ليكن نور
حين كان عمر الكون لا يتجاوز كسرًا بسيطًا من الثانية، وحرارته الهائلة تناهز التريليون درجة، وكان يتوهج في سطوع يستحيل تخيله، كان هدفه الرئيسي هو التمدد. ومع كل لحظة تمر كان الكون يكبر في الحجم، مع ظهور المزيد والمزيد من الفضاء من العدم (ليس من اليسير تصور هذا، لكن في هذا الصدد تتحدث الأدلة بصوت أعلى من المنطق). ومع تمدد الكون بدأ يبرد ويخفت. وعلى مدار مئات الآلاف من السنوات تعايشت المادة والطاقة فيما يشبه الحساء الثخين، الذي تشتت فيه الإلكترونات السريعة فوتونات الضوء في كل مكان على نحو مستمر.
في ذلك الوقت، إذا كانت مهمتك هي النظر عبر الكون، ما كنت لتتمكن من فعل هذا؛ فأي فوتون في سبيله لدخول عينيك سيتشتت قبل حدوث هذا بجزء من المليار (نانو ثانية) أو التريليون (بيكو ثانية) من الثانية بفعل الإلكترونات الموجودة أمام وجهك مباشرة. لن ترى سوى ضباب متوهج في جميع الاتجاهات، وستكون البيئة المحيطة بك — الساطعة، نصف الشفافة، ذات اللون الأبيض المشرب بالحمرة — في درجة سطوع سطح الشمس.
ومع تمدد الكون انخفضت الطاقة التي يحملها كل فوتون. وفي النهاية، حين وصل عمر الكون إلى ٣٨٠ ألف عام، انخفضت درجة حرارته لما دون الثلاثة آلاف درجة، وكان من نتيجة ذلك أن تمكنت البروتونات وأنوية الهيليوم من اقتناص الإلكترونات بشكل دائم، وبهذا ظهرت الذرات إلى الوجود. في الحقب السابقة على ذلك كان كل فوتون يتمتع بطاقة كافية لتمزيق أي ذرة حديثة التكون إربًا، لكن الآن فقدت الفوتونات هذه القدرة، وذلك بفضل التمدد الكوني. وهكذا استطاعت الفوتونات أخيرًا، بفضل قلة عدد الإلكترونات الحرة التي تعيقها، أن تتحرك بحرية عبر الفضاء دون الاصطدام بشيء. وفي ذلك الوقت صار الكون شفافًا؛ إذ انزاح الضباب، وتحررت خلفية كونية من الضوء المرئي.
تستمر الخلفية الكونية في الوجود إلى يومنا هذا، كبقايا للضوء القادم المبهر المتوهج الذي غمر الكون المبكر. هذه الخلفية هي فيض من الفوتونات يغمر الوجود بأسره، وهي تتصرف كموجات مثلما تتصرف كجسيمات. إن الطول الموجي لكل فوتون يساوي الفترة الفاصلة بين قمة كل ذبذبة له والقمة التالية لها، وهي مسافة يمكن قياسها بالمسطرة، هذا بالطبع لو استطعت الإمساك بأحد الفوتونات. تتحرك كل الفوتونات بالسرعة عينها في الفراغ، وتبلغ ١٨٦ ألف ميل في الثانية (والمسماة بطبيعة الحال بسرعة الضوء)؛ لذا تملك الفوتونات ذات الطول الموجي الأقصر عددًا أكبر من القمم الموجية التي تعبر نقطة بعينها في كل ثانية. وبهذا تتذبذب الفوتونات ذات الطول الموجي الأقصر بقدر أكبر في أي فترة زمنية، وبهذا يكون لها تردد أعلى، والتردد هنا يعني عدد الذبذبات في الثانية. يعد تردد الفوتون مؤشرًا على مقدار الطاقة التي يحملها؛ فكلما زاد تردد الفوتون حمل طاقة أكبر.
مع انخفاض حرارة الكون فقدت الفوتونات الطاقة لمصلحة الكون المتمدد. فالفوتونات المولودة في أشعة جاما والأشعة السينية على تدريج الطيف الضوئي تحولت إلى فوتونات للأشعة فوق البنفسجية، والضوء العادي، والأشعة تحت الحمراء. ومع تعاظم أطوالها الموجية صارت أقل حرارة وطاقة، لكن طبيعتها كفوتونات لم تتغير. واليوم، بعد ١٣٫٧ مليار عام على البداية، تحركت فوتونات الخلفية الكونية نزولًا على الطيف الضوئي لتصير فوتونات ميكرونية. ولهذا السبب يسميها الفيزيائيون الفلكيون «الخلفية الميكرونية الكونية»، مع أن المسمى الأكثر استمرارية سيكون «إشعاع الخلفية الكوني». وبعد مائة مليار سنة من اليوم، حين يكون الكون قد تمدد وبرد أكثر وأكثر، سيسمي الفيزيائيون الفلكيون المستقبليون إشعاع الخلفية الكوني ﺑ «الخلفية الراديوية الكونية».
تنخفض حرارة الكون مع زيادة حجمه. هذه قاعدة فيزيائية. فمع ابتعاد أجزاء الكون بعضها عن بعض لا بد للطول الموجي لإشعاع الخلفية الكوني أن يزيد؛ أي إن الكون يطيل هذه الموجات داخل النسيج المرن للمكان والزمان. ولأن طاقة كل فوتون تتناسب عكسيًّا مع طوله الموجي، من شأن كل الفوتونات الحرة أن تفقد نصف طاقاتها الأصلية مع كل تضاعف لحجم الكون.
تشع كل الأجسام التي لها حرارة أعلى من الصفر المطلق فوتونات على مختلف نطاقات الطيف. لكن هذا الإشعاع لا بد أن يكون له ذروة في مكان ما. تقع ذروة الطاقة الناتجة عن إشعاع مصباح الإضاءة المنزلي في نطاق الأشعة تحت الحمراء على الطيف، وهو ما يمكنك استشعاره من خلال الدفء الذي تشعر به على جلدك. بالطبع تشع المصابيح المنزلية قدرًا وفيرًا من الضوء المرئي، وإلا ما كنا لنشتريها. وبهذا يمكنك الإحساس بإشعاع المصباح مثلما يمكنك رؤيته.
تقع ذروة إشعاع الخلفية الكوني على طول موجي قدره حوالي ملليمتر واحد، في نطاق الموجات الميكرونية على الطيف. والشوشرة الاستاتيكية التي تسمعها في أجهزة اللاسلكي آتية من فيض غامر من الموجات الميكرونية، ونسبة مئوية بسيطة منها تخص إشعاع الخلفية الكوني. أما بقية «الضوضاء» فآتية من الشمس، والهواتف المحمولة، ورادارات قياس السرعة التي تستخدمها الشرطة وغيرها من المصادر. يحتوي إشعاع الخلفية الكوني — إلى جانب بلوغه الذروة في منطقة الموجات الميكرونية — أيضًا على موجات الراديو (التي تمكنه من الشوشرة على إشارات الراديو الأرضية) إلى جانب عدد قليل للغاية من الفوتونات ذات الطاقة الأعلى من هذه الموجات.
تنبَّأ العالم أمريكي الجنسية أوكراني الأصل جورج جاموف وزملاؤه بوجود إشعاع الخلفية الكوني في أربعينيات القرن العشرين، موحِّدين جهودهم في ورقة بحثية نشرت عام ١٩٤٨ طبقت قوانين الفيزياء المعروفة وقتها على الظروف الغريبة لمرحلة الكون المبكر. جاء أساس ورقتهم البحثية من ورقة أخرى نشرت عام ١٩٢٧ لجورج إدوارد لوميتر، الفلكي البلجيكي والقس اليسوعي، والمعترف به اليوم بوصفه «أبو» علم كونيات الانفجار العظيم. إلا أن أول من قام بتقدير الحرارة التي من المفترض أن يكون عليها إشعاع الخلفية الكوني هما الفيزيائيان الأمريكيان رالف ألفر وروبرت هيرمان، اللذان تعاونا من قبل مع جاموف.
بالنظر إلى الأمر من وضعنا اليوم نجد أن ألفر وجاموف وهيرمان استندوا إلى ما يمكن تسميته اليوم بالحجة البسيطة نسبيًّا، التي عرضنا لها بالفعل، القائلة إن نسيج الزمكان كان أصغر بالأمس عما هو عليه اليوم، وبما أنه كان أصغر، فمن المؤكد وفق أبسط قواعد الفيزياء أنه كان أشد حرارة. وهكذا أعاد الفيزيائيون عقارب الساعة إلى الوراء لتخيل الحقبة التي وصفناها قبل ذلك، وقت أن كان الكون حارًّا للغاية حتى إن أنوية الذرات كانت مجردة من الإلكترونات؛ لأن اصطدام الفوتونات بالإلكترونات جعلها تتشتت في أرجاء الفضاء. في ظل هذه الظروف، كما افترض ألفر وهيرمان، استحال على الفوتونات التحرك بسرعتها دون إعاقة عبر الكون، كما هو الحال اليوم. إن التحرك الحر للفوتونات يتطلب أن يكون الكون قد برد بما يكفي لجعل الإلكترونات تستقر في مدارات حول أنوية الذرات. شكل هذا ذرات كاملة، وسمح للضوء بالتحرك بحرية دون إعاقة.
ومع أن جاموف كان هو صاحب النبوءة المستبصرة الحاسمة القائلة إن الكون المبكر لا بد أنه كان أعلى حرارة بكثير عن الكون اليوم، فإن ألفر وهيرمان كانا أول من حسبا رياضيًّا الحرارة التي سيكون عليها الكون اليوم: ٥ درجات كلفينية. أجل، كان الرقم خاطئًا؛ إذ إن حرارة إشعاع الخلفية الكوني تبلغ ٢٫٧٣ درجة كلفينية وحسب. ومع هذا فقد أجرى هؤلاء الرجال الثلاثة عملية استقراء منطقية ناجحة في أعماق حقب كونية اختفت منذ زمن بعيد، وهو إنجاز علمي لا يقل عن سواه من الإنجازات في تاريخ العلم. فأَخْذ بعض مبادئ الفيزياء الذرية من المختبر، ثم استنتاج أكبر الظواهر التي قيست على الإطلاق — تاريخ حرارة الكون — لا يمكن أن يوصف إلا بأنه أمر مذهل. كتب جيه ريتشارد جوت الثالث، الفيزيائي الفلكي بجامعة برينستون، عن قيمة هذا الإنجاز في كتابه «السفر عبر الزمن في كون أينشتاين» قائلًا: «إن التنبؤ بأن الإشعاع كان موجودًا ثم استنتاج حرارته بشكل صحيح في حدود معامل ضرب قدره ٢ كان إنجازًا بارزًا، أشبه بالتنبؤ بهبوط طبق طائر قطره ٥٠ قدمًا على حديقة البيت الأبيض ثم مشاهدة طبق فعلي قطره ٢٧ قدمًا وهو يهبط بالفعل.»
حين قدم جاموف وألفر وهيرمان تنبؤاتهم، كان الفيزيائيون لم يحسموا أمرهم بعد بشأن قصة بداية الكون. ففي عام ١٩٤٩، العام نفسه الذي ظهرت فيه ورقة ألفر وهيرمان البحثية، ظهرت نظرية منافسة عن «الحالة الثابتة» في ورقتين بحثيتين نشرتا في إنجلترا، إحداهما اشترك في وضعها الرياضي هيرمان بوندي والفيزيائي الفلكي توماس جولد، والثانية لعالم الكونيات فريد هويل. تقضي نظرية الحالة الثابتة بأن الكون، رغم تمدده، كان يبدو على الدوام على الشكل عينه، وهي فرضية جذابة للغاية من فرط بساطتها. لكن لأن الكون يتمدد، ولأن كون الحالة الثابتة لن يكون أعلى حرارة أو كثافة بالأمس عما هو عليه اليوم، افترض سيناريو بوندي-هويل الظهور المباغت المتواصل للمادة في الكون بمعدلات مواتية للحفاظ على متوسط ثابت للكثافة في الكون المتمدد. وعلى النقيض من ذلك، تقول نظرية الانفجار العظيم (التي حصلت على هذا الاسم من النقد الساخر لفريد هويل) بظهور المادة كلها للوجود في اللحظة عينها، وهو ما يجده البعض مرضيًا من الناحية العاطفية. لاحظ أن نظرية الحالة الثابتة تلقي بقضية بداية الكون إلى الوراء لمسافات لا نهائية عبر الزمن، وهو الأمر الملائم للغاية لمن لا يفضلون خوض غمار هذه القضية الشائكة.
كان التنبؤ بوجود إشعاع الخلفية الكوني جرس إنذار لدعاة نظرية الحالة الثابتة. ووجود إشعاع الخلفية الكوني سيؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الكون كان مختلفًا فيما مضى — أصغر وأشد حرارة بكثير — مما هو عليه اليوم. وهكذا دقت أولى عمليات الرصد المباشر لإشعاع الخلفية الكوني المسامير الأولى في نعش نظرية الحالة الثابتة (مع أن فريد هويل لم يتقبل بشكل تام أن إشعاع الخلفية الكوني يدحض نظريته الأنيقة، وظل حتى مماته يحاول عَزْوَ هذا الإشعاع لمسببات أخرى). وفي عام ١٩٦٤ اكتُشف هذا الإشعاع على نحو عرضي وغير مقصود على يد كل من أرنو بنزياس وروبرت ويلسون في مختبرات شركة بيل للهواتف (أو مختبرات بيل اختصارًا) في موراي هيل بنيوجيرسي. ولم يمضِ عقد من الزمان حتى حصل بنزياس وويلسون على جائزة نوبل لحظهما الحسن واجتهادهما.
ما الذي قاد بنزياس وويلسون لجائزة نوبل؟ في أوائل الستينيات كان الفيزيائيون يعرفون بشأن الموجات الميكرونية، لكن لم يتمكن أحد من رصد الإشارات الضعيفة في النطاق الميكروني الضيق على الطيف. في ذلك الوقت، كانت أغلب الاتصالات اللاسلكية (كأجهزة الاستقبال والكشف والإرسال) تعمل على موجات الراديو التي لها طول موجي أكبر من الموجات الميكرونية. ومن أجل التقاط هذا النوع الأخير من الموجات احتاج العلماء لجهاز رصد يعمل على موجات أقصر وهوائي حساس. كان لدى مختبرات بيل جهاز من هذا النوع؛ هوائي كبير الحجم، ذو شكل أشبه بالقرن يمكنه تركيز الموجات الميكرونية والتقاطها مثل أي جهاز آخر على الأرض.
إذا كنت سترسل أو تستقبل إشارة من أي نوع، فأنت لا تريد أن تتداخل إشارات أخرى معها. كان بنزياس وويلسون يحاولان فتح قناة اتصال جديدة لمصلحة مختبرات بيل؛ لذا كانا يريدان أن يحددا بدقة مقدار «التداخل» الذي ستعاني منه إشاراتهم، من الشمس، أو من مركز المجرة، أو من الأجرام السماوية، أو غيرها؛ لذا عمدا إلى إجراء معياري مهم وبريء تمامًا استهدفا منه تحديد مدى السهولة التي يستطيعان بها رصد الإشارات الميكرونية. ومع أن لدى بنزياس وويلسون معرفة بعلم الفلك، فإنهما لم يكونا من علماء الكونيات، بل كانا فيزيائيين تقنيين يدرسان الموجات الميكرونية، غير واعيين بالتنبؤات التي وضعها جاموف وألفر وهيرمان. وبالتأكيد لم يكونا يبحثان عن إشعاع الخلفية الميكروني الكوني.
وهكذا أجريا تجربتهما، وصححا بياناتهما الخاصة بكافة مصادر التداخل المعروفة. لكنهما وجدا ضوضاء خلفية في الإشارات لم تختفِ، ولم يستطيعا معرفة كيفية الخلاص منها. بدت هذه الضوضاء وكأنها آتية من كل مكان وراء الأفق، ولم تتغير بمرور الوقت. في النهاية نظرا داخل القرن العملاق. كان الحمام يعشش هناك، تاركًا مادة بيضاء عازلة للكهرباء (مخلفات الحمام) في كل مكان. لا بد أن بنزياس وويلسون كانا يائسَين تمامًا وتساءلا: هل يمكن أن تكون مخلفات الحمام مسئولة عن ضوضاء الخلفية؟ نظفا المكان من المخلفات، وبالفعل انخفضت حدة الضوضاء قليلًا. لكنها لم تختفِ تمامًا. تشير الورقة البحثية التي نشراها عام ١٩٦٥ في دورية الفيزياء الفلكية («ذي أستروفيزيكال جورنال») إلى ذلك اللغز المستمر الخاص ﺑ «حرارة الهوائي الزائدة»، وليس إلى أهم اكتشاف فلكي للقرن العشرين.
بينما كان ينزياس وويلسون يزيلان مخلفات الطيور من الهوائي، عكف فريق من الفيزيائيين بجامعة برينستون، بقيادة روبرت إتش ديك، على بناء لاقط مصمم خصوصًا للعثور على إشعاع الخلفية الكوني الذي تنبَّأ جاموف وألفر وهيرمان بوجوده. لم يتح للأستاذ الجامعي نفس الموارد المتوفرة لمختبرات بيل؛ لذا تقدم العمل ببطء. وحين سمع ديك وزملاؤه عن النتائج التي توصل لها بنزياس وويلسون، عرفوا على الفور أن هناك من سبقهم لهذا الكشف. كان فريق برينستون يعرف بدقة ماهية «حرارة الهوائي الزائدة» هذه. وهكذا استقام كل شيء مع النظرية: الحرارة، وحقيقة أن الإشارة جاءت من الأنحاء كافة بمقدار متساوٍ، وأنها ليست مرتبطة بدوران الأرض حول نفسها أو موضعها في مدارها حول الشمس.
•••
لكن لماذا ينبغي على أي شخص القَبول بهذا التفسير؟ هناك سبب وجيه يدعو لذلك. فالفوتونات تأخذ بعض الوقت كي تصلنا من الأجزاء البعيدة من الكون، وهكذا حين ننظر لأجزاء أبعد من الفضاء، فإننا ننظر عبر الزمن إلى الوراء. هذا يعني أنه لو قاست مخلوقات عاقلة على ظهر إحدى المجرات البعيدة للغاية عنا حرارة إشعاع الخلفية الكوني لديهم، قبل أن نتمكن نحن من فعل هذا بوقت طويل، من المفترض أن يجدوا حرارته أكبر من ٢٫٧٣ درجة كلفينية؛ لأنهم سكنوا الكون حين كان أكثر شبابًا وأصغر حجمًا وأشد حرارة عما هو عليه اليوم.
هل من سبيل لاختبار مثل هذا التوكيد الجريء؟ بالطبع. لقد تبين أن مركب الكربون والنيتروجين المسمى بالسيانوجين — والمعروف للقتلة المدانين بوصفه المكون النشط في غاز الإعدام — يستثار عند التعرض للموجات الميكرونية. وإذا كانت الموجات الميكرونية هناك أدفأ من تلك الموجودة في إشعاع الخلفية الكوني، فستستثير ذلك الجزيء بشكل أكبر مما تستثيره الموجات الميكرونية لدينا. وبهذا تكون مركبات السيانوجين بمنزلة ترمومتر كوني. وحين نرصدها في مجرات أبعد، ومن ثم أصغر عمرًا، سنجدها مغمورة في إشعاع خلفية كوني أدفأ من الموجود في مجرَّتنا؛ مجرة درب التبانة. بعبارة أخرى، هذه المجرات تعيش حياة أكثر إثارة من التي نعيشها نحن. وهي كذلك بالفعل. يوضح طيف السيانوجين في المجرات البعيدة أن الموجات الميكرونية لها درجة الحرارة عينها التي نتوقعها في هذه الأوقات الكونية المبكرة.
هذا أمر لا يمكن اختلاقه.
يفيد إشعاع الخلفية الكوني الفيزيائيين الفلكيين بأكثر من مجرد تقديم دليل صريح على وجود كون مبكر حارٍّ، ومن ثم التأكيد على نموذج الانفجار العظيم؛ فقد اتَّضح أن تفاصيل الفوتونات المؤلفة لإشعاع الخلفية الكوني تصلنا محملة بمعلومات عن الكون، سواء قبل أن يصبح شفافًا أو بعد ذلك. وقد لاحظنا أنه حتى ذلك الوقت؛ أي بعد نحو ٣٨٠ ألف عام من الانفجار العظيم، كان الكون معتمًا؛ لذا كان سيستحيل عليك رؤية عملية تكون المادة، حتى لو كنت تجلس في منتصف الصف الأمامي للمسرح الكوني. لن يكون بوسعك رؤية العناقيد المجرية وهي تبدأ في التكون. وقبل أن يتمكن أي شخص — في أي مكان — من رؤية أي شيء يستحق الرؤية، كان على الفوتونات أن تكتسب القدرة على التحرك دون إعاقة في أرجاء الكون. وفي الوقت المناسب، بدأ كل فوتون رحلته عبر الكون من المكان الذي اصطدم فيه بآخر إلكترون وقف في طريقه. ومع هروب المزيد والمزيد من الفوتونات دون إعاقة من جانب الإلكترونات (بفضل ارتباط الإلكترونات بأنوية الذرات) تكوَّنت قشرة متمددة من الفوتونات يسميها الفيزيائيون الفلكيون «سطح التشتت الأخير». هذه القشرة، التي تكونت خلال فترة امتدت نحو مائة ألف عام، تميِّز الحقبة التي تكونت فيها كل الذرات في الكون تقريبًا.
بحلول ذلك الوقت كانت المادة في المناطق الكبرى من الكون قد بدأت في التجمع. وفي الأماكن التي تراكمت فيها المادة زادت قوة الجاذبية، ما مكن من تجمع المزيد والمزيد من المادة. شكلت هذه المناطق الغنية بالمادة بذورًا للعناقيد المجرية الفائقة، بينما ظلت الأماكن الأخرى خاوية نسبيًّا. وقد طورت آخر الفوتونات التي تشتتت من الإلكترونات داخل مناطق تجمع المادة طيفًا مختلفًا، أبرد بقليل، بينما شقت طريقها خارجة من مجال الجاذبية متزايد القوة، الذي سلبها قدرًا من طاقتها.
يظهر إشعاع الخلفية الكوني مناطق أكثر حرارة وأخرى أكثر برودة من المتوسط، عادة في حدود جزء على مائة ألف من الدرجة. هذه المناطق الحارة والباردة تمثل البُنى الكونية المبكرة؛ أول مناطق لتجمع المادة. إننا نعرف ما تبدو عليه المادة اليوم؛ لأننا نرى المجرات والعناقيد المجرية والعناقيد المجرية الفائقة. ولمعرفة كيف نشأت هذه النظم فإننا نسبر أغوار إشعاع الخلفية الكوني، ذلك الأثر الباقي من الماضي البعيد، الذي لا يزال يملأ الكون بأسره. تعد دراسة أنماط إشعاع الخلفية الكوني نوعًا من علم فراسة الدماغ الكوني؛ فبإمكاننا قراءة الآثار الموجودة على «جمجمة» الكون الشاب، ومنها نستنتج سلوكه، سواء حين كان طفلًا صغيرًا أو وهو رجل بالغ.
ومن خلال إضافة ملاحظات أخرى عن المناطق الكونية القريبة والبعيدة، يستطيع علماء الفلك تحديد مختلف الخصائص الكونية الجوهرية من إشعاع الخلفية الكوني. وإذا قارنا توزيع أحجام ودرجات حرارة المناطق الأدفأ والأبرد — على سبيل المثال — فسنتمكن من استنتاج قوة الجاذبية في الكون المبكر، ومن ثم نعرف السرعة التي تراكمت بها المادة. من هذا يمكننا استنتاج قدر المادة العادية، والمادة المظلمة، والطاقة المظلمة التي يتكون منها الكون (النسب هي ٤ و٢٣ و٧٣ بالمائة على الترتيب). ومن هنا يكون من السهل معرفة هل سيواصل الكون التمدد إلى الأبد، وهل سيتسارع التمدد أو يتباطأ مع مرور الوقت.
المادة العادية هي ما يتكون منه كل شيء، وهي تمارس قوة الجذب، وبإمكانها أن تمتص الضوء وتطلقه وتتفاعل معه بطرق أخرى. أما المادة المظلمة — كما سنرى في الفصل الرابع — فهي مادة ذات طبيعة غير معروفة لها قوة جذب، لكنها لا تتفاعل مع الضوء بأي صورة معروفة. أما الطاقة المظلمة — كما سنرى في الفصل الخامس — فتحفز على زيادة معدل تمدد الكون، مجبرة الكون على التمدد بسرعة أكبر مما لو كان الحال عليه دونها. يخبرنا فحص الدماغ بأن علماء الكونيات يفهمون الآن الصورة التي كان عليها الكون المبكر، لكنه يخبرنا أيضًا بأن السواد الأعظم من الكون، في الماضي أو الحاضر، يتكون من شيء لا ندري كنهه على الإطلاق.
على الرغم من مناطق الجهل العميقة التي لا تزال تواجهنا، فإن علم الكونيات يملك اليوم مرتكزًا لم يكن متاحًا من قبل. وإشعاع الخلفية الكوني يحمل بصمة البوابة التي عبرنا منها جميعًا من قبل.
•••
يتسم علماء الكونيات بقدر كبير من الاعتزاز بالذات، وإلا كيف واتتهم الجرأة لاستنتاج كيف أتى الكون بأسره إلى الوجود؟ لكن العصر الجديد من علم الكونيات القائم على الرصد قد يدعو المتخصصين فيه إلى التحلي بقدر أكبر من التواضع وقدر أقل من الحرية. فكل مشاهدة جديدة، وكل جزء يسير من البيانات، يمكن أن يعزز نظرية أو يقوِّضها. فمن ناحية، توفر المشاهدات أساسًا جوهريًّا لعلم الكونيات؛ أساسًا يمكن أن تأخذه علوم كثيرة كأمر مسلَّم به؛ نظرًا لقدرتها على توليد تيارات غنية من المشاهدات المعملية. لكن من ناحية أخرى، من المؤكد أن تثبت البيانات الجديدة خطأ بعض التفسيرات الخيالية التي تصوَّرَها المنظرون حين كانوا يفتقرون إلى المشاهدات التي من شأنها أن تعزز نظرياتهم أو تقوِّضها.
لن يصل أي علم إلى النضج دون بيانات دقيقة، وقد صار علم الكونيات الآن علمًا دقيقًا بالفعل.