الفصل الثاني
عن القرآن وفعل القراءة وإنتاج الدلالة
لعل قيمة ما يبدو من دخول الإنسان في التركيب البنائي (structural)
واللغوي للقرآن، تتمثل — وبالأساس — فيما يتيحه ذلك من ذات الدخول للإنسان في
فعل القراءة وإنتاج الدلالة؛ على النحو الذي يفتح الباب أمام زحزحة كل ما
تجري نسبته إلى القرآن — في السياق الراهن — من قواعد الضبط السياسي
والاجتماعي التي يتم اعتبارها — بسبب هذه النسبة بالذات — ذات دلالة نهائية
ومطلقة.
فإنه إذا كانت الارتباكات الحاصلة في المشهد العربي المسيطر، فيما يقال
إنها دول الربيع العربي، ترتبط بتصاعد وتيرة استدعاء الدين ليلعب الدور
الأكثر حسمًا في المجال العام، فإن التأكيد على اتساع لغة القرآن لضربٍ من
الحضور الإنساني الفاعل يصبح أمرًا غايةً في الجوهرية بسبب ما يتيحه هذا
التأكيد من الكشف عن وجوب دخول الإنسان، بالتالي، في إنتاج الدلالة والمعنى.
وبالطبع فإن ذلك لا بد أن يترتب على ذلك وجوب دخول «الإنسان» في بناء ما تجري
نسبته إلى القرآن من القواعد والأحكام التي يسعى دعاة الإسلام السياسي
للسيطرة بها على المجال العام؛ وأعني من حيث يجري تثبيت الواحدة من تلك
القواعد بما هي محض تعبير عن دلالة نهائية ومطلقة للقرآن.
ومن هنا فإنه إذا كانت الآلية التي يشتغل بها، صراحة، خطاب تديين السياسة
— الذي يتعالى مده في عالم ما بعد الثورات العربية — تتمثل فيما يقوم به
المشتغلون، في حقل الخطاب، من استدعاء ما ينسبونه إلى الدين من القواعد
والمحددات؛ لتقييد مجال الممارسة السياسية فيها، فإن ما يبدو من الفاعلية شبه
المطلقة لهذه القواعد والمحددات بسبب رسوخها في المخزون الحي الغائر في
الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتعامل معها — تبعًا لذلك — بما هي من المسلمات
غير القابلة للسؤال، لا يلغي ما يعرفه المشتغلون في مجال الدرس الإسلامي (على
النحو الاستقصائي العلمي، وليس الإنشائي الوعظي) من أن الكثير من هذه القواعد
المنسوبة إلى الدين (وخصوصًا في مجالي الممارسة السياسية والاجتماعية بالذات)
هي محض تحديدات فرضتها مقتضيات الضبط السياسي والاجتماعي، ثم راح يجري
إخفاؤها وراء قداسة الدين لإكسابها الديمومة والرسوخ. ومن حسن الحظ، أن ثمة
من الفقهاء الكبار من أدخل تلك القواعد الخاصة بالمعاملات السياسية
والاجتماعية في باب المصالح التي يقوم أصلها في العقل.
١
ولعل ذلك يستلزم طريقة في التعامل مع مثل هذه القواعد، على النحو الذي
يفتح الباب أمام تحرير مجال الممارسة، على العموم، من سطوتها. وللمفارقة، فإن
ذلك لن يكون ممكنًا إلا عبر تحرير الدين من قبضتها أولًا؛ وذلك من حيث يجري
توظيفه كقناع لإضفاء القداسة على ما ليس منه في الحقيقة. ولعله ليس من سبيلٍ
إلى ذلك كله إلا عبر السعي إلى نزع القشور والرقائق الدينية — والقرآنية
بالذات — التي تحيط بالنواة الصلبة للقاعدة موضوع التحليل، على نحو تنكشف معه
طبيعتها المتخفية، مع ما يصاحب ذلك من بيان المراوغات التي أمكن عبرها مراكمة
تلك الرقائق الدينية والقرآنية التي استحالت إلى أقنعة كثيفة تتوارى خلفها
الطبيعة السياسية أو الاجتماعية للقاعدة. ولأن نقطة البدء في مسار مراكمة تلك
الرقائق الدينية حول هذه القواعد ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية تتبدى في
سعي المشتغل تحت مظلة خطاب الإطلاقية المهيمن إلى التأسيس النصي لتلك القواعد
من القرآن، فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفعل التأسيسي ينطوي على ضروب من
التوجيه (عبر الإضمار والإظهار والإنطاق والإسكات للقرآن) على النحو الذي
ينتهي إلى تثبيت القاعدة المراد ترسيخها بوصفها دينًا يكون مطلوبًا من الناس
أن يتعبدوا به الله؛ وبما يعنيه ذلك من أن هذا التثبيت لا يكون فعلًا للقرآن،
بل للقراءة.
وكمثال لما يجري تداوله من هذه القواعد في السياق السياسي الراهن، فإنه
يمكن الإشارة إلى القاعدة المستقرة الخاصة بعدم جواز ولاية النساء وغير
المسلمين التي يكشف التحليل عن مراوغات توجيه القرآن باتجاه تثبيتها، كقاعدة
تعمل على نحو مطلق؛ وبصرف النظر عن تحديدات السياق وشروطه. وهكذا فإنه، وعلى
الرغم من أن الإنسانية قد انتقلت من سياق كان فيه الجنس أو الدين هو الأصل
المحدد لهوية الفرد والجماعة (وبما يترتب على هذا التحديد من إخلاء المركز
لصاحب الجنس أو الدين/السيد، وإقصاء ما دونهما إلى الهامش)، إلى سياق التحديد
السياسي لتلك الهوية (بما يفرضه هذا التحديد من الحقوق والواجبات المتساوية)،
فإن فاعلية تلك القاعدة تظل مستعصية على التحدي حتى الآن.
٢
ولسوء الحظ، فإنه يجري تشغيل مثل هذه القواعد على نحو مطلق، وبصرف النظر
عن شروط السياق وتحديداته؛ وبما يعنيه ذلك من أن هذا الاشتغال يتحقق عبر ضروب
من ضغوط الإكراه والإسكات التي مورست على القرآن بنعومة، ولكن بلا هوادة.
وعلى الرغم من أن هذه الضغوط ذات أصل سياسي واجتماعي بالأساس فإنها قد راحت
تحقق نفسها في شكل مبادئ وقواعد للفهم والترجيح، التي قيل باستحالة أي مقاربة
للقرآن إلا من خلالها، وفقط، فإن المضمون الاجتماعي والسياسي يسعى، على
الدوام، إلى إخفاء تحيزاته الذاتية الغليظة وراء رهافة المعرفي وما يخايل به
من الصلابة والموضوعية. وهكذا فإنه إذا كان القصد هو تثبيت واقع سياسي
واجتماعي بعينه، فإن هذا القصد لا يحقق نفسه مباشرة، بل إنه يتخفى وراء
مقاربة معرفية للقرآن تقوم على إهدار السياق بما هو السبيل الوحيد لإطلاق
الدلالة وتثبيتها على نحو نهائي. وضمن هذه المقاربة المعرفية، فإن هذا
الإهدار للسياق سوف يؤسس نفسه على قواعد ومفاهيم من قبيل الإجماع، والناسخ
والمنسوخ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا اجتهاد مع النص، وغيرها.
وبالرغم من عدم إمكان المجادلة في أن هذه القواعد والمفاهيم، المشار إليها
وغيرها، إنما ترتبط بالأفق العقلي والمعرفي والسياسي والاجتماعي الذي تبلور
فيه وعي مبدعيها، فإنها قد استحالت إلى ما يشبه الأقانيم المقدسة التي يستحيل
إلا التسليم بها، وممارسة الفهم من خلالها وحدها، وعدم التعرض لها بالمساءلة
والمحاورة. وبالطبع فإن ترسيخ هذه القواعد على هذا النحو الذي ترتقي فيه إلى
مقام المقدسات إنما يأتي من اشتغالها تحت مظلة مفهوم الدلالة المطلقة للقرآن؛
الذي يعتمد، بدوره، على تصور أن لغته تكون مقدسة ومطلقة بسبب إلهية مصدرها.
فإن اللغة الإلهية المطلقة لا بد أن تكون حاملة لدلالة لا نهائية مطلقة
بالمثل؛ حيث إن منطوقات الله هي انعكاسٌ مطابق لمراداته التي لا يمكن أن تكون
عرضة للتبدُّل أو التغيير،
٣ وبما يعنيه ذلك من المطابقة الكاملة بين الدالِّ (اللغوي)
والمدلول (التصوري). إن ذلك يعني أن القواعد التي وضعها العلماء (من أصوليين
ومتكلمين وفقهاء) لفهم القرآن وقراءته إنما تعمل تحت مظلة القاعدة الأعم
القاضية بإطلاقية دلالته؛ والتي تسند نفسها إلى تصور اللغة على أنها ذات أصل
إلهي مطلق بدورها. ولعل ذلك يدفع إلى أن تصور الأصل الإلهي للغة القرآن، وبما
يترتب عليه من تثبيت دلالته ونهائيتها، إنما يرتبط بما يئول إليه ذلك التثبيت
من توظيفه في المجالين الاجتماعي والسياسي. وإذن فإنه لولا رسوخ مفهوم
الدلالة المطلقة للقرآن الذي يستند — وبالأساس — على الاعتقاد في إلهية لغته؛
لما كان لتلك القواعد والمفاهيم أن تنتج آثارها الواقعية في المجالين السياسي
والاجتماعي.
ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن هذه القواعد المعرفية قد اكتسبت هذا الوضع
الذي تعالى بها إلى خارج حدود المساءلة، في عصور الجمود والعجز عن الإبداع؛
حيث تكشف القرون الأولى من تاريخ الإسلام عن نوع من الحوار المنفتح — الذي
تحفظه بطون دواوين التفسير — مع تلك القواعد والمفاهيم. ومن جهة أخرى، فإنه
يجب التأكيد، بالمثل، على أن هذا التوجيه للقرآن إلى إنتاج دلالة أحادية
مطلقة — عبر وساطة تلك القواعد والمفاهيم التي أحالتها عصور الجمود المتأخرة
إلى أقانيم مقدسة — إنما يرتبط بتصوره كسلطة يراد توظيفها من أجل تسييد
وتثبيت موقف سياسي واجتماعي بعينه. فإنه إذا كان الإطلاق والأحادية يشكلان
جوهر السلطة في الإسلام، منذ وقت مبكر نسبيًّا؛ وذلك من حيث ما تكشف عنه كتب
الفقه السياسي من انبناء صورة السلطان بالتمثيل على صورة الله؛ «حيث الحضرة
الإلهية لا تُفهم — على قول الغزالي — إلا بالتمثيل على الحضرة السلطانية»،
٤ فإن ذات الإطلاق والأحادية كانا لا بد أن يحددا عالم الدلالة في
القرآن. ويرتبط ذلك بأن حراسة سلطة ذات طابع أحادي وإطلاقي (في المجالين
الاجتماعي والسياسي)، سوف تكون أمرًا ميسورًا إذا ما تم تقييد الدلالة في
القرآن لتصبح أحادية ونهائية، بدورها. إذ يهدد عالم الدلالات المفتوحة
المتنوعة أحادية السلطة وإطلاقيتها، بما يحيل إليه من إمكانات تعدد الأفهام
وتباين الرؤى.
وعلى النقيض من ذلك، فإن التعامل مع القرآن باعتباره فضاء مفتوحًا لفيوض
من الدلالات المتنوعة (أو حتى المتباينة)، إنما يرتبط بتصوره كساحة رحيبة
يتواصل فوقها البشر في سعيهم إلى بناء عالم يتسع لهم جميعًا، من دون إزاحة أو
إقصاء بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو العِرق. وإذن فإنه الصراع، في
الجوهر، بين القرآن كقناع لسلطة (أحادية ومطلقة) تسحق الناس جميعًا (مسلمين
وغير مسلمين)، وبينه كفضاء مفتوح، يؤكدون في رحابه التنوع والتباين الذي
أراده الله لهم.
ولسوء الحظ، فإن كل هذه الإكراهات، السابق بيانها، قد اشتغلت جميعًا —
وعلى نحو مثالي وصريح — في سياق توجيه القرآن إلى النطق بقاعدة عدم جواز
الولاية السياسية للنساء وغير المسلمين. فإن القرآن لا ينطق بهذه القاعدة، أو
غيرها، على نحو مباشر، بل يجري إنطاقه من خلال قصدية إنسانية تهيمن عليه،
وتجعله موضوعًا لاشتغالها، وتجهد في السعي إلى إخفاء نفسها لكي تظل المخايلة
قائمة بأن القرآن لا يُستنطق، بل ينطق. وبالطبع فإن هذا الإخفاء لا يكون
مباشرًا، بل يتحقق، هو نفسه، من خلال الاحتجاب وراء ما يبدو أنه مفاهيم
محايدة، أو حتى موضوعية. وهكذا فإن مفاهيم وقواعد تتعلق بالنسخ والإجماع
والقراءة والسياق والسنة والآثار واللغة والشرعي والعرفي وغيرها
٥ هي أدنى ما تكون إلى مجموعة أدوات تستثمرها مقاصد إنسانية بعينها
في إنطاق القرآن بما يئول إلى ترسيخ هيمنتها.
وهنا فإنه إذا كان قد بدا أن الخطوة الحاسمة في جعل قاعدةٍ ما جزءًا من
«الدين» تتمثل في التماس أساسٍ لها من القرآن بالذات، فإنه لا بد لفعل
الالتماس هذا (وهو فعلٌ معرفي بالأساس) أن يكون موضوعًا لتحليلٍ يكشف عما فيه
من «قراءة» تراوغ بأن تجعل من نفسها «قرآنًا»، وليس قراءة. ومن وجوب الانشغال
بالكشف عن مجمل الآليات التي تهيمن على قراءة القرآن؛ على النحو الذي يؤدي
إلى إنتاج دلالة بعينها لخدمة موقفٍ اجتماعي وسياسي معين. وبالطبع فإن ذلك
يرتبط بالقصد إلى تحرير القرآن من المسئولية عن قولٍ بعينه في مسألة محددة؛
لتوضع (هذه المسئولية) على كاهل آلية القراءة المهيمنة على التعامل معه. فمنذ
اللحظة التي يصبح فيها القرآن موضوعًا لفعل القراءة (الإنساني بطبيعته)، فإنه
ليس لأحد
٦ أن يقطع بأن القرآن «يقول كذا» في مسألةٍ ما، بل يتوجَّب عليه
تقرير أن فعله القِرائي يوجه القرآن إلى هذا القول بالذات في تلك المسألة
بعينها. وحين يدرك المرء أن القرآن قد أصبح من لحظة تنزيله موضوعًا لقراءة،
فإنه يلزم التأكيد على أن الكثير مما يُنْسَب للقرآن قوله، إنما هو نتاج فعل
قراءته بالأحرى. وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة هو فعل بشري، بطبيعته (وبما
يعنيه ذلك من أن ما ستجري نسبته إليه سوف يكون بشريًّا بدوره)، فإن نسبة
القول إلى القرآن (ذي المصدر الإلهي) في المقابل، إنما تقصد إلى جعله «قولًا
إلهيًّا»، وعلى النحو الذي تستحيل معه زحزحة الدلالة المراد تثبيتها به.
وهكذا فعل كل من يقصدون إلى تثبيت موقف ما (اجتماعي أو سياسي بالذات)، حين
يجعلون منه موضوعًا لقولٍ «إلهي» أورده القرآن، متجاهلين أن ما يفعلونه هو
فعل قراءة، حتى ولو اكتفوا بمجرد الاقتباس من القرآن.
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة بمحض أعمال التفسير والتأويل فحسب، فإنه
يلزم التأكيد على أنه يتجاوز مجرد ذلك؛ وإلى حد أن مجرد استدعاء «آية قرآنية»
للقطع بها في مسألةٍ ما — ومن دون أن يكون هذا الاستدعاء مصحوبًا بأي شروح أو
تفسيرات — يبقى هو أيضًا فعل قراءة. وذلك من حيث يَعرف من يستدعي «آية» معينة
من القرآن في موقف بعينه، أن هذه الآية، واستنادًا إلى نوع المعرفة المستقرة
بين الجمهور المتلقي، سوف تنتج الدلالة التي يقصد إلى تثبيتها بالذات.
٧ إن ذلك يعني أن إنتاج دلالة أي «منطوق قرآني» لا تنفصل عن نوع
المعرفة المتداولة حوله بين الجمهور مسبقًا؛ وهي معرفة إنسانية بطبيعتها،
فضلًا عن أنها (أي هذه المعرفة المسبقة) إنما تكون، بدورها، نتاجًا لفعل
قراءة. وهكذا فإن المرء يكون ممارسًا للقراءة، حتى وهو لا يفعل إلا أن يستدعي
الآية بمجردها من القرآن، طالما أن ما أنتجته القراءات السابقة، سوف يلعب
الدور الحاسم في إنتاج دلالتها عنده.
وعلى العموم، فإن القرآن، وبمجرد دخوله في دائرة الاستخدام الإنساني على
أي نحو من الأنحاء (وأعني كموضوع للتفسير أو الاقتباس)، يصبح موضوعًا لفعل
قراءة؛ وبما لا بد أن يتبع ذلك من أن كل ما ينتج عن هذا الفعل هو من قبيل
النتاج البشري. فهو يدخل، بالقراءة، في بناء وإنتاج تراكيب تنتمي لعالم
البشر، ولا يمكن الادعاء، أبدًا، بأن هذه التراكيب ذات أصل إلهي. ولعل الوعي
بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب، يظهر في حرص علماء المسلمين على إنهاء قولهم
في مسائل الدين، بتعبيرِ «والله أعلم»؛ إقرارًا منهم بالمسافة الفاصلة بين ما
يقدمون من «اجتهادات» محدودة، وبين «عِلم الله» غير المحدود. إن ذلك يعني أن
أحدًا لا يمكنه الادعاء بأن ما يقوله، يتطابق مع قول الله أو علمه؛ حتى ولو
كان لا يفعل إلا أن يردد «آيات» القرآن؛ وأعني أن قوله سيبقى مجرد تركيب بشري
لا يطابق مراد الله أو علمه أبدًا.
ولعل ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس، منسوبًا إلى القرآن، هو قول
«القراءة» (أي فعل قراءتهم)، وليس قول «القرآن»، هو ما يكاد يبين للكافة من
أنه ليس للقرآن قول واحد في المسألة الواحدة، بل إن له في المسألة الواحدة
أقوالًا تتنوع، بحسب تنوع السياق الذي يجري طرحها داخله. وغني عن البيان أنه
حين يحتفظ القرآن، في بنائه، بتلك الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها،
فإن رفع دلالة قولٍ منها، وتثبيت التي تخص القول الآخر، لا بد أن يكون
مردودًا إلى فعل «القراءة»، وليس إلى «القرآن». وهكذا، مثلًا، فإنه حين يشتمل
القرآن على قولين مختلفين عن غير المسلمين (وأعني النصارى بالذات)؛ أحدهما
يحمل دلالة إيجابية، كقوله تعالى:
وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا
نَصَارَى،
٨ والآخر ينطوي على دلالة سلبية، كقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ،
٩ فإن تثبيت دلالة أحد القولين على أنها موقف القرآن «المطلق
والنهائي» من النصارى، لا يكون قولًا «قرآنيًّا»، بل فعلًا «قرائيًّا». فإن
القرآن يكون حاملًا للدلالتين (الإيجابية والسلبية) معًا، وفعل القراءة هو
الذي يتجه إلى تثبيت إحداهما على حساب الأخرى.
وبالطبع، فإن وجهة الفعل القرائي تتحدد بنوع العلاقة التي تربط المسلمين
بالنصارى في وقت تحققه، أي بما يقع خارج القرآن؛ وبمعنى أنه إذا كانت العلاقة
الواقعية بين المسلمين والنصارى هي علاقة عداء وخصام، فإن فعل القراءة سيقصد
إلى تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة السلبية، باعتبار أنها المحددة
لموقف القرآن النهائي والمطلق من النصارى. وأما إذا كانت العلاقة الواقعية
بين المسلمين والنصارى علاقة مودة وسلام، فإن فعل القراءة سيمضي — على العكس
— في اتجاه تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة الإيجابية؛ بما هي الحامل
لموقفٍ مطلق، من نوع آخر، من النصارى. لكنه يبقى لزوم الوعي بالكيفية التي
يجري بها هذا التوجيه للدلالة؛ وهو الوعي الذي يتأسس، لا محالة، على اعتبار
الحضور الإنساني في بناء لغة القرآن؛ وهو الحضور الذي يبدو أنه قد كان مطلبًا
نبويًّا استجاب له الله.
وإذا كانت ممارسة الجيل الأول من متلقي القرآن (الصحابة) هي الأصل في هذا
المطلب النبوي الذي استجاب له الله بترخيص الحضور الفاعل للإنسان في بناء لغة
القرآن؛ وبما ترتب على ذلك من تثبيت ذات الحضور في عملية إنتاج دلالته، فإن
ذلك ما راح، ولسوء الحظ، يخفت حضوره، وإلى حد التلاشي الكامل، في وعي الأجيال
اللاحقة من المسلمين. ولقد راح هذا الخفوت يتحقق من خلال ما جرى القطع به من
أنه «حين تعود الأمة بذاكرتها إلى العصر النبوي الزاهر، فإن أحد المشاهد التي
تظل ماثلة في وعيها: مشهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهم يتلقَّوْن آيات
القرآن الكريم من فم الرسول الكريم
ﷺ، ثم يسارعون إلى إنفاذها
وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف. وما كان هذا الإنفاذ والتطبيق ليتم على وجهه
إلا إذا كان لتلك الآيات الكريمات في أذهانهم معانٍ محددة ودلالات منضبطة،
ومفاهيم مستقرة. ثم تتعاقب السنون فإذا بعلماء الأجيال التالية — من
الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم — وهم عاكفون على تلك المعاني
والدلالات والمفاهيم يؤصلون منها الأصول، ويؤسسون لها الأسس لكي تكون سياجًا
منيعًا، قوامه العلم الرصين، والمعرفة الدقيقة التي تصون قدسية القرآن من عبث
العابثين، وجرأة القائلين على الله تعالى بغير علم. وهكذا انتهت الدلالات
والمضامين القرآنية إلى وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة.»
١٠ ولعل قيمة ما يطرحه هذا القول تتمثل في تعبيره الدقيق عن التصور
الذي استقر بين جمهور المسلمين، للكيفية التي تعامل بها مع القرآن، الجيل
الأول من المسلمين الذين تلقوه من النبي الكريم مباشرة.
١١
يقوم التصور، إذن، على أن الصحابة قد تلقوا القرآن، وفهموا معانيه
المحددة ودلالاته المنضبطة، ليطبقوها من دون إبطاء أو تسويف، ثم تلقَّف علماء
الأجيال التالية تلك المعاني المحددة والدلالات المنضبطة؛ ليؤصلوا منها
الأصول، ويجعلوا منها سياجًا منيعًا يصون قدسية القرآن؛ لكي تنتهي تلك
المعاني والدلالات إلى وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة. ورغم بساطة هذا التصور
ومثاليته التي أتاحت له سهولة الاستقرار والرسوخ، فإن انشغاله بتثبيت السلطة
(سلطة الصحابة، ثم سلطة من تلقوا عنهم من علماء الأجيال اللاحقة إلى اليوم)،
يتجاوز انشغاله بالحقيقة التي تخالف ما يبغي تثبيته.
إذ الحق أن نظرةً مدققة على ما يعرضه هذا التصور تكشف — أو تكاد — عن أن
ما يسكنه من بلاغة الكلمات يفوق بكثير ما ينطوي عليه من الوقائع والحقائق.
ولربما كانت الحقيقة الظاهرة التي يعرض لها هذا التصور، هي ما أورده من أن
علماء الأجيال التالية من الأصوليين وغيرهم، قد مارسوا ضروبًا من التقييد
والتضييق (عبر ما وضعوه من قواعد حاكمة للقراءة) التي انتهى معها التعدد في
مجالي القراءة والمعنى الذي انطوت عليه تجربة الصحابة مع القرآن، إلى أحادية
صارمة للقراءة والمعنى. وهكذا فإنه إذا كان منطوق التصور يحدد جوهر عمل هؤلاء
العلماء (من الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم) في أنهم قد صانوا ما قيل
إنها «المعاني المحددة والدلالات المنضبطة والمفاهيم المستقرة» التي كانت
للقرآن في ذهن الصحابة، وأوصلوها إلى وعي الأمة لتبقى ثابتة وراسخة فيه، فإن
ما جرى فعلًا يتمثل في أن هؤلاء العلماء قد وضعوا الأسيجة التي أحاطت بالقرآن
وحددت كيفية مقاربته، وعلى النحو الذي يتيسَّر معه إنطاقه بالدلالة التي يراد
منه أن ينطق بها. ويرتبط ذلك بأن قراءة مدققة لدواوين التفسير الكبرى — التي
تكاد أن تكون موسوعات جامعة لآراء وأفكار أجيال المسلمين الأولى حول القرآن —
تكشف عن غلبة التباين بين الصحابة في فهم القرآن وإنتاج دلالته؛ وبما يعنيه
ذلك من أنه لم تكن هناك دلالة واحدة مجمع عليها بينهم. ولعل ذلك يعني أن
هؤلاء العلماء قد انتقلوا بالمسلمين — من خلال ما مارسوه من اختيارات، أو حتى
انحيازات، لقراءات وآراء بعينها، وتشويه وإزاحة ما يختلف معها — من سعة
«التعدد» إلى ضيق «الأحادية»، الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية الراهنة
على كافة الأصعدة تقريبًا.
وهكذا فإن الأمر — بخصوص هذا التصور — لا يتجاوز حدود السعي إلى تثبيت ما
ينطوي عليه من أحادية القراءة والمعنى فيما يخص القرآن، ولو كان ذلك عبر طمس
حقيقة تجربة «الصحابة» مع القرآن؛ والتي تكشف ما تُورده عنها المصادر
المعتمدة من جانب أهل السنة عمَّا تنطوي عليه — وبغزارة ملفتة — من ثراء يأتي
من أنهم كانوا بشرًا، لم يختلفوا في فهمهم للقرآن فحسب، بل واختلفوا في
قراءتهم له، بحسب ما يقوم بين قبائلهم من اختلاف اللسان، ولو كان ضئيلًا. بل
إنهم قد تلكئوا — بحسب المصادر نفسها — في إنفاذ بعض ما كان يشقُّ عليهم بسبب
تعارضه مع تقاليدهم الموروثة. ومن هنا ما أورده الطبري في تفسيره من أنه حين
نزلت آية المواريث — في سورة النساء — التي جعلت للأنثى وللطفل نصيبًا من
المال، حرمتهم منه التقاليد المتوارثة (لأنهم لا يقومون بالغزو وهو أصل
الثروة في المجتمعات العربية القديمة)، فإن ذلك كان شاقًّا على الناس حتى لقد
قالوا — والرواية للطبري — «تعطَى المرأة الربع والثمن، وتُعطى الابنة النصف،
ويُعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحدٌ يقاتل القوم ويحوز الغنيمة، اسكتوا
عن هذا الحديث لعل رسول الله
ﷺ ينساه أو نقول له فيغيِّره.»
١٢ ورغم أن السماء لم تغيِّر حكمها، وأن الناس قالوا حينئذ «إنه
لواجب لا بد منه»، فإنه يبقى أنهم كانوا بشرًا، وأن بشريتهم جعلتهم يتلكئون
في إنفاذ أمر السماء لما فيه من المشقة عليهم، وإلى حد أنهم قد تمنَّوْا أن
ينساه النبي أو تغيِّره السماء.
وأما أنهم كانوا بشرًا تعددت قراءاتهم وأفهامهم للقرآن، فإن ذلك ما تفيض
بتأكيده موسوعات التفسير ومدوَّنات الحديث. ومن ذلك ما أورده ابن حجر
العسقلاني مما يمكن اعتباره دليلًا على حضور «التعدد القرائي» للقرآن بين
الصحابة؛ وذلك عند شرحه لحديث «أُنزل القرآن على سبعة أحرف.» يروي العسقلاني
عن البخاري حديثه عن عمر بن الخطاب الذي يقول فيه: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ
سورة الفرقان في حياة رسول الله
ﷺ، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على
حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله
ﷺ، فكدت أُساوره (أي أراجعه) في
الصلاة، فتصبرت حتى سلَّم، فلببته (أي أمسكه من رقبته) بردائه، فقلت: من
أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، فقال: أقرأنيها رسول الله
ﷺ، فقلت:
كذبت، فإن رسول الله
ﷺ أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده
إلى رسول الله
ﷺ، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم
تقرئنيها، فقال رسول الله
ﷺ: أَرْسِلْه (أي اتركه)، اقرأ يا هشام.
فقرأ عليه القراءة التي سمعته يَقرأ، فقال رسول الله
ﷺ: كذلك أُنزلت،
ثم قال: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله
ﷺ:
كذلك أنزلت. إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.»
١٣ وتفسر الرواية هذا الترخيص بالتعدد في قراءة القرآن، بأنه كان
تيسيرًا من الله على الأمة؛ استجابة لطلب النبي الكريم. فقد حدث حين أتاه
جبريل يقول: «إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف»، أن قال النبي:
«فوددت إليه أنْ هون على أمتي، إن أمتي لا تطيق ذلك.» ورغم أن الرواية تأبى
إلا أن ترد هذا المطلب النبوي إلى نصيحة أحد الملائكة له بذلك، فإنه يبقى أن
استجابة الله لهذا المطلب قد كانت حاسمة، ومن دون إبطاء.
وبالطبع فإنه كان لا بد أن ينتهي هذا التعدد القرائي إلى تعدد المعنى؛
لأن الترادف في اللغة ليس تامًّا أو كاملًا أبدًا.
١٤ إن ذلك ما تكشف عنه القراءتان اللتان تحفظهما المصادر لآية النسخ
من سورة البقرة.
١٥ فثمة القراءة لها على المصحف
مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا، والتي تحمل معنى المحو والنسيان، وثمة
أيضًا القراءة التي أوردتها كافة موسوعات التفسير والحديث «مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا»، والتي تحمل معنى الإبقاء مع التأخير والإرجاء؛ وهما
معنيان لا يمكن أن يتطابقا أبدًا. وهكذا فإن تعدد القراءة إنما يفتح الباب
أمام تعدد المعنى؛ تيسيرًا على العباد من جهة، وتفاعلًا مع الواقع من جهة
أخرى.
وهكذا يكون النبي الكريم قد طلب رخصة التعدد في القراءة تيسيرًا على
العباد، واستجاب له الله بجلاله، ومارس الصحابة هذا التعدد (في القراءة
وإنتاج المعنى) فعليًّا، ثم جاء العلماء لأسباب بعينها وقيدوا هذا التعدد،
وتابعهم الناس على الأحادية في القراءة والمعنى. وهنا فإنه يلزم التأكيد على
أن من يدافع عن الحرف الواحد (في القراءة) والمعنى الواحد (في التفسير)، إنما
يدعم — ولو من دون أن يقصد — حكم الواحد (في السياسة)، وسلطة الأب (في
المجتمع). وإذ يبدو، هكذا، أن الأحادية السياسية والاجتماعية إنما تجد ما
يؤسس لحضورها الراسخ في الأحادية المعرفية، فإن المفارقة تتجلى في سعي
الكثيرين إلى بناء التعددية السياسية على سطح بنية ذهنية لا تعرف إلا هذه
الأحادية في القراءة والمعنى. بل الأمر يقتضي أن يكون بناء التعددية في
(الواقع) مصحوبًا — إذا لم يكن مسبوقًا — ببنائها في (العقل) في الآن
ذاته.
وبالرغم من ذلك، فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر لا يتعلق فقط بضرورة
السعي إلى فتح الباب أمام التعددية في مجالي القراءة والمعنى (وحتى العقل)؛
لما يؤدي إليه ذلك من ترسيخ حضورها في مجالي السياسة والمجتمع، بل ولما يؤدي
إليه — وهو الأهم — من تمهيد السبيل أمام قول جديد في حقل الخطاب الإسلامي
يخرج به من دائرة الجمود والتكرار التي تردَّى إليها على مدى القرون.
وهكذا فإن القرآن، ومعه تجربة الجيل الأول من متلقيه، يفتحان أبوابًا
واسعة للرحمة، تيسر للناس سبل العيش المشترك في سلام ووئام، وذلك من خلال ما
ينطوي عليه من ثراء الدلالات، على النحو الذي أتاح لهذا الجيل الأول نوعًا من
الممارسة المفتوحة التي تعددت فيها الأفهام وتنوعت الرؤى. لكنه يبدو — ولسوء
الحظ — أن الناس يصرون على إغلاق هذه الأبواب عبر ضروب من التفكير والفهم
الأحادي المغلق التي تعكس ما ينطوي عليه وجودهم من أشكال التحيزات والتعصبات
والتمايزات والاستعلاءات وغيرها. فطرائق الناس في التفكير لا تنفصل عن
طرائقهم في العيش أبدًا، وبمعنى أن المجتمعات التي تصهر كل أفرادها في تجربة
حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب، تسود فيها طرائق في التفكير
أكثر انفتاحًا، من تلك التي تمايز بين أفرادها على أساس الدين أو المذهب أو
الجنس. ولقد كان ذلك ما عرفتْه تجربة الإسلام في بعض لحظاتها فعلًا، وعلى
النحو الذي عرفت فيه نمطًا من التفكير المفتوح، كالذي ازدانت به تجربة
الأندلس مثلًا (وهي التجربة التي لا تزال تأسر خيال العديدين من الذين
يتطلعون لمستقبل أفضل لعالم البشر). وإذا كان من المحتم أن ينشأ عن ضروب
التفكير المشبعة بالتمايزات والتحيزات قواعد ومبادئ معينة للضبط السياسي
والاجتماعي، فإن وجه الإشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ
المتحيزة إنما تصدر عن القرآن الكريم ذاته (وبما يعنيه ذلك من تأكيد أصلها
الإلهي)، وليس عن طريقتهم في فهمه والتفكير فيه، التي لا تنفصل، بدورها، عن
الكيفية التي يكون عليها حالهم في الواقع. ولو أن الناس يتعاملون مع هذه
القواعد على أنها من إنتاج فهمهم الخاص (وبما يؤكد على محدوديتها)، لما كان
هناك أي إشكال على الإطلاق؛ إذ يؤدي تصور أنها تصدر عن القرآن الكريم إلى
جعلها من مصدر إلهي (وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلى مطلقات نهائية)، وأما
تصورها تصدر عن طريقة الناس في التفكير والفهم، فإنه يجعل منها تكوينًا ينتمي
إلى عالم البشر (وعلى نحو تقبل فيه التجاوز).
ولعل ذلك يتفق مع ما مضى إليه أحد كبار فقهاء القرن السابع الهجري؛ الذي
أدار تفكيره كله حول مركزية «المصلحة» في بناء ما يتعلق بفقه المعاملات
الإنسانية (في مجالاتها السياسية والاجتماعية والإدارية والقضائية وغيرها)؛
وإلى الحد الذي يقوم فيه، ليس فقط بإخراج كل ما يتعلق بهذه المعاملات من مجال
النصوص، بل وكذا تقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما. وهكذا فإنه ينطلق
من التمييز بين ما يسميه «العبادات والمُقدرات» التي يكون التعويل فيها على
«النصوص والإجماع» وبين «المعاملات والعادات» التي تقوم على مبدأ «رعاية
المصلحة» بالأساس. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل الذي تقوم عليه تلك
المعاملات، فإنه يقطع بوجوب تقديم «رعاية المصلحة» على «النص والإجماع» في
حال تعلقهما بالمعاملات. وهو يقيم حجته على أنه «إن وافقها النص والإجماع
وغيرها من أدلة الشرع، فلا كلام، وإن خالفها دليلٌ شرعي وُفق بينه وبينها،
بما ذكرناه من تخصيصه (أي النص والإجماع)، وتقديمها (أي المصلحة) بطريق
البيان». ويؤسس الرجل هذا التقديم للمصلحة على النص على الأولوية شبه المطلقة
للمصلحة، التي تجعلها تعلو على النص والإجماع. فإنه «مما يدل على تقديم رعاية
المصلحة على النصوص والإجماع، على الوجه الذي ذكرناه، وجوه: (أحدها) أن منكري
الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذن محل وفاق، والإجماع محل الخلاف،
والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فيه. و(الوجه الثاني) أن
النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعًا. ورعاية
المصلحة أمر متفق (عليه) في نفسه، لا يُختلف فيه؛ فهو سبب الاتفاق المطلوب
شرعًا، فكان اتباعه أولى، وقد قال الله عز وجل:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.»
١٦ وهكذا يبلغ الأمر بالطوفي إلى حد قراءة «المصلحة» على أنها «حبل
الله» الذي يلزم الاعتصام به، بل يتعدى إلى اعتبارها الحجة والدليل الواضح
الواجب اتباعه،
١٧ وبما يعنيه ذلك من مطابقته بين المصلحة والعقل.
وبالطبع فإن هذه المطابقة هي الأصل فيما سيقرره الطوفي من أن العقل هو
الوجه الذي تتقرر منه المصالح في معاملات الناس. فقد مضى إلى «إنَّا اعتبرنا
المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشارع
(الله) خاصٌّ به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا، وزمانًا ومكانًا، إلا إذا
امتثل (العبد) ما رسم له سيده، وفعل ما يعلم أنه يرضيه. ولهذا لما تعبدت
الفلاسفة (الله) بعقولهم، ورفضوا الشرائع، أسخطوا الله عز وجل، وضلوا
وأضلُّوا. وهذا بخلاف حقوق المكلفين (المعاملات)، فإن أحكامها سياسية وشرعية،
وُضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعوَّل، ولا يقال: إن
الشرع أعلم بمصالحهم، فلتؤخذ من أدلته (لأن) هذا إنما يقال في العبادات التي
تَخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في
حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل.»
١٨ وبالطبع فإن ذلك يعني أن كل ما يتعلق بمعاملات الناس، من قواعد
الضبط السياسي والاجتماعي، هي مما يتقرر بالعقل بحسب دواعي المصلحة، وليست
مما يتقرر بالنص أبدًا. بل إنه، وحتى على فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك
القواعد، فإن العقل يظل حاضرًا من خلال ما يلعبه من دور جوهري في توجيه دلالة
النص؛ أو حتى تعطيله.
١٩
ومن حسن الحظ أن مسألة العلاقة مع غير المسلمين (النصارى مثلًا) مما يمكن
أن تصلح مثالًا لبيان إمكان تقديم رعاية المصلحة على النص بطريق التخصيص أو
البيان. وضمن هذا الإطار، فإن تعدد الدلالة في القرآن، بخصوص مسألة ما،
كالعلاقة مع غير المسلمين مثلًا، إنما يفتح الباب أمام تخصيص كل واحدة من تلك
الدلالات بالسياق الذي ظهرت داخله. وهكذا، فإنه إذا كان القرآن ينطوي على
دلالة النهي عن اتخاذ النصارى أولياء، فإنه ينطوي بالمثل، ليس فقط على ما
يسمح بجواز هذه الولاية، بل وعلى ما يقطع بحصولها فعلًا. وغنيٌّ عن البيان أن
ورود القول في القرآن، بالنهي عن ولاية النصارى تارة، وبالتنبيه إلى جوازها
تارة أخرى، يرتبط بأن لكلٍّ من النهي والتجويز ما يبرره في اللحظة التي ورد
فيها، وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يقدم، في الحالين، موقفًا مطلقًا ينتهي
فيه «النهي» إلى إلغاء «التجويز»، أو العكس، بل يقرر حكمًا مشروطًا بشروط
الواقع الفعلي القائم، وعلى النحو الذي يفتح الباب أمام إعمال ما يمكن القول
إنه مبدأ «تخصيص الدلالة بالسياق» الذي ظهرت فيه. وبمعنى أنه إذا استدعى
الواقع الفعلي ضرورة النهي عن ولاية النصارى (كما حدث فعلًا في لحظة كانت
فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة)، فليتقرر حكم النهي، وإذا استدعى الواقع
حكم جواز تلك الولاية (كما حدث في لحظة أخرى كانت فيها العلاقة بين الطرفين
مستقرة وودِّية) فليتقرر حكم تجويزها، فإنه ليس من حكمٍ نهائي ومطلق بخصوصها،
بل الحكم يدور مع الواقع وجودًا وعدمًا.
ولعل ذلك يفتح الباب أمام طريقة أخرى في مقاربة القرآن، تتسع لدلالاته
المتعددة، على نحو يمكن معه التحرك بينها بحسب ما يجري في الواقع، وبما
يتجاوز ما استقر عليه التقليد من توجيه القرآن نحو النطق بدلالة واحدة تكون
هي النهائية والمطلقة، من بين تلك الدلالات. وإذا كان هذا التقليد قد اعتمد
آلية «النسخ» في توجيه القرآن نحو النطق بدلالة بعينها تكون هي النهائية
والمطلقة، فإن فتح الباب أمام التحرك بين الدلالات المتعددة بحسب ما تمليه
حركة الواقع، يعتمد آلية «السياق» الذي يكون هو المحدد لتفعيل دلالة بعينها
في اللحظة التي تقتضيها.
يؤكد ذلك أن المصادر القديمة (موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) تربط
نزول آية النهي عن موالاة اليهود والنصارى بما جرى في وقعة «أُحُد» (بين
المسلمين وقريش)، حين أصر فريق من مسلمي يثرب (المدينة) على ربط انخراطهم في
جيش النبي الكريم (عليه السلام) باستمرار موالاتهم لليهود، وبما يعنيه ذلك من
إدخالهم كطرف يلعب دورًا حاسمًا في المواجهة مع قريش. ولما كانت علاقة
المسلمين باليهود (وربما النصارى) غير مستقرة منذ الهجرة إلى يثرب، فإن
القرآن الكريم قد أورد النهي عن موالاتهم
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ؛ لكيلا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر في الإضرار
بمصالح المسلمين. إن ذلك يعني أن اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب (ومع
النصارى بالتبعية) هو الأصل في النهي عن موالاتهم، وليس لكونهم يهودًا أو
نصارى. إنه، بلغة الفقه، هو «العلة» التي إذا غابت جاز أن يتغير حكم النهي
إلى الجواز. ولعل ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبي، في تفسيره
لهذه الآية، من أن أبا حنيفة قد «أجاز للمسلمين موالاتهم (أي اليهود
والنصارى) والانتصار بهم على المشركين»،
٢٠ حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. فإنه لو كان النهي
عن موالاتهم مطلقًا، وأعني صادرًا عن مجرد كونهم يهودًا أو نصارى، لكان
القرآن الكريم قد قرره منذ البدء، ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب
النصرة منهم أبدًا.
وأما أن يكون القرآن قد سمح للمسلمين بموالاة النصاری والاستنصار بهم
بالذات، وأقر ذلك، بل وأثنى عليه، فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة
بواقعة الهجرة إلى الحبشة. فقد أورد النيسابوري أن آية
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى قد «نزلت في النجاشي وأصحابه؛ (حيث) قال
ابن عباس: كان رسول الله
ﷺ بمكة، يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث
جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلى النجاشي، وقال: إنه ملِك
صالح، لا يَظلم، ولا يُظلم عنده أحد، فاخرُجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين
فرجًا. فلما وردوا عليه أكرمهم، وقال لهم: تعرفون شيئًا مما أُنزل عليكم؟
قالوا: نعم، قال: اقرءوا، فقرءوا وحوله القسيسون والرهبان، فكلما قرءوا آية
انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، قال الله تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ».
٢١ وهكذا تتضافر الرواية النبوية مع القرآن في التأكيد، ليس فقط على
جواز ولاية النصارى بالذات، بل وعلى وقوع هذه الولاية فعلًا، حيث يروي الطبري
عن المهاجرين من المسلمين قولهم: «قدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار،
أمِنَّا على ديننا، وعبدْنا الله، لا نؤذَى ولا نسمع شيئًا نكرهه.»
٢٢ وإذن، فإنه الجوار والإكرام، والأمن على الدين والدنيا، وعدم
الأذية (وكلها من معاني النصرة التي هي معنى الولاية في القرآن) وقد عاشها
المسلمون واقعًا متحقِّقًا مع نصارى الحبشة، فهل لأحد، بعد ذلك، أن ينهى عن
هذه الولاية مطلقًا، أم أنه يلزمه الوعي بشروط السياق المحدد لحكمها؟
وفضلًا عن كل ما سبق، فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يَرِد، في
القرآن الكريم، بمعنى الحكم السياسي أبدًا، بل بمعنى طلب النصرة فقط، فإنه لا
يملك إلا القطع بأن القائل بدعوى عدم جواز ولاية النصارى، يتخفَّى وراء نهي
القرآن الكريم — في ظل ظروف بعينها — عن الاستنصار بهم؛ ليجعل منه نهيًا عن
توليهم مناصب الحكم السياسي، وهو ما لا يعنيه القرآن الكريم أبدًا، بل إن ذلك
ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه. ولعل ذلك يؤكد على حقيقة أن موجِّهات القراءة
لا تقع داخل القرآن بل خارجه، وبكيفية يكون معها القرآن مجرد ساحة للصراع على
المعنى.
فإنه إذا كان السعي الدءوب، من جانب البعض، إلى تسييد المنظومة المعرفية
القديمة (في شتى جوانبها الفقهية والتفسيرية والعقائدية والحديثية وغيرها)
يرتبط بتحويلها إلى مطلق يتجاوز حدود الارتباط بأي شروط تاريخية أو معرفية،
فإن هذا التحويل لها إلى أبنية مطلقة إنما يقوم — في جوهره — على تصور نوع
المعنى الذي تحمله المعنى، فإن ثمة تصور للمعنى يكون فيه من قبيل «المعطى»
الذي يتم تلقيه جاهزًا؛ وهو، بالطبع، ما يتعالى بالمنظومة الحاملة له إلى
مقام المطلق غير القابل للتجاوز. وعلى العكس من ذلك، فإن ثمة تصور مغاير
للمعنى يكون فيه من قبيل «التكوين» التاريخي الذي ينتجه البشر (في تفاعلهم
المزدوج مع الواقع والنصوص)؛ وهو ما يفرض حضورًا للمنظومة الحاملة له على
نحوٍ يعكس إمكان تجاوزها، والانتقال منها إلى غيرها.
وإذا كان تصور المعنى كتكوينٍ ينتجه البشر يقوم على ربطه بالنظام اللغوي
للخطاب من جهة، وبكلٍّ من حركة الواقع وأفق القارئ من جهة أخرى، فإن تصور
المعنى كمعطى يقوم — في المقابل — على اعتباره قصدًا لصاحب النص الذي يضعه
ثابتًا وجاهزًا داخل نصه؛ وبكيفيةٍ يكون معها هبة مخصوصة يعطيها هذا المالك
للنص لمن يشاء ممن يصطفيهم. وبالطبع فإنه إذا كان التصور الأول للمعنى
كتكوينٍ ينطوي على تأكيد حركيته وانفتاحه (بما يتفق مع طبيعة الوجود
الإنساني)، فإن تصوره كمعطى ينطوي على تأكيد انغلاقه والسعي إلى احتكاره.
ولكن الأخطر من ذلك هو أن هذا التباين بين تصورين للمعنى إنما يعكس حقيقة أن
عالم المعنى هو، في حقيقته، ساحة للتصارع الاجتماعي والسياسي. فإذ يكشف تصور
المعنى كتكوين ينتجه البشر عن الدور الفاعل لهم، فإن تصوره كمعطى يتلقاه
البشر جاهزًا يكشف، في المقابل، عن محض خضوعهم واستلابهم الكامل. ولعل ذلك
يعني أن ما يخايل به دعاة الإسلام السياسي — من الساعين إلى احتلال صدارة
المشهد الراهن في مصر وغيرها — من أن معنى القرآن هو معطى ثابت جاهز تلقاه
السلف وصاغوه في أنظمة سلوك واعتقاد لا بد من تكرارها الآن، لا يجاوز كونه
مجرد ستار يخفون وراءه سعيهم لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه.
وهكذا فإن السعي إلى تثبيت هيمنة السلف كسلطة قابضة على الرأسمال الرمزي
لجماعة المسلمين — والذي يتحقق من خلال تصوير هؤلاء السلف على أنهم وحدهم،
ودون غيرهم، هم الممسكون بالمعنى الحقيقي، والمراد من الله، للقرآن — إنما
ينطوي على القصد إلى تحصين السعي الراهن لجماعات الإسلام السياسي إلى تثبيت
سلطتها عبر التخفي وراء سلطة هؤلاء السلف. إن ذلك يعني أن السلف لم يكونوا هم
الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا هم السلطة القابضة على المعنى المراد من
الله للقرآن، بل إنه قد جرى وضعهم هكذا، للتخفي السياسي وراءهم. وهكذا فإنه
كان لا بد أن يتحول السلف إلى سلطة للتغطية على أوضاعٍ سياسية بعينها، ولم
يكن ذلك ممكنًا إلا عبر افتراض مفہوم المعنى المطلق المراد من الله للقرآن؛
وبما يعنيه ذلك من أن السياسة، لا الحقيقة، هي الأصل في هذا التصور
للمعنى.
ولعل ذلك ما تؤكده حقيقة أن هناك من الشواهد العديدة ما يدل على أن
ممارسة هؤلاء السلف الذين أُريد لهم أن يكونوا قابضين على نوعٍ من المعنى
المكتمل الثابت والمتفق عليه للقرآن، لا تشي أبدًا باعتقادهم في هذا النوع من
المعنى المعطى للقرآن. ولعل مثالًا لتلك الشواهد يأتي مما تحتشد به — وبغزارة
ملفتة — موسوعات التفسير والفقه الكبرى مما يمكن اعتباره تأريخًا واسعًا
لأفكار وآراء الصحابة والتابعين الذين تتشكل منهم النواة الصلبة لجيل السلف.
ولعل نظرة على تلك الأفكار والآراء تتبدى عن ضروب من التباين والتعارض الحاصل
بين هذا السلف؛ سواء تعلق الأمر بفهم آية أو استنباط حكم أو غيره. وبالطبع
فإن الأصل فيما يقوم بينهم من التباين إنما يجد ما يؤسسه في الأفق المعرفي
والاجتماعي الذي يؤطر وعيهم، وفيما عرفه واقعهم من تطور؛ وذلك فضلًا عن
الطبيعة اللغوية للخطاب القرآني التي تجعل منه ساحة للإضمار والإجمال
والإطلاق والتضمين والتعميم، بل وأحيانًا للسكوت وعدم التصريح، وذلك على
النحو الذي اقتضى اجتهادًا بشريًّا في إنتاج المعنى، كان لا بد أن يتباينوا
فيه بحسب ميولهم وانتماءاتهم. ولعل وعيهم بأنهم كانوا ينتجون المعنى باجتهاد،
ولا يتلقونه جاهزًا كاعتقاد، يتجلى فيما كانوا يختتمون به أقوالهم — أو
كتاباتهم — من تعبيرِ «والله أعلم»، الذي يكشف عن روح منفتحة لا تعتقد في
امتلاكها لكامل العلم، بل إنها تفتح الباب — بما يعكسه هذا التعبير من
إقرارها بمحدودية علمها — أمام الآخرين ليضيفوا اجتهاداتهم إلى — أو حتى على
أنقاض — إنجازها. وتأتي المفارقة، هنا، من السعي إلى تثبيت الاعتقاد بأن
هؤلاء السلف الذين اجتهدوا في إنتاج معنى القرآن، ضمن شروط وعيهم وواقعهم، قد
تلقَّوا المعنى على سبيل الهبة المخصوصة لهم، وأن أحدًا بعدهم ليس له إلا أن
يقف عند حدود هذا الذي تحصلوا عليه في لحظة فريدة، لا سبيل إلى تكرارها
أبدًا.
وكمثال على أن المعنى كان ساحة للاختلاف والقول بالرأي بين الصحابة، فإنه
يمكن الإشارة إلى ما أورده أبو بكر الجصاص من اختلاف الصحابة، وقولهم بالرأي
في عديد من المسائل المتعلقة بأحكام المواريث. يدهش المرء حين يفاجئه
الاختلاف حول آيات الأحكام التي يشيع القول إنها من قبيل ما هو قطعي الدلالة،
ولكن ماذا بوسعه أن يفعل والرجل يقول: «وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع
الزوج والزوجة (يعني إذا مات الزوج وترك الزوجة مع أبويه، أو توفيت الزوجة
وتركت الزوج مع أبويها)، فقال علي (بن أبي طالب) وعمر (بن الخطاب) وعبد الله
بن مسعود وعثمان (بن عفان) وزيد (بن ثابت): للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي،
وما بقي فللأب، وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وقال ابن
عباس: للزوج والزوجة ميراثهما، وللأم الثلث كاملًا (من الميراث كله)، وما بقي
فللأب. وقال (أي ابن عباس): لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي.» ورغم أن هذا
الذي مضى إليه ابن عباس (الذي تنسب إليه الروايات أنه «حبر الأمة، وترجمان
القرآن، ودليل التأويل») في ضرورة أن تأخذ الأم الثلث كاملًا هو — على قول
الجصاص وابن كثير وغيرهما — ما «يدل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى يقول:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ»،
٢٣ فإنه يبدو غريبًا انعقاد الإجماع من الصحابة والتابعين على غير
ما يقول به ظاهر القرآن. والطريف أنه حين أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت
مستفسرًا: «أين تجد ثلث ما بقي في كتاب الله؟» فإن زيدًا قد أجابه: «إنما أنت
رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي.»
٢٤ وإذا كان للمرء أن يتساءل عن أصل الرأي الذي انحاز إليه زيد ومعه
— على قول ابن كثير — معظم الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والأئمة
الأربعة وجمهور العلماء،
٢٥ والذي يقول بما لم يجد له ابن عباس أثرًا في كتاب الله، فإنه لن
يجد إلا ما تُورده المصادر من أنه «التقليد الاجتماعي الأبوي» الذي يرفض أن
يكون للأنثى نصيب من الميراث يربو على نصيب الرجل؛ وبما يعنيه ذلك من خضوع
القرآن — عبر فعل القراءة — لتوجيه التاريخ ومحدداته.
وإذ يتحقق توجيه التاريخ للقرآن من خلال فعل القراءة، فإن هذا الفعل يبقى
حاضرًا حتى في حال الاكتفاء بمجرد ترديد آياته، ومع ملاحظة أن كل ما يرتبط
بهذا الفعل من ضروب التوجيه (الناعمة والغليظة) لا تكون — في غالب الأحوال —
موضوعًا لوعي الممارسين لها. ويتحقق هذا التوجيه ليس فقط عبر إنطاق وإسكات
دلالاتٍ بعينها ينطوي عليها القرآن، بل وعبر ما يبدو وكأنه إبدال الدلالات
التي فرضها التاريخ بتلك التي يتضمنها القرآن. ولعل مثالًا على هذا الضرب
الأخير من التوجيه، الذي يجري فيه استبدال دلالة التاريخ بدلالة القرآن، يأتي
من قراءة آية قرآنية تنشغل بتعيين معنى المسلم والإسلام، وبما لذلك من تعلق
مباشر بمسألة عدم جواز ولاية غير المسلمين؛ وأعني بها قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
فإن الدلالة المستقرة في وعي الجمهور لهذه الآية، تنبني على أن معنى
الإسلام ينصرف إلى ذلك الدين، الذي ابتعث به النبي الكريم محمد
ﷺ،
وبما لا بد أن يترتب على ذلك من أن المسلمين هم — وفقط — أتباع هذا النبي
الكريم. ولسوء الحظ، فإن هذه الدلالة التي استقرت، في وعي الجمهور، للفظتي
إسلام/مسلمين تمثل تضييقًا أو حتى نكوصًا عن الدلالة التي يَقصد إليها القرآن
خلال استخدامه لكلتا اللفظتين. بل إن اختبارًا لهذا الاستخدام القرآني يكشف
عن أن هذه الدلالة المستقرة للفظتي إسلام/مسلمين تكاد أن تكون قد تبلورت
وتطورت خارج القرآن، على نحو شبه كامل. وإذن، فإنها تبدو أقرب ما تكون إلى
الدلالة الاصطلاحية، التي تمتزج فيها المقاصد الواعية وغير الواعية لمن
اصطلحوا عليها؛ وعلى النحو الذي تعكس فيه عناصر تجرِبتهم التاريخية، ولو كان
ذلك على حساب القرآن ذاته. فإذ تنبني الدلالة الاصطلاحية على صرف معنى لفظة
«مسلمين» مثلًا، إلى أتباع النبي محمد
ﷺ فحسب، فإن الدلالة
السيمانطقية، الغالبة على الاستخدام القرآني لتلك اللفظة ذاتها، لا تقصر
المعنى على هؤلاء فقط، بل تتسع به ليشمل غيرهم من أتباع الأنبياء السابقين
أيضًا. وهكذا، فإن اللفظ مسلمون/مسلمين قد وردت، في القرآن، حوالي ست وثلاثين
مرة، انطوت فيها — في الأغلب — على دلالة تسليم المرء وجهه لله، من دون أن
يكون ذلك مقرونًا بالدعوة إلى اتِّباع نبي من الأنبياء بعينه. بل إن بعض
الآيات يستخدم لفظة مسلمون/مسلمين للإشارة — على نحو صريح — إلى من هم من غير
أتباع النبي محمد
ﷺ. ومن ذلك، مثلًا، إشارته إلى بني يعقوب باعتبارهم
من المسلمين؛ وذلك في قوله تعالى:
أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ.
٢٦
والحق أن المرء يلحظ أن القرآن يكاد، على العموم، أن يصرف دلالة اللفظة
إلى فعل التسليم لله، وذلك فيما تلح الدلالة الاصطلاحية على صرف الدلالة إلى
فعل الاتباع لنبي من أنبياء الله بالذات. وتبعًا لذلك، فإنه إذا كان غير
المسلم هو — بحسب دلالة الاصطلاح المستقرة في وعي الجمهور — كل من لا يتبع
دين النبي محمد
ﷺ، فإنه — وبحسب الدلالة المتداولة في القرآن — هو كل
من لا يُسْلِم وجهه لله؛ وبما لا بد أن يترتب على ذلك من أن كل من يُسْلِم
وجهه الله حقًّا، هو من المسلمين، حتى ولو لم يكن متبعًا لدين النبي
الخاتم.
وإذ يفتح ذلك الباب أمام إدخال البعض ممن يقال إنهم من غير المسلمين إلى
دين الإسلام، ابتداء من تسليمهم الوجه الله، فإنه سوف يفتحه بالمثل أمام
إخراج الكثيرين ممن يقال إنهم من المسلمين، من دين الإسلام؛ لأنهم لا يعرفون
الإسلام بما هو تسليم الوجه لله، بل بما هو قناع لتسليم الناس — أو حتى
استسلامهم — لهم ولسلاطين الأرض، بدلًا من إله السماء؛ فإنه إذا كان القصد من
تسليم الناس وجوههم لله وحده، هو تحريرهم من الخضوع لكل آلهة الأرض الزائفة،
فإن ما يجري من تحويل الدين إلى قناع لاستعباد الناس وتيسير السيطرة عليهم لا
يمكن أن يكون من قبيل الإسلام أبدًا. ولعل ذلك يكشف عن عدم انضباط مفہوم غير
المسلم؛ وأعني من حيث تبقى المسافة قائمة بين المعنى الذي يصرفه إليه القرآن
من أنه من لا يُسْلِم وجهه لله، وبين المعنى الذي فرضه عليه التاريخ من أنه
من لا يتبع نبوة محمد عليه السلام. وبالطبع فإنه لا مجال للاحتجاج بأن معنى
الإسلام، بما هو تسليم الوجه الله، قد تحقق على الوجه الأكمل مع نبوة النبي
الخاتم محمد
ﷺ، فإن القرآن يتضمن بين جنباته ما يزحزح هذا الاعتقاد؛
وذلك حين يمضي إلى أن ثمة من اليهود والنصارى والصابئة من يتشارك مع المؤمنين
بنبوة محمد عليه السلام في تسليم الوجه لله حقًّا، وأنهم، بسبب ذلك،
لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ. إذ يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
… (يعني بمحمد)
وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
٢٧
وهكذا فإن القرآن لا يقصر معنى الإسلام بما هو تسليم الوجه لله — حتى بعد
ابتعاث النبي محمد
ﷺ — على المؤمنين بنبوَّته فحسب، بل إنه يتسع بهذا
المعنى ليشمل غيرهم أيضًا. وغني عن البيان أن ذلك يرتبط بحقيقة أن مَدار
تركيز القرآن هو على فعل تسليم الوجه لله وحده، وليس على الباب الذي يتحقق من
خلاله هذا الفعل. وحتى على فرض أن القرآن يمضي إلى أن الباب الأكمل لتحقق هذا
الفعل هو باب النبي محمد
ﷺ، فإنه لم يدحض إمكان تحققه من غير هذا
الباب أيضًا. يبدو، إذن، أن التاريخ، وليس القرآن، هو ما يقف وراء تثبيت
الدلالة المستقرة للآية القرآنية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ؛ وهو ما يدرك
من يستدعي هذه الآية أنه سيلعب دورًا حاسمًا في توجيه المتلقِّين لها إلى
إنتاج ذات الدلالة المستقرة. وهو يدرك أيضًا أن إثارة المعنى السيمانطيقي
المتداول في القرآن للفظة «إسلام» سوف يؤدي، لا محالة، إلى زحزحة الدلالة
التي قام التاريخ بترسيخها. ومن هنا ما يبدو من السكوت تمامًا عن هذا المعنى،
رغم ما يبدو من سيادته الواضحة على عالم القرآن. وإذ يحيل ذلك إلى أن
«القرآني» يكون تقريبًا في قبضة «التاريخي» — ولو كان ذلك على حساب ما يقرره
القرآن صراحة — فإن المشكلة تأتي من أن القصد إلى التعالي بما ينتجه البشر،
من أنظمة معرفية واجتماعية وغيرها، يدفع إلى التغطية على هذا «التاريخي»
وإقصائه على نحو كامل؛ وبما يرفع هذه الأنظمة إلى مقام المطلَقات ذات
القداسة.