الفصل الثالث
القرآن بين المبدأ التأسيسي والحد الإجرائي
محاولة في قول جديد حول القرآن
لا تقف دلالة مفہوم «القرآن الحي» عند مجرد استدعائه ليلعب — بحسب ما يرى
الكثيرون — دورًا استعماليًّا نفعيًّا في حياة الناس اليومية الجارية، فإنه
إذا كان استدعاء القرآن في مواقف الحياة اليومية يضفي عليه ما يبدو أنه
حيوية، من نوع ما، فإنها تبقى حيوية مضافة إليه من خارجه، وليست مما يفيض منه
على هذا الخارج. بل إن هذا الاستدعاء للقرآني في اليومي قد يئول — حسب الحاصل
بالفعل — إلى تجميد هذا اليومي المعيش، وإفقاده حياته وحيويته؛ ليس فقط لأنه
قد يكون مطلوبًا منه أن يحضر كقالب يُراد تسكين هذا اليومي المعيش داخله؛
وبكيفية تختنق معها رحابته وتدفقه، بل ومن حيث ما لا يمكن إغفاله من أن
استدعاء القول القرآني، في الحوارات بين الأفراد، قد يكون — في أحيان كثيرة —
أحد آليات قطع الحوار وإسكاته، بدل أن يكون أحد ميادينه وساحاته.
وهكذا فإن الأمر — بخصوص القرآن الحي — لا يتعلق بمجرد استدعاء القرآن،
عبر التداول الشفاهي له، إلى الحياة اليومية، بقدر ما يتعلق بنوع العلاقة مع
القرآن التي يتحقق ضمنها هذا الاستدعاء؛ وما إذا كانت من نوع العلاقة
المنفتحة أو المغلقة. وهكذا فإن مفهوم العلاقة مع القرآن يكون هو المفهوم
الأكثر تأسيسية فيما يخص حضور أو غياب «القرآن الحي»؛ وبمعنى أنه فيما تؤسس
العلاقة المنفتحة مع القرآن لحضوره الحي، فإن العلاقة المنغلقة معه إنما تؤسس
— على العكس — لغياب هذا الحضور الحي. ولعل ذلك يعني أن سعيًا إلى استعادة
«القرآن الحي» لا يتوقف على الطريقة التي يجري تداوله بها (شفاهية أو
كتابية)، بقدر ما يتوقف على استعادة — أو حتى تأسيس — العلاقة المنفتحة
معه.
ولسوء الحظ، فإنه يبدو أن الاستدعاء الاستعمالي للقرآن — في الحياة
اليومية — إنما ينتهي إلى إفقاره وإهدار حيويته، على نحو كامل؛ وذلك ابتداءً
من تحققه ضمن نمطٍ من العلاقة الجامدة المغلقة معه. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه لا
يتجاوز حدود التداول الإجرائي للقرآن،
١ وهو النوع من التداول الذي لا يلمس منه — ومن كل ما يكون موضوعًا
له من الظواهر والمفاهيم — إلا سطحه البراني الظاهر، وذلك على حساب التداول
المتصل بجوهره التأسيسي الأعمق. ولعل هذا النوع الأخير من التداول (أعني
التأسيسي) — الذي يكون مدار الانشغال فيه هو الوعي بالأصول العميقة التي تؤسس
للظواهر والمفاهيم — هو ما يفتح الباب أمام الحضور الحي للقرآن؛ وذلك من حيث
يسمح له بالتجاوب المتجدد مع تحولات الوضع الإنساني في عوالم متغيرة.
وبخصوص التمييز بين الإجرائي والتأسيسي في مقاربة القرآن، فإنه يمكن
القول إن القرآن يتميز — ككل النصوص الكبرى التي لا تكف عن الإشعاع والوميض
على مر الأزمان — بكونه ساحة التقاء بين «التاريخي» بتحديداته الجزئية، وبين
«المتجاوز» بشموله وكليته. وإذا جاز القول بأن التأسيسي في القرآن يتمثل في
هذا «المتجاوز» الذي يحيل إلى عالم القيم والمعاني الإنسانية الكبرى، فإن
الإجرائي فيه يكون هو جملة التحديدات الجزئية التي تتحقق هذه القيم والمعاني،
من خلالها، في لحظةٍ بعينها. ولا بد أن يكون مفهومًا أن الأمر، فيما يختص
بالعلاقة بين التأسيسي (الكلي) والإجرائي (الجزئي) لا يتعلق بثنائية جامدة،
يقف كل طرف منها بمعزل عن الآخر، بقدر ما يتعلق بحقيقةٍ واحدة يكون
«التأسيسي» هو جوهرها الذي يدخل «الإجرائي» في تركيبها، ولكن من دون أن يكون
قادرًا على استنفادها. فإن هذا «التأسيسي» المتجاوز يكون — وعلى نحوٍ ما —
أشبه بالحقيقة العلمية التي هي، بدورها، تركيبٌ يتنامى، في التاريخ، عبر
تصحيحه المستمر لنفسه، ولكن من دون أن يكون هذا التاريخ قادرًا على استنفادها
بالمثل، وإلا فإن ذلك يؤشر على ما لا يمكن تصوره، بالعقل، من «نهاية العلم».
وفقط فإن الفارق بينهما يتأتى من أنه فيما تكتمل الحقيقة العلمية في «الوعي»،
وليس في «الوجود»؛ لأنها تكون — طوال الوقت، وبصرف النظر عن الوعي بها —
قائمة في الوجود ضابطة لظواهره، على نحو فعلي، فإن التأسيسي المتجاوز في
القرآن (والمجال الإنساني على العموم)، يكتمل في (الوجود)، وليس في (الوعي)؛
لأن هناك من القرائن ما يقطع بأن هذا التأسيسي المتجاوز (قيمةً ومعنى) كان —
ومنذ أقدم العصور — حاضرًا في (الوعي)، ولو بوصفه مثلًا أعلى يرنو إليه البشر،
٢ ولكنه لم يكن كامل التحقق في (الوجود) في أي لحظة من التاريخ.
إنه — هكذا — أقرب إلى القيمة أو المعنى الكلي الذي يمتص كل تحققاته الجزئية
داخله، ومن دون أن تكون تلك التحققات قادرة على اقتناصه واستيعابه في واحدة
منها؛ وإلا فإنها ستكون «نهاية القيمة أو المعنى».
٣ وإذن فإنه التباين بين «انفتاح» القيمة أو المعنى، وبين
«محدودية» شكل تحققها. وبالرغم من هذه «المحدودية» لأشكال تحقق القيمة أو
المعنى، فإنه يمكن القول إن كل واحد منها يمثل، في تحقيقه لهذه القيمة أو
المعنى، درجة أعلى من تلك التي يكون سابقًا عليها. وهنا يلزم التنويه بأن
«التأسيسي» في القرآن — والوحي على العموم — لا يقتصر على ما هو أخلاقي ومجرد
فحسب، بل إنه يتسع لمفهوم «المصلحة الإنسانية» كمبدأ عام، وبصرف النظر عن
المضمون الذي يتحقق من خلاله المبدأ في لحظة ما. ويعني ذلك، وعلى نحو مباشر،
إمكان القول بأن «مصلحة الإنسان وصلاحه» — كمبدأ عام — هي مفہوم «تأسيسي»،
وأما المضمون الذي يتحقق من خلاله هذا المبدأ في لحظة بعينها، فإنه يكون هو
الحد «الإجرائي» المحقق لها في تلك اللحظة.
وبالطبع فإنه إذا كان الوحي هو بمثابة إحضار للقيمة/المعنى/المصلحة،
كمبادئ تأسيسيةٍ كبرى، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها
بجهدها الخاص، فإنه كان لا بد أن يجري تنزيل هذه المبادئ التأسيسية في واقع
حياتها، ضمن شروط اللحظة التي تعيش فيها هذه المجتمعات؛ حيث إن تنزيلها خارج
تلك الشروط كان يمكن أن يترتب عليه رفض فعل الوحي بالكلية. ومن هنا ما يمكن
القول إنها مراوحة الوحي وحركيته، أو حتى توتره، بين «المبدأ التأسيسي
المتجاوز» من جهة، وبين «التحديد الإجرائي المتعين» الذي يتحقق، هذا المبدأ،
من خلاله في واقع بشَرٍ بعينهم، وفي إطار لحظة بعينها، من جهة أخرى. فإنه ليس
خطابًا بهذا المبدأ في «المطلق»، بقدر ما هو خطاب به في الواقع «المتعين»؛ أي
إلى بشر محددين، وفي لحظة تاريخية بعينها. وبالطبع فإنه يبقى — ضمن هذه
المراوحة — أن «الحد الإجرائي» — الذي يتحقق من خلاله «المبدأ التأسيسي»،
إنما يكون «موضوعًا» من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ، في تلك
اللحظة بعينها، وليس على نحو نهائي مطلق. وإذ يعني ذلك أنه يتحقق في ارتباط
حاسم مع «التاريخ»، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ حد أنه قد يتحول في لحظة
مغايرة، لتلك التي تبلور فيها، إلى عائق يحول دون تحقيق «المبدأ التأسيسي
المتجاوز» الذي يقف وراءه. ومن هنا ما توافق عليه أهل التفسير والأصول من
النَّسخ في القرآن؛ الذي لا يعني شيئًا إلا أن حضور وصلاح الحكم (وهو الحد
الإجرائي المحقق للمبدأ التأسيسي أو القصد) يكون مرتبطًا بوقتٍ بعينه. فإن
رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعني إلا أنه قد استحال إلى
عائق يحول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذي يقوم خلفه؛ ولذا وجب رفعه لأنه لم
يعد صالحًا في لحظة مغايرة لتلك التي تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قصر
المدة الزمنية التي كان يتحقق ضمنها فعل النسخ، فإن له أن يستنتج إرادة
القرآن إلى تأكيد محدودية الحد الإجرائي، وسرعة تحوله لاستيعاب حركة الواقع؛
وحتى لا يتحول إلى عائق يحول دون تحقيق ما وراءه من «قصد».
ولقد كان ربط صلاح الحكم بالوقت هو أداة الفخر الرازي في الفرار من مأزق
نسبة القول بالنقص إلى الله؛ فإنه «إن قيل: لو كان (الحكم) الثاني (أي
الناسخ)، أصلح من الأول (أي المنسوخ)، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله
به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة للوقت الأول، والثاني بالعكس.»
٤ إن الصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذي يتحقق من
خلاله هذا الصلاح، فهو الحد الإجرائي؛ وبحسب تقرير الرازي فإن الحكم، أو الحد
الإجرائي المحقق للصلاح، قد يتحول في وقت غير وقته إلى عائق يمتنع معه تحقيق
الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ. وإذا كان الوحي، هنا، هو الذي يرفع الحكم حين
يدرك فيه عائقًا أمام الصلاح، فإنه السؤال الذي يفرض نفسه يدور حول ما إذا
كان فعل رفع الأحكام، مع تحولها إلى عوائق أمام تحقيق الصلاح، سيتوقف أم أنه
يمكن أن يستمر بأدوات أخرى؟
الغريب، هنا، أن تجرِبة الجيل الأول من المسلمين تشير إلى حقيقة أنهم —
ورغم انقطاع الوحي — قد رفعوا من الأحكام، ما أدركوا فيه حائلًا يمنع تحقيق
الصلاح، وكان ذلك استنادًا إلى وعيهم العميق بالمنطق الذي يحكم علاقة كلٍّ من
الوحي والعقل والواقع. ولعله يلزم الإشارة، هنا، إلى ما جرى بخصوص الأحكام
المتعلقة بسهمِ المؤلَّفة قلوبُهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحد
المفروض على شارب الخمر، وغيرها مما أدرك فيه الصحابة أن صلاحه مرتبطٌ بوقت
تنزيله، وأن شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة. ويمكن الإشارة — ضمن نفس
السياق — إلى أن «التاريخ» اللاحق، بدوره، سوف يرفع كافة الأحكام المتعلقة
بفقه الرق في الإسلام، بعد أن رفع شروط وجودها بالكلية. ورغم ما قد يتصوره
البعض من أن التاريخ، هكذا، إنما ينقض القرآن، فإن الثابت أن التاريخ كان
بقدر ما يرفع من «الحكم»، يساعد القرآن على تحقيق ما يسكنه من المبدأ أو
القصد إلى التسوية بين بني البشر. «ففي معالجته مشكلات الاسترقاق العبودي كان
الإسلام مدركًا استحالة تفكيك مجتمع الأرقاء كنظام إنتاجي كامل، بمجرد عناوين
نظرية أو بشعارات متعجلة لا بد أن تنعكس سلبًا على حالة المجتمع والإسلام
معًا، فعمد إلى وضع مرتسمات برمجة فعالة لإنهاء الاسترقاق العبودي في أمد لا
يتجاوز بضعة أجيال لكيلا تحدث انهيارات اجتماعية واقتصادية مهلكة كان لها أن
تؤثر على مستقبل الإسلام نفسه.»
٥ إن ذلك يعني أنه إذا كانت ضرورات الواقع قد حالت دون الرفع
الكامل لمنظومة الرق، فإن القرآن قد ترك للتاريخ مهمة الإنهاء الكامل لها في
أمد زماني منظور.
ومن هنا وجوب عدم النظر إلى التحديد الإجرائي، الذي وضعه القرآن لتنظيم
وضع الرقيق، على أنه تحديدٌ نهائي وحكمٌ مطلق؛ لأنه لو كان كذلك لوجب تثبيت
الوضع الذي تعلق به هذا الحكم أو التحديد، وعلى النحو الذي يصح معه تصور أن
تثبيت «الرق» هو أمرٌ واجب بالقرآن؛ وهو مما لا يقبله عقل أو شرع. ولما كان
ذلك من الممتنع الذي يستحيل تصوره بالكلية، على هذا النحو، فإنه لا يبقى إلا
أنه حكمٌ أو تحديد مؤقت يرتبط صلاحه بوقت فرضه؛ وبكيفيةٍ ينفتح معها الباب
أمام رفعه في حال بلغ «التاريخ» بالقصد القرآني إلى تحرير البشر، على العموم،
إلى وضعٍ أرقى. وهنا يلزم التنويه بأن التحديد الإجرائي الذي أورده القرآن
بخصوص الرق، قد كان يقصد، هو نفسه، إلى التسامي بالرقيق إلى وضعٍ أرقى من تلك
التي كانوا عليها في الزمن السابق على تنزيل القرآن. ولعل ذلك يعني أن القرآن
قد ابتدأ صيرورة الانتقال بالرقيق من وضعٍ كانوا فيه أشبه بالجماد أو
الحيوان، إلى الحال التي راح يستقر فيها الإقرار لهم بوضع الإنسان. ولقد كان
ذلك إلى الحد الذي استدعى فيه «القرطبي» قوله تعالى:
اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ (الروم: ٤٠) — ليقرأ
بها ما أورده القرآن عن وضع العبد المملوك
٦ — معتبرًا أنه «أدل الدليل على تسوية الله بين الحُر والعبد في
الرزق والخلق.»
٧ وبالطبع فإن ذلك يعكس وعيًا بأن التسوية بين بني البشر هي القيمة
الكبرى، أو المبدأ التأسيسي، الذي يقصد القرآن إلى تحقيقه،
٨ وذلك على الرغم من حضور الحد الإجرائي الذي ينطوي على التمييز
بينهم، ولعل أصل هذا الوعي هو الإدراك بأن هذا الحد الإجرائي نفسه يدفع في
اتجاه المبدأ التأسيسي، الذي هو المساواة، ولو بتأكيده على أن هذا التمييز هو
نتاج وضع مشروط، وليس نهائيًّا ومطلقًا أبدًا.
٩ ولعل ما يؤكد على ربط القرآن للحد الإجرائي المتعلق بوضع الرقيق،
بمجمل الشروط التي كانوا يعيشون فيها، يتبدى في تعليقه لوضع «العبد المملوك»
على كونه
لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وبالرغم من أن ذلك كان لا بد أن يوجه النظر إلى
وجوب السعي إلى تخفيف هذه الشروط (التي لا يقدر بحسبها على شيء) ورفعها؛
ليتسنى رفع ما يرتبط بها من الحدود الإجرائية، التي تنطوي — لضرورات وقتها —
على ما يشير إلى التمييز بين بني البشر، وذلك بالرغم من تساميها بالرقيق إلى
وضعٍ أرقى مما كانوا عليه قبلها، فإن ما جرى — في الأغلب — قد مضى في اتجاه،
لا مجرد تثبيت هذه الشروط فحسب، بل والانطلاق منها إلى ما يزيدها رسوخًا
وثباتًا، ولو كان ذلك عبر الانحراف عما يقول به القرآن نفسه. فرغم صراحة
القرآن في النهي عن نكاح المشركات، وتفضيل نكاح الأمَة المسلمة عليه، في قوله
تعالى:
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُم (البقرة: ٢٢١)، فإن
ثمة من الفقهاء من مضى إلى تفضيل نكاح الحُرة الكتابية (غير المسلمة) «لأن
الأمَة (المسلمة) وإن كانت تَفْضلها بالإيمان، فالكافرة تَفْضلها بالحرية،
وهي زوجة. وأيضًا؛ فإن ولدها يكون حرًّا لا يُسْتَرَقُّ، وولد الأمة يكون
رقيقًا، وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب.»
١٠ ولقد بلغ الأمر حد الإقرار الصريح من الفقيه بتبنِّيه قولًا
«تمييزيًّا»، رغم معاندته لما يقول به القرآن؛ حيث يروي القرطبي عن الإمام
«مالك» أنه قال، بخصوص تخيير الحرة في حال الزواج (دون علمها) على الأمَة بين
أن تقيم مع الزوج أو تفارقه، وبين أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه: «وإنما جعلنا
الخيار للحرة في هذه المسائل لِما قالت العلماء قبلي، يريد سعيد بن المسيب
وابن شہاب وغيرهما. (حيث) قال مالك: «ولولا ما قالوه لرأيته حلالًا؛ لأنه في
كتاب الله حلال».»
١١ لأن «الأصح في الدليل، وكذلك في القرآن (هو) ألا يكون لها خيار؛
لأنها قد علِمت أن له نكاح الأربع، وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج
أَمَة، وما شَرَط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها، ولا يُعتبر في شروط
الله سبحانه وتعالى علمها، وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه.»
١٢ لكنه يبدو أن هذا التحقيق والإنصاف لم يكن مما يتغيَّاه من أصروا
على أن يحافظوا للحرة على وضعٍ تمييزي تتحكم من خلاله في مصائر «الأمَة»؛
وذلك من خلال إعطائها الحق في إقرار زواج الأمَة أو فسخه، ولو كان ذلك بالضد
لما يقول به كتاب الله.
وهنا يُشار إلى أن القصد من إيراد مثل هذه الآراء، ليس بيان عدم قدرة
أصحابها، فحسب، على قراءة «المبدأ التأسيسي» القائم وراء الحدود الإجرائية،
الخاصة بالرق في القرآن، بل والكشف — وهو الأهم — عن أن هذا العجز عن الوعي
بالمبدأ التأسيسي قد تأدى إلى الانحطاط بالرقيق إلى ما دون المنزلة التي
وضعتهم فيها، حتى هذه الحدود الإجرائية نفسها. وإذ يتعذر نسبة ذلك كله إلى
«كتاب الله»، فإنه لا يبقى إلا أن «الإكراهات الاجتماعية» هي التي تعمل؛ ليس
على تثبيت الحدود الإجرائية الجزئية، بما هي أحكام نهائية ومطلقة فحسب، بل
وتمضي إلى التضييق من رحابة هذه الحدود الإجرائية ذاتها. ولعل ذلك يعني وجوب
ترتيب العلاقة بين المبدأ أو القصد التأسيسي، في القرآن، وبين الحدود
الإجرائية التي يتحقق من خلالها في لحظة بعينها؛ على نحوٍ يستلزم وجوب أن
تنضبط هذه الحدود الإجرائية بالمبدأ التأسيسي، وليس العكس.
وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة محددات تنضبط بها تلك الحدود الإجرائية؛ هي
الصلاح والوقت والعقل. فالحد الإجرائي هو ما يكون به الصلاح في وقت بعينه، لا
مطلقًا. ولما كان الوقت متغيرًا، فإن ما يكون به الصلاح في الوقت الأول لا
يمكن أن يكون مؤديًا لذات الصلاح في الوقت الثاني؛ ومن هنا ضرورة تحريك هذا
الحد الإجرائي، مع تغيُّر الوقت؛ لأن عدم تحريكه سوف يجعل منه سبيلًا إلى
وقوع الفساد. وفقط فإن العقل — لا سواه — هو ما يقدر على القيام بهذا
التحريك، على أن يكون مفهومًا أن هذه الصيرورة لا تتحقق خارج أي شروط، بل تحت
مظلة المبدأ أو القصد التأسيسي للقرآن، الذي يقدر على أن يستوعب، في جوفه،
كافة الحدود الإجرائية مع كل تحولاتها اللاحقة، وبحيث يضفي عليها المعقولية
والمعنى. وبالطبع، فإن ذلك يعني أن تثبيت هذه الحدود الإجرائية، ومقاربتها
بوصفها أحكامًا نهائية مطلقة، إنما يئول إلى وضعها؛ لا خارج الوقت فحسب، بل
وخارج نظام المعنى والمعقولية أيضًا.
وهكذا حصل تغيير في «الوقت»، وانقضى زمن الرق؛ فأدى ذلك إلى أن «الصلاح»
لم يعُد قائمًا في الحدود الإجرائية التي وضعها القرآن لتنظيمه. ولأن هذه
الحدود الإجرائية ليست مطلقة ونهائية، فقد قضى برفعها «العقل»، متجاوبًا — في
ذلك — مع المبدأ أو «القصد التأسيسي» الذي ينطوي عليه القرآن. وإذا كان
القرآن لم يميز حدوده الإجرائية المتعلقة بالرق، بما يؤشر على أنها مما يقبل
الرفع والتعليق، مع تغير الوقت — بل إن وضعه لها لا يختلف عن وضعه لغيرها من
الأحكام والحدود الإجرائية المتعلقة بمسائل أخرى، كالمرأة وغير المسلمين،
وغيرها من المسائل التي جرى النظر إلى أحكامها وحدودها الإجرائية على أنها
نهائية ومطلقة — فإن ذلك يعني أن ما جرى بخصوص أحكام وحدود الرق، من التحريك
أو الرفع، هو مما يقبل الانطباق — ولو بطريقة مختلفة لا محالة — على الأحكام
والحدود الإجرائية المتعلقة بغيره من المسائل، المشار إليها. إذ إن هذه
المسائل — أعني المتعلقة بالمرأة وغير المسلمين وغيرها — قد بقيت أحكامها
وتحديداتها الإجرائية على حالٍ من الثبات، رغم تغير الوقت، وبما آل إلى أن
الصلاح لم يعد قائمًا فيها، وعلى النحو الذي يستلزم وجوب قولٍ جديد بشأنها،
يسعى فيه «العقل» إلى تحريك تلك الأحكام والتحديدات الإجرائية بما يتجاوب مع
المبدأ التأسيسي أو القصد الضابط لها في القرآن.
ولعله يمكن إسناد ما يبدو من إمكان التمييز، في القرآن، بين «الحد
الإجرائي» وبين «المبدأ التأسيسي» الضابط له، إلى مفهوم «الخطاب» في القرآن.
ورغم تعدد أنماط الخطاب في القرآن، فإن ما يختص منها بالمسائل، موضوع
الانشغال هنا، هو خطابه حول الإنسان بالذات. وإذ يتوزع هذا الخطاب بين قول
القرآن عن الإنسان في (الدنيا)، وبين قوله عنه في (الآخرة)، فإن الثابت أنه
فيما يقر القول الأول بكل أشكال التمييز بين بني الإنسان، بسبب الجنس والعِرق
والدين، ولكن من دون أن يعني هذا الإقرار تثبيته لها، بل هو يقربها كجزء من
واقع لا يقدر على القفز فوقه، ويسعى — في نفس الوقت — إلى خلخلته وزحزحته،
١٣ فإن القول الثاني يرفع تمامًا كل هذه الأشكال من التمييز التي
تفرضها ضرورات الوقت ودواعي التطور. وهكذا فإن كل أشكال التباين بين بني
الإنسان على الأرض، لن تؤثر أبدًا في وحدة الجزاء الذي سينالونه جميعًا، من
دون أي تمييز، في السماء. بل إنه يلاحظ على أغلب آيات القرآن المتعلقة
بالجزاء أنها تكون في صيغة «تنكير»، ومن دون تعيين للجنس أو العرق أو الدين،
وبعضها يتم فيه تعيين الجنس أو الدين؛ ولكن من دون أن يؤدي هذا التعيين إلى
التمييز بينهم في جنس الجزاء.
١٤
وإذا جاز أن استقراء خطاب القرآن عن الدنيا يكشف عن انبنائه على حقيقة
أنها دار «عبور» للحياة الأبقى في الآخرة؛ فإن ذلك يعني أنه يتعامل معها على
أنها من قبيل «العابر» الذي يكتسب دلالته ومعناه من كونه مؤديًا إلى
«الخالد». وليس من شك في لزوم أن يكون هذا «الخالد» هو الضابط الحاكم لكل صور
التحديدات الإجرائية العابرة التي يعيش بحسبها الناس في الدنيا، تبعًا
لضرورات الصلاح والوقت والعقل؛ حيث إنه من الممتنع أن يكون «العابر» هو ما
ينضبط به «الخالد». وترتيبًا على أن هذا «الخالد» يقوم على إسقاط كل أشكال
التمييز بين البشر، وذلك فيما ينطوي «العابر» على أشكال متباينة من التمييز،
فإن ذلك يعني أن المبدأ التأسيسي في القرآن هو ما يقصد إلى إسقاط ضروب
التمييز بين البشر، في حين أن التحديدات والأحكام الإجرائية التي يتحقق من
خلالها هذا المبدأ في لحظة بعينها، لا بد أن تقر بهذه الضروب من التمييز،
وتدفع في اتجاه رفعها في نفس الوقت. وغني عن البيان أن هذا الدفع في اتجاه
رفع ضروب التمييز، إنما يعني أن هذه التحديدات الإجرائية إنما تنطوي،
وللمفارقة، على القصد إلى رفع نفسها، هي الأخرى.
ولعل من المفيد وجوب التأكيد على أن لحظة «المعاد الأخروي»، ليست هي
وحدها اللحظة التي يقوم فيها القرآن بإسقاط ضروب التمييز بين البشر، بل إن
ثمة لحظة أخرى يلغي فيها القرآن هذه الضروب التمييزية، أيضًا، هي لحظة «الخلق الأولى».
١٥ وبالطبع فإن نفي القرآن لحصول التمييز في لحظتي الخلق والمعاد؛
وهما اللحظتان اللتان تكونان موضوعًا لفعل الله المباشر والصريح، لا بد أن
ينتهي إلى القطع بأن التمييز لا يمكن أن يكون مطلبًا أو قصدًا إلهيًّا أبدًا.
وعندئذٍ، فإنه لا يبقى إلا أن يكون هذا التمييز هو نتاج إنساني خالص، يرتبط
بنوازع أنانية وسلطوية؛ هي التي تغذيه وتقف من ورائه. إن التمييز، إذن، يجد
أساسه فيما يسعى البشر إلى تجاوزه؛ حيث يكشف مسار التطور البشري عن الإدراك
المتزايد لوجوب الخروج من «المبدأ الأناني» إلى «المبدأ الكوني»، ومن «المبدأ
السلطوي» إلى «المبدأ التحرري». ولعل ذلك يحيل إلى ما يمكن القول إنه التطابق
بين «المبدأ» الذي يتجه إليه مسار التطور الإنساني، على العموم، وبين «المبدأ
التأسيسي» الذي يقصد إليه فعل الوحي، وضمنه القرآن، على الخصوص. ويعني ذلك،
على نحو صريح، أن تثبيت الأحكام والتحديدات الإجرائية القرآن؛ بما هي ذات
طبيعة نهائية ومطلقة، سيقف عائقًا ليس أمام تحقيق القصد التأسيسي للقرآن، بل
وأمام مسار التطور الإنساني؛ وبما يؤدي إلى غلق الباب نهائيًّا أمام ما يكاد
أن يكون أحد المسلَّمات التي يؤمن بها المسلمون جميعًا من قدرة القرآن على
تقديم قولٍ يؤكد به صلاحيته للإنسانية بأسرها، في مسار تطورها الراهن.
ولعل ذلك كله — وبمثل ما كان الوحي قبلًا — يؤكد على محدودية الحكم، أو
الحد «الإجرائي»؛ على النحو الذي يجعل من مبدأ «القابلية للتجاوز» أحد أهم
محدداته على الإطلاق. وإذا كان الإنسان هو الكائن الذي يحضر معه التجاوز إلى
الوجود، فإنه يلزم التأكيد على أن هذه القابلية للتجاوز إنما ترتبط بدخول
الإنسان (واقعًا ووعيًا) في تركيب ظاهرة الوحي، في كليتها، ومن حسن الحظ، أن
تحليلًا لظاهرة الوحي، سواء في عمومها أو في تجليها القرآني خصوصًا، ليكشف عن
خضوعها لضربٍ من المنطق الحاكم لها؛ والذي يستحيل فهمه بمعزل عن الوعي بدخول
الإنسان (وعيًا وواقعًا) في بنائه الكامن.
المنطق الحاكم لظاهرة الوحي
إذا كان من الصعب الكشف عن المنطق الذي يتحكم في مسار ظاهرةٍ ما إلا
عبر الإحاطة بتاريخها الشامل، فإن الأمر يبلغ حد الاستحالة حين يكون المرء
بإزاء ظاهرة مفتوحة لم يكتمل تاريخها بعد، وعلى العكس من ذلك يكون حال
الظواهر التي تبلور تحققها واكتمل تاريخها؛ حيث إن الوعي بمنطقها الكامن
يكون أكثر يسرًا وإمكانية. وغنيٌّ عن البيان أن الوحي هو أحد هذه الظواهر
التي اكتمل بناؤها، ولا مجال لأي جديد في تاريخها؛ وبما يئول إلى ليس فقط
إلى إمكانية اكتناه المنطق الذي يتحكم في نظامها، بل والإمساك به — وهو
الأهم — في حال من الشمول والكلية.
ولعل نقطة البدء إلى الإمساك بهذا المنطق تنطلق من الوعي بجملةٍ من
التحديدات التي تميز ظاهرة الوحي على العموم، وأول هذه التحديدات أنها
ظاهرة تتميز بالشمول والاتساع؛ وإلى الحد الذي يبدو فيه أنها لا تخص بني
البشر وحدهم، بل تتصل بغيرهم من الكائنات غير الناطقة؛ التي تحدث القرآن عن
وقوع الوحي إليها أيضًا.
١٦ وحتى بخصوص البشر، فإن الوحي لا يقتصر على الأنبياء وحدهم، بل
يضاف إلى من سواهم من غير الأنبياء،
١٧ وبما يعنيه ذلك من كونها ظاهرة إنسانية شبه عامة.
ولعل الطابع الإنساني لهذه الظاهرة يرتبط — وعلى نحو جوهري — بالأصل
الذي نشأت منه؛ والذي يرتد إلى أحد الأفكار الكبرى التي تكاد أن تكون غائرة
في تلافيف الوعي الإنساني على العموم. إنها الفكرة الغائرة عن لحظة فردوسية
أولى كان فيها البشر يعيشون مع الله؛ سواء كان ذلك في السماء بحسب ما تقول
به كل الأديان الراقية، أو على الأرض بحسب ما تقول الأديان الميثولوجية
الأقل رقيًّا. وبصرف النظر عن الموضع الذي تحققت فيه هذه الوحدة بين الله
والبشر (السماء أو الأرض)، فإن هذه اللحظة الفردوسية لم يُكتب لها الدوام،
بل سرعان ما حدث الانفصال بين الله والإنسان بهبوط الإنسان إلى الأرض بحسب
الأديان العليا، أو بصعود الإله إلى السماء حسب التصورات الميثولوجية
الأولى، وهو الانفصال الذي لم يتوقف البشر عن السعي إلى رفعه، والعودة إلى
حال الوحدة مرة أخرى. وإذ بدا أن استعادة الوحدة المباشرة بين الله
والإنسان تبدو مستحيلة، فإن أشكالًا أخرى للاتصال غير المباشر بين الأرض
والسماء كان لا بد أن تتبلور؛ ومنها الوحي بالطبع. وهكذا فإن الوحي قد
تبلور منذ أقدم العصور، كأحد أشكال تجاوز حال الانفصال بين الله والإنسان
التي عرفتها كل الجماعات البشرية التي عاش أسلافها الغابرين في وحدة
فردوسية مباشرة مع الله، ثم حدث بعدها انفصالهما الفاجع. إن ذلك يعني أن
الوحي ليس مجرد ظاهرة دينية، بقدر ما هو ظاهرة إنسانية عامة ترتبط بتصورات
الوجود الإنساني.
وفضلًا عن ذلك فإن الوحي ظاهرة تاريخية اكتمل تحققها على مدى تاريخي
طويل امتد لعدة قرون، وعبر لحظات شتى.
١٨ وهكذا فإنها لم تنبثق مكتملة أو دفعة واحدة، بل تطورت عبر
مراحل جزئية متعددة على مدى القرون إلى أن حققت اكتمالها مع النبي الخاتم
في القرن السابع الميلادي. وبما أن ظاهرة الوحي تشتمل، في داخلها، على
مراحل ولحظات جزئية يجري الانتقال بينها من لحظة إلى أخرى، فإن هذا
الانتقال لا يمكن أن يكون خَبْط عَشْواء، بل إنه يتحقق، وبالضرورة، بحسب
منطقٍ يتحكم فيه، ويضفي عليه المعقولية التي تجعله قابلًا للتفسير.
وإذ يبدو والحال كذلك — أن منطق الظاهرة لا ينفصل عن تاريخها، فإنه
يلزم التأمل في معنى ودلالة تعدد صور الوحي وتنوعها على مدى التاريخ
الإنساني، وأن كل واحدة من تلك الصور تتناسب مع الوضع (العقلي والتاريخي)
للمخاطَبين بها في لحظة بعينها؛ وبما يعنيه ذلك من أن صورة سابقة ومتقدمة
للوحي لا يمكن أن تناسب وضعًا إنسانيًّا لاحقًا أرقى من ذلك الوضع الذي
تنزلت تلك الصورة المتقدمة لكي تتجاوب مع حاجاته، إنما يكشف عن ارتباط كل
واحدة من لحظات الوحي وصوره بتحديدات اللحظة التي تنزلت فيها؛ وعلى نحوٍ لا
يمكن معه فرض صورة أسبق من الوحي على وضع إنساني لاحق أرقى، والعكس. ويؤكد
— بالتالي — على أن القابلية للتجاوز هي جزء من صميم تركيب ظاهرة الوحي
ذاته. وهنا يشار إلى أنه إذا كانت لحظة الوحي وصورته الأخيرة — بما هي لحظة
اكتمال وختام سيرورة الوحي بأسرها مع النبي محمد — هي اللحظة التي لا تقبل
التجاوز كتنزيل؛ حيث لا تنزيل بعد النبي الخاتم بالطبع. فإنها لا بد أن
تكون موضوعًا للتجاوز التأويلي بالطبع، وإلا فإنها ستفقد القدرة على
الفاعلية خارج حدود اللحظة التي تنزلت فيها. وهكذا فإنه إذا كان اكتمال
الوحي مع النبي الخاتم، يؤْذِن بعدم القابلية للتجاوز تنزيلًا، فإنه يفتح
الباب واسعًا أمام وجوب التجاوز فهمًا وتأويلًا،
١٩ وبما يئول إليه ذلك من أن القابلية للتجاوز لا تفارق بناء الوحي
(رغم مصدره الإلهي) تنزيلًا وتأويلًا. وإذ الأمر هكذا، فإنه يستحيل على أي
معرفة تصدر عنه أن تدَّعي لنفسها حضورًا مطلقًا لا يقبل التخطي والتجاوز.
والحق أنه يتعذر فہم الكيفية التي يكون فيها القرآن (رغم مصدره الإلهي) هو
المصدر الذي تتخلَّق حوله منظوماتٌ معرفية ذات طابع إنساني، بعيدًا عن
الوعي بطبيعته كأحد لحظات سيرورة الوحي الإلهي، ثم بالكيفية التي تنزل بها
على مدى زماني متطاول نسبيًّا من جهة، وبعيدًا، من جهة أخرى، عن إلحاح
القرآن الملفت على تقديم نفسه — لمن يخاطبهم — ككتاب للقراءة والفهم، وليس
كنص للاستظهار والحفظ.
٢٠ ولعل هذه المحددات الثلاثة في حاجة إلى المزيد من الإيضاح
والبيان للوقوف على ما يؤسس للكيفية التي يكون بها ما يصدر عن «المعرفة
الإلهية» مركزًا لما ينتهي بطبيعته إلى عالم «المعرفة الإنسانية».
إذا كان القرآن وغيره من أشكال وصور الوحي الأخرى هي تمثيلات للمعرفة
الإلهية، تصدر عنها وترتبط بها، فإن ذلك لا يعني أنها كتمثيلات لتلك
المعرفة تتطابق معها أو تستنفدها؛ بل إن المعرفة الإلهية تبقى مجاوزة
ومفارقة لتلك التمثيلات التي تصدر عنها. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه فيما تتميز
المعرفة الإلهية بالإطلاق وعدم التناهي، فإن تتابع وتبدل صور الوحي التي هي
محض تمثيلات لتلك المعرفة، يؤكد على وجوب كونها موضوعًا للتحدد والتناهي؛
وأعني من حيث إن اللاحق منها دائمًا ما يستوعب السابق ويتخطاه إلى تركيب
أعلى، وذلك على الرغم من استبقائه، طبعًا، للجوهر الكلي الذي يبقى حاضرًا
في كل صور الوحي وتحققاته الجزئية. وهكذا فإنه إذا كانت المعرفة الإلهية
تأبى، بما هي كذلك، على الاستنفاد والتناهي والتحدد، فإن كل ما صدر عنها من
صور الوحي المتعددة المتنوعة يكاد، في معظمه، أن يكون موضوعًا للاستنفاد
والتحدد والتناهي والتبدل.
٢١.
وبتعبيرات القرطبي، فإنه يجوز المصير إلى حقيقة أنه فيما تكون المعرفة
الإلهية من قبيل «العلم الذي لا يتغير» فإن الوحي يكون — رغم صدوره عنها —
«خطابًا يتبدَّل».
٢٢ ولعل هذا التمييز بين ثنائية «ما يتبدَّل» وبين «ما لا
يتغيَّر»، هو ما يقف وراء ما مضى إليه «محمد عبده» من إن القرآن «يصرح بأن
دين الله في جميع الأمم واحد، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف
باختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خلاف فيها. قال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ. وقال تعالى:
إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ
وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا.
فالاعتقاد بالله والنبوة وبترك الشر وبعمل البر والتخلق بالأخلاق الفاضلة
مستوٍ في الجميع.»
٢٣ وترتيبًا على ذلك فإنه إذا كان «العلم الذي لا يتغير» يتبدى في
«الأصول التي لا خلاف عليها»، فإن «الخطاب الذي يتبدل» يتجلى في «الأحكام
التي تختلف باختلاف الزمان.» وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن تلك الثنائية
التي صاغها أحد أقطاب أهل السنة الكبار؛ وأعني القرطبي، إنما تكشف عن قبول
أهل السنة لمفهوم الوحي، بكل صوره وأشكاله، كتمثيل غير مطابق، على نحو
كامل، للمعرفة الإلهية بالرغم من صدوره عنها. حيث إنه يستحيل — ومن دون
أدنى جدال — المطابقة بين «ما يتبدل» من جهة، وبين «ما لا يتغير» من جهة
أخرى.
وغني عن البيان، أن «المعرفة الإلهية»، التي يصدر عنها الوحي، لا يمكن
أن تكون هي الأصل فيما يطال صوره المتعددة من التبدل، الذي تكون معه
موضوعًا للاستنفاد والتحدد؛ وذلك لأنها (أعني المعرفة الإلهية) تكون
بطبيعتها، مطلقة وغير متناهية، وليست قابلة للاستنفاد أبدًا.
٢٤ وترتيبًا على ذلك، فإنه لا يبقى إلا أن يكون الأصل في هذا
التبدل هو من تصدر إليهم صور وأنماط الوحي من المخاطبين بها من بني البشر
الذين يتصفون، وعيًا ووجودًا، بالتحدد والتناهي والتبدل. وهكذا فإن تباين
بني البشر (وعيًا وواقعًا) هو ما يقوم وراء تنوع وتباين صور الوحي،
٢٥ التي تكون بمثابة خطابات متجهة إليهم، وبما يعنيه ذلك من وجوب
صوغها على نحوٍ تكون معه مقبولة لأفهامهم ومتجاوبة مع طبيعة واقعهم، وإلا
فإنها لن تكون مما يمكن لهم أن يفهموه أو يؤمنوا به؛ فإن الله — بحسب القول
الدالِّ للقرطبي — «كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته
بمشيئته وإرادته.» ومن هنا إن ما تتميز به طبيعة أفهام البشر من الاختلاف،
وأبنية واقعهم من التجدد هو الأصل فيما يطال صور الوحي من التحدد
والاستنفاد والتبدل. ولعل ذلك يحيل إلى أن طبيعة صور الوحي لا تتحدد
بصدورها عن «الإلهي» غير المحدود، بل إنها — وبالأساس — تتحدد بحقيقة
صدورها إلى «الإنساني» المحدود. فإذ تكون تلك الصور هي أدنى إلى الرسائل
والخطابات، فإنها — وككل رسالة أو خطاب — لا تتحدد بطبيعة المرسِل فقط، بل
وتتحدد أيضًا بطبيعة المرسَل إليه؛ الذي لن يكون بمقدوره أن يتجاوب مع
الرسالة ما لم تتلاءم مع فهمه، وتتجاوب مع مشكلات واقعه. ومن هنا إن اختلاف
«صور العبادات مما اختلفت فيه الأديان الصحيحة، سابقها مع لاحقها، واختلاف
الأحكام متقدمها ومتأخرها، فمصدره رحمة الله ورأفته في إيتاء كل أمة وكل
زمان ما علم فيه الخير للأمة والملاءمة للزمان، وكما جرت سنته — وهو رب
العالمين — بالتدريج في تربية الأشخاص، من خارج من بطن أمه لا يعلم شيئًا،
إلى راشد في عقله، كامل في نشأته، يمزق الحجب بفكره، ويواصل أسرار الكون
بنظره، كذلك لم تختلف سنته ولم يضطرب هديه في تربية الأمم، فلم يكن من شأن
الإنسان في جملته ونوعه أن يكون في مرتبة واحدة من العلم وقبول الخطاب من
يوم خلقه الله إلى يوم يبلغ من الكمال منتهاه، بل سبق القضاء أن يكون شأن
جملته في النمو قائمًا على ما قررته الفطرة الإلهية في شأن أفراده، وهذا من
البديهيات التي لا يصح الاختلاف فيها.»
٢٦ ولعل الوحي تبعًا
لتلك البديهية التي لا خلاف فيها — على قول الاستاذ الإمام — هو أدنى ما
يكون إلى الخطاب الذي يستعيد فيه كلٌّ من الإلهي والإنساني اتصالهما — غير
المباشر بالطبع — بعدما جرى من انفصالهما الفاجع القديم الذي هو واقعة
أولية تكاد كل الأديان المعروفة أن تؤسس عليها وجودها؛ ومع ملاحظة ملاءمة
هذا الخطاب لطبيعة فهم الإنسان ودرجة تعقد وتركيب واقعه.
ومن حسن الحظ أن ما بدا من دخول الاختلاف في تركيب ظاهرة الوحي على
العموم، قد أدى إلى دخوله في تركيب تجليه الجزئي المتمثل في الوحي القرآني.
فإذ استقر التصور على أن الوحي بالكتب السابقة على القرآن قد تحقق جملة
واحدة، فإن الأمر لم يكن هكذا مع القرآن الذي ظل يتنزل على مدى ثلاثة
وعشرين عامًا تقريبا؛ وهو ما كان — حسب القرآن نفسه
٢٧ — موضوعًا لاعتراض وتشكيك مشركي مكة. ولقد مضى علماء القرآن
إلى تفسير هذا التنزيل للقرآن مُنجَّمًا، بالقصد — الذي وردت به الآية —
إلى تثبيت فؤاد النبي؛ «فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى
للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجديد
العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز، فحدث له من
السرور ما تقصر عنه العبارة»،
٢٨ وكذا فإنهم قد أشاروا — على سبيل التفسير أيضًا — إلى الطبيعة
الشفاهية للثقافة التي يتحقق فيها التنزيل؛ وأعني من حيث «إنه عليه السلام
كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ففُرِّق عليه ليسهل عليه حفظه، بخلاف غيره من
الأنبياء، فإنه كان كاتبًا قارئًا، فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة.»
٢٩ وهكذا فإن التنجيم، بدوره، يبدو مرتبطًا، أشد الارتباط،
بالحالة النفسية والمعرفية المحدودة بالشرط الإنساني للنبي الكريم.
وفضلًا عن هذه الدلالة الذاتية للتنجيم المرتبطة بالشرط الإنساني للنبي
الكريم، فإنه يمكن الحديث عن دلالة موضوعية تتعلق بعلاقة الارتباط الجوهري
بين القرآن والواقع. وهنا فإنه إذا كان تحقق الوحي بالكتب السابقة على
القرآن جملة واحدة قد اقتضى تعدد الأنبياء في إطار الدين الواحد (وإلى حد
القول بالنبوة المفتوحة على النحو الذي يسمح لهذا الدين باستيعاب ما يحدث
من تطورات في الواقع)، فإن نزول القرآن مُنجَّمًا على مدی زمان متطاول إنما
يشير بجلاء إلى اتساعه لحركة الواقع؛ وبحسب ما يؤكده مفهوم «النَّسخ»
الثابت بالقرآن نفسه. إذ يرجع التنجيم أيضًا إلى أن «في القرآن أجوبة عن
أسئلة (يثيرها الواقع)، فهو سبب من أسباب تفرق النزول، ولأن بعضه منسوخ
وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما نزل مفرَّقًا.»
٣٠ وإذ يكون النَّسخ، هكذا، هو أحد أسباب التنجيم، والنسخ هو نوع
من الاستجابة لحركة الواقع؛ فإن ذلك يعني أن التنجيم معلَّلٌ بحركة الواقع
بالأساس. فالنسخ يصدر — على قول القرطبي السابق ذكره — عن حقيقة «أن شرائع
الأنبياء قصد بها مصالح الخَلق الدينية والدنيوية، وأن العالِم بذلك (يعني
الله) إنما تتبدل خطاباته بحسب تبدُّل المصالح؛ كالطبيب المراعي أحوال
العليل، فراعى (الله) ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو،
فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير»؛ وبما يعنيه ذلك من أن واقع المصالح
المتبدِّلة للعباد هو أحد أسباب التنجيم وأصوله.
وإذا كان ثمة من ينكر النسخ في القرآن، وراح يستبدل به مفهوم «المنسأ»؛
وذلك ابتداء من أن حكم النسخ هو الإزالة، بينما يتأجل العمل بالمنسأ، حتى
إذا عادت الظروف إلى ما كانت عليه قبل ذلك عاد حكم المنسأ إلى الفعالية
والتأثير؛ فإنه يكون إظهارًا لجوهرية الارتباط بين القرآن والواقع؛ إذ يعني
المنسأ «أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلةٍ ما توجِب ذلك الحكم،
ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة
حتى لا يجوز امتثاله أبدًا … ومن ذلك قوله تعالى:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ …، كان ذلك
في ابتداء الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والمقاتلة عليه، ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي
ﷺ في قوله:
«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ»، عاد الحكم، وقال
ﷺ:
«فإذا رأيت هوًى متبعًا وشحًّا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة
نفسك»، وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه
ﷺ حين ضعفه ما يليق
بتلك الحال رأفة بمن اتبعه ورحمة؛ إذ لو وجب لأورث حرجًا ومشقة، فلما أعز
الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة
الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية — إن كانوا أهل كتاب — أو الإسلام أو
القتل إن لم يكونوا أهل كتاب. ويعود هذان الحكمان — أعني المسالمة عند
الضعف والمسايفة عند القوة — بعَود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخًا لحكم
المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته.»
٣١ وهكذا تكون حركة الواقع هي الأصل في كل ضروب التباين التي راح
يتسع لها الوحي القرآني من خلال مفاهيم الناسخ والمنسوخ والمنسأ وأسباب
النزول، وغيرها من ضروب التمييز بين المكي والمدني والسفري والحضري والليلي
والنهاري، التي تكشف عن أن الواقع لا يدخل فقط من خلال ما يتعلق بتغاير
الزمان في تركيب القرآن، بل ويدخل في تركيبه أيضًا من خلال تغاير المكان؛
وبما يعنيه ذلك من أن الاختلاف (زمانًا ومكانًا) داخلٌ في تركيب القرآن.
ولقد راح علماء القرآن يحددون تأثير هذا التغاير الزماني والمكاني على كلٍّ
من مضمون القرآن وأسلوبه. وبالطبع فإنه يبقى، على أي حال، أن الطريقة التي
تنزَّل بها القرآن تكشف، بدورها، عن دخول الاختلاف في بناء الظاهرة
القرآنية، تمامًا کدخوله في بناء ظاهرة الوحي على العموم.
وإذ يكشف ما مضى كله عن دخول الإنسان (وعيًا وواقعًا) في تركيب ظاهرة
الوحي على العموم والخصوص معا؛ وبالكيفية التي يبدو معها القول لازمًا بأن
صوره المتنوعة لا تقدم المعرفة الإلهية المطلقة الخالصة التي يختص بها الله
في علوِّه الفائق؛ لأن هذه المعرفة تبقى — بحسب السلف أنفسهم — «مما تفرد
الله بعلمه ومعرفته، فلم يخبر به ملَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسَلًا، بل
احتجبه عن الخلق جميعهم؛ لأن علمه أكثر وأعظم من أن يعلمه أحد من خلقه»،
٣٢ بل تقدم محض «تمثيلات» لها، فإنه يلزم التنويه بأن تلك
التمثيلات هي — في جوهرها — صوغٌ وتشكيل للمعرفة الإلهية على النحو الذي
تتجاوب فيه مع بناء كلٍّ من الوعي والواقع الإنسانيين في لحظات بعينها، أو
أنها من قبيل «أَنْسَنة» الله لعلمه ليقدر البشر،
٣٣ ليس فقط على فهمه والتفاعل المبدع معه، بل وعلى تحقيق الإفادة
القصوى من هذا العلم في ترقية وعيهم وتهذيبه والانتقال بواقعهم إلى وضعٍ
يكون معه أكثر تقدمًا. ولعل دخول الإنسان في تركيب الوحي، على العموم،
والقرآن، على الخصوص، إنما يجد ما يدعمه ويجليه في حقيقة تحدُّده بالواقع
اللغوي والتاريخي الذي تنزَّل داخله؛ وهو ما سيكون موضوعًا لقولٍ
لاحق.
وإذا كان التحليل قد انتهى إلى صدور الوحي عن الله من جهة، وإلى دخول
الإنسان (وعيًا وواقعًا) في تركيبه على العموم — وفي بناء الظاهرة القرآنية
على الخصوص — من جهة أخرى؛ وعلى النحو الذي يجعل منهما ساحة التقاء يتواصل
فيها الإلهي والإنساني، فإن ذلك قد تأدَّى به إلى أن يكون (الوحي والقرآن
معًا) خطابًا متوترًا بين «الكلي/التأسيسي» الشامل، وبين «الجزئي الإجرائي»
المحدود. وبالطبع فإنه إذا كان «الكلي» هو الخطاب إلى الإنسان بما هو كذلك
(وبما يعنيه ذلك من كونه خطابًا متجاوزًا لتحديدات لحظة التنزيل)، فإن
«الجزئي» — في المقابل — هو الخطاب إليه ضمن تحديدات لحظة التنزيل. وإذا
كان اقتصار الوحي على التحدد بمحض الجزئي يئول إلى تلاشي فاعليته خارج لحظة
تنزيله التي هي أساس ما فيه من الجزئي، فإن حضور «الكلي» يكون هو ما يهبه
القدرة على الفعل خارج حدود تلك اللحظة الخاصة. ولسوء الحظ، فإن ارتباط
«الجزئي» بحدود لحظة التنزيل قد جعل من اختزال الوحي في خطابه الجزئي،
وإهمال خطابه «الكلي» أو حتى نسيانه، ممارسة شبه مهيمنة. ولقد تجلى هذا
النوع من الاختزال، في الإسلام مثلًا، فيما يمكن اعتباره تسييد «القول
الفقهي» الذي هو الأكثر ارتباطًا بمكونه «الجزئي». وبالطبع فإن الأمر لا
يتعلق بالسعي إلى تركيز القول في «الكلي» في مواجهة القول الجزئي/الفقهي
وعلى حسابه، بقدر ما يتعلق — وهو الأهم — بالدعوة إلى وجوب مقاربة
«الجزئي/الفقهي» في إطار وقوعه تحت مظلة في «الكلي». وعبر هذا التمييز بين
الكلي/الأزلي والجزئي/التاريخي فإننا «سنكتشف — على قول نصر أبو زيد — أن
كل «الحدود العقابية» من قطع يد السارق وجلد الزاني والزانية، والعين
بالعين والسن بالسن هي قيم (وممارسات) سابقة على القرآن، يمكن أن ندرك أن
الأزلي في القرآن هو تحقيق العدل بالعقاب، أما شكل العقاب فهو التاريخي،
وسندرك أننا لا يصح أن ننحاز إلى التاريخي على حساب الأزلي. إذا كان العدل
هو الأساس، سنفهم أن الأمر بالقتل — قتل المشركين وغير المشركين — هو
التاريخي، بدليل أن المسلمين لم يقتلوا المشركين قتلًا جماعيًّا في أي بلد
دخلوه، بل لم يقتل النبي مشركي مكة حين فتحها.» وبالرغم من كل المآخذ على
نظرية المقاصد الفقهية فإنه يبقى أنها تنطوي على ما يمكن البناء عليه في
اتجاه تجديد القول في القرآن؛ والذي يتمثل في نزوعها الملحوظ إلى الإلحاح
على جوهرية الكلي/الأزلي في مقابل عرضية الجزئي التاريخي.
ولعل ذلك يحيل إلى ضرورة أن تنضبط أي قراءة للقرآن تبتغي تحويله إلى
أساس لبناء حضاري يلعب دورًا في إخراج عالم اليوم من أزمته — بدل أن يكون،
بحسب قراءته السائدة، واحدًا من أسباب تلك الأزمة بحسب ما يرى الكثيرون
الآن — بهذا التمييز بين الكلي/الإنساني بالمعنى العام في مقابل
الجزئي/المجتمعي الخاص بلحظة بعينها. ولعل تلك القراءة المقترحة في حاجة
إلى الوعي العميق بضروب الفهم للقرآن التي أنتجها المسلمون وفق آفاق
مواقعهم الفكرية، وهو ما يحتاج إلى كشف الآليات التي تحولت عبرها تيارات
بعينها داخل تلك الثقافة إلى ما يبدو وكأنها معرفة إلهية لا يمكن
تجاوزها.