(١) توطئة ضرورية
تكشف أي قراءة، تتجاوز سطح الحاصل الآن في العالم العربي إلى ما يرقد
كامنًا تحته، عن أن ما يجري ليس محض نهاية لأنظمة الفساد والاستبداد
الحاكمة، بل نهاية لمشروع في التحديث المشوَّه الذي استمر على مدى القرنَين
منذ مطالع القرن التاسع عشر، واستنفد الآن طاقته وقدرته على الوجود كليًّا،
ولقد تفرَّع هذا التشوُّه عن الآلية التي جرى التعاطي بها مع الحداثة؛ والتي
انبنت على مجرد الفرض الإكراهي لها كنموذج (معطًی) جاهز على مجتمعات كانت
تقع خارج سياق تبلورها التاريخي والمعرفي. ولسوء الحظ، فإن الطريقة الراهنة
في استدعاء الإسلام — كبديل لمشروع التحديث المشوه — لا تتجاوز حدود السعي
إلى فرضه كمنظومة جاهزة على الواقع. وإذ يبدو — هكذا — أن الآلية التي
أنتجت الحداثة المشوهة تكاد أن تكون هي تلك التي يجري بها التعاطي مع
الإسلام في التجربة الراهنة، فإنه يمكن القطع بأن هذه التجربة لن تتمخض —
لسوء الحظ — إلا عن أسلمة مشوَّهة، تمامًا كالتحديث الذي سبقها.
وبالطبع فإنه لا يمكن القول بأن غربة الحداثة عن واقع العرب هو ما أدى
إلى ضرورة فرضها على هذا الواقع قسريًّا، وذلك ما لا يمكن أن ينطبق على
الإسلام الذي لا يمكن أن يكون غريبًا عن الواقع لأنه دين غالبية الناس؛ إذ
الحق أنه ليس مِن فارقٍ أبدًا بين غربة الحداثة عن واقع العرب الراهن، وبين
غربة الإسلام/المشروع (الذي يجري فرضه قسرًا) عن الواقع نفسه؛ وأعني من حيث
لا تعني الغربة، في حقيقتها، إلا أن يحضر الواحد من الحداثة أو الإسلام،
بمجرد «الرسم والحرف» وليس «الجوهر والروح». وهكذا فإن استحضار الإسلام
بمجرد «الحرف» وليس «الروح» — وهو ما يغلب على الطرح المصري الراهن — لا بد
أن يجعله غريبًا عن الواقع؛
١ وعلى النحو الذي سيئول، بالضرورة، إلى الفرض الإكراهي له على
الواقع. تمامًا بمثل ما أن استحضار الحداثة كمجرد (رسم وحرف)، وليس كجوهر
وروح قد تأدى إلى لزوم الفرض الإكراهي لها على الواقع العربي، منذ مطلع
القرن التاسع عشر. وهكذا فإن ما يجعل الموضوع غريبًا عن واقع بعينه، ليس
أبدًا زمان نشأته أو مكانها، بل آلية مقاربته التي يمكن أن تجعل منه
موضوعًا للفهم (فينتج ويطوِّر)، أو تجعل منه موضوعًا للفرض (فيعيق
ويجمِّد).
إن ذلك يعني أن الأمر يقتضي استدعاءً للإسلام يغاير بالكلية ذلك الذي
تقوم به جماعات الإسلام السياسي في صعودها الراهن على سطح المشهد المصري
(والعربي على العموم)؛ وأعني به استدعاء الإسلام بما هو (جوهر وروح) وليس
بما هو (رسم وحرف)، الأمر الذي لن يكون ممكنًا إلا بجعل الإسلام وتراثه
الغني موضوعًا لِفِعْلي القراءة والفهم.
وهنا فإنه إذا كان تراث الجماعة — أي جماعة — هو ما أنتجه سَلفها (من
النتاجات المادية والمعنوية التي تتسع للروحي والفكري والقيمي والسلوكي)،
فإنه يمكن القول إن هذا التراث لا يصل، بكليته، وبالحال التي جرى عليها
إنتاجه، إلى الخَلَف، ليس فقط بسبب عمليات التآكل والتلاشي الطبيعي لبعض
نتاجاته المادية، بل وبسبب ما يجري من عمليات مقصودة للمنع والإزاحة —
بالمعنى المادي والرمزي — لجوانب من نتاجاته الفكرية بالذات. وترتبط هذه
الممارسة الأخيرة بحقيقة أن التراث الخاص بأي جماعة يكون ساحة لانبثاق
أصوات أو أنساق شتى؛ هي تعبيرات فكرية عن مواقف اجتماعية وسياسية. وإذ
تشتبك هذه الأنساق فيما بينها في ضروب من علاقات تفاعل لا تقف عند حدود
مجرد التواصل والاحتواء، بل وتبلغ حد النبذ والإقصاء، فإن ما جرى — في تراث
الإسلام — من أن واحدًا من هذه الأنساق (مدعومًا بسلطة السياسة، ومتخفيًا
وراء احتكاره الرمزي للدين) قد راح يحقق هيمنته على ساحة التراث، مُقصيًا
لغيره عبر ضروب من الإدانة والتكفير (وهي الأحادية والإقصائية التي تتوالد
منها التيارات الساعية إلى صدارة المشهد المصري الراهن). وغني عن البيان أن
تحوُّل التراث إلى ساحة لمجرد الصوت الواحد كان لا بد أن يؤدي إلى إفقاره
على نحو كامل، وعلى النحو الذي يستلزم رد التراث إلى حيويته التي كان معها
ساحة حقة لإبداع الجماعة بكافة أطيافها، وذلك عبر تحريره من قبضة
الصوت-النسق الواحد.
ولأن هذه الأنساق جميعًا قد تبلورت في سياق ضروب من العلاقات والقراءات
للأصول المؤسِّسة للإسلام (القرآن والسنة)، فإن هيمنة أحدها (وإزاحة ما
عداه من أنساق) يعني إقصاء ضروب العلاقات والقراءات — التي قامت عليها
الأنساق المزاحة — لتلك الأصول التأسيسية. وهكذا فإن الأمر يتجاوز مجرد
هيمنة الصوت-النسق الواحد على التراث إلى احتكاره (أي هذا النسق) لأصول
الإسلام التأسيسية أيضًا؛ بحيث يقدم نفسه بما هو، وحده، الحضور المطابق
لها. وإذا كان ما جرى من هذا الاحتكار المزدوج للتراث من جهة، ولأصول
الإسلام التأسيسية من جهة أخرى — وعلى النحو الذي آل إلى تثبيت هيمنة الصوت
الواحد في السياسة والاجتماع والثقافة وغيرها — هو جوهر الأزمة التي تعاني
منها المجتمعات العربية، فإنه لا سبيل للانعتاق منها أبدًا، إلا باستعادة
التراث في حيويته الأولى التي اتسع معها لكافة الأصوات المتباينة من جهة،
وإلا بتحرير الأصول التأسيسية للإسلام من احتكار الصوت الواحد لها (بمثل ما
هو حاصل الآن) من جهة أخرى؛ وذلك على النحو الذي تنفتح معه الآفاق أمام
علاقات معها، وقراءات أخرى لها. إن ذلك يعني أنه إذا كان أصل الداء يقع
داخل التراث، فإنه لا سبيل أبدًا لالتماس أي علاج لهذا الداء من خارجه.
لكنه يبقى أنه لا بد — لكي يكون العلاج ناجعًا — أن يكون وصفه مسبوقًا
بتشخيص دقيقٍ للداء القائم، وهو ما سنسعى هنا إلى إنجازه على أي
حال.
أولًا: الإشكالية والمنهج
إذا كان العربي (والمسلم على العموم) يعيش غربة مزدوجة عن عصره
(تتجلى في وقوفه على هامشه عاجزًا عن الإسهام الفاعل فيه)، وعن تراثه
(بحسب ما يتجلى في وقوعه تحت سطوته، عاجزًا عن الإمساك بجوهره الأصيل)؛
فإن الأصل في تلك الغربة يكمن في عجزه عن إنتاج معرفة حقة ومنضبطة بهما.
ويرتبط هذا العجز المعرفي بوقوع الوعي في قبضة أرتال من الأيديولوجيا
التي لم تقدم له — رغم ما تتباهى به من زخرف الحداثة وإبهارها.
٢ — إلا ضروبًا من المعرفة الاختزالية والمجتزأة بكلٍّ من
التراث والحداثة معًا. ومن هنا ما يعكسه الواقع العربي الراهن من كسل —
أو حتى فقر — معرفي، ينكشف عنه التعامل الحالي مع كافة المفاهيم
المتداولة في فضائه الصاخب. فإن تأملًا في جملة المفاهيم، التي انفتح باب
الجدل حولها مع ثورات الربيع العربي، كالدولة المدنية والديمقراطية
والمرجعية الدينية والعلمانية والسلف والإجماع الفقهي وغيرها، يكشف عن
سطوة الأيديولوجيا على هذا النقاش؛ وعلى النحو الذي انتهى إلى ما تعانيه
تلك المفاهيم من الالتباس والتشويش. وهكذا، فإن متابعة للنقاش الدائر حول
الديمقراطية، مثلًا، يكشف عن اختزالها في محض جوانبها البرانية
الإجرائية، رغم أن هذه الجوانب الإجرائية قد لا تؤدي — مع سيادة القيم
الأبوية السلطوية في الثقافة — إلا إلى تأبيد حضور التسلطية من تحت
البراقع الديمقراطية.
ولعله يلزم الإلماح إلى أن مأزق الأيديولوجيا لا يقف، فحسب، عند
كونها تمثل قفصًا حديديًّا لا يستطيع المنحبس داخله أن يبصر خارج حدوده
الضيقة، بل ويتجاوز إلى ما يترتب على ذلك التوجيه الصارم الذي تمارسه على
الوعي، من معرفة تفتقر إلى الدقة بسبب عدم مطابقتها للواقع؛ لأن معيار
صحة مثل هذه المعرفة يتعلق بضرورة مطابقتها مع تحديدات تلك الأيديولوجيا،
وليس مع الواقع. وبالطبع فإن معرفة تفرضها الأيديولوجيا، بجاهزيتها
ودوجمائيتها وصرامتها، على الواقع، لا يمكن أن تكون، متصادمة معه فحسب،
بل وصادمة له كذلك. ولعل ذلك يئول إلى أن الانفلات المأمول للوعي من
صداميته مع الغرب من جهة، ومع تراثه من جهة أخرى، لا يكون ممكنًا إلا
بالتحرر من سطوة الأيديولوجيات المنغلقة، والانتقال إلى فضاء المعرفة
المنفتحة. وهكذا، فإن الأمر لا يتعلق بنقض أيديولوجيا قائمة لحساب
أيديولوجيا أخرى جاهزة (وذلك بحسب ما يمارس الفرقاء على سطح المشهد
المصري الراهن)، بقدر ما يتعلق بكشف ما تفرضه الأيديولوجيا، على العموم،
من تحديدات تنسدُّ معها آفاق المعرفة التي يتزايد الوعي بوجوب أن تكون
منفتحة، على نحو كامل. ولعله يلزم التأكيد على أن مثل تلك المعرفة
المنفتحة (وأعني بكلٍّ من الغرب والتراث معًا) ليست مطلوبة لذاتها، بل
لما ستئول إليه من فتح الباب أمام الوعي للحوار الجدي والمنتج معهما؛
وعلى النحو الذي يجعل منهما رصيدًا للنهضة الحقة، وليس خصمًا منها بحسب
ما هو حاصل حتى الآن.
وهنا يلزم الوعي بأنه ليس ثمة من منهج جاهز لإنتاج مثل هذه المعرفة،
بل إنها تكون موضوعًا لضربٍ من المراوحة الدائمة بين الذات وموضوع
معرفتها، والتي لا يكون مطلوبًا فيها أن تنفتح تلك الذات على موضوعها
متحررة من أي أحكام مسبقة حوله فحسب؛ وبحيث تنصت له دون أن تفرض عليه
أيًّا من قوالبها وتحديداتها الجاهزة، بل وأن تنفتح على كافة تجليات
المنجز المنهجي المعاصر الذي لا يكف عن مراجعة ذاته، ومساءلة فروضه، على
نحو دائم. ولكن ضرورة تحرر الذات من أي رؤى أو فروض جاهزة لا يعني —
أبدًا — أن تكون خلوًا من أي سؤال. إذ الحق أنه إذا كان لا وجود لذات
تملك الحد الأدنى من الوعي من غير أن تكون مسكونة بأسئلة لحظتها، فإنه
ليس ثمة من معرفة حقيقية، إلا وهي تنبثق كإجابات لأسئلة، وذلك على شرط أن
تتميز تلك الأسئلة بالأصالة، وعدم الاصطناع. إن ذلك يعني أن الذات ستقارب
موضوعها، لا لتفرض رؤاها الجاهزة عليه، بل لتبحث فيه عن إجابات لما يثقل
به عليها واقعها من أسئلة حارقة وحائرة. وإذا جاز القول إن السؤال: لماذا
تخلَّف المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟
٣ هو السؤال الذي لا يزال يضغط بثقله على الذات العربية للآن،
فإن السعي وراء إجابة منتجة على هذا السؤال، لا بد أن يكون هو القصد من
أي مقاربة لكلٍّ من التراث وتجربة الحداثة الغربية. وإذن فإنها المعرفة
تكون نتاج «البحث» عن جواب لسؤال، وبكيفية لا يبتدأ معها «البحث» من
معرفة جاهزة تقصد الذات إلى فرضها على موضوع معرفتها؛ وهو ما تجلى، على
نحو صارخ، في كافة القراءات الأيديولوجية للتراث بالذات. وهكذا فإنه حين
يكون القصد هو البحث عن إجابات لأسئلة يتفق عليها الكافة، وليس السعي
وراء أسانيد يدعم بها المرء ما يحمله من رؤى أيديولوجية جاهزة مسبقة، فإن
ذلك يعني أن جوهر الاشتغال على التراث هو معرفيٌّ بالأساس.
ولعله يمكن القول إن مدار الانشغال هنا هو «سؤال الواقع» الذي يمثل
نقطة البدء في أي معرفة حقة. وعلى نحو إجرائي، فإن السبيل إلى الوعي بذلك
السؤال الحاسم لا يقف عند مجرد تحليل تجربة اللحظة الراهنة التي ينخرط
فيها المرء (الباحث) مباشرة، بل ولا بد من أن ينضاف إلى ذلك تحليل العديد
من النصوص التي تتشكل فيها القشرة الظاهرة لأفقه المعرفي، والتي كتبها
المفكرون المسلمون، ابتداءً من القرن التاسع عشر وحتى الآن. ويرتبط ذلك
بحقيقة أن سعيًا وراء إجابة منتجة على سؤال الواقع لا يمكن أن يتحقق من
خارج حقل الثقافة التي ينتمي إليها هذا الواقع؛ وأعني من حيث إن مفهوم
«الواقع» هو — في جوهره — جماع مكونين: أحدهما «براني» يشتمل على كل ما
يتحقق في عالم الفعل والممارسة بكافة أشكالها (الاجتماعية والسياسية
والفكرية والاقتصادية وغيرها)، والآخر «جواني» ينطوي على الفكرة الحاكمة
التي تنتظم كل أشكال تلك الممارسة البرانية. وإذ أخفق السعي إلى التغيير
في العالم العربي، على مدى القرنين الفائتين، بسبب ما جرى من الانشغال
بمجرد استبدال ممارسة برانية (تعرَّفوها جاهزة عند غيرهم) بأخرى قائمة
(يعيشونها ويضيقون بها). ومن دون الانتباه إلى أن تغييرًا في عالم
الممارسة البراني السطحي لا يمكن أن ينجح من دون الاشتغال المعرفي الجاد
على تفكيك الفكرة الحاكمة لتلك الممارسة البرانية (المراد إزاحتها)، فإن
ذلك يؤكد على ضرورة وجوهرية الاشتغال الجدي على «الثقافة» — بما هي مركز
القلب «الجواني» وساحة حضوره — ضمن أي مسعى لفهم «الواقع» توطئة لتغييره.
وإذ هو الانتقال — والحال كذلك — من «سؤال الواقع» إلى «سؤال الثقافة»،
فإنه يكون من اللازم والضروري تعيين حدود «الثقافة» ومجالها.
ثانيًا: حدود الثقافة ومجالها
إذا كان الشائع أنه يمكن التمييز، على صعيد التطور التاريخي للثقافة
العربية الإسلامية، بين لحظتين؛ تتمثل أولاهما في اللحظة التراثية التي
تشغل حيزًا زمانيًّا يمتد من عصر التدوين (في القرن الثاني الهجري) إلى
القرن الهجري الثالث عشر، فيما تشغل ثانيتهما، التي يمكن تمييزها بأنها
اللحظة الحداثية، القرنين الأخيرين فقط، فإنه يبدو أن الوعي بأهمية
اللحظة ما قبل الإسلامية في فهم كلا اللحظتين اللاحقتين عليها، قد راح
يتزايد على نحو ملفت. فحتى مع صرف النظر عن أنه يستحيل إنتاج معرفة بنص
الإسلام المؤسس (القرآن) من دون الوعي بالسياق الذي تنزل داخله، فإنه بدا
أن أنظمة تفكير، ومنظومات فقه واعتقاد قد سادت واستقرت في الإسلام،
ولكنها تضرب بجذور غائرة في الثقافة التي هيمنت قبله؛ وإلى الحد الذي بدا
معه وكأن تلك الثقافة تمثل أصلًا يكاد أن يكون مباشرًا لهذه
المنظومات.
وبالطبع فإنه يلزم لدارس الإسلام، والباحث في ثقافته على العموم، أن
ينفتح على تلك اللحظات الثلاث. ورغم أن تحليلًا لتلك اللحظات الثلاث يكشف
عن اتصالها جميعًا؛ وبما يحيل إلى أنها لم تعرف أي ضرب من الانقطاع
العميق بينها، فإنه سوف يبقى، لا محالة، أن اللحظة التراثية هي اللحظة
الأكثر مركزية بينها؛ الأمر الذي يستدعي تركيز القول فيها. وبالطبع فإن
مركزيتها ترتبط بالدور الذي لا تزال تلعبه في تشكيل الواقع الراهن؛ وعلى
النحو الذي تكاد معه أن تكون الساحة الرئيسة التي يمكن الحصول منها على
إجابات منتجة لأسئلة الحاضر. وبعبارة أخرى، فإنه إذا كانت اللحظة
الحداثية في مسار تلك الثقافة هي اللحظة التي يمكن داخلها متابعة إلحاح
«السؤال» (وإلى الحد الذي أصبح معه هذا السؤال عنوانًا رئيسًا لأحد نصوص
تلك اللحظة؛ وأعني نص شكيب أرسلان الأشهر)، فإن اللحظة التراثية
الإسلامية، وتلك التي تقع قبلها على نحو ما، تمثل الساحة الرئيسة لالتماس
«الجواب» عليه؛ وبما يؤكد على عدم الانقطاع بينها جميعًا. لكنه يبقى، على
أي حال، أن اتساع ساحة اللحظة التراثية الوسيطة — والأكثر مركزية — يلزم
بضرورة تعيين وضبط الطرائق التي يمكن أن تؤدي إلى معرفةٍ أكثر دقة
وانضباطًا بها.
ولعل تحديدًا وضبطًا لتلك اللحظة الواسعة يقتضي الاشتغال — أولًا —
بآلية الإحاطة «بالانتشار والتوزع الأفقي للثقافة»، وهي «آلية وصفية»
تستهدف الوقوف على ما أوردته أدبيات «تصنيف العلوم والمعارف» على سبيل
التسجيل والتعريف بكافة ما تم إنتاجه داخل الثقافة العربية الإسلامية من
العلوم والفنون والمعارف والصنائع. ورغم كثرة الكتب عن «إحصاء العلوم»
ومفاتيحها، و«أسامي الكتب والفنون»، فإن أحدًا قد لا ينازع في القيمة
الفائقة لما عرضه ابن خلدون في مقدمته عن «العلوم وأصنافها»؛ ليس فقط
لأنه قد تعامل مع تلك العلوم وأصنافها كأحوال للعمران الحضري، بل ولأن
اللحظة التي سجل فيها تأريخه لإنتاج الثقافة العربية الإسلامية كانت لحظة
«أفول وانطفاء»
٤ حيث لم تنتج الثقافة بعد تلك اللحظة شيئًا ذا بال، بل دخلت
عصر «الشروح والحواشي» الذي لم تعرف فيه إلا محض التكرار والاجترار. ولأن
محض «الوصف» لا يقدم معرفة، بل يلزم تجاوزه إلى التفسير و«الفهم»، فإن
ذلك يقتضي الاشتغال — ثانيًا — بآلية «الحفر العمودي الرأسي» التي يسعى
عبرها الوعي إلى الإمساك — عبر الحفر في القلب — بالنظام المعرفي الكامن
للثقافة، والذي يكرر نفسه في سائر ما تنتجه هذه الثقافة.
وهنا فإنه إذا كان مجال الثقافة الإسلامية — وحقل توزعها الأفقي — قد
اتسع لكل ما جرى إنتاجه في محيطها من العلوم التي اختصتها بها الملة
الإسلامية؛ وهي — على قول ابن خلدون — «العلوم النقلية الوضعية وهي كلها
مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق
الفروع من مسائلها بالأصول … ثم يستتبعها علوم اللسان العربي الذي هو
لسان الملة وبه نزل القرآن»،
٥ وذلك بالإضافة إلى ما تم تداوله داخلها من «العلوم العقلية»
التي «هي صنف طبيعي يهتدي إليه الإنسان بفكره»، والتي كانت موضوعًا
لعملية «مثاقفة» واسعة استوعب فيها النظَّار من أهل الإسلام ما انتهى
إليهم من تراث «الإنسانية» في هذه العلوم «وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى
الغاية أنظارهم فيها»، فإنه يمكن الاستنتاج أن التماسًا لنظام تلك
الثقافة العميق لا بد أن يموضع نفسه داخل العلوم التي اختصتها بها الملة
التي تنتسب إليها. ورغم ما يبدو من أن «العلوم التي اختصت بها الملة
الإسلامية» تقوم على «الخبر» ولم يكن للعقل فيها إلا دور إلحاقي أو
استتباعي وليس إبداعيًّا، وذلك في مقابل العلوم العقلية التي هي ما
«يهتدي إليه الإنسان بفكره من العلوم الحكمية الفلسفية»، فإن الحد لم يكن
فاصلًا بين المنظومتين أبدًا؛ بل إن علومًا بعينها قد راحت تحقق اتصالهما
وتقاطعهما (وفي القلب منها علما الكلام وأصول الفقه بالذات)؛ وإلى الحد
الذي لا يمكن معه اعتبارها علومًا محض نقلية، بل نقلية-عقلية في آنٍ
معًا. ولعل ذلك ما يمكن أن يكون الطابع الذي تتميز به العلوم
الفلسفية-الحكمية داخل الإسلام. وبالطبع فإنه يبقى أنه إذا كان ثمة ما
يمكن القول بأنها تراتبية معرفية تترتب بحسبها منظومات العلوم داخل ثقافة
ما، فإنه يمكن القول بأن المنزلة المعرفية للعلوم النقلية-العقلية التي
تمثل قلب المنظومة «الفلسفية الحكمية» في الملة الإسلامية، تضعها في
الموقع الأعلى على سلم التراتبية داخل الثقافة الإسلامية.
ثالثًا: المنزلة المعرفية للعلوم داخل الثقافة الإسلامية
لعله يلزم التأكيد ابتداءً، على أن تلك التراتبية لا تعني امتيازًا
أو سموًّا لعلم أو منظومة على أخرى — على طريقةِ ما كان يروِّج له
القدماء من امتياز علمٍ بعينه لشرف موضوعه وسموه — بقدر ما يرتبط بحقيقة
أن علمًا أو منظومة (تشتمل على جملة علوم) تكون أكثر من غيرها قدرة على
تحقيق الصياغة الأكمل والتعبير الأجلى عن النظام العميق لتلك
الثقافة.
وغنيٌّ عن البيان أن ما ينطبق على الثقافة على العموم، إنما ينطبق —
بالمثل — على منظومة تشتمل على جملة علوم داخلها. وهكذا فإنه إذا كانت
منظومة «العلوم التي اختصت بها الملة الإسلامية الثقافة» تشتمل على علوم
القرآن والحديث والفقه وأصوله والكلام والتصوف، مضافًا إليها علوم اللسان
بأركانها الأربعة، وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، فإن ثمة من بينها ما
ينطوي على النظام العميق للثقافة الإسلامية في أكثر درجاته شمولًا
واكتمالًا. ولعله يمكن افتراض أن يكون العلم الذي يتحقق داخله اتصال
منظومتي النقل والعقل هو العلم الكاشف عن نظام الثقافة الإسلامية في
شموله واكتماله. وأعني من حيث إنه أدنى ما يكون إلى الساحة التي يمكن
داخلها متابعة الكيفية التي راحت تشتغل بها الآليتان الحاكمتان لعملية
إنتاج المعرفة في ثقافة الإسلام؛ وأعني آليتي النقل والعقل.
المركزية المعرفية لعلم الكلام
من حسن الحظ، أن ثمة من القدماء من راح يعيِّن العلم الذي يقوم
مقام القلب في ثقافة الإسلام. فإذ مضى الحجة الكبير «الغزالي» إلى أنه
«ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادئ تؤخذ مسلمة بالتقليد في
ذلك العلم (الجزئي)، ويُطلب برهان ثبوتها في علم (كلي) آخر»،
٦ فإنه كان يعني أن ثمة من العلوم — داخل الثقافة — ما يكون
كليًّا في مقابل غيره من علوم جزئية؛ لأنه يكون ساحة البرهنة والتأسيس
للأصول والمبادئ التي تأخذها العلوم الجزئية كمسلمات تنبني عليها.
يتعلق الأمر، إذن، بالتمييز بين «علوم تأسيس» من جهة، وبين «علوم
تسليم» تجد مبادئها المؤسسة في علوم التأسيس، من جهة أخرى. ورغم أن
الحجة الكبير قد اعتبر «علم أصول الدين» هو علم التأسيس في ثقافة
الإسلام، فإن قراءة للعمل الذي ورد فيه النص المقتبس منه (وهو كتابه
المستصفى) تثبت أن علم أصول الفقه لا يقل تأسيسية بدوره.
وإذا كان الغزالي وغيره من القدماء قد اعتبروا «علم أصول الدين» هو
علم التأسيس داخل الثقافة لما يختص بموضوعه (الذي هو قواعد الاعتقاد)،
فإن ثمة وجهًا آخر لتأسيسيته — لا يقل أهمية أبدًا، بل لعله يفوق في
الأهمية تأسيسيته المستفادة من موضوعه — يتمثل فيما راح يتبلور داخله
من القواعد والمبادئ المعرفية الحاكمة لفعل التفكير وإنتاج المعرفة في
ثقافة الإسلام بأسرها. يتعلق الأمر إذن بمركزية معرفية أتاحت له أن
يكون ساحة انبناء وتأسيس لآليات ومبادئ معرفية لعبت دورًا مهيمنًا، حتى
في بناء العلوم التي تأسست تاريخيًّا قبله. وكمثال على ذلك، فإنه إذا
كان «علم الحديث» قد تبلور تاريخيًّا سابقًا على «علم أصول الدين»، فإن
آلية الإنتاج المعرفي التي انبنى عليها علم الحديث، وهي الآلية الإسنادية
٧ التي حددت طريقة الاشتغال في مجال علم التاريخ
٨ أيضًا، سوف تجد ما يؤسسها معرفيًّا — وبمعنى التحول بها من
مجرد ممارسة إلى فعل مؤسَّس نظريًّا — مع اكتمال تبلور نظرية الجوهر
الأشعرية. فإذ تقوم نظرية الجوهر على أن الوجود يستفيد قوامه من خارجه؛
لأن الجوهر لا يقوم بذاته عند الأشاعرة، فإن ذلك قد راح يؤسس لاعتبار
القيمة مضافة إلى الفعل من الشرع خارجه (حيث الحسن والقبح مضافان إلى
الفعل وليسا باطنين فيه) حيث الشرع منشئ للقيمة، وليس مجرد مخبر عنها،
كما راح يؤسس لاعتبار القيمة مضافة إلى الخبر من الشهادة عليه (بالصدق
والكذب) من خارجه. ومن هنا ارتفع الإسناد، الذي يؤسس بالكامل لإنتاج
المعرفة في علمي الحديث والتاريخ، من كونه محض ممارسة غير واعية، إلى
مقام الآلية الراسخة التي اكتسبت التسويغ النظري والتأسيس المعرفي، مع
اكتمال انبناء نظرية الجوهر في علم الكلام. ومن هنا أيضًا إن مدونات
الحديث قد راحت تتسع أو تضيق بحسب تساهل أو تشدد المحدِّثين في قبول
صدقية الإسناد أو شهادة الرواة. وإذا كان النحاة قد استفادوا كثيرًا من
الأدوات المعرفية التي اشتغلوا بها من المتكلمين، حتى لقد قيل — حسب
ابن جني — «إن علل النحويين، وأعني حذَّاقهم المتقنين، لا ألفافهم
المستضعفين، أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقہين»،
٩ وراحت إحدى مدارسهم تقرر أن لا وجود لزمان مضارع — بل صيغة
مضارعة — لأن «الحركات لا تبقى زمانين» قياسًا على القاعدة المستفادة
من نظرية الجوهر، القاطعة بأن «الأعراض لا تبقى زمانين»، فإن ابن خلدون
سوف يشير إلى ما يعتبره «طريقة المتكلمين في علم أصول الفقه»؛ وعلى
النحو الذي يؤكد تأسيسية الكلام حتى بالنسبة لعلوم تأسست سابقة عليه
تاريخيًّا. ولعله يمكن الإشارة — ضمن هذا السياق أيضًا — إلى أن علمًا
کالتاريخ يكاد أن يكون ساحة، ليس فقط لاكتشاف الدور التأسيسي لعلم أصول
الدين، بل ولإجلاء الدور الأيديولوجي له.
١٠ وحتى فيما يخص العلوم الحكمية والفلسفية التي «عكف عليها
النظَّار من أهل الإسلام، وحذقوا فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم
فيها»، فإنه يمكن قراءتها من داخل الأنظمة المعرفية التي تبلورت في علم
الكلام؛ وأعني النظامين السني والشيعي اللذين يقدران — لحسن الحظ — على
استيعاب ما أنجزه حكماء الإسلام (الكندي والفارابي وابن سينا وابن
رشد)، وذلك في مقابل ما يكاد يشيع من تصورٍ لا يرى في عمل هؤلاء إلا
محض تنويعات غير أصيلة على تراث اليونان (وأعني في ثنائيته الأفلاطونية
الأرسطية). ولعله يمكن القول ترتيبًا على ذلك، بأن التصوف قد راح يتغذى
على هذه الأنظمة ذاتها، سواء على نحو مباشر (فيما يُقال إنه التصوف
السُّنِّيُّ)، أو حتى عبر وساطة العلوم الحكمية والفلسفية (فيما يقال
إنه التصوف العرفاني الفلسفي الذي يضرب بجذوره العميقة في قلب التجرِبة
الشيعية).
وبالطبع فإنه يبقى أن علمًا يمكن أن يكون له السبق في التبلور
التاريخي داخل المنظومة، ولكنه يتنزل في مكانة معرفية أدنى من تلك التي
يحتلها علمٌ لاحقٌ عليه؛ وأعني من حيث إن هذا العلم اللاحق ينطوي على
جملة المبادئ والآليات والأنظمة التي تؤسس معرفيًّا لذلك العلم التي
يأتي سابقًا عليه من الناحية التاريخية. وحتى مع صرف النظر عن تلك
التراتبية، فإنه يبقى أنه إذا كان هذا العلم المؤسس هو ساحة انبناء —
واكتشاف — نظام الخطاب المهيمن داخل الثقافة، فإن سائر العلوم الأخرى
سوف تكون ساحة لاختبار كيفية وأشكال حضور هذا النظام. ولعل القول
بهيمنة الخطاب، وضرورة اختبار كيفية وأشكال تحقق هذه الهيمنة في سائر
العلوم، تتجلى زاعقة فيما صار إليه بعض المتكلمين — من الأشاعرة بالذات
— من اختتام نصوصهم بذكر ما لهم من المصنفات في الأدب وعلوم اللغة
وتفسير القرآن وعلم السنة والحديث والفقه والتاريخ والتصوف، وغيرها من
العلوم التي ليس لأهل البدعة — على قول الإسفرائيني — من هو رأس في شيء
منها، فهي مختصة بأهل السنة والجماعة … حيث لم يكن قطُّ للروافض
والخوارج والقَدَرية تصنيف معروف يُرجع إليه في شيء من الشريعة، ولا
كان لهم إمام يُقتدى به في فروع الديانة … وحتى إذا صنف بعض متأخري
القَدَرية في تفسير القرآن على موافقة بدعتهم، فإن ذلك لا يتداوله من
أهل التفسير إلا مخذول.
١١ وإذن فإنها الهيمنة التي لا تقبل المنازعة للخطاب الذي
تبلور داخل علم الكلام؛ والذي راح ينتج نفسه، على أنحاء شتى، في علوم
الثقافة.
التباين في تقدير مكانة علم الكلام بين القدماء والمحدثين
وإذا كان متفلسفًا كبيرًا في وزن ابن خلدون قد مضى — بالرغم من ذلك
كله — إلى أن «هذا العلم، الذي هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهد
على طالب العلم؛ إذ المُلحدة والمبتدعة قد انقرضوا»،
١٢ فإن ما قاله يرتبط — فيما يظهر جليًّا — بوقوفه عند ما
يمكن اعتباره «الدور الأيديولوجي والسِّجالي» للعلم الذي تمثل له في
مجرد الرد على من أسماهم بالمبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب
أهل السنة والسلف. ولو أنه قد تجاوز ذلك إلى «الدور المعرفي» له، لما
كان قد أطلق الحكم، أبدًا، بنفاد فاعليته وانتفاء ضرورته. بل إنه لو
تأمل عميقًا فيما يؤسس لعمله التاريخي، هو نفسه، لما كان قد أطلق هذا
الحكم أيضًا.
ولعل هذا الدور الأخير بالذات هو ما يقف وراء ما مضت إليه أولى
حلقات الدرس الفلسفي الإسلامي الحديث، وأعني بها الحلقة التي تكونت «في
مصر» حول الرائد الكبير الشيخ «مصطفى عبد الرازق»، من اعتبار علم
الكلام — مع أصول الفقه — هو «إبداع العقلية الإسلامية في الفلسفة»؛
١٣ وبما يؤكد على المنزلة المعرفية والتأسيسية الرفيعة للعلم.
وذلك ابتداءً من أن الفلسفة هي حقل انبناءِ كل ما يؤسس للحركة العلمية
والمعرفية داخل حضارة ما. وقد يكون ذلك هو ما حدا بأحد الباحثين
المعاصرين إلى التأكيد — على عكس ابن خلدون — على دوام فاعلية هذا
العلم، وإلى الحد الذي راح معه يتصور فيه وحده الخلاص من المأزق العربي
الراهن. وهكذا راح الباحث الكبير — الذي هو هاشم صالح — يبلور إدراكه
ساردًا: «طيلة سنوات عديدة كنت أتصور أن الحل يكمن في الإبستمولوجيا
(الغربية بالطبع). وككل باحث عربي غادر بلاده إلى أوروبا وجامعاتها كنت
مسحورًا قبل كل شيء بالحداثة والعلم والتكنولوجيا، وكنت مسحورًا بتلك
النظرية التي أتاحت نشأة هذه الأشياء في أوروبا، وأتاحت لأوروبا أن
تتفوق على جميع الأمم الأخرى منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. ففلسفة
العلوم أو المعرفة هي التي تدرس شروط إمكانية وجود المعرفة الصحيحة
وتمييزها عن المعرفة الخاطئة، وهي التي تبلور معايير التقدم وطرائق
الاكتشاف والبحث العلمي. ولكن بعد فترة طويلة من التخبط والتيه رحت
أكتشف — ويا لدهشتي الكبرى — أن الحل يكمن أولًا في الثيولوجيا لا في
الإبستمولوجيا. إنه يكمن في علم الكلام، في علم الله، في علم اللاهوت،
قبل أن يكمن في علم الطبيعة أو الفيزياء أو الرياضيات. وفهمت عندئذٍ أن
تحرير السماء سوف يسبق حتمًا تغيير الأرض. وعرفت أن لا جدوى من تحرير
الأرض قبل تحرير السماء؛ هذه السماء الضاغطة كالسقف فوق رءوسنا، هذه
السماء التي تراكمت فيها الغيوم السوداء وادْلَهَمَّتْ على مر القرون السكولاستيكية.»
١٤ وهكذا يؤكد الرجل على أن فاعلية العلم تتجاوز مجرد دوره
السِّجالي في مواجهة «الملحِدة والمبتدِعة»، إلى دوره — الذي لا يمكن
إلا أن يكون معرفيًّا — في تشكيل بنية ذهنية لا تزال تحكم رؤية المسلم
للعالم حتى الآن.
من الكلام إلى أنظمة الخطاب-العقل-الواقع
لعل ما صار إليه صاحب الرأي الأخير يرتبط بحقيقة أن نظام هذا
الخطاب ينعكس كاملًا في نظام العقل الذي تحققت له السيادة العليا في
الإسلام؛ والذي لم تزل فاعليته مستمرة حتى الآن. فالعقل هو حدث داخل
الخطاب الذي هو بدوره حدث في الثقافة. إن ذلك يعني أن علم الكلام هو
النقطة التي تنعكس على سطحها — بجلاء وصفاء — هويات كلٍّ من العقل
والخطاب والثقافة، ثم الواقع، الذي لم يقدر تعدد وتباين أشكال الوجود
الأيديولوجية المادية المتبدلة على سطحه على إخفاء انعكاسه عن تلك
الهويات جميعًا. ومن هنا جوهرية الدرس النقدي لتلك الأنظمة الثاوية،
على النحو الذي يمكن معه إعادة بنائها بما يسمح بإعادة توجيه الواقع؛
الذي هو — على قول جادامر — ليس مجرد قوى تفرض ذاتها، ولكن هو اتحاد
القوة والمعنى. وما لم يكتشف الوعي هذا المعنى ويسيطر عليه، فإن الواقع
يرتد إلى مستوى اللامعقول، وتضيع جهود كل ثقافة جادَّة من أجل جعل
العالم قابلًا للفهم والتوجيه، بل إنها (أي هذه الثقافة) تصبح أصلًا
لإعادة إنتاج العالم هو نفسه.
وغنيٌّ عن البيان أن دراسة ثقافة الإسلام وتراثه، لن تكون، ضمن هذا
السياق، من قبيل «التماهي» الذي لا يفعل معه المرء إلا أن يقبل ويكرر،
أو من قبيل «الإنكار» الذي يكتفي فيه الوعي بأن يدين ويتطهر، بل فهمًا
وإعادة توجيه للواقع وشرطًا لتغيير وعي الذات فيه، على النحو الذي يتيح
لها الإسهام الفاعل في فهم العصر وبنائه.
وعلى نحو إجرائي، فإنه يمكن التمييز بين مستويات ثلاثة لدراسة علم
أصول الدين مثلًا، وذلك مع ملاحظة تكاملها جميعًا فيما بينها. فإذا كان
ممكنًا درسه كعلمٍ «لتاريخ» الفِرَق، ثم كعلمٍ «لبناء» العقائد، فإنه
يمكن درسه «كنظام للعقل»؛ وأعني على مستوى المفاهيم المؤسسة كالعقل
والنقل والوحي والأصل والنص والجوهر والفعل والقيمة والإجماع، وغيرها.
وعلى وجه الإجمال، فإن هذه المستويات الثلاث للدرس تبدو قابلة تمامًا
للانتظام ضمن ثنائية الأيديولوجي والمعرفي التي يكاد العلم أن يكون
الساحة الأصيلة لانبنائهما معًا. وبالطبع فإنه يمكن إيراد المزيد من
التفصيل ضمن كل واحد من هذه المستويات الثلاثة.
رابعًا: من الحِكمي-الفلسفي إلى النقلي
إذا كانت منظومة العلوم الفلسفية-الحكمية (وفي القلب منها علما
الكلام وأصول الفقه) تمثل ساحة انبناء العقل الذي تحققت له السيادة في
الإسلام، فإن منظومة العلوم النقلية (وفي القلب منها التفسير والحديث
والفقه) تمثل الساحة الرئيسة لاشتغال هذا العقل، وذلك في سعيه لإنتاج
معنى نصوص الإسلام الكبرى (القرآن والحديث). وهكذا فإن المنظومة الأولى
تنطوي على ما يمكن اعتباره تاريخًا لانبناء العقل (الذي ساد في الإسلام)،
فيما تعرض المنظومة الثانية لتاريخ تكوين المعنى (الذي تحققت له السيادة
بدوره). وكساحة لتاريخ المعنى، فإن موسوعات التفسير والحديث والفقه
الكبرى، قد استحالت إلى ما يمكن اعتباره مصادرَ لتاريخ أفكار وآراء أجيال
المسلمين الأولى (من الصحابة والتابعين وتابعيهم) الذين تشكلت منهم
النواة الصلبة لمن جرى التواضع على أنهم «السلف الصالح». ورغم ما يفيض به
هذا التاريخ من أشكال الصراع والإزاحة والهيمنة؛ وعلى النحو الذي يتبدى
في ضروب التباين والتعارض والتضاد بين تلك الأفكار، فإنه قد جرى الترويج
لتصور أن هؤلاء السلف قد أجمعوا على ضربٍ واحد من المعنى الذي لم يختلفوا
عليه أبدًا. ويرتبط ذلك بما يقال من إن صفوة السلف المختارة قد عاصرت —
إنْ على نحو مباشر أو غير مباشر — تجربة الاتصال الفريدة والمعجزة بين
الأرض والسماء، فصفَت نفوسهم وعقولهم لقبول الحق من غير تشوُّش واختباط.
والحق أن موسوعات التفسير والحديث والفقه تفيض بأشكال شتى من اختلاف
الصحابة وتعارضهم، وهم بصدد إنتاج معنى القرآن. وإذ الأمر هكذا بين
الصحابة، وهم الذين حضروا لحظة الاتصال المباشر مع السماء، فإنه لا بد من
توقع حضور أوسع وأعمق للاختلاف بين ورثتهم من التابعين وتابعيهم. ولكن
«نمذجة» تلك اللحظة التي يسكنها السلف (والتي كانت مطلوبة بقوة لضرورات
السياسة) قد اقتضت وجوب نفي الاختلاف ورفعه عنها على نحو كامل. وإذ تنطق
وقائع التاريخ بما يتكشف عن لحظة حية تنطوي، ككل حياة، عمَّا يعاكس
«نَمْذَجتها»، فإنه كان لا بد من الدعوة إلى «اجتناب أهل التواريخ
(الذين) ذكروا عن السلف أخبارًا صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية
الأباطيل، فيقذفوا في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى.»
١٥ وبمثل ما كان مطلوبًا إسكات ما يرويه التاريخ عن خلافات
السلف فيما يخص الاجتماع والسياسة، فإنه كان يلزم، بالمثل، إسكات
اختلافهم حول معنى نصوص الإسلام الكبرى.
وهنا يلزم التنويه بما يقوم من التلازم الجوهري بين إسكات صوت
«التاريخ»، وإسكات صوت «المعنى»؛ فقد ارتبط إسكات صوت التاريخ، بالسعي
إلى إخراج السلف من ساحته لما تفيض به من الدنس والدماء والفتن، وجعلهم
(والصحابة منهم بالذات) موضوعًا لخطاب إلهي-نبوي. فإن «عدالة الصحابة
ثابتة معلومة بتعديلِ الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص
القرآن … ووصف رسول الله الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن
الثناء عليهم … والأخبار في هذا المعنى تتسع، وکلہا مطابقة لما ورد في نص
القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على عدالتهم ونزاهتهم،
فلا يحتاج أحدٌ منهم — مع تعديل الله لهم، المطلع على بواطنهم — إلى
تعديل أحدٍ من الخلق له»؛
١٦ ويعني أن كونهم موضوعًا لخطاب «قدساني» من الله والنبي،
ينأَى بهم عن أن يكونوا موضوعًا، لخطاب «تاريخاني»
١٧ من الخلق. وهكذا فإن التعويل على النص (قرآنًا وحديثًا)،
والسكوت عن وقائع التاريخ كان هو حجر الأساس في بناء سلطة الصحابة الذين
ينبني حولہم مفہوم السلف. وإذ تكون النصوص المقدسة (قرآنًا وحديثًا) هي
الأصل في تمييز واختصاص من قيل إنهم «السلف» على العموم، فإنه كان لا بد
من اختصاصهم، بالمثل، بالمعنى الذي أراده الله والنبي لنصيهما. ومن هنا
ما يمكن القول إنها سيرورة التحول بالمعنى من كونه «تكوينًا» يقوم على
إنتاجه الفاعلين — بالمعنى السياسي والاجتماعي — في سياق تاريخي بعينه،
إلى المعنى بوصفه «معطى» جاهز مطلق. إن المماثلة، هنا، تتبدى في أن
التحول في مجال «التاريخ» من «العيني» إلى «المفارق»، ينعكس في مجال
المعنى تحولًا من الإقرار بأنه «تكوينٌ» ينتجه البشر في سياق عملية
تفاعلية مع المقروء (وبما يعنيه ذلك من التأكيد على حضورهم الفاعل في تلك
العملية وغيرها)، إلى تكريس الاعتقاد بأنه «معطى» مكتمل جاهز يفرض نفسه
عليهم (وبما يعنيه ذلك من التأكيد على محض خضوعهم وتلقيهم). وهنا فإن
السعي إلى إخضاع البشر قد راح يخفي نفسه وراء القول بأن إحضارهم إلى ساحة
إنتاج المعنى (في القرآن مثلًا) لتأكيد فاعليتهم على العموم، إنما يمثل
تهديدًا لحقيقة مصدره الإلهي. والحق إنها سلطة السياسة، وهي تضع فاعلية
البشر في تعارضٍ مع الاعتقاد في «المصدر الإلهي للقرآن»؛ لكي تتحصن بمنأى
عن المساءلة والحساب. وإذا كان التحوُّل بالمعنى إلى معطى جاهز مطلق،
الذي يؤسس لهذه السلطوية السياسية، يرتبط — بحسب ما بدا — ببناء سلطة
السلف، فإن ذلك يعني أن السلف لم يكونوا هم الذين اختاروا لأنفسهم أن
يكونوا «سلطة» قابضة على الرأسمال الرمزي للجماعة، بل إنه قد جرى وضعهم
على هذا النحو، من أجل التخفي السياسي وراءهم.
والغريب حقًّا أن هناك من الشواهد الكثيرة ما يدل على أن ممارسة
هؤلاء السلف، الذين أريد لهم أن يكونوا قابضين على نوع من المعنى المكتمل
الثابت والمتفق عليه للقرآن، لا تشي أبدًا باعتقادهم في هذا النوع من
المعنى المعطى للقرآن. ولعل مثالًا لتلك الشواهد يتأتى مما تحتشد به —
وبغزارة ملفتة — موسوعات التفسير والفقه الكبرى مما يمكن اعتباره تأريخًا
واسعًا لأفكار وآراء الصحابة والتابعين الذين تتشكَّل منهم النواة الصلبة
لجيل السلف. ولعل نظرة على تلك الأفكار والآراء تتبدى عن ضروب من التباين
والتعارض الحاصل بين هذا السلف؛ سواء تعلق الأمر بفهم آية أو استنباط حكم
أو غيره. وبالطبع فإن أصل ما بينهم من تباين وتعارض لا ينحصر فحسب في
الفروق الشخصية والعقلية، أو الميول والانتماءات الاجتماعية والسياسية،
بل يتجاوز إلى طبيعة الأداء اللغوي للخطاب القرآني التي تجعل منه ساحة
للإضمار والإجمال والإطلاق والإيماء والتضمين والتخصيص والتعميم؛ بل
وأحيانًا للسكوت وعدم التصريح،
١٨ وذلك على النحو الذي اقتضى اجتهادًا بشريًّا في إنتاج
المعنى، كان لا بد أن يتباينوا فيه بحسب ميولهم وانتماءاتهم. ولعل وعيهم
بأنهم كانوا ينتجون المعنى باجتهاد، ولا يتلقونه جاهزًا كاعتقاد، يتجلى
فيما كانوا يختتمون به أقوالهم — أو كتاباتهم — من تعبيرِ «والله أعلم»؛
الذي يكشف عن روحٍ منفتحة لا تعتقد في امتلاكها لكامل العلم، بل إنها
تفتح الباب — بما يعكسه هذا التعبير من إقرارها بمحدودية علمها — أمام
الآخرين ليضيفوا اجتهاداتهم إلى — أو حتى على أنقاض — إنجازها. وتأتي
المفارقة، هنا، من السعي إلى تثبيت الاعتقاد بأن هؤلاء السلف الذين
اجتهدوا في إنتاج معنى القرآن، ضمن شروط وعيهم وواقعهم، قد تلقوا المعنى
على سبيل الهبة المخصوصة لهم، وأن أحدًا بعدهم ليس له إلا أن يقف عند
حدود هذا الذي تحصَّلوا عليه في لحظة فريدة، لا سبيل لتكرارها
أبدًا.
وكمثال على أن المعنى كان ساحة للاختلاف والقول بالرأي بين الصحابة،
فإنه يمكن الإشارة إلى ما أورده أبو بكر الجصَّاص في «أحكام القرآن» من
اختلاف الصحابة وقولهم بالرأي في عديد من المسائل المتعلقة بأحكام
المواريث. ولم يكن ذلك، فحسب، فيما لم تستوفِهِ النصوص، حسب إشارة أبي
بكر بن العربي، بل وحتى فيما نطقت به النصوص تصريحًا. وهكذا فإنه ليس
للمرء أن يدهش حين يفاجئه الاختلاف حول آيات الأحكام التي يشيع القول
إنها من قبيل ما هو قطعي الدلالة الذي لا يثور حوله أدنى اختلاف؛ حيث
أورد الجصاص أن «السلف قد اختلفوا في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة
(يعني إذا مات الزوج وترك الزوجة مع أبويه، أو توفيت الزوجة وتركت الزوج
مع أبويها)، فقال علي (بن أبي طالب) وعمر (بن الخطاب) وعبد الله بن مسعود
وعثمان (بن عفان) وزيد (بن ثابت): للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي، وما
بقي فللأب، وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وقال ابن عباس
للزوج والزوجة ميراثهما، وللأم الثلث كاملًا (من الميراث كله)، وما بقي
فللأب. وقال (أي ابن عباس): لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي.» ورغم أن
هذا الذي مضى إليه ابن عباس (الذي تنسب إليه الروايات أنه «حبر الأمة،
وترجمان القرآن ودليل التأويل») في ضرورة أن تأخذ الأم الثلث كاملًا هو —
على قول الجصاص وابن كثير وغيرهما — ما «يدل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله
تعالى يقول:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ»،
١٩ فإنه يبدو غريبًا انعقاد الإجماع من الصحابة والتابعين على
غير ما يقول به ظاهر القرآن. والطريف أنه حين أرسل «ابن عباس» — بحسب ما
أورد ابن أبي شيبة في «سننه» — إلى «زيد بن ثابت» مستفسرًا: «أين تجد ثلث
ما بقي في كتاب الله؟» فإن زيدًا قد أجابه: «إنما أنت رجل تقول برأيك،
وأنا رجل أقول برأيي.»
٢٠ وإذا كان للمرء أن يتساءل عن أصل الرأي الذي انحاز إليه زيد
ومعه — على قول ابن كثير
٢١ — معظم الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة
وجمهور العلماء، والذي يقول بما لم يجد له «ابن عباس» أثرًا في كتاب
الله، فإنه لن يجد إلا ما تورده المصادر
٢٢ من أنه «التقليد الاجتماعي الأبوي» الذي يرفض أبدًا أن يكون
للأنثى نصيبٌ من الميراث يربو على نصيب الرجل، حتى ولو كان ذلك هو قول
القرآن الواضح.
وإذ يبدو، هكذا، أن ساحات الإقصاء تتعدد من العقل إلى المعنى
والتاريخ والسياسة، لتتضافر جميعًا في تحقيق الإقصائية الشاملة التي تقف
وراء التسلطية العربية، فإن حضور سلطة السلف، في هذه الساحات جميعًا،
يبدو بالغ المركزية والرسوخ. وإذا كان تجاوز التسلطية مشروطًا بتفكيك ما
يؤسس لها من الإقصائية الكامنة في الساحات المشار إليها كافة، فإن ذلك
يعني ضرورة أن ينفتح الدرس الفلسفي الإسلامي الراهن، على ما يتجاوز دائرة
انشغاله بالعلوم الفلسفية التقليدية. فإنه إذا كانت تلك العلوم الفلسفية
التقليدية (وفي القلب منها عِلما الكلام وأصول الفقه) تمثل الساحة التي
يمكن فوقها استعادة العقل في تاريخه، واكتشاف ما كان عليه قبل أن يبلغ
طور التكلُّس والجمود، فإنه يلزم ليتسنى تفكيكه.
وإذن، فإنه الصراع حول البشر استحضارًا لفاعليتهم أو تغييبًا لها،
وهو يعكس نفسه على ساحتي التاريخ والمعنى. وإذ يبدو التلازم ملفتًا بين
إقصاء البشر وطردهم من مجال التاريخ والسياسة وبين إقصائهم من مجال
المعنى، فإنه يترتب على ذلك أن سعيًا إلى استعادتهم في مجال التاريخ
والسياسة لا بد أن يكون مصحوبًا باستعادتهم إلى مجال المعنى.
وإذا كانت العلاقة بين السياسة والمعنى تتأتى من أن احتكار المعنى هو
أحد أقنعة احتكار السلطة — وبما يترتب على ذلك من أن السعي إلى تثبيت
هيمنة السلف كسلطة قابضة على الرأسمال الرمزي للجماعة، الذي يتمثل في
المعنى الخاص بكتابها الأقدس، إنما ينطوي على القصد إلى تحصين سلطة
سياسية بعينها تتخفى وراء السلطة المعنوية (من المعنى) التي جرى بناؤها
لهذا السلف — فإن هذا الاحتكار قد راح يؤسس نفسه على أن مفاهيمَ جرى
صوغُها — بحسب نظرية المعنى المعطى — (من قبيل طريقة السلف والإجماع
الفقهي والنص القطعي والحكم الشرعي والدليل والخبر وغيرها) قد لعبت، ولا
تزال للآن، دورًا فاعلًا في المجال السياسي.
خامسًا: النتائج والاستتباعات
بمثل ما إن الموضوع يعيِّن منهجه ويحدده، فإن الرؤية تحدد، بدورها،
طرق أدائها وكيفيات تفعيلها. وإذا كان مبدأ «الوحدة المعرفية» لعلوم
الثقافة الإسلامية هو جوهر الرؤية التي قد تكون هي الأقدر على التشخيص
الدقيق للداء والدواء معًا؛ فإنه يستتبع ذلك ضرورة إعادة بناء العلوم
الإسلامية في ضوء هذا المبدأ. ولكن … ولكيلا تكون عملية إعادة بناء
العلوم مجرد انعكاس لتوجهات الباحث واختياراته، أو حتى تحيزاته، فإن من
اللازم أن تنبني على أساسٍ يتوخى القدر الأكبر — أو حتى الممكن — من
الموضوعية. ولعله يمكن التماس هذا الأساس الموضوعي في مفهوم «السياق»؛
وأعني من حيث أنه لا يختص بالعلم المدروس فقط، بل إن ذات الدارس، بدوره،
تنبني في سياقٍ ينتظمها داخله ويحددها؛ الأمر الذي يعني مجاوزة المفهوم
لحدود الذاتية المسطحة الفارغة. وفيما يخص سياق العلم — أي علم — فإنه
يمكن التمييز فيه بين «عنصر داخلي» يختص بمتابعة المسار الداخلي لحركة
الأفكار والمفاهيم داخل علم بعينه؛ وبالطبع مع متابعة الكيفية التي تحضر
بها تلك الأفكار والمفاهيم ذاتها داخل منظومة علوم أخرى، أو ضمن الثقافة
بأسرها، و«عنصر خارجي» يختص بالسعي إلى اكتشاف وجوه الارتباط والعلائق
الخفية بين المسار الباطني للأفكار والمفاهيم وبين حركة الوقائع في
الخارج. ولعل وعيًا بسياق علم الكلام مثلًا — في جانبيه الداخلي والخارجي
— هو المدخل لاكتناه الأساس الذي قام عليه البناء الكلاسيكي للعلم
متجاوبًا مع معطيات لحظته؛ وهذا الأخير هو نقطة البدء اللازمة لإعادة
بنائه على نحو يتجاوب فيه مع معطيات لحظة مستجدة. ولعله يمكن القول إنه
إذا كان التحليل السياقي للعلم يكشف عن تخفي الاصطراع حول «الإنسان» وراء
الاصطراع الظاهر حول «الله»، فإن ذلك يفتح الباب واسعًا أمام إعادة بنائه
على نحو يتجاوب مع معطيات اللحظة الراهنة.
وإذن فالأمر لا يتعلق بإسكات القدماء والقطع معهم، بقدر ما يتعلق
بالحوار معهم على النحو الذي يحررنا ويحررهم.