الفصل الرابع
من الثيولوجي إلى الأنثروبولوجي
قراءة في الترتيب الذي ساد الإسلام للعلاقة بين العقل
والنقل
كغيرها من الثقافات التي انبثقت حول كتاب موحًى، كان لا بد أن تُجابِه
ثقافة الإسلام إشكالية ترتيب العلاقة بين النقل/الوحي من جهة، وبين
العقل/الوعي من جهة أخرى. ورغم تعدد إمكانيات ترتيب هذه العلاقة على أنحاء
شتى تبلغ حد التعارض، وعلى النحو الذي ينعكس في تباين المواقف والفرقاء داخل
الثقافة التي تكون ساحة لانبثاق تلك الممكنات أو بعضها، فإنه يلزم التأكيد
على أن جوهر العلاقة بين تلك الممكنات إنما يعكس تصارعها وسعي الواحد منها
إلى إزاحة غيره تثبيتًا لسيادته وهيمنته. وبالطبع فإن قدرة الواحد من تلك
الممكنات على إزاحة غيره وتثبيت هيمنته لا ترتبط أبدًا بجدارة معرفية يكون
معها الأكثر تعبيرًا عن خطاب «الحقيقة»، بقدر ما ترتبط بتجاوبه مع خطاب
«السلطة» المهيمنة. وهكذا فإنه إذا كانت السيادة قد استقرت في الإسلام لأحد
الأشكال الممكنة في ترتيب العلاقة بين العقل والنقل؛ وعلى النحو الذي راح
يجري معه إزاحة غيره من أشكال أخرى توقف النظر إليها كممكنات تملك بدورها
جدارة التحقق في الوجود، بل کہرطقات لا تستأهل إلا الإقصاء والطرد خارج حدود
الأمة والملَّة، فإن استقرار تلك السيادة لا يرتبط بكون هذا الممكن — الذي
ساد واستقر — هو المعبر — لا سواه — عن «حقيقة» الإسلام، بقدر ما يجد تبريره
في ارتباطه بمنطق «السلطة» التي تحققت لها السيادة داخله. وفي كلمة واحدة فإن
السيادة لم تتحقق لهذا الشكل الممكن لأنه «الحقيقي»، ولكن لأنه «الأقوى»، بل
إنه يبدو — وللمفارقة — أن هذا التصور الذي ساد للعلاقة بين العقل والنقل
داخل الإسلام يكاد يمثل انحرافًا عمَّا يبدو وكأنه الجوهر العميق للعلاقة
بينهما، الذي تتكشف عنه قراءة المنطق الكامن لفعل الوحي ذاته في التاريخ.
وبالطبع فإن ما يمثل انحرافًا عن المنطق الكامن لفعل الوحي، في شموله وكليته،
لا يمكن تصوره متسقًا مع الإسلام كتعين جزئي داخل فعل الوحي الكلي.
فإذ يكاد ينطبق الإجماع على أن كتاب الوحي هو مركز الدائرة وقطب الرحَى
في الإسلام، وإلى الحد الذي يمضي معه البعض إلى القطع بأن سائر ما عرفه
الإسلام من أبنية حضارية وثقافية ليست إلا محض تعيُّنات لما يطويه هذا الكتاب
في جوفه، فإن حقيقة أن هذا المطويَّ في جوف الكتاب لا ينكشف بنفسه، بل من
خلال علاقة تفاعلية بين الكتاب من جهة، وبين كلٍّ من العقل والواقع من جهة
أخرى إنما يكشف عن طبيعة الدور الحاسم الذي يلعبه «العقل» في إغناء
«النقل/الكتاب» عبر تمكينه من فض شفرة ممكناته الكامنة، وإنتاج دلالته
المتجددة في واقعٍ لا يكف عن التطور والنماء؛ وإلى الحد الذي يبدو معه العقل
محددًا لفاعلية الوحي وشارطًا لسيرورة تعيُّناته في العالم. وهنا فإن مركزية
«العقل» تتجاوز مجرد حدود إثبات التنزيل — التي وقف عندها الخطاب السائد في
الإسلام مؤكدًا على ضرورة أن يعزل العقل نفسه بعد ذلك
١ — إلى بناء التأويل المحقق لفاعلية الوحي/التنزيل في التاريخ؛
وعلى نحو لا تقف فيه فاعلية العقل عند حدود لحظة عينها في مسار الوحي، بل
تصبح جزءًا من حضوره الخلَّاق الفاعل عبر الزمان.
والحق أن مركزية العقل تتجاوز مجرد الدور الحاسم الذي يلعبه في إنتاج
الدلالة المتجددة ضمن بناء واحدة من لحظات الوحي (القرآنية أو التوراتية
مثلًا) إلى دخوله (أي العقل) في تركيب الوحي كظاهرة كلية شاملة. فإن تحليلًا
للمنطق الذي ينتظم تطور الوحي كظاهرة كلية، تذوب داخلها كل لحظاته الجزئية،
يكشف عن وقوع هذا التطور بالكامل في قبضة المنطق الحاكم لتطور العقل؛ حيث
تكاد كل واحدة من لحظات تطور الوحي أن تعكس طبيعة بناء الوعي أو العقل
الإنساني المساوق لها. وهكذا فإن إمكان التمييز بين صور حسية أو حتى أسطورية،
وأخرى مجاوزة للحسي والأسطوري في بناء ظاهرة الوحي فإن منطق ذلك التمييز يقوم
في حقيقة تطور الوعي من الحسي إلى ما يجاوزه. إن الأمر الحاسم هنا أن طبيعة
بناء الوحي وتحولاته في التاريخ مشروطة بجوهر ما العقل في تطوره، أو أنها
تكون حتى تابعة له.
وإذا كان الترتيب الذي استقر في الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل على
نحو تترسخ فيه تبعية العقل للنقل، يتعارض — على هذا النحو — مع الوضع الذي
يفترضه الوحي في جانبيه الكلي والجزئي لنظام العلاقة بينهما، فإن ذلك يدفع
إلى افتراض أن الجذر المؤسس لعلاقة تبعية العقل للنقل التي استقرت في الإسلام
إنما يقع خارج حدود ما فرضه الدين. وبالفعل فإن تحليلًا يستقصي الأمر يكشف عن
ضرورة الارتداد بهذا الجذر المؤسس لتلك العلاقة إلى أصوله الغائرة في قلب
الثقافة التي يتسع بناؤها لما يجاوز الإسلام ويتعدَّاه. ولأن فاعلية الثقافة
تكون — ضمن هذا الإطار — من خلال تحديدها لنظام بناء العقل الذي ينشأ داخلها،
فإن ذلك يعني أن ثمة ثقافة قد بلورت عقلًا سرعان ما قام هو نفسه (أي هذا
العقل) بعزل نفسه وترسيخ تبعيته لسلطة تقع خارجه. وبالطبع فإنها كانت سلطة
«النقل» الذي يُصار — في مفارقة لافتة — إلى أنه يستفيد ما يؤسس لحضوره من
العقل ذاته.
٢
فإنه إذا كان العقل — أي عقل — هو بمثابة حدث ينبثق داخل ثقافة ما؛ وعلى
نحو يكون فيه تحليل تلك نظام الثقافة هو بمثابة تحليل، في العمق، لبناء العقل
المتبلور داخلها — وبما يعنيه ذلك من استحالة أي قول عن العقل بمعزل عن
الثقافة التي يتبلور فيها — فإن أي قول عن العقل في الإسلام لا يمكن أن ينبني
بمعزل عن القول في الثقافة التي تبلور بحسب نظامها.
٣ وإذ لا بد أن يصار إلى أن تلك الثقافة التي تبلور العقل في
الإسلام داخلها، لا يمكن أن تكون إلا «الثقافة الإسلامية» بالطبع، فإن
التمييز، هنا، يبدو لازمًا حقًّا، بين مفہوم «الثقافة الإسلامية» من جهة،
وبين مفهوم «الثقافة التي سادت في الإسلام» من جهة أخرى. فإذ ينصرف مفهوم
«الثقافة الإسلامية» إلى ذلك الفضاء الرحب الفسيح الذي توزعت فيه أنساق شتى
يعبر كل واحد منها — انطلاقًا من موقعه التاريخي الاجتماعي الخاص — عن رؤيةٍ
للعالم تختلف عن تلك التي يعبر عنها الآخر؛ ولكن من دون أن يسعى الواحد منها
إلى إقصاء الآخر ونفيه، بل يتحاور ويتفاعل مع غيره، وبكيفيةٍ يحدد فيها
الواحد منها الآخر ويتحدد به في آنٍ معًا، فإن مفهوم «الثقافة التي سادت في
الإسلام» ينصرف إلى ما يكاد أن يكون النقيض الكامل لهذا المعنى؛ وأعني من حيث
يحيل إلى أن واحدًا من هذه الأنساق قد راح يُضيق حدود هذا الفضاء الرحب عبر
الاستيلاء منفردًا على ساحته الواسعة بالكامل؛ وأعني مُقصيًا لغيره، وملقيًا
به إلى خارج حدود الأمة والملة معًا.
٤ وليس من شك في أن عقلًا يتبلور ضمن سياق «التفاعلية» التي يحيل
إليها مفهوم «الثقافة الإسلامية» المنفتح بلا ضفاف؛ وإلى حد اتساعه لكل ما
جرى إنتاجه داخل تلك الثقافة، ولو من غير المسلمين، لا بد أن يختلف جذريًّا
عن عقلٍ يتبلور ضمن حدود التسلطية التي تلازم الإقصائية الكامنة في مفهوم
«الثقافة المهيمنة في الإسلام».
وإذا كان ما جرى الاصطلاح على أنه العقل الإسلامي قد تبلور — لسوء الحظ —
داخل فضاء نسق الهيمنة الإقصائي التسلطي الذي ساد الإسلام وتخفَّى — وهو
الأخطر — تحت قناعه، فإن ذلك يعني استحالة اعتباره «العقل الإسلامي»، بقدر ما
يصح القول بأنه «العقل الذي تحققت له السيادة العليا في الإسلام.» وهنا يلزم
التمييز بين كلا المفهومين؛ وأعني من حيث إنه فيما يحصر مفہوم «العقل
الإسلامي» وصف «الإسلامي» في عقل بعينه تحققت له السيادة في الإسلام بالفعل،
وبحيث يبدو وكأنه، لا مجرد «عقل» من بين عقول أخرى تتشارك معه في إظهار ما
ينطوي عليه الإسلام — الذي تنتسب إليه جميعًا — من ثراء وتنوع، بل يكون هو
وحده «العقل الإسلامي» بألِف لام العهد؛ وذلك ابتداء من كونه العقل الذي صاغه
— أو بالأحرى فرضه — الإسلام كأحد تجلياته ولوازمه،
٥ وبما يعنيه ذلك من احتكاره وحده لوصف «الإسلامي»، وعلى نحو كان
لا بد معه أن يُلقى بغيره (منبوذًا وموصومًا برذيلتي الخروج والهرطقة) خارج
حدود هذا الوصف المحتكَر. والحق أن هذا المفهوم يئول إلى استحالة أن يقدر
الوعي على الإحاطة بمآلات العقل في الإسلام؛ وأعني من حيث يرتد بأصل العقل،
ابتداء من مطابقته مع الإسلام، إلى المثالي والمتعالي المفارق، وليس إلى ما
جرى في تاريخه بالفعل. والحق أن الأمر لا يتعلق أبدًا بعقلٍ قد فرضه الإسلام
وكأنه أحد أسسه وأركانه؛ حيث لا وجود لمثل هذا العقل أبدًا، بقدر ما يتعلق
بعقلٍ اتخذ من الإسلام ساحة لاشتغاله وبناء هيمنته.
وهنا، بالذات، تتبدى الكفاءة التفسيرية لمفهوم «العقل الذي ساد في
الإسلام»، وأعني من حيث يتكشَّف عما يبدو وكأنه تاريخ تحقيق هذا العقل
لهيمنته وسيادته. وبحيث يبدو — تبعًا لهذا المفهوم — أن عقلًا من بين عقول
أخرى، كانت ممكنة مثله، قد ارتفع إلى مقام السيادة العليا في الإسلام، وذلك
بفضل شروط ينبغي التماسها داخل تاريخه، وليس أبدًا خارجه. ولأنه قد راح يرتقي
إلى ذلك المقام، ليس فقط عبر الإقصاء الدءوب للعقول المغايرة عبر وصمها
بالابتداع والضلال، بل وأيضًا عبر ترسيخ المخايلة بتطابقه وتماهيه مع مقدس
الإسلام الذي كان لا بد أن يستحيل، تبعًا لذلك، إلى مجرد ساحة لهيمنته
المنفردة، فإنه قد راح يُضيق الساحة الرحبة للإسلام، وبحيث لم تعد رقعتها
الواسعة تتجاوز الحدود التي يقف عليها ويفرضها هذا العقل الجامد المغلق. وإذن
فإنها المطابقة، لا بين العقل والإسلام (بما هو النموذج والمثال)، بل بين
العقل وتاريخه، هي ما يرسخه مفہوم «العقل الذي ساد في الإسلام». والحق أن
الارتداد بذلك العقل الذي تحققت له السيادة في الإسلام، إلى تاريخه الفعلي
وليس إلى هوية مثالية مفترَضة، أو بالأحرى متخيَّلة؛ ليكشف عن عقلٍ يسعى إلى
إخفاء ذلك التاريخ المثقل بضروبٍ من الصراع والتخفي والمراوغة؛ وذلك ليخايل
بأسباب لهيمنته تسكن خارج ما يطفح به هذا التاريخ من عنف ودنس؛ الأمر الذي
تتحصن معه تلك الهيمنة ضد ما يجعلها موضوعًا للتفكيك والإزاحة. والملاحظ أن
تاريخ هذا العقل يكشف، بجلاء، عن أنه لم يحقق الهيمنة لأنه كان وحده
«الإسلامي»، بل إنه قد أصبح وحده الموصوف بأنه «الإسلامي» لأنه كان قد حقق —
بالأحرى — هيمنته المطلقة قبلًا. ومن هنا إنه لو كانت المصادفة قد حققت
الهيمنة لعقل آخر غيره، لكان هذا العقل (الآخر) — وعلى فرض ربطه لهيمنته بطرد
ما سواه — قد احتكر لنفسه وصف «الإسلامي»، وألصق بكل عقل سواه — ومن بينها
بالطبع ذلك (العقل المهيمن) الذي لا يكف عن الادعاء بأنه هو «الإسلامي» وحده
— وصمة «العقل الهرطقي».
٦ وإذ يدفع ذلك إلى تصور أنه كان ممكنًا أن ينبني عقل آخر في
الإسلام، على نحو مغاير بالكلية لنظام ذلك العقل الذي تحققت له السيادة داخله
بالفعل، فإن لذلك الإمكان أهميته القصوى، وخصوصًا الوعي بما سوف يجليه
التحليل، لاحقًا، من أن ما ساد في الإسلام (سواء كان نسقًا ثقافيًّا أو عقلًا
مقارنًا له) قد تبلور مسكونًا — وللمفارقة — بروح ما جاء الإسلام يسعى لرفعه،
بأكثر مما كان تجليًا لجوهر الإسلام نفسه. ومن هنا إن تحقيق العقل الذي ساد
في الإسلام لهيمنته إنما يرتبط بتجاوبه، في العمق، لا مع الإسلام، بل مع نظام
الثقافة التقليدي الذي انسرب من عالم البداوة السابق عليه؛ وهو العالم الذي
وصمه الإسلام، وللمفارقة، بالجاهلية. وهكذا تترسخ استحالة أي قول عن العقل في
الإسلام بمعزل عن المهاد الأنثروبولوجي الأسبق الذي يجد فيه هذا العقل أصوله
من جهة، وبعيدًا عن التاريخ الصراعي الذي حقق فيه هيمنته داخل الإسلام، من
جهة أخرى.
ومن هنا إن نقطة البدء في اكتناه نظام العقل الذي ساد في الإسلام، تنطلق
من الوعي بما سبق الإلماح إليه من أنه يحمل ملامح عالم ما قبل الإسلام.
والغريب حقًّا أن يكون العقل نفسه قد استحال، وابتداءً من مجرد تعريفه في
اللغة، إلى ساحة للاصطراع بين الإسلام وبين العالم السابق عليه.
٧ وهنا يشار إلى ما سرَّبته اللغة، عبر سلطة التسمية (التي هي غير
بريئة في معظم الأحايين)، إلى العقل من ملامح العالم السابق على الإسلام،
والتي يبدو أنها لم تفارق طبيعة بنائه حتى الآن. فإذ العقل، في اللغة، «مأخوذ
من عقال البعير (لأنه) يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل»؛
٨ فإن ذلك يكشف عن مركزية الدور الذي لعبته البداوة في تحديد العقل
منذ البدء؛ وأعني من حيث جعلت البعير
٩ — الذي هو مركز محيطها وأساس وجودها كله — هو أساس التحديد
اللغوي للعقل وأصله. ولسوء الحظ فإن الأمر لم يقف عند مجرد تحديد البداوة
للعقل «لغويًّا»، بل ويتجاوز إلى الدور الذي لعبته في تحديده «بنيويًّا»
أيضًا؛ وبما يعنيه ذلك من أن بنية العقل ونظامه الكامن هي انعكاس، في الجوهر،
لنظام عالم البداوة. وهنا فإنه إذا كان التحديد اللغوي للعقل قد جعل منه
«قيدًا» ابتداءً من اشتقاقه من «عقال البعير»، فإنه قد تحدد بنيويًّا — وقبل
ذلك وظيفيًّا — كقيدٍ يكبل حامله بسلطة الآباء الأوائل والأسلاف الغابرين.
ورغم ما يبدو من انسراب هذا النظام البنيوي للعقل إلى العقل المهيمن في
الإسلام، فإن المفارقة تنبثق زاعقة، من حقيقة أن المجال التداولي للفظة العقل
في القرآن؛ الذي هو نص الإسلام التأسيسي الأول، يكاد ينطوي على ما يناقض
الدلالة الظاهرة لذات اللفظة في اللغة، والتي تطفح بما يربطها بعالم البداوة.
فإنه إذا كانت دلالة اللفظة الظاهرة في اللغة تنطوي على ما يدنيها من معنى
«القيد أو سلطة الضبط المفروضة من الخارج.» وأعني من حيث إن عقال البعير
المأخوذة منه اللفظة، هو قيد يتم ربطه من الخارج، وليس قوة تحديد من الداخل،
فإن تداول اللفظة، في القرآن، يحيل إلى تصور العقل، لا بحسبانه «فعل تقييد»،
بل بما هو «فاعلية إدراك»؛
١٠ وعلى النحو الذي يدنيه — بدلالة فعل الإدراك — من أن يكون، في
الجوهر، «فعل تحرير»، وبما يتجاوب مع تصور الدين نفسه كفعل تحرير في الأساس.
والحق أنه وحتى حين بدا أن ثمة من راح يشتق تسمية العقل من فعله؛ لأنه إنما
قد «سُمي عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك»،
١١ فإن دلالة الضبط والتقييد لم تفارق هذا الاشتقاق بدوره؛ وبما
يعنيه ذلك من الهيمنة الكاملة لتصور العقل، في اللغة، كقوة «للتقييد السلوكي
والأخلاقي»، في حين يغلب تصوره كفاعلية «إدراك — وبالتالي تحرير — معرفي» في القرآن.
١٢ وبالطبع فإن العقل يكون، ضمن هذا السياق، قوة تحرير من «سلطة
الآباء الغابرين» التي حمل عليها القرآن بلا هوادة لأنها كانت العائق الأهم
أمام الإنصات لوحيه، وهي السلطة التي اقتضت صوغًا للعقل، في عالم البداوة
السابق، كقيد لا يسمح لحامله بغير الخضوع لسطوتها.
١٣ وهكذا يكون الإلحاح على التقيُّد بسلطة الأسلاف، في مقابل السعي
إلى نقضها والتحرر من سطوتها هو جوهر التقابل بين عالمين وتصورين للعقل،
١٤ وبما يؤكده ذلك من أن تاريخ الواحد من العقل أو الواقع، يكاد أن
يكون تاريخًا للآخر.
وبالرغم مما يبدو وكأن القرآن، هكذا، قد راح يسعى إلى ترسيخ دلالة للعقل
على أنقاض دلالةٍ ترسخت على مدى القرون قبلًا، فإنه يبدو — وللمفارقة — أن
تلك الدلالة التي اتجه القصد إلى إزاحتها قد اخترقت الإسلام، ولعبت دورًا
مركزيًّا في صوغ العقل الذي ساد داخله. ولأنه كان لزامًا أن يتبلور هذا العقل
حاملًا — كالوشم الذي لا ينمحي — لثوابت العالم الذي انبثق فيه، فإن وعيًا
بطبائع عالم البداوة يكون هو السبيل إلى اكتناه نظام هذا العالم وسياق تشكله
وانبنائه. وإذ تشير طبائع العمران البدوي، بحسب أهم منظريه على الإطلاق، إلى
أن العرب «بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه
من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى
المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم. فكل معقل أو مستصعب عليهم
فہم تاركوه إلى ما يسهل عنه، ولا يعرضون له. والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار
الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم؛ لأنهم لا يتنسمون إليهم الهضاب، يركبون
الصعاب، ولا يحاولون الخطر. وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية
وضعف الدولة، فهي نهب لهم وطعمة لأكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف
لسهولتها عليهم، إلى أن يصبح أهلها مغلَّبين لهم … فطبيعتهم انتهاب ما في
أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد
ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه.»
١٥
فإن ذلك يكشف عن أن البداوة، كأحد أنماط العمران لم تعرف إلا التعيش على
«الجاهز» الذي ينتجه الغير، ومن دون أن تتجاوز «الفاعلية» التي يمارسها
البدوي، في إطار نمط عمرانه، حدود انتهاب هذا الجاهز واستهلاكه، ليس فقط من
دون حد ينتهي إليه في ذلك، بل ومن دون معاناة أي جهد تقريبًا. فهو إذ يمارس
الانتهاب «من غير مغالبة ولا ركوب خطر؛ (لأن) كل معقل أو مستصعب عليه فهو
تاركه إلى ما يسهل عنه»، فإنه يكون بذلك قد تنزَّل بما يمارسه من الفاعلية
إلى الحدود الدنيا؛ وأعني إلى مجرد نمط من الاستهلاك المجاني الرخيص وغير
المكلِّف. والحق أن فاعلية تقوم على مبدأ «اقتصاد الجهد»، وتنعدم إنتاجيتها
إلى هذا الحد، لا بد أن تكون من قبيل «الفاعلية السلبية»؛ التي تخايل لصاحبها
بفاعلية ما، ولكنها فاعلية لا تؤثر في العالم. ولا تئول إلى تغييره، بل تنتهي
بالأحرى — وللمفارقة — إلى تخريبه.
١٦ وإذ يبدو، هكذا، أن فاعلية «الانتهاب» لا تتجاوز حدود استهلاك ما
أنتجه الغير بفعله، فإنها تكاد تنعكس كليًّا في فاعلية «الكسب» الأشعري؛ بما
هي محض اكتساب، أو حتى استهلاك، لفعل الله،
١٧ وأعني من حيث يبدو الإنسان في الحالين كمجرد عالة على فعل غيره.
ومن هنا إمكان المصير إلى أن فاعلية «البداوة» المختزَلة في انتهاب واستهلاك
نتاج الغير، هي الأصل فيما سيرسخه النسق الأشعري المهيمن في الإسلام من
فاعلية «اكتساب أو استهلاك» فعل الغير؛ على أن يكون مفهومًا أن «الغير» هنا
هو «الله» هذه المرة. لكنه وفيما ترتبط فاعلية «الانتهاب»، في حال البداوة،
بطبائع العمران المحتومة، فإن فاعلية «الاكتساب» سوف تتقنَّع في النسق
الأشعري، وراء ما يدَّعيه من القصد إلى إثبات الفاعلية مطلقة وكلِّية لله وحده.
١٨ وأيَّمَا كان القصد، فإنه يبدو أن النسق لم يفعل — في الحقيقة —
إلا أن راح يخفي «الأنثروبولوجي» وراء قداسة «الديني»؛ ومن هنا ما يبدو من
أنه كان — عبر هذا الإخفاء الذي تواتر حصوله في أكثر من سياق؛ وخصوصًا فيما
يتعلق ببناء نظام كل من «العقل» و«السياسة» بالذات — أداة البداوة في اختراق
الإسلام
وليس من شك في أن عقلًا ينبثق في سياق هذا العمران وثقافته؛ والتي هي،
هنا، الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع الذي يتعدى ويسبق الشكل المكتوب
الذي أخذته بعد ذلك في الإسلام، لا يمكن أن يكون إلا عقل تفكير بالجاهز
والمجاني (الذي لا يكون نتاج جهد أو نَصَب)، أو بعبارة الشاطبي — السابق
ذكرها — «عقل الركون إلى التقليد، لا جواب السؤال.» والحق أنه يبدو جليًّا أن
نمط المعاش البدوي قد عكس نفسه كاملًا على نمط التفكير ونظام العقل المتبلور
داخله. وهكذا فإن نمط العيش على «الجاهز» الذي أنتجه الغير، وهو النمط الذي
طبع العمران البدوي تمامًا، قد اقترن به نمط في التفكير بالجاهز، الذي هو
مأثور الأسلاف وأخبارهم. وضمن سياق هذا العيش على الجاهز والتفكير به، فإنه
إذا كان هذا العمران لم يعرف في المعاش، وبحسب ما لاح آنفًا، إلا فاعلية
«النهب»، فإنه لن يعرف، في التفكير، إلا فاعلية التقليد و«النقل»؛ وذلك من
حيث لا يمكن أن يكون «الجاهز» إلا موضوعًا لمجرد النهب (في المعاش) والتقليد
والنقل (في التفكير) فحسب.
وهكذا يتجاوب «النهب» كشكل في المعاش، مع «النقل والتقليد» كآلية إنتاج
للمعرفة، وأعني من حيث لا يعرف المرء بحسبهما إلا استهلاك وتداول ما ينتجه الغير.
١٩ ومن جهة أخرى فإن «النقل» كنمط للمعرفة يتسق تمامًا — بل لعله
يتوحد بحسب الاشتقاق من نفس الجذر اللغوي — مع «التنقُّل» كشكل في المعاش
البدوي. بل إن ثمة من مضى إلى أن هذا «التنقُّل» ذاته هو خصيصة جوهرية لتفكير
البداوة؛ حيث لوحظ أن «تفكير البدوي يتميز بالتنقل دون أن يهتم بالروابط بين
الأشياء، فإذا وصف بعيرًا مثلًا، فقد يبدأ بذكر أذنه ثم ذيله، ثم يعود إلى
وصف رأسه ورجله وسنامه، وهو يدقق في وصف كل هذه الأشياء تدقيقًا رائعًا،
ولكنه لا يتبع طريقًا منطقيًّا في تسلسل الأجزاء التي يصفها؛ هذا إلى أنك لو
قرأت وصفه للبعير ولم تكن قد رأيته، فإنك قلما تستطيع أن تتصوره من وصفه.»
٢٠ إن ذلك يعني أن الفعل المعرفي المقارن للبداوة قد انبني، من جهة،
على «النقل عن»، وعلى «التنقل بين» من جهة أخرى؛ وبما يرتبط بهما من غياب
الوعي بالروابط بين الأشياء.
وغني عن البيان أن الطبيعة النقلية للفعل المعرفي المقارن للبداوة كان لا
بد أن تحدد طبيعة الإنتاج المعرفي الصادر عنها. ومن هنا إن المعارف التي
أنتجتها البداوة لا تجاوز حدود «الأخبار ومعرفة السير والأعصار»؛ حيث «علم
العرب الذي كانوا يفتخرون به (هو) علم لسانهم ونظم الأشعار، وتأليف الخُطب
وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار. قال الهمداني: ليس يوصل إلى أحد خبر من
أخبار العرب والعجم إلا بالعرب؛ وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب
العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار
الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حِمْير ومسيرها
في البلاد، وكذلك من سكن الشام خبَّر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان،
ومن وقع في البحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند والهند وفارس، ومن سكن اليمن
علم أخبار الملوك جميعًا لأنه كان في ظل الملوك السيارة.»
٢١ وهكذا فإن جل ما تواتر عن العرب أنهم «نَقَلة» أخبار، وأنه لا
شيء يجري تداوله في إطار عمرانهم إلا «علم الأخبار ومعرفة السير والأعصار.»
ولأن تداولهم هذا النمط من «المعرفة الإخبارية» كان من قبيل التداول الشفاهي
— حيث لم توفر طبائع هذا العمران المترحِّل الشروط اللازمة لظهور الكتابة
التي ترتبط بالعمران المستقر — فإنه كان لا بد أن يجعل من «العرب أصحاب حفظ
ورواية»، بل وحتى «أحفظ الناس بالجملة.»
٢٢ وضمن سياق ما جرى التأكيد عليه من الارتباط بين المعرفي والوجودي
أو المعاشي، فإنه يبدو وكأن «الحفظ» قد تبلور بما هو نمط معاش، وأعني من حيث
إنه كان أداتهم التي «ضبطوا بها أنسابهم وأسماء فرسانهم الذين نزلوا في
ميادين حروبهم، وأنهم من أي قبيلة وإلى أي أب ينتهون من الآباء الأولين
وأسلافهم السابقين.»
٢٣ فلم تكن تلك المعرفة، بحسب ابن خلدون، مقصودة لذاتها، بل لِما
تؤدي إليه «من النعرة والقَوَد وحمل الدِّيَات وسائر الأحوال»
٢٤ التي يستحيل دونها العيش في البوادي والقفار. ولعل ذلك يعني أن
ما تبلور في هذا المهاد الأنثروبولوجي البدئي من «العقل النقلي الإخباري»،
الذي تحدد مجال اشتغاله بمأثور الأسلاف، وأخبار الغير، لم يكن مجرد ضرورة
معرفية فقط، بقدر ما كان ضرورة وجودية ومعاشية في الأساس.
ولعل انسراب هذا العقل إلى الإسلام لا يرتبط فحسب بما صار إليه عمر بن
الخطاب من أن «الأعراب هم أصل العرب ومادة الإسلام.»
٢٥ وبحيث يبدو تأثير الأعراب حاضرًا بقوة في «العرب» بما هم أصلهم،
وفي «الإسلام» بما هم مادته، بل ويتعلق أيضًا بما يبدو من أن العرب، حين
خرجوا من باديتهم ليستقروا في مواطن الحضارة الجديدة التي فتحها الإسلام، قد
أخذوا معهم نظام عمرانهم،
٢٦ ومعه — لا محالة — طابعه الأثير؛ وأعني به استهلاك الجاهز
مجلوبًا من الغير، من دون معاناة جهد أو نَصَب،
٢٧ «ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع
بالجملة حتى تُجلب من قُطر آخر.»
٢٨ تكشف عبارة ابن خلدون عن حقيقة أن نظام وطبائع العمران البدوي قد
تعدَّت «أوطان العرب» إلى «ما ملكوه في الإسلام» كذلك؛ وبما يعنيه ذلك من
استمرار نفس نمط المعاش، فإنه، وعبر التوسع بدلالة «الصنائع» عنده لتشمل
«المعارف»، يمكن المصير إلى أن نمط التفكير المقارن لذلك النمط المعاشي قد
استمر أيضًا، وأعني بما هو تفكير نقلي في الجوهر. ومن هنا ما لاحظه ابن
خلدون، نفسه، من الهيمنة الكاملة لهذا الطابع النقلي، في إنتاج المعرفة، على
ما أنتجه العرب من معارف في «أول الملة» التي «لم يكن فيها علم ولا صناعة
لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة، التي هي أوامر الله
ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة
بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم
والتأليف والتدوين، ولا دُفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على
ذلك زمن الصحابة والتابعين، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله «القراء»،
أي الذين يقرءون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة
بما كانوا عربًا.»
٢٩ وحين بدا أن المعارف قد انشعبت وتضخمت على نحوٍ راح يعجز معه
النقل «الشفاهي» عن استيعابها، وبحيث اقتضى الأمر تأسيسًا للعلم وتدوينًا له،
فإن «النقلية» الطابعة لعقل البداوة قد حالت بين العرب وبين الإسهام الفاعل
في تلك الحركة التأسيسية «فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب وعن سوقها.»
٣٠ ورغم ما بدا من أن ابن خلدون قد راح يلتمس تفسيرًا لذلك في
«السياسة»؛ حيث العرب، على قوله، قد «شغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية، وما
دُفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم.» فإنه سرعان ما تدارك نفسه،
مرتدًّا بالأمر إلى «ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع.»
٣١ وبما يعنيه ذلك من أن الأنفة المنسربة من عالم البداوة، من
انتحال الصنائع والقيام بها، والاكتفاء — بدلًا من ذلك — بمجرد الاستهلاك، من
غير جهد، للجاهز المجلوب من الغير منها، كانت هي الأصل في «ابتعاد العرب عن
العلوم وعن سوقها»، وليس مجرد القيام بأعباء المُلك والسياسة.
وإذ يبدو، هكذا، أن نمط المعاش البدوي قد عكس نفسه على بناء العقل، في
شكل «تفكير بالجاهز»، فإنه يلوح، بالمثل، أن نظام انبناء القبيلة (وهي الوحدة
السوسيوسياسية في العمران البدوي) قد راح، بدوره، ينعكس كاملًا في نظام تبنين
العقل. وهنا فإنه إذا كان مفهوم «الأصل الأول» يحتل موقعًا مركزيًّا في بناء
القبيلة؛ وأعني ابتداءً من تحلُّقها حول «أب» تنتهي إليه من الآباء الأولين،
هو أصل وجودها ومركزه (ومن هنا ما يحتله مفہوم الأصل في النسب من هيمنة، لا
تقبل الزحزحة، في الذاكرة العربية)، فإن ذلك يتجاوب، على نحو كامل، مع تصور
العقل «لا ينبني على غير أصل على الإطلاق»، وبما يعنيه ذلك من أن مركزية
«الأصل» في بناء القبيلة، تتجاوب مع — أو حتى تئول إلى — مركزيته في بناء
العقل. وهنا فإنه إذا كان قد تم تديين نمط المعاش البدوي القائم على انتهاب
الجاهز من الغير؛ وأعني من حيث اعتبار الغصب من قبيل الرزق، فإنه سوف يتم
بالمثل إضفاء قداسة الدين على «الأصل في النسب». ويشار هنا إلى «أن الرسول
الكريم الذي نادى في خطبة الوداع أن مآثر الجاهلية موضوعة، فلتذهب نخوة
الجاهلية وفخرها بالآباء، كان نفسه حريصًا على حفظ الأنساب؛ ولذلك قال: «أنا
النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.» وكان يفخر بقومه فيقول: «نحن بنو النضر
بن كنانة.» ثم يذكر بأن الله جعل العرب بيوتًا «فجعلني في خيرهم بيتًا.» بل
كان يخشى أن يلوث نسبه. فقد استأذنه حسان في هجاء المشركين، فقال له: كيف
بنسبي؟ قال حسان: «لأسُلنَّك منهم كما يُسَلُّ الشعر من العجين.» وكان الرسول
كثيرًا ما يذكر أفخاذ الأنصار ويفاضل بينهم.»
٣٢ ورغم ما يبدو من أن الأمر — بحسب النص — يتجاوز مجرد ذكر النسب
إلى حفظه والفخر به، فإن ما ينسبه المصدر ذاته إلى الرسول من القول «ليس رجل
ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس له فيهم نسب
فليتبوأ مقعده من النار»؛ سوف يئول، بدلالة اعتبار الكفر بالأب بمثابة كفر
بالله، إلى أن الإقرار بالأصل في النسب يوازي الإقرار بالله في المعتقد؛ وبما
يعنيه ذلك من أن إنكار الأصل هو، في حقيقته، إنكار للدين، يئول بصاحبه إلى
الخسران المبين.»
٣٣ وهكذا راح «الأنثروبولوجي» يواصل — عبر هذا الانتقال بمركزية
الأصل من «النسب» إلى «المعتقد» — دورة تخفيه وراء «الديني»، وعلى لسان
النبي، صاحب السلطة العليا في الإسلام هذه المرة. وبالطبع فإن هذا التخفي قد
أتاح لمفهوم الأصل أن يتسلل من بناء القبيلة إلى بناء العقل في الإسلام،
وبكيفية راحت معها «الأبوية»، بما هي تمرْكزٌ حول الأب/الأصل؛ كسلطة أولى لا
سبيل للانفلات من سطوتها أبدًا، تتحول من بناء مجتمعي إلى بناء معرفي عقلي،
لم يزل هو الحاكم للآن، رغم غياب القاعدة المادية المجتمعية المؤسسة والحاملة
له.
وهكذا فإنه وحتى فيما يتعلق بالعلوم التي أنتجها الحضر جاهزة ليفيد منها
العرب الذين انشغلوا عنها بالملك والسياسة، أو منعتهم عنها أنفة البداوة، فإن
ما تحققت له الغلبة والسيادة من بين هذه العلوم، داخل ما عُرف بالثقافة
الإسلامية، لم يكن إلا ما يتجاوب منها مع نظام العقل الذي انبنى بحسب بناء
القبيلة المتمركز حول سلطة الأب. وأعني بالطبع أن «النموذج المعرفي» الذي غلب
على بناء تلك العلوم، وهو نموذج التمركز حول سلطة «نص أو أصل أول» هو أساس كل معرفة،
٣٤ لا يعدو أن يكون امتدادًا، في العمق، لتمحور بناء القبيلة، حول
سلطة «أب أول» هو أصل كل وجودها المادي والمعنوي. وبالطبع فإنه كان لا بد من
طرد وإقصاء كل ما يمثل تحديًا لنظام ذلك النموذج الغالب، لا إلى خارج مجال
الثقافة فقط، بل وإلى خارج إطار الأمة والملة أيضًا.
والملاحظ فيما يتعلق بالتحول من البداوة إلى الإسلام، أنه كان تحولًا من
مضمونٍ يشتغل عليه العقل إلى مضمون آخر فقط، وأما آليات ونظام اشتغال هذا
العقل فإنها قد ظلت هي نفسها من دون تغيير؛ وأعني أنه قد ظل يشتغل بآلية نقل
الجاهز والتفكير به، وظل نظامه يعكس تقيُّده بسلطة متقدمة ومسلَّم بها تقوم
خارجه. وفقط مع تحوير طفيف جرى التحول بمقتضاه من «الجاهز» الخاص بسلف غابرين
لم يكونوا صالحين، إلى جاهز آخر بديل يخص سلفًا قريبين صالحين، كما جرى
الانتقال من سلطة «العرف» إلى سلطة «النص».
٣٥ وهكذا يكون العقل البدوي قد أحال النص/الوحي إلى سلطة مقيدة
للعقل في الإسلام؛ وأعني من حيث جرى تصور هذا «العقل غير مستقل البتة، ولا
ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلَّم على الإطلاق.»
٣٦ وذلك بمثل ما كان، العقل البدوي نفسه، مقيدًا بسلطة السلف/العرف؛
الذي لا يفارق، بدوره، موقع الأصل المتقدم.
٣٧ والغريب حقًّا أن تكون تلك الإحالة قد تأدت إلى الانحراف
بالنص/الوحي عن الموقع الذي أراده لنفسه كنقطة ابتداء لضروب من التفكير
الواعي الحر، وليس أبدًا كسلطة تقييد، لا بد أنها سوف تئول إلى تقييد، بل
وحتى تبديد، النص/الوحي نفسه، وذلك حين تُقيد العقل الذي هو الأصل فيما يتمتع
به هذا النص/الوحي من خصوبة وحياة، وذلك بما يسمح له من التفتح عن ثراء ما
يحويه ويضمره من ممكنات كامنة. وإذ يعني ذلك أن النص أو الوحي لم يضع نفسه
كسلطة أو كمعطى أول مقيِّد للعقل،
٣٨ بقدر ما إنه قد جرى فرض ذلك الوضع عليه من الثقافة (بالمعنى
الأنثروبولوجي) المهيمنة خارجه، فإن ذلك يئول إلى أن كسر سطوة عقل البداوة،
هو بمثابة تحرير للنص (أو الوحي) من وضع يحول دون أن تكون له حياته الحقة،
والتي لا يمكن أن تكون إلا، وتلك هي المفارقة، بأن يكون نقطة انطلاق لضروب من
التفكير الإبداعي الخلاق؛ وليس بما هو سلطة تعوق هذا النوع من التفكير بحسب
التصور السائد.
وإذ يبدو، هكذا، أن «العقل الأنثروبولوجي» قد راح عبر ما جرى من
الإبدالات، على صعيد المضمون (انتقالًا من «مأثور» الأسلاف إلى «نص» الوحي)
وعلى صعيد النظام (تحولًا من سلطة «الأب» في القبيلة إلى سلطة «الأصل» في
التفكير والثقافة)، يحيل نفسه من خلال آليات التخفي والمراوغة — إلى ما يبدو
أنه «العقل الديني»؛ ليكتسب عبر هذا التخفي وراء المتسامي الديني ما له من
القداسة والحصانة التي وراءها من أي نقد أو مساءلة. وغني عن البيان أنه قد
راح بذلك يحتل موقع السيادة العليا في الإسلام، وبكيفية راح معها يعيد إنتاج
نفسه من دون انقطاع حتى الآن؛ وأعني حتى مع غياب قاعدة البداوة المادية
الحاملة له في الواقع. والحق أن الأمر لم يقف عند مجرد إعادة إنتاج هذا العقل
لذاته فحسب، بل وتجاوز إلى إنجاز عملية تأسيسه النظري والمفهومي داخل نصوص
الآباء الكبار من بناة الثقافة في الإسلام؛ وأعني عند كل من الشافعي والأشعري
بالذات اللذين استقرت عبرهما تبعية العقل الكاملة للنقل.