مشكلة لا حل لها
وقعت هذه الحادثة الغريبة — والتي قد تكون الأغرب من بين القضايا العديدة التي واجهت الأب براون — في وقتٍ كان صديقه الفرنسي فلامبو قد تقاعد من امتهان الجريمة، ودخل مهنة محقِّق الجرائم بطاقةٍ ونجاحٍ كبيرَين. وتصادف أن كان فلامبو — كسارق وكمحقق في السرقات — متخصِّصًا في سرقات المجوهرات، وشُهِد له بالخبرة في كلٍّ من التعرُّف على المجوهرات، والتعرُّف على سارقيها أيضًا، وهي مسألة عملية بالقدر نفسه. وفي إطار معرفته الخاصة بهذا الأمر ومهمة خاصة أوكلت إليه بفضلها، اتصل فلامبو بصديقه القَسِّ في ذلك الصباح حيث تبدأ قصتُنا.
كان الأب براون مسرورًا لسماع صوت صديقه العزيز، حتى ولو عبر الهاتف؛ لكن على وجه العموم — وفي تلك اللحظة تحديدًا — لم يكن الأب براون مولعًا كثيرًا بالمحادثات الهاتفية؛ فقد كان رجلًا يفضِّل رؤية وجوه الناس والشعور بالأجواء الاجتماعية، ويعلم تمامًا أن الرسائل اللفظية يمكن أن تُصبحَ مضلِّلة للغاية من دون هذه الأشياء، خاصة إذا كان مصدرها الغرباء الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه. وبدا الأمر — في ذلك الصباح تحديدًا — وكأن سِربًا من الغرباء أخذوا يطنُّون في أذنَيه برسائل لفظية لا تفيد بشيءٍ بشكل أو بآخر؛ فقد بدا الهاتف وكأنه مسكون بروح التفاهة. وربما كان أبرزُ الأصوات التي حدَّثتْه كان لشخص سأله إذا ما كان لم يصدر تراخيص دورية للقتل والسرقة عند سداد تعريفة منتظمة متأخرة في كنيسته؛ ولما كان الغريب قد أنهى حديثه بضحكةٍ جوفاء، عند إخباره أن الأمر لم يكن يسيرُ على هذا النحو، فيمكن افتراض أنه ظلَّ غيرَ مقتنع. بعد ذلك حدَّثه صوتٌ أنثويٌّ قلقٌ وغير متسقٍ إلى حدٍّ ما يطلب منه الحضور في الحال إلى أحد الفنادق الذي سمع أنه يبعد خمسة وأربعين ميلًا على الطريق إلى مدينة كاتدرائية مجاورة؛ وقد تبع طلبَها ذلك طلبٌ آخر على النقيض منه من الصوت نفسه وإن كان بنبرةٍ أكثر قلقًا وأقل اتساقًا؛ إذ أخبرته أن الأمر ليس مهمًّا وأن حضوره ليس مطلوبًا في النهاية. وبعد ذلك اتصلَت به إحدى الوكالات الصحفية تسأله إن كان لديه ما يُعقِّب به على ما قالته إحدى نجمات السينما عن فيلم «شوارب للرجال»، ولكن في النهاية عاودت السيدة صاحبة الصوت الأنثوي القَلِق وغير المتسق الاتصالَ به، قائلة إن حضوره مطلوبٌ. ظن الأب براون على نحوٍ مبهم أن هذا بمثابة دلالة على حيرة وذُعر معروفين بين أولئك الذين يتجهون على نحوٍ غامضٍ نحو الدين وتعاليمه، لكنه أقرَّ بشعوره بارتياح كبير حين اختتم صوتُ صديقه فلامبو سلسلةَ الأصوات هذه، بتهديدٍ قويٍّ بأنه قادم في الحال لتناول الإفطار معه.
كان الأب براون يفضل كثيرًا الحديث إلى صديق بينما يجلس بارتياح ويدخِّن الغليون، لكن سرعان ما اتضح أن زائره في حالة من التحفُّز والنشاط الشديدين، عازمًا على اصطحاب صديقه القسِّ الضئيل الحجم أسيرًا في بعثة مهمة خاصة به. في الحقيقة كان الأمر ينطوي على ظروفٍ خاصة يمكن الاعتقاد أنها تسترعي انتباه القسِّ؛ فقد تمكن فلامبو مؤخرًا من إحباط عدة عمليات لسرقة مجوهرات ثمينة لمشاهير؛ إذ انتزع القلادة الماسية لدوقة دولويتش من يد اللص بينما كان الأخير يهرب من الحديقة. كما نصب فخًّا عبقريًّا للمجرم الذي خطط لسرقة القلادة الياقوتية الشهيرة؛ حتى إن اللص قام فعليًّا بسرقة النسخة المقلدة التي كان قد خطط هو نفسه لتركها بديلًا للقلادة الأصلية.
ولا شك أن هذه الأسباب هي التي أدَّت إلى استدعائه على وجه الخصوص لحراسة عملية توصيل كنز من نوع مختلف على نحو ما؛ ربما كان هذا الكنزُ ذا قيمةٍ أكبر من حيث المواد التي صُنع منها، لكنه كان يحمل أيضًا قيمة من نوع آخر؛ إذ كان مزمعًا تسليم صندوق أثري ذي شهرة عالمية — يحوي رفات القديسة دوروثي الشهيدة — إلى أحد الأديرة الكاثوليكية في إحدى المدن الكاتدرائية؛ ومن المفترض أن أحد أشهر لصوص المجوهرات حول العالم يترصَّده، أو بالأحرى يترصَّد الذهب والياقوت اللذين يتكوَّن منهما الصندوق وليس على أهميته المقدسة الخالصة. ربما كان تداعي الأفكار هذا هو ما جعل فلامبو يشعر أن القسَّ سيكون رفيقًا مناسبًا بصورة خاصة خلال مغامرته تلك، لكن على كل حال، فقد انقضَّ فلامبو على صديقه بكل الحماسة والطموح، وأبدى طلاقةً شديدةً في الحديث عن خُططه لمنع حدوث هذه السرقة.
أخذ فلامبو يذرع الأرض أمام مدفأة القسِّ بخطوات ضخمة وبطريقة الفرسان القدامى المتبخترين، بينما كان يبرم طرفَيْ شاربه الكبيرين.
صاح فلامبو في إشارةٍ منه إلى مسافة الستين ميلًا إلى مدينة كاستربري: «لا يمكنك أن تسمح بوقوع عملية سطوٍ دنيئةٍ كهذه تحت مرأًى ومسمعٍ منك.»
لم يكن من المتوقع أن يصل رفاتُ القديسة دوروثي إلى الدير قبل حلول المساء، ولم تكن ثمة حاجةٌ لأن يصل حارساها في وقت مبكر عن ذلك؛ لأن الرحلة بالسيارة ستقتطع جزءًا كبيرًا من يومهما. علاوة على هذا، أشار الأب براون على نحو عارض إلى وجود نُزلٍ على الطريق يفضِّل أن يتناول الغداء به؛ إذ طُلب منه بالفعل أن يمرَّ عليه بمجرد أن يُصبح في مقدوره ذلك.
وبينما كانَا يقودان السيارة عبر طريقٍ مليء بالأشجار الكثيفة ولكنه غير مأهول تقريبًا؛ حيث تزداد ندرةُ المباني والنُّزُل أكثر وأكثر، بدأ ضوءُ النهار يتحوَّل إلى لون الشفق العاصف حتى في حرارة شمس الظهيرة، وتجمَّعت السُّحب الأرجوانية الداكنة فوق الغابات ذات اللون الرمادي الداكن. وكما هو شائع في ظلِّ هذا السكون المطبق تحت هذا النوع من الإضاءة، اكتسب لونُ المشهد العام شيئًا من وهجٍ سريٍّ لا يُرى في الأشياء وهي تحت ضوء الشمس الساطع؛ وبدت أوراق الأشجار الحمراء المحززة أو الفطريات ذات اللون الذهبي أو البرتقالي وكأنها تتَّقد بلهب داكن يشتعل منها. وفي ظل هذا الضوء الخافت توقَّفَا عند فجوةٍ في الغابة، كأنه صَدْعٌ كبيرٌ في جدارٍ رماديِّ اللون، وامتدَّ نظرهما فرأيَا مبنى النزل الطويل ذا الشكل الغريب نوعًا ما يقف فوق هذه الفجوة، والذي كان يحمل اسم «جرين دراجون».
كان الرفيقان القديمان غالبًا ما يصلان معًا إلى النزل وغيره من المساكن البشرية الأخرى ويجدَان فيها شيئًا من الغرابة؛ لكن كان من النادر أن تظهر علاماتُ تلك الغرابة مبكرًا هكذا. فبينما كانت سيارتهما لا تزال تبعد بضعَ مئاتٍ من الياردات عن الباب الأخضر الداكن للنزل — والذي يتطابق لونُه مع النوافذ الخضراء الداكنة للمبنى الطويل الضيق — انفتح الباب بصورةٍ عنيفة واندفعت نحوهما امرأةٌ لها كتلة من شعر أحمر غجري لتُقابلهما، وكأنها متأهبةٌ لركوب سيارتهما بأقصى سرعة. أوقف فلامبو السيارة، ولكن قبل أن يوقفها تمامًا، أخذت المرأة تقحم وجهها الأبيض المذعور داخل النافذة وهي تصيح:
«هل أنت الأب براون؟» وفي اللحظة نفسها تقريبًا أضافت: «مَن هذا الرجل؟»
قال الأب براون بأسلوب هادئ: «اسم هذا الرجل هو فلامبو، ماذا يمكنني أن أفعل لأجلكِ؟»
قالت بفظاظة بالغة حتى في ظل هذه الملابسات: «تعالَ وادخل إلى النُّزُل. لقد وقعت جريمة قتل.»
خرج الرجلان من السيارة في صمتٍ وتبعاها نحو الباب الأخضر الداكن الذي يُفتح إلى الداخل ليُفضي إلى رواقٍ باللون نفسه، يتكوَّن من أوتاد وأعمدة خشبية مكلَّلة بنباتات الكروم واللبلاب ذات الأوراق المربعة الشكل، بألوان سوداء وحمراء وألوان كثيرة داكنة أخرى. وأفضى هذا الرواق مرة أخرى إلى باب داخلي ومنه إلى ردهة كبيرة معلَّق بها تذكارات صَدِئة من أسلحة الفرسان الملكيين، وبدا أثاثها عتيقًا وفوضويًّا، فبدَتْ من الداخل وكأنها غرفةٌ لتخزين قطع الأثاث القديمة. أصابت الدهشةُ الرفيقَين للحظة؛ إذ تراءَى لهما وكأن إحدى هذه القطع الكبيرة تقوم من مقامها وتتحرك نحوهما؛ إذ كان الرجل الذي تحرَّك نحوهما وترك ما يشبه حالة الجمود الدائم التي غرِق فيها يبدو مغبَّرًا رثًّا بشعَ المظهر.
كان من الغريب بالنسبة إليهما أن بدَا على الرجل قدرٌ من الكياسة، حين تحرك نحوهما فجأة؛ رغم أنه في تحرُّكه كان أشبه بالمفصلات الخشبية لسُلَّمٍ نقالٍ ضخمٍ أو حامل مناشف منحنٍ. أحسَّ كلٌّ من فلامبو والأب براون أنهما لم يُصادفا من قبلُ رجلًا مثله من الصعب تمييزه إلى هذا الحد. فلم يكن من النوع الذي يُطلق عليه سيد نبيل؛ لكنه كان يتمتع بشيءٍ من دماثة المثقفين الجافة؛ وبه شيءٌ قليل يوحي بالوضاعة أو التدنِّي في الطبقة الاجتماعية؛ لكنَّ مظهره يوحي بأنه مثقفٌ وليس رجلًا بوهيميًّا. كان نحيلًا وشاحبًا، له أنفٌ مستدقٌّ ولحيةٌ سوداء مستدقة، وجبينه عريض، لكنَّ شعره طويل وخفيف ومرسَل للخلف؛ أما تعابير عينَيه فكانت محجوبةً بالكامل تقريبًا بفعل نظارة زرقاء يرتديها. شعر الأب براون أنه قد قابل رجلًا من نفس هذه النوعية في مكان ما قبل وقت طويل، لكنه لم يستطع تذكُّرَ اسمه. وكانت الكراكيب التي يجلس بينها كانت إلى حد كبير ذات صلة بالأدب والثقافة؛ خاصة حزم كتيبات القرن السابع عشر.
سأل فلامبو بنبرةٍ جادة: «هل صحيح ما قالتْه السيدة من أن هناك جريمةَ قتلٍ قد وقعَت هنا؟»
أومأَت المرأة برأسها ذي الشعر الأحمر الأشعث في شيءٍ من نفاد الصبر؛ وقد فقدَت بعضًا من مظهرها الهمجي باستثناء تلك الخُصَل الحمراء المتشابكة، كما أوحى رداؤُها ذو اللون الداكن بشيءٍ من الوقار والأناقة؛ أما ملامحها فكانت قويةً وجميلة، وكان بها شيءٌ يُوحي بتلك القوة الجسدية والعقلية المزدوجة التي تجعل النساء قويات، خاصة بالمقارنة برجلٍ كهذا الرجل ذي النظارة الزرقاء. غير أن هذا الرجل هو من أعطى الإجابة الواضحة الوحيدة لهذا السؤال؛ إذ قاطع الكلام وقال بكياسةٍ مثيرةٍ للضحك موضحًا الأمر:
«نعم صحيح؛ إن زوجة أخي التعيسة الحظ قد عانَت لتوِّها من صدمة في غاية البشاعة كنت أتمنى لو أننا جميعًا استطعنا أن نعفيَها منها. فقط أتمنى لو أنني كنت مَن اكتشف ما حدث وعانيتُ فقط ألم جلب هذه الأخبار المفزعة، لكن لسوء الحظ كانت السيدة فلود هي من وجدت جدَّها العجوز ميتًا في الحديقة، بعد أن طال صراعُه مع المرض وكان طريحَ الفراش في هذا الفندق. وقد حدث ذلك في ظلِّ ملابساتٍ تشير بكل وضوحٍ إلى تعرُّضه لعنف واعتداء. وربما يمكنني القول إن الملابسات غريبة، بل هي في الواقع في غاية الغرابة.» ثم تنحنح الرجل على نحوٍ طفيفٍ وكأنه يعتذر لهما.
انحنى فلامبو إلى السيدة وأعرب عن تعاطفه الصادق معها، ثم قال للرجل: «أعتقد يا سيدي أنك قلت إنك أخو زوج السيدة فلود.»
أجابه الآخر: «أنا الطبيب أوسكار فلود، وأخي — زوج هذه السيدة — في الوقت الحالي مسافر في عمل، وهي مَن تُدير الفندق. وقد كان جَدُّها يعاني شللًا وبلغ من العمر أرذله. ولم يكن معروفًا عنه قط أنه يغادر حجرته؛ لذا فإن هذه الملابسات الاستثنائية حقًّا …»
سأله فلامبو: «هل أرسلتَ في طلب الطبيب أو الشرطة؟»
أجابه الدكتور فلود: «أجل، اتصلنا بهم بعد الاكتشاف المريع، لكنهم لن يستطيعوا الوصول قبل بضع ساعات. إن هذا الفندق يقع في مكانٍ ناءٍ للغاية، ولا يرتاده إلا الأشخاص المتجهون إلى كاستربري أو ما بعدها؛ لذا فكَّرنا في أننا يمكن أن نرسلَ في طلب مساعدتك القيِّمة حتى …»
قال الأب براون مقاطعًا إياه بطريقةٍ مجردةٍ للغاية بحيث بدتْ خاليةً من أي تهذيب أو تحضُّر: «إذا كان لنا أن نقدم أي عون، فينبغي أن أقول إن من الأفضل أن ننظر في الملابسات من فورنا.»
وتقدَّم نحو الباب بصورةٍ شبه آلية، وكاد يصطدم برجلٍ كان على وشك الدخول مندفعًا من الباب نفسه؛ وهو شابٌّ ضخمُ البنية ثقيل الوزن ذو شعر أشعث وأسود اللون وغير مصفف، ولكنه كان يبدو وسيمَ المحيَّا لولا تشوهٌ طفيف في إحدى عينيه أضفى على ملامحه مظهرًا شريرًا.
صاح الشاب: «ماذا تفعل بحق الجحيم؟ أراك تخبر كلَّ مَن هب ودب! ينبغي على الأقل أن تنتظر وصول الشرطة.»
قال فلامبو في تألُّق وبأسلوب مفاجئ يوحي بأنه قد سيطر على زمام الأمر كله: «سأكون مسئولًا أمام الشرطة.» ثم تقدم نحو الباب، ونظرًا لأن فلامبو كان أضخم وأكبر من الشاب الضخم، وشاربيه أعظمُ من قرنَي ثورٍ إسباني، فقد تراجع الشاب أمامه وبدا عليه ذلك الانطباع غير المنطقي بأنه كمٌّ مهمل ومنبوذ، حين خرجت المجموعة نحو الحديقة وسارت على الممر المرصوف نحو نباتات التوت. كان فلامبو وحده هو من سمع القسَّ وهو يقول للطبيب: «يبدو أنه لا يحبُّنا فعلًا، أليس كذلك؟ بالمناسبة، مَن يكون هذا الشاب؟»
قال الطبيب في تحفُّظ: «اسمه دون. وقد أسندتْ إليه زوجةُ أخي مهمةَ إدارة الحديقة؛ لأنه فقدَ إحدى عينيه أثناء الحرب.»
وبينما كانوا يسيرون بين شجيرات التوت، أثار شكلُ الحديقة في نفوسهم ذلك الانطباع بالثراء والشؤم أيضًا، الذي يُستشعر حين تكون الأرض أكثر توهجًا وتألقًا من السماء؛ فقد بدت قمم الأشجار أمامهم تحت ضوء الشمس الخافت خلفها وكأنها شعلات خضراء باهتة تحت سماء تزداد سوادًا باطِّراد من أثر العاصفة، مرورًا بأطياف اللونَين الأرجواني والبنفسجي كلها. وقعت أشعة الضوء نفسها على قطاعات من العشب والأحواض؛ وبدا كل ما أضاءته أكثر قتامة وغموضًا على نحو أكثر إبهامًا. كما تناثرت على أرضية الحديقة أزهارُ التيوليب التي بدت وكأنها قطرات دماء داكنة، وكان بعضها قاتمًا بحيث يكاد يُقسِم المرءُ أنها سوداء، وانتهى خطُّ الزهور هذا بشجرة تيوليب، كان الأب براون ميَّالًا — وإن كان ذلك يرجع جزئيًّا إلى ذكرَى مشوَّشة لديه — إلى تشبيهها بتلك الشجرة التي يطلق عليها عادة شجرة يهوذا. وكان ما ساهم في ذلك الربط تلك الجثة الجامدة النحيلة — التي كانت متدليةً من أحد الفروع وكأنها ثمرةٌ جافة يابسة — لرجلٍ عجوز، له لحية طويلة تتطاير بفعل الرياح على نحوٍ متنافر.
أحاط بالجثة رعبٌ أشد من رعب الظلام؛ وهو رعب ضوء الشمس؛ فقد صبغت الشمس بضوئها المتقطع كلًّا من الشجرة والرجل بألوان لامعة برَّاقة وكأنهما أحد مناظر مسرحية؛ إذ كانت الشجرة مزهرة والجثة متدلية منها مكتسية برداء نوم بلون أخضر طاووسي باهت، وعلى رأسها المتدلي قبَّعة تدخين قِرْمزية اللون. كذلك كان بها نعلان للنوم بلون أحمر، وقد سقط أحدهما مستقرًّا على العشب وكأنه بقعة دم.
لكن فلامبو والأب براون لم ينظرَا إلى هذه الأشياء بعد؛ فقد كان كلاهما يحدِّق في شيءٍ غريب بدا وكأنه بارزٌ من منتصف جثة القتيل المنكمشة؛ والذي أدركَا تدريجيًّا أنه مقبضٌ حديدي أسود صدِئٌ لسيف يعود إلى القرن السابع عشر، وكان السيف مغروزًا بالكامل في الجثة. ظل كلاهما بلا حراك تقريبًا بينما كانا يحدِّقان بهذا المنظر؛ حتى بدا الدكتور فلود المتململ وقد بدأ يفقد صبره تمامًا إزاء تبلُّدهما.
قال الدكتور فلود بينما يفرقع أصابعه في عصبية: «أكثر ما يُحيرني هو حالة الجثة الفعلية. إلا أن ذلك قد أوحى إليَّ بفكرة بالفعل.»
تقدم فلامبو نحو الشجرة وراح يفحص مقبضَ السيف من خلال عدسة مكبرة. لكن في تلك اللحظة ولسببٍ غريبٍ استدارَ القس وكأنه لعبة زنبركية وأعطى ظهره للجثة وحدَّق في الاتجاه المقابل. وجاءت استدارتُه في اللحظة المناسبة كي يرى شعر السيدة فلود الأحمر في الطرف البعيد للحديقة، وهي تقف في مواجهة شابٍّ مبهم الملامح بفعل المسافة فلم يستطع التعرف عليه، وكان الشاب في تلك اللحظة يركب دراجة نارية ثم اختفى تاركًا خلفه الضوضاء المتلاشية لتلك الدراجة. استدارت السيدة وبدأت تسير في اتجاههم عبر الحديقة، في اللحظة نفسها التي استدار فيها الأب براون مرة أخرى وبدأ يفحص مَقْبِض السيف والجثة المتدلية فحصًا دقيقًا.
قال فلامبو: «أرى أنكم اكتشفتم ما حدث قبل نصف ساعة فقط. فهل كان هناك أحدٌ هنا في الأرجاء قبل تلك الفترة؟ أعني أي شخص في غرفته، أو في ذلك الجزء من المنزل، أو في هذا الجزء من الحديقة، لنقُلْ قبل ساعةٍ من ذلك؟»
نفى الطبيب نفيًا قاطعًا قائلًا: «لا. وهذا هو الشيء المأساوي في هذه الحادثة. فقد كانت زوجةُ أخي في حجرة المؤَن، وهي حجرة ملحقة بالمنزل في الجهة الأخرى منه؛ وكان دون في البستان المنزلي، وهو أيضًا في ذلك الاتجاه؛ أما أنا فكنتُ أعبث بين الكتب داخل غرفة تقع خلف الغرفة التي وجدتموني فيها مباشرة. وهناك أيضًا خادمتان، لكنَّ إحداهن ذهبت إلى مكتب البريد بينما كانت الأخرى في العلية.»
سأله فلامبو بنبرةٍ هادئة للغاية: «وهل كان من بين هؤلاء مَن هو على خلافٍ مع السيد العجوز المسكين؟»
أجابه الطبيب بنبرةٍ جادة: «لقد كان محطَّ حبٍّ وتقدير من الجميع. وإن كان هناك أيُّ سوء تفاهم، فيمكن القول إنه كان طفيفًا للغاية ومن نوع شائع في العصر الحديث. لقد كان العجوز الراحل مرتبطًا بالعادات الدينية القديمة؛ وربما كان لابنته وزوجها وجهاتُ نظر أكثر انفتاحًا. ولا يمكن لذلك كله أن يكون له علاقة بمثل هذه الجريمة الشنعاء التي لا تُصدَّق.»
قال الأب براون: «يعتمد الأمر على مدى انفتاح وجهات النظر الحديثة، أو مدى ضيقها.»
في تلك اللحظة سمعوا السيدة فلود تصيح وهي آتية عبر الحديقة بينما كانت تنادي على شقيق زوجها ليحضرَ إليها بنبرةٍ تنمُّ عن نفاد صبر. فهُرع نحوها وسرعان ما أصبح بعيدًا عن مرمى السمع؛ لكنه بينما كان ذاهبًا إليها أشار إليهما بيده معتذرًا منهما ثم أشار بإصبعه نحو الأرض.
قال الرجل بالنبرة الغريبة نفسها وكأنه منظم جنازات: «ستجدون آثار الأقدام مثيرة جدًّا للفضول.»
نظر المحققان الهاويان إلى بعضهما، وقال فلامبو: «أجدُ عدة أشياء أخرى مثيرة للفضول.»
قال القسُّ وهو يحدِّق ببلاهة في العشب: «أوه، أجل.»
قال فلامبو: «كنت أتساءل؛ لماذا يشنقون رجلًا حتى الموت ثم بعد ذلك يتكبدون عناء غرز السيف في صدره؟!»
قال الأب براون: «وأنا أتساءل؛ لماذا يقتلون رجلًا بغرز سيف في قلبه، ثم يتكبدون عناء شنقه؟»
قال صديقه معترضًا على حديثه: «أوه، أنت تقول العكس تمامًا. يمكنني أن أرى من نظرة خاطفة أنهم لم يطعنوه حيًّا؛ فقد كانت الجثة ستنزف المزيد من الدماء، ولم يكن الجرح لينغلق بهذه الطريقة.»
قال الأب براون وهو يشرئب برأسه للأعلى بطريقةٍ خرقاء ليحدِّقَ في الجثة بسبب قِصر قامتِه ونظرِه: «ويمكنني أن أرى من نظرةٍ خاطفةٍ أنهم لم يشنقوه حيًّا. إنك إذا ما نظرت إلى العقدة في الحبل فستجد أنها مربوطةٌ بطريقةٍ غير متقنةٍ تمامًا حتى إن هناك لفَّةً من الحبل تحول بينها وبين الرقبة وبذا فلا يمكن أن تتسبَّب في خنق الرجل أبدًا. لقد كان الرجل ميتًا بالفعل قبل أن يضعوا الحبل حول عنقه؛ وقبل حتى أن يغرزوا السيف في صدره. ولكن كيف قُتل حقًّا؟»
أشار الآخر: «أعتقد أن من الأفضل أن نعود للمنزل ونلقي نظرة على غرفته، وأشياء أخرى.»
قال الأب براون: «وهو كذلك، لكن من بين أشياء أخرى ربما كان من الأفضل أن نلقيَ نظرة على آثار الأقدام هذه. وأعتقد أن من الأفضل أن نبدأ من الجهة الأخرى، بجوار نافذته. في الواقع، لا توجد آثارُ أقدام على الممر المرصوف، مثلما قد يوجد هناك، لكن قد لا يكون هناك أي آثار على الإطلاق. حسنًا، هاك هو العشب تحت نافذة غرفته مباشرة، وهاك هي آثار أقدامه واضحة للغاية.»
أخذ الأب براون يطرف بعينه في آثار الأقدام على نحوٍ ينذر بسوء؛ ثم بدأ يعيد بعنايةٍ تتبُّع مساره نحو الشجرة، وكان ينحني بين الحين والآخر بصورة غير لائقة لينظر إلى شيء في الأرض. وفي الأخير عاد إلى فلامبو وقال محدِّثًا إياه:
«أتعرف القصة التي تنقشها تلك الآثار هناك بوضوحٍ تام؟ رغم أنها قد لا تكون قصة جلية تمامًا.»
قال فلامبو: «لن أكون مقتنعًا بوصفها بالجلية. سأدعوها بالبشعة …»
قال الأب براون: «في الواقع، تقول القصة المطبوعة بجلاءٍ تام على الأرض بآثار خُفَّي العجوز هي كالتالي؛ إن ذلك العجوز القعيد قد قفز من النافذة وجرى على أرضية الحديقة بمحاذاة الممر، وهو في أشد اللهفة للمتعة التي سيحصل عليها من خنقه وطعنه؛ كان متلهفًا لذلك حتى إنه قفز على ساق واحدة بدافع من نشوة بحتة؛ بل إنه من حين لآخر كان يتشقلب.»
صاح فلامبو: «توقَّفْ! ما هذه التمثيلية الصامتة المريعة بحق الجحيم؟»
اكتفى الأب براون برفع حاجبَيه وأشار إشارةً بسيطةً إلى الآثار غير المفهومة على الأرض وقال: «عند منتصف الطريق تقريبًا لا يوجد سوى أثرٍ لأحد خفَّيه؛ وفي أماكن أخرى هناك أثر ليدٍ مغروسة بكامل إرادتها في الأرض.»
سأله فلامبو: «ألَا يمكن أن يكون قد ترنَّح ثم سقط؟»
هز الأب براون رأسه نافيًا وقال: «كان على الأقل سيحاول أن يستخدم يدَيه وقدمَيه، أو ركبتَيه ومرفقَيه في محاولة النهوض، لكن لا يوجد أيُّ آثار أخرى من أيِّ نوع. كما أن الممرَّ المرصوف بالطبع قريبٌ منه للغاية، ولا توجد أي آثار عليه؛ رغم أنه من الممكن أن تكون هناك آثارٌ على التربة بين صدوعه؛ إنه ممر مرصوف بطريقة غريبة.»
قال فلامبو: «يا إلهي، ممر غريب، وحديقة غريبة، وقصة غريبة!» ونظر فلامبو نظرةً عابسة إلى تلك الحديقة الكئيبة التي يلفُّها الجو العاصف، والتي أضفَتْ عليها المسارات المتعرجة المرقعة نزعةً غريبة نحو الطابع الإنجليزي العريق الجذاب.
قال الأب براون: «والآن، لنصعدَ إلى غرفته وننظر فيها.» فدخلوا من بابٍ ليس بعيدًا عن نافذة غرفة النوم؛ وتوقف القسُّ للحظةٍ لينظر إلى عصا مكنسة حديقة عادية، تُستخدم في كنس أوراق الأشجار كانت مستندة إلى الجدار. «أترى ذلك؟»
قال فلامبو بسخرية واضحة: «إنها عصا مكنسة.»
قال الأب براون: «إنها خطأ فادح، أول خطأ أراه في هذه القصة الغريبة.»
صعِد الرجلان السلَّمَ ودخلَا حجرة العجوز؛ وبنظرة واحدة سريعة إليها تجلَّت الحقائق الأساسية تمامًا، بشأن كلٍّ من تأسيس هذه العائلة وتفكُّكها. لقد شعر الأب براون منذ البداية أنه يقف فيما كان منزلًا كاثوليكيًّا، لكنه أصبح — جزئيًّا على الأقل — مسكونًا بكاثوليكيين مرتدِّين أو متحرِّرين للغاية؛ إذ تُشير الصور والرسومات على جدران غرفة الجدِّ بكل وضوح إلى أن ما تبقَّى من تديُّن كان محصورًا في شخصه؛ وأن أفراد أسرته قد تخلَّوا عن إيمانهم لسبب أو لآخر، لكنه اتفق على أن هذا الأمر لا يُعدُّ تفسيرًا كافيًا لارتكاب جريمة قتل عادية حتى؛ ما بالك بجريمة قتل غير عادية بالمرة كهذه. تمتم الأب براون: «تبًّا، إن جريمة القتل هذه حقًّا هي أقل جزء غير اعتيادي في هذه القصة.» وحتى حين استخدم الأبُ براون العبارة السابقة التي أوحَتْ بكثرة الاحتمالات، بدأ وجهُه يُشرق بالتماعةٍ سرت فيه ببطء.
جلس فلامبو على كرسيٍّ بجوار الطاولة التي توجد بجوار سرير القتيل. كان يحدِّق مقطبًا جبينَه في ثلاثة أو أربعة أقراص أو حبوب بيضاء كانت موضوعة على صينية صغيرة بجوار زجاجة مياه.
ثم قال فلامبو: «إن لدَى القاتل أو القاتلة سببًا أو آخر غير مفهوم لجعلنا نعتقد أن القتيل قد شُنِق أو طُعِن أو وقع له كلا الأمرين، لكنه لم يُطعن ولم يُشنق ولا شيء من ذلك. فلماذا أرادوا أن يجعلونا نعتقد ذلك؟ التفسير الأكثر منطقية أنه مات بطريقةٍ معينة تُشير في حد ذاتها إلى وجود صلةٍ بشخصٍ معين. لنفترض على سبيل المثال أنه قد تسمَّم. ولنفترض أن هناك شخصًا متورطًا في الأمر يبدو بطبيعته أكثر من أي شخص آخر أنه من النوع الذي قد يستخدم السمَّ.»
قال الأب براون بنبرةٍ لطيفة: «في النهاية، صديقنا ذو النظارة الزرقاء يعمل طبيبًا.»
أضاف فلامبو: «سأفحص هذه الحبوب بتمعُّنٍ شديد، لكنني لا أريد أن أفقدَها. إنها تبدو وكأنها من النوع القابل للذوبان في الماء.»
قال القسُّ: «إن فحْصها بطريقة علمية قد يستغرق منك بعض الوقت، وقد يصل الطبيب الشرعي هنا قبل أن تتمكن من ذلك؛ لذا أنصحك بكل تأكيد ألَّا تفقد هذه الحبوب. هذا إذا كنتَ ستنتظر الطبيب الشرعي.»
قال فلامبو: «سأمكث هنا حتى أجدَ حلًّا لهذه المشكلة.»
قال الأب براون في هدوء وهو ينظر خارج النافذة: «إذن ستمكث هنا للأبد. على كل حالٍ لا أعتقد أنني سأظلُّ في هذه الغرفة.»
سأله صديقه: «أتقصد أنه لا ينبغي عليَّ أن أجد حلًّا لهذه المشكلة. لماذا لا ينبغي عليَّ ذلك؟»
قال القسُّ: «لأن الحبوب ليست قابلةً للذوبان في الماء. لا، ولا في الدم.» ثم نزل على السلَّم المظلم متجهًا نحو الحديقة التي بدأ الظلام يلفُّها. وهناك رأى مرةً أخرى ما كان قد رآه من النافذة.
بدت حرارة السماءِ العاصفة وثقلُ سُحُبِها وظلمتها تطغى بإحكامٍ أكثر وأكثر على المشهد؛ فحجبت السحبُ الشمس في السماء فظهر ضوؤها المتقلص من بينها أكثر شحوبًا من ضوء القمر. وسُمع صوت هزيم الرعد، لكن في تلك اللحظة لم يكن هناك أثرٌ لحركة الرياح أو النسيم؛ وحتى ألوان الحديقة بدَتْ مجرد درجات أعمق من سواد الظلام، لكن ظل لونٌ واحدٌ يلمع بحيويةٍ معتمة؛ وهو اللون الأحمر لشعر سيدة المنزل، التي كانت تقف بشيءٍ من الثبات مُحدقة في الأرجاء ويدُها تداعب شعرها. كان مشهد الكسوف ذاك — مع شيءٍ أعمق في شكوكِه بشأن دلالتِه ومغزاه — يُثير في نفس القسِّ ذكرى سطور مؤرقةٍ وغامضة؛ فوجد نفسه يغمغم: «بقعة سريَّة، موحشة وفاتنة كعهدها تحت ضوء قمر خافت، تسكنها سيدة تبكي عشيقها الشيطاني.» احتدَّت تمتمتُه أكثر فقال: «أيتها السيدة العذراء، يا أمَّ النور، صلِّي من أجلنا نحن الخُطاة … هذا هو ما في الأمر؛ هذا هو الأمر الشائن المريع؛ امرأة تبكي عشيقها الشيطاني.»
كان القس مترددًا ويكاد يرتعش بينما كان يقترب من المرأة؛ لكنه تحدث إليها برباطة جأشه المعهودة. كان يحدِّق فيها بنظرات ثابتة بينما يُخبرها بنبرة جادة أنها لا ينبغي أن تضطرب بسبب التوابع العرضية لهذه المأساة، بكل ما تحمله من بشاعة محتدمة. ثم قال لها بنبرة جادة: «إن الصور في حجرة جدِّك تعبِّر عنه بشكلٍ حقيقي أكثر من هذا المنظر القبيح الذي رأيناه. ثمة شيء يُخبرني أنه كان رجلًا صالحًا، ولا يهمُّ ما قد فعله قَتَلَتُه بجثته.»
قالت المرأة وهي تشيح برأسها بعيدًا: «أوه، لقد سئمتُ صورَه المقدسة وتماثيله! لماذا لا تدافع هذه الأشياء عن نفسها إذا كانت بالفعل كما تقول عنها؟ لكن يمكن للمتمردين أن يفصلوا رأس تمثال السيدة العذراء عن بقيته ولا يحدث لهم شيءٌ. أوه، ما فائدة هذا إذن؟ لا يمكنك أن تُلقيَ باللوم علينا، لا يمكنك أن تجرؤَ على ذلك، إذا كنا قد اكتشفنا أن الإنسان أقوى من الرب نفسه.»
قال الأب براون بنبرة غاية في اللطف: «ليس من النبل بكل تأكيدٍ أن نجعل صبر الرب علينا شيئًا يؤخذ ضده.»
أجابتْه: «قد يكون الرب صبورًا والإنسان جزوعًا، وأظن أننا نحب الجزع أكثر. أنت تُسمي ذلك تدنيسًا للمقدسات، لكن لا يمكنك أن تُوقفه!»
انتفض الأب براون انتفاضةً صغيرة غريبة وقال: «تدنيس!» ثم استدار فجأةً نحو الباب وقد انتابَه إحساسٌ جديدٌ وقويٌّ بأنه قد حسم قراره. وفي تلك اللحظة نفسها ظهر فلامبو عند الباب ووجهُه شاحبٌ من الإثارة، حاملًا بين يديه رزمةً صغيرة من الورق. كان الأب براون قد فتح فمَه بالفعل ليتحدَّث، لكن صديقه المندفع سبقه.
صاح فلامبو: «أنا على الطريق الصحيح أخيرًا! تبدو هذه الحبوب متشابهة، لكنها مختلفة في واقع الأمر. وهل تعلم أنه في اللحظة نفسها التي وجدتها فيها كان ذلك البستاني المتوحش ذو العين الواحدة قد أطلَّ بوجهه الأبيض داخل الغرفة؛ حاملًا في يده مسدسًا. لقد أوقعت المسدس من يده وألقيت به من على السلَّم، ولكنني بدأت أفهم كلَّ شيء. وإذا ما مكثتُ هنا ساعة أو اثنتين، فسأنهي مهمتي.»
قال القس بنبرة كان نادرًا جدًّا ما يتحدَّث بها: «إذن لن تنهيَها أبدًا. لن نمكث هنا لساعةٍ أخرى، ولا لدقيقةٍ واحدة. لا بد أن نغادر هذا المكان في الحال!»
صاح فلامبو مندهشًا: «ماذا! نغادر ونحن قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الحقيقة! إننا نقترب من الحقيقة لأنهم خائفون منَّا.»
نظر إليه الأب براون بوجه متحجر ومبهم وقال: «إنهم ليسوا خائفين منَّا ونحن هنا. سيخشوننا فقط حين لا نكون هنا.»
أصبح كلاهما يدرك أن الدكتور فلود المتوتر كان يحومُ من بعيدٍ في الضباب الثقيل؛ وقد اندفع الآن نحوهم بأعنف الإيماءات.
صاح الطبيب المضطرب: «توقَّفا! اسمعا! لقد اكتشفتُ الحقيقة!»
قال الأب براون باقتضاب: «إذن يمكنك أن ترويَها إلى الشرطة. من المفترض أن يصلوا قريبًا. أما نحن فعلينا أن نغادر.»
بدا الطبيب غارقًا في دوامةٍ من المشاعر، استيقظ منها في النهاية بصيحةٍ يائسة. مدَّ الرجل ذراعيه في شكل صليب ليسد عليهما الطريق.
صاح الطبيب: «لا بأس! لن أخدعَكما الآن بقولي إنني اكتشفت الحقيقة. إنما سأعترف بها فقط.»
قال الأب براون: «إذن يمكنك أن تعترف بها إلى القسِّ الخاص بك.» وهُرع نحو بوابة الحديقة، يتبعه صديقُه المذهول. وقبل أن يصل إلى البوابة، اندفع نحوه شخصٌ آخر بسرعةٍ كبيرةٍ وكأنه الريح المرسلة؛ وكان هو دون البستاني الذي صاح في الأب براون بسخريةٍ غير مفهومةٍ عن المحققين الذين يهربون من عملهم. ثم انحنى القسُّ في الوقت المناسب تمامًا ليتفادى ضربةً من المسدس، الذي كان يُمسك به وكأنه هراوة. لكن دون لم ينحنِ في الوقت المناسب ليتفادى ضربةً من قبضة فلامبو، والتي كانت تُشبه هراوة هرقل. وترك القسُّ وصديقُه فلامبو ذلك السيد دون ممددًا على الأرض خلفهم في الممر، ومرا من البوابة وخرجا ثم ركبَا السيارة في صمت. لم يسأل فلامبو غير سؤال واحد سريع، وأجابه الأب براون بكلمة واحدة: «كاستربري.»
في النهاية، وبعد صمت طويل، قال القسُّ: «أكادُ أظنُّ أن العاصفة كانت تخصُّ تلك الحديقة فقط، وأن مصدرها هو روح شخصٍ ما.»
قال فلامبو: «يا صديقي، أنا أعرفك منذ زمنٍ طويل، وحين تظهر عليك علاماتٌ معينة من الثقة واليقين، فإنني أتبعُك، لكنني آملُ ألَّا تخبرَني بأنك قد منعتَنا من إكمال تلك المهمة المثيرة بسبب كرهك للجو العام.»
أجابه الأب براون بنبرة هادئة: «في الواقع، كان الجو مريعًا بالفعل. كان مخيفًا وثقيلًا ومحتدمًا. وأكثر شيء مخيف بشأنه هو أنه لم يكن به أيُّ شيء من الكراهية.»
قال فلامبو مقترحًا: «يبدو أن أحدهم كان لديه شيءٌ يسير من الكراهية تجاه الجدِّ.»
قال الأب براون وقد اعتلتْ شفتَيه ابتسامةٌ خفيفة: «ما من أحد يكره أحدًا. وكان ذلك هو الشيء المريع في تلك الظلمة. إنه الحبُّ.»
قال الآخر: «يا لها من طريقة غريبة للتعبير عن الحبِّ، أن تشنقَ أحدهم وتغرزَ سيفًا في صدره.»
أجابه الأب براون: «لقد كان ذلك الشيء هو الحب، وكان يملأ المنزل بالرعب.»
قال فلامبو محتجًّا: «لا تُخبرني أن المرأة الجميلة كانت واقعةً في حبِّ ذلك العنكبوت ذي النظارة.»
أجابه الأب براون مبتسمًا مرة أخرى: «لا، إنها تحبُّ زوجها. وهذا أمر شنيع.»
أجاب فلامبو: «هذه حالة من الحالات التي كثيرًا ما سمعتك توصي بها. لا يمكنك أن تُطلق على هذا الأمر حبًّا جامحًا.»
أجابه الأب براون: «ليس جامحًا بهذا المعنى.» ثم استدار بحدة واستند إلى مرفقه وتحدث بنبرة دافئة جديدة: «أتظن أنني لا أعرف أن حبَّ الرجل والمرأة كان الأمر الإلهي الأول وسيظل إلى الأبد أمرًا معظمًا؟ هل أنت أحد أولئك الحمقى الذين يظنون أننا لا نقدِّر الحب والزواج؟ وهل أنا في حاجة لأن يُخبرني أحدٌ عن جنة عدن أو خمر قانا؟ إن القوة في الحب هي من قوة الله؛ ولذلك يظل يجيش بتلك الطاقة الرهيبة حتى حين يحيد عن التعاليم الإلهية. حين تتحول الجنة إلى غابة، لكنها لا تزال غابة متألقة؛ وحين يتحوَّل خمر قانا في التخمير الثاني إلى خل جلجثة. أتظن أنني لا أعرف كلَّ هذا؟»
قال فلامبو: «أنا على ثقة من أنك تعرفه، لكنني لا أعرف الكثير بعدُ عن قضية القتل تلك.»
قال الأب براون: «لا يمكن حلُّ لغز هذه الجريمة.»
قال صديقه متسائلًا: «ولمَ لا؟»
قال الأب براون: «لأنه لا توجد جريمة من الأساس.»
خيم الصمت على فلامبو من هول المفاجأة، وأكمل صديقه بنبرة هادئة قائلًا:
«سأخبرك بأمر غريب. لقد تحدثتُ إلى تلك المرأة حين كان الحزن يجتاحها، لكنها لم تذكر أيَّ شيء عن جريمة القتل. لم تذكر كلمة جريمة قتل قطُّ، أو تُشِر إليها من بعيد، لكن ما ذكرتْه مرارًا هي كلمة تدنيس المقدسات.» ثم أضاف بعد صمت لحظي آخر: «هل سمعت من قبل عن تايجر تايرون؟»
صاح فلامبو: «سمعت به! إنه الرجل الذي من المفترض أنه يسعى خلف الرُّفات، والذي كُلِّفتُ خِصِّيصى بإبطال خططه. إنه أخطر وأعنف رجال العصابات الذين حلُّوا بهذه البلاد؛ إنه أيرلنديٌّ بالطبع، لكنه من النوع الذي يُغالي في عدائه لرجال الدين. ربما انغمس في أحد الأعمال الشيطانية الصغيرة في تلك الجمعيات السرية. على كل حال، إن لديه ميلًا مروِّعًا نحو ممارسة كل الألاعيب التي تبدو أكثرَ شرًّا مما هي عليه، لكنه ليس الأكثر شرًّا من بين رجال العصابات؛ فهو نادرًا ما يقتل، ولا يقتل أبدًا بدافع ممارسة القسوة والوحشية، لكنه يحب القيام بأي شيء يتسبب في صدمة الآخرين، خاصة مَن يعرفونه؛ كسرقة الكنائس أو نبش القبور أو ما إلى ذلك.»
قال الأب براون: «أجل، لقد اكتملت الصورة الآن. كان ينبغي أن أعرف كلَّ شيء من قبل.»
قال المحقق الآخر بنبرة دفاعية: «لا أعرف كيف كان ينبغي لنا أن نعرف كلَّ شيء ونفهمه بعد ساعة واحدة فقط من التحقيق.»
قال القس: «كان ينبغي أن أعرف كلَّ شيء قبل أن يكون هناك أيُّ شيء نحقِّق بشأنه. كان ينبغي أن أعرف كلَّ شيء قبل وصولك هذا الصباح.»
«ماذا تقصد بحق السماء؟»
قال الأب براون في تأمل: «إن ما حدث يُظهر فقط كيف تبدو الأصوات خاطئة في الهاتف. لقد سمعت المراحل الثلاث التي مرَّ بها اللغز هذا الصباح؛ وظننت أن ما سمعته كان شيئًا تافهًا لا قيمة له. في البداية، اتصلتْ بي امرأةٌ وطلبت مني أن أذهب إلى ذلك النزل بأسرع ما يمكن. ماذا يعني ذلك؟ بالطبع يعني أن الجدَّ العجوز كان يحتضر. ثم اتصلت مرة أخرى لتقول إن حضوري لم يعُد مطلوبًا في النهاية. ما معنى هذا؟ بالطبع كان يعني أن الجدَّ العجوز قد فارق الحياة. لقد مات في سلام على سريره، وربما كان السبب في وفاته قصورًا في القلب بسبب تقدُّمِه الكبير في العمر. ثم اتصلت بي المرأة مرة ثالثة وطلبت مني أن أحضر. ما معنى ذلك؟ آه، هنا تزداد الأمور إثارة!»
ثم استطرد القسُّ بعد أن توقف لحظة: «إنها إحدى أفكار تايجر تايرون المجنونة — الذي تعبده زوجتُه — لكنها كانت مبتكرة وماكرة أيضًا. لقد سمع لتوِّه أنك تتعقَّب أثره، وأنك تعرفه وتعرف طرائقه وأساليبه وأنك آتٍ لإنقاذ الصندوق المقدس، وربما سمع أنني كنت أساعدك في بعض الأحيان. وأراد أن يوقفنا ونحن على الطريق؛ وكانت حيلته لتحقيق ذلك هي ادِّعاء وقوع جريمة قتل. كان ذلك فعلًا مريعًا، لكنها لم تكن جريمة قتل حقيقية. وربما استطاع إرهاب زوجته باستخدام منطق سليم ممتزج بالوحشية، قائلًا إن بإمكانه الهروبَ من عقوبة الأشغال الشاقة بالاستعانة بجثة لا يمكن لها أن تتأثر أو تعاني من أي شيء ناتج عن استخدامها في هذا الأمر. على كل حال، فإن زوجته كانت ستفعل أي شيء من أجله، لكنها شعرت بالبشاعة غير الطبيعة لعملية الشنق النكراء تلك؛ وهذا هو سبب حديثها عن تدنيس المقدسات. كانت تتحدث عن تدنيس الرفات، لكنها كانت تتحدث أيضًا عن تدنيس فراش الموت. أما الأخ، فهو أحد المتمردين «العلميين» الزائفين الذين يعبثون بالقنابل غير المتفجرة العديمة القيمة؛ شخص مثاليٌّ أهمل العناية بنفسه، لكنه مخلص لتايجر؛ وهكذا الحال أيضًا مع البستاني. ربما كان وجود العديد من الأشخاص المخلصين له نقطةً في صالحه.
كان ثمة نقطة واحدة صغيرة جعلتني أبدأ في تخميناتي في وقت مبكِّر. لقد كان من بين الكتب القديمة التي راح الدكتور يقلِّبها، مجموعة من الكتيبات التي تعود إلى القرن السابع عشر، وقد استرعاني عنوانٌ واحد؛ «إعلان حقيقي لمحاكمة سيدي اللورد ستافورد وإعدامه.» كان ستافورد قد أُعدم في أعقاب المؤامرة الكاثوليكية، التي بدأت بإحدى قصص المحققين التاريخية، وتحمل عنوان «وفاة السير إدموند بيري جودفري». كان جودفري قد وُجد ميتًا في مصرف، وجزء من لغز وفاته يكمن في وجود علامات تُشير إلى تعرضه للخنق، لكنه أيضًا وُجد مطعونًا بسيفه. فخطر لي في الحال أن أحدًا ممن هم بالمنزل قد واتَتْه الفكرة من هذه الحادثة التاريخية، لكنه لا يمكن أن يكون قد أراد أن تكون وسيلة لارتكاب جريمة قتل. لعله فقط أراد أن تكون وسيلة لاختلاق لغز. ثم رأيت أن هذا الأمر ينطبق على كل التفاصيل الشنيعة الأخرى. لقد كان أولئك الأشخاص أشرارًا بما يكفي، لكنه ليس شرًّا فحسب؛ فقد كان ثمة عُذر؛ لأنهم كان عليهم أن يجعلوا اللغز متناقضًا ومعقَّدًا قدر الإمكان، للتأكد من أننا سنستغرق وقتًا طويلًا في حلِّه، أو بالأحرى التفكير فيه؛ لذا سحبوا جثة العجوز المسكين من فراش موته وجعلوا الجثة تتقافز وتنحني وتفعل كل شيء لم يكن بإمكان الرجل فعله وهو على قيد الحياة. كان عليهم أن يقدموا لنا مشكلة لا حل لها. وبعد ذلك أخفوا آثار أقدامهم من فوق الممر باستخدام المكنسة، ثم تركوها بجوار الحائط. ولحسن الحظ أننا فهمنا الأمر برمَّته في الوقت المناسب.»
قال فلامبو: «أنت فهمت الأمر في الوقت المناسب، لكنني علقت لفترة أطول قليلًا عند مسألة الأثر الثاني الذي تركوه، وهي الحبوب المتناثرة المتنوعة.»
قال الأب براون بنبرة تنمُّ عن الارتياح: «حسنًا، على كل حال، لقد نجونا.»
قال فلامبو: «وأعتقد أن هذا هو سبب قيادتي بهذه السرعة على الطريق نحو كاستربري.»
في تلك الليلة داخل الدير والكنيسة الملحقة في كاستربري؛ رُتبت فعاليات من أجل تنظيم العزلة الرهبانية؛ فوُضع رفات القديسة دوروثي — الموجود داخل صندوقٍ بهيٍّ مزيَّن بالذهب والياقوت — بصورة مؤقتة في غرفة جانبية بجوار الكنيسة الصغيرة الملحقة بالدير، تمهيدًا لإحضاره وسط موكب من أجل إقامة قداس خاص له في نهاية التبريك. كان القائم على حراسته في تلك اللحظة راهبًا واحدًا، كان يراقب الصندوق بعينَين يقظتَين حذرتَين؛ لعلمه التام هو وإخوانه بالخطرِ المحدق الناتج عن تجوُّل تايجر تايرون في الأرجاء؛ لذا فقد انتفض الراهب واقفًا على قدمَيه في لمح البصر حين رأى إحدى النوافذ المنخفضة وقد بدأت تُفتَح وتسلَّل منها شيءٌ قاتم وكأنه ثعبان أسود اللون. فهُرع الراهب نحو النافذة وأمسك بالشيء المتسلل ووجد أنه ذراع رجل، لها طرف كُمٍّ جميل، وترتدي قفَّازًا أنيقًا بلون رمادي داكن. وبعد أن أحكم قبضته عليها، صاح الراهب طالبًا النجدة، وأثناء ذلك، ومن خلف ظهره، انطلق رجلٌ كالسهم إلى داخل الحجرة عبر بابها وانتزع الصندوق الذي كان الراهب قد تركه خلفه على الطاولة. وفي اللحظة نفسها تقريبًا، وقعت الذراع المثبتة على النافذة في يد الراهب، الذي وقف يحمل الذراع، التي كانت في الواقع ذراع دمية محشوة.
كان تايجر تايرون قد أدى هذه الخدعة من قبل، لكنها كانت جديدة تمامًا بالنسبة إلى الراهب. ولحسن الحظ، كان ثمة شخص واحد على الأقل لم تكن خُدَع تايجر جديدةً عليه، وقد ظهر ذلك الشخص بشاربه العسكري وبكامل جسده الضخم أمام الباب، في نفس اللحظة التي استدار تايجر ليهرب من خلاله. نظر فلامبو وتايجر تايرون كلٌّ منهما للآخر بنظرات ثابتة وتبادلَا شيئًا بدا وكأنه تحية عسكرية.
في تلك الأثناء تسلَّل الأب براون إلى الكنيسة الصغيرة الملحقة بالدير ليتلوَ صلاة لعدة أشخاص متورطين في تلك الأحداث غير اللائقة. لكنه كان مبتسمًا، وإحقاقًا للحق، لم يكن بأي حال فاقدًا للأمل بشأن السيد تايرون وعائلته البائسة، بل كان أكثر تفاؤلًا نوعًا ما مما يكون عليه مع الكثير من الأشخاص الأكثر احترامًا. ثم اتسعت أفكارُه بفعل الآفاق الأكبر للمكان والحدث؛ فعلى الرخام الأسود والأخضر في نهاية الكنيسة الصغيرة المبنية على طراز روكوكو، كانت الملابس الحمراء الداكنة للاحتفاء بشهيدة تمثِّل بدورها خلفية للون أحمر أكثر اتقادًا؛ لون أحمر كلونِ الفحم الملتهب، كلونِ ياقوت الصندوق المقدَّس، كلونِ أزهار القديسة دوروثي. وراودت القسَّ مرة أخرى فكرة أن يسترجع الأحداث الغريبة التي وقعت في يومه، وتلك المرأة التي ارتجفت أمام تدنيس المقدسات الذي ساهمت فيه. وقال لنفسه: إن القديسة دوروثي أيضًا، كان لها في النهاية حبيبٌ وثنيٌّ، لكنه لم يسيطر عليها أو يهدم إيمانها. لقد ماتت القديسة حرة وفي سبيل الحقيقة، ثم أرسلت إليه الأزهار من جنة الفردوس.
رفع القس عينَيه ورأى من خلال حجاب دخان البخور والأضواء المتلألئة أن المباركة تُشارف على الانتهاء بينما كان الموكب ينتظر. فاجتاحه إحساسٌ بالثراء المتراكم بالوقت والعادات وكأنه جمعٌ من الناس يتحرك صفًّا تلو الآخر، خلال الأزمنة اللامتناهية؛ وفوق كل هذا، كان الوعاء المقدس العظيم يتوهَّج كتاجٍ من ألسنة لهيب لا تخبو، أو كالشمس في منتصف ليلنا الفاني، أمام ظلمة الظلال المحدَّبة، كما توهَّج أمام معضلة الكون السوداء؛ ذلك أن البعض على قناعة بأن تلك المعضلة هي أيضًا مشكلة لا حلَّ لها، بينما هناك آخرون على يقينٍ مساوٍ بأن ليس لها سوى حلٍّ وحيد.