الخاتمة
لم يتوقف العرب، منذ بواكير انتهاضهم من سباتهم الطويل عند مطالع القرن التاسع عشر، عن إثارة السؤال المتعلق بتقدم «الغير» في مقابل فواتهم وتأخرهم. وإذ يحيل ثبات السؤال ورسوخه، حتى هذه اللحظة، إلى أن تغييرًا لم يطرأ على مجمل الشروط التي دعت إلى إثارته قبل قرنين من الآن؛ وبمعنى أن ما أدركوه من تقدم الغير في مقابل تخلفهم لم يزل على حاله، فإن استمرار السؤال (والشرط المنتج له) يرتبط، لا بمجرد فساد الإجابة التي قدمها العرب لذلك السؤال، بل وباستمرار تقديمهم لذات الإجابة رغم ما بدا من عقمها وعدم إنتاجيتها. وهكذا فإن استمرار حضور «السؤال» يرتبط باستمرار ترديد ذات الجواب؛ وعلى نحو يصبح فيه الانفلات من أسر المطروح والمتداول من إجابات ومقولات جاهزة في فضاء الواقع العربي هو الشرط اللازم لإخراج هذا الواقع من أزمته الشاملة؛ وبكيفية يمكن أن تسمح للعرب بإثارة أسئلة أخرى غير سؤال تخلفهم الراسخ. إن ذلك يعني أن الخروج من مأزق سؤال التخلف العربي مشروط بالتفكير في إجابة مغايرة لهذا السؤال؛ وأعني غير تلك التي استمر العرب يرددونها على مدى القرنين للآن.
وبالطبع فإنه لن يكون ممكنًا الحصول على إجابة مغايرة، ومنتجة في الآن نفسه، لسؤال العرب الكبير، إلا عبر الوعي بالكيفية التي يفكرون بها، والتي جعلتهم لا يعرفون إلا إجابة واحدة للسؤال يتغير شكلها، ولكن مع ثبات مضمونها. ومن هنا ضرورة الانخراط في قراءة وتفكيك أعمال البنائين العظام لما يمكن اعتباره «عقل العرب». وأعني أن قراءة لأعمال كل من الشافعي والأشعري والغزالي، والرازي وابن رشد وابن خلدون، والطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وسلامة موسى، وغيرهم من بناة الخطاب الفكري الذي لم يزل يتحكم في طبيعة الممارسة العربية في كافة تجلياتها الراهنة سوف تكون مطلوبة ولازمة، وذلك مع الوعي بضرورة أن تكون قراءة تتجاوز مجرد الترديد والتكرار؛ فإنه إذا كان الوعي العربي السائد قد درج على أن يعود إلى هؤلاء ملتمسًا عندهم حلولًا لأزماته؛ وأعني من حيث يشار إليهم بأنهم أقطاب العقلنة وصانعو النهضة، وحاملو شارة الإصلاح ورواد الاستنارة، الذين لا يكفُّ العرب عن الدعوة إلى استعادة تراثهم من أجل أن يتجاوزوا به أزمتهم الراهنة، فإن القراءة الأخرى لا تذهب إليهم التماسًا لحلول للأزمة العربية الجاثمة، بل ترجع إليهم بحثًا عن الجذور الحاكمة لتك الأزمة؛ والتي لا يمكن الوعي بها — توطئة لتجاوزها — إلا عبر الإمساك بتلك الجذور التي تكمن مطمورة في أعمال هؤلاء المؤسسين الكبار.
ولعل الفكرة الحاسمة التي تقوم عليها القراءة المغايرة المقترحة تنطلق من إدراك أن الأزمة العربية الراهنة هي، في جوهرها، أزمة خطاب، وبالتالي أزمة عقل منتِج لهذا الخطاب، وذلك قبل أن تكون أزمة واقع أو ممارسة؛ لأن بؤس الممارسة لا يمكن تفسيره إلا من خلال ما يقوم من ورائها من خطاب يحكمها ويوجهها. وإذ العقل المنتج لهذا الخطاب هو مجرد نتاج وتجسيد لنظام الثقافة التي ينشأ فيها (ومن هنا جوهر التباين بين عقل أوروبي وآخر عربي أو آسيوي)، فإن ذلك يعني أن الآباء المؤسسين في أي ثقافة هم، لا سواهم، صناع العقل السائد في محيط هذه الثقافة؛ وأعني بالعقل، ضمن هذا السياق، طرائق وآليات التفكير ونظام إنتاج المعرفة. وتبعًا لذلك فإن السلالة الممتدة من الشافعي والأشعري، والتي تمر بالغزالي وابن رشد وغيرهم، ولا تنتهي عند الطهطاوي وطه حسين، هم صناع العقل السائد في محيط الثقافة العربية الراهنة. وإذ هم، هكذا، صناع العقل المأزوم الراهن، فإن العودة إليهم واستعادتهم إنما ترتبط بالقصد إلى أن تكون أعمالهم ساحة يجري فوقها تفكيك العقل المنتج للأزمة التي نشقى بها. وهكذا فإن القصد من درس ابن رشد، مثلًا، لن يكون استعادة أفكاره التي يرى فيها الكثيرون السبيل لإقالة العقلانية العربية من عثرتها الحالية، بقدر ما سيكون تعرية الجذر الأعمق لأزمة تلك العقلانية، وكذلك فإن القصد من الوقوف عند الشافعي لن يكون استعادة إنجازه الفقهي وبيان مدى أصالته وعبقريته، بقدر ما سيكون القصد هو الكشف — من خلال تفكيك طريقته في التفكير الفقهي — عن الدور المركزي الذي لعبه في بناء وترسيخ نظام العقل التابع الذي يعمل للآن. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الأمر لا يتعلق بمضمون المذهب الفقهي أو العقائدي الذي وضعه الشافعي أو غيره، بقدر ما يتعلق بتفكيك طريقة تفكيره في الفقه؛ وهي الطريقة التي تجاوزت، في اشتغالها، حدود الفقه إلى غيره من العلوم التي تبلورت في الثقافة الإسلامية.
ولعل ذلك يقتضي تغييرًا يستحيل معه البحث في هؤلاء وغيرهم إلى فضاء لإثارة الأسئلة الحارقة التي يطرحها الواقع العربي الراهن عن علة التردي الفادح للعقلانية والديمقراطية والإبداع والتسامح، وذلك في مقابل ما يطفح به هذا الواقع من الحضور الطاغي للاستبداد والخرافة والترديد والتعصب؛ وعلى نحو قد يجد معه الباحث نفسه منخرطًا — في سياق سعيه وراء أجوبة غير نمطية لهذه الأسئلة — في عمليات نقد جدية لما استقر وترسخ بين الناس على أنه الأجوبة النهائية لتلك الأسئلة. وبالطبع فإنه يترتب على ذلك تغيير في لغة البحث، من لغة تداعب وتطامن، كتلك التي تطفح على سطح الخطاب السائد في العالم العربي، إلى لغة تجرح وتقلق من استناموا إلى سلامة ما يطرحون من قطعيات ودوجمائيات جامدة.
والحق أنه لا شيء يقف وراء محنة الباحثين في مجال الإنسانيات — في مصر وغيرها — إلا هذه المغايرة، التي تعتبر من قبيل التابوهات المحرمة في مجتمعات لا تقبل من أفرادها إلا التفكير بحسب منطق القطيع. وتظهر المفارقة زاعقة حين يدرك المرء أن مصر التي تطمح — بعد ثورتها — إلى الدخول في أفق العقلانية والديمقراطية والتسامح لا تزال تضع مستقبل باحثيها العاملين في جامعاتها — والساعين إلى استيفاء شروط دخولها إلى عصر حداثتها الحقة — بيد كهنة التقليد وحراس الترديد، المهيمنين على ما يقولون زورًا إنها لجان ترقيات.