الكربون الذائبة في الماء. هذه التفاعلات تكوِّن جزيئات أكبر — كربوهيدرات — من ذرات الكربون والأكسجين والهيدروجين. وبهذا تحاكي البكتيريا الموجودة قرب الشقوق البحرية نشاط بنات عمومتها بالأعلى، التي تصنع الكربوهيدرات بالمثل من الكربون والأكسجين والهيدروجين. فأحد الفريقين يستخدم طاقة ضوء الشمس لتصنيع الكربوهيدرات، بينما يعتمد الفريق الآخر على التفاعلات الكيميائية في أعماق المحيطات. وبالقرب من الشقوق البحرية العميقة تستهلك كائنات أخرى البكتيريا المصنعة للكربوهيدرات، بحيث تستفيد من طاقتها بالطريقة ذاتها التي تتغذى بها الحيوانات على النباتات أو على الحيوانات الأخرى التي تغذت بدورها على النباتات.
في التفاعلات الكيميائية بالقرب من الشقوق البحرية العميقة يحدث ما هو أكثر من إنتاج جزيئات الكربوهيدرات وحسب. فذرات الحديد والكبريت، التي لا تضمها جزيئات الكربوهيدرات، تتحد لتكون مركبات خاصة بها، أبرزها بلورات بيريت الحديد (ثاني كبريتيد الحديد)، الشهير ﺑ «ذهب الحمقى»، المعروف لدى الإغريق باسم «حجر النار»؛ لأن أي ضربة قوية من صخرة أخرى عليه كفيلة بإنتاج شرارات منه. ربما يكون بيريت الحديد — وهو أكثر الأملاح المعدنية الحاملة لعنصر الكبريت على الأرض — قد لعب دورًا محوريًّا في ظهور الحياة، وذلك من خلال التشجيع على تكوين جزيئات شبيهة بالكربوهيدرات. هذه الفرضية تولَّدت عن قريحة موظف براءات الاختراع الألماني وعالم الأحياء الهاوي جونتر فاخترشاوسر، الذي لم تمنعه وظيفته من وضع الفرضيات عن علم الأحياء، تمامًا كما لم تمنع الوظيفة عينها أينشتاين من تقديم رؤاه عن الفيزياء. (إحقاقًا للحق، كان أينشتاين يحمل درجة جامعية في الفيزياء، بينما تعلم فاخترشاوسر الأحياء والكيمياء ذاتيًّا.)
في عام ١٩٩٤ اقترح فاخترشاوسر أن أسطح بلورات بيريت الحديد، المتكونة بشكل طبيعي من خلال اتحاد الحديد بالكبريت اللذين اندفعا من الشقوق البحرية العميقة في وقت مبكر من تاريخ الأرض، ستوفر مواقع طبيعية يمكن فيها للجزيئات الغنية بالكربون أن تتراكم، وأن تكتسب المزيد من ذرات الكربون من المواد المندفعة من الشقوق القريبة. ومثل من يفترضون أن الحياة بدأت في بحيرات أو برك المد، لم يكن لدى فاخترشاوسر أي سبيل واضح للمضي قدمًا من الوحدات البنائية للكائنات الحية. ومع هذا، في ظل تأكيده على بداية الحياة ذات الحرارة المرتفعة، قد يتمكن من إثبات أنه يسير على الطريق السليم، وهو ما يؤمن به من أعماقه. وقد واجه فاخترشاوسر منتقديه في المؤتمرات العلمية — مشيرًا إلى البنية عالية التنظيم لبلورات بيريت الحديد، التي ربما تكونت على أسطحها أولى جزيئات الحياة المعقدة — بعبارته الصادمة: «يقول البعض إن نشأة الحياة تأتي بالنظام من الفوضى، لكني أقول إنها تأتي ﺑ «نظام من نظام من نظام»!» إن هذا الزعم، الذي ألقاه بقوة اللغة الألمانية، يلقى ترحيبًا نسبيًّا، لكن الوقت وحده هو ما سيحدد مدى صحته.
إذن، أي نموذج لنشأة الحياة من المرجح أن تثبت صحته، أحواض المد على شواطئ المحيطات أم الشقوق الحارة في قيعان المحيطات؟ إلى الآن تبدو النتيجة متعادلة. عارض الخبراء بنشأة الحياة القول إن أقدم أشكال الحياة كانت تعيش في درجات حرارة عالية؛ لأن الطرق الحالية لوضع الكائنات الحية في مواضع مختلفة على امتداد شجرة الحياة لا تزال محل جدال. إضافة إلى ذلك، فالبرامج الحاسوبية المصممة لتعقب عدد المركبات من الأنواع المختلفة التي وجدت في جزيئات الرنا القديمة، بنات عمومة الدنا التي سبقت الدنا في تاريخ الحياة على ما يبدو، تقترح أن المركبات التي تدعم درجات الحرارة العالية ظهرت فقط بعد أن كانت الحياة قد مرت بتاريخ وجيز من درجات الحرارة المنخفضة.
وبهذا تكون نتيجة أدق أبحاثنا، كما يحدث دومًا في العلم، مقلقة لكثير ممن يسعون لليقين. ومع أنه يمكننا أن نحدد بالتقريب متى بدأت الحياة على الأرض، فإننا لا نعرف أين أو كيف حدث مثل هذا الحدث الإعجازي. حديثًا منح علماء الحفريات ذلك السلف المراوغ للحياة على الأرض الاسم «لوكا»، وهو اختصار لمصطلح إنجليزي بمعنى «السلف المشترك الكوني الأخير». (انظر كيف تظل عقول العلماء مثبتة على كوكبنا: كان حريًّا بهم أن يسموه «ليكا»، اختصارًا لمصطلح «السلف المشترك الأرضي الأخير».) لكن في الوقت الحالي تؤكد تسمية هذا السلف — مجموعة من الكائنات البدائية المشتركة في الجينات نفسها — على المسافة التي علينا أن نقطعها حتى نزيح النقاب الذي يفصلنا عن فهم بداية الحياة.
•••
يعتمد ما هو أكثر من مجرد فضولنا الطبيعي حيال أصلنا على حل هذه القضية. فالبدايات المتباينة للحياة تعني وجود احتمالات متعددة لظهور الحياة وتطورها واستمرارها، سواء أهنا أم في أي مكان آخر بالكون. على سبيل المثال، قد تمثل قيعان المحيطات أكثر الأنظمة البيئية استقرارًا على الكوكب. وإذا ارتطم كويكب عملاق بالأرض وأفنى كل أشكال الحياة على سطحها، من المؤكد استمرار كائنات البيئات المتطرفة التي تعيش بالمحيط في الحياة دون تأثر. بل ربما تتطور وتعيد إعمار سطح الأرض بعد كل حادثة إفناء. وإذا انتُزعت الشمس بصورة غامضة من مركز المجموعة الشمسية وهامت الأرض في أنحاء الفضاء، فلن يسترعي هذا الحدث أدنى درجات اهتمام كائنات البيئات المتطرفة؛ لأن الحياة قرب الشقوق البحرية العميقة قد تستطيع الاستمرار على حالها في هدوء. لكن بعد ٥ مليارات عام، ستصير الشمس عملاقًا أحمر، وستتمدد لتملأ النطاق الداخلي للمجموعة الشمسية. في الوقت ذاته ستغلي محيطات الأرض حتى تتبخر وحتى الأرض نفسها ستتبخر بشكل جزئي. وهذا من شأنه التأثير على أي شكل من أشكال الحياة الأرضية.
إن الوجود الشامل لكائنات البيئات المتطرفة على الأرض يقودنا إلى سؤال جوهري: هل يمكن أن توجد حياة في أعماق كثير من الكواكب الشريدة أو الكواكب المصغرة التي لفظتها المجموعة الشمسية إبان تكونها؟ باستطاعة مخزون حرارتها «الأرضية» الصمود مليارات الأعوام. وماذا عن الكواكب التي لا تحصى والتي لفظتها المجموعات الشمسية الأخرى لدى تكونها؟ هل يمكن للفضاء النجمي أن يحفل بالحياة التي تشكلت وتطورت في أعماق هذه الكواكب عديمة الشموس؟ قبل أن يقر الفيزيائيون الفلكيون بأهمية كائنات البيئات المتطرفة كانوا يتصورون وجود «منطقة صالحة للسكنى» حول كل نجم، يوجد داخلها الماء أو مادة أخرى تستطيع الحفاظ على نفسها في حالة سائلة، تمكن الجزيئات من أن تطفو وتتفاعل وتنتج المزيد من الجزيئات المعقدة. واليوم، علينا تعديل هذا المفهوم؛ لأن المنطقة الصالحة للسكنى لم تعد قاصرة على تلك المنطقة المنمقة المحيطة بالنجم وتتلقى منه المقدار المناسب من الضوء، بل يمكن أن تكون في أي مكان وكل مكان، ولا تعتمد على الحرارة الآتية من ضوء النجم، بل الحرارة الآتية من مصادر موضعية، التي تتولد عادة من الصخور المشعة. ربما إذن لم يكن كوخ الدببة الثلاث بالمكان المتميز في القصص الخيالية، وإن أي مكان للسكنى، حتى لو كان منزل أحد الخنازير الثلاثة، ربما كان يحتوي على وعاء الطعام المناسب في درجة الحرارة المناسبة.
يا لها من قصة خيالية مليئة بالأمل والبصيرة. فالحياة، قد تكون شائعة بنفس درجة شيوع الكواكب ذاتها، وليست نادرة أو نفيسة على الإطلاق. وكل ما علينا هو أن نعثر عليها.