الفصل الخامس
التعالي كأحد آليات الأدلجة في الإسلام
الشافعي والأشعري نموذجين
إذا كان مفهوم الأيديولوجيا «هو مفہوم اجتماعي تاريخي؛ وبالتالي يحمل في
ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة.»
١ فإن الغريب حقًّا أن يكون التعالي — الذي هو نزوع إلى الارتقاء
والمفارقة لكل ما هو اجتماعي وتاريخي — هو أحد الآليات الرئيسة في إنتاج
«الأدلجة» في الإسلام. وينشأ ذلك عن حقيقة أنه إذا كان التعالي بمنظومة ما
يستهدف تثبيت هيمنتها على نحوٍ مطلق، مع إقصاء وطرد كافة المنظومات المخالفة
والمنافسة لها من مجال التداول العام، فإن ذلك بعينه هو ما تقصد إليه كل
أيديولوجيا؛ وأعني أن تضع نفسها كحضور مطلق لا يقبل التجاوز، وعلى النحو الذي
لا تكف معه عن اعتبار نفسها نهاية التاريخ وتطوره الأخير. ولقد كان التعالي
هو الآلية التي اشتغلت بها بعض المنظومات المعرفية في الإسلام؛ وأعني من خلال
الارتفاع بنفسها إلى مقام التطابق مع المطلق من جهة، وإخفاء محدادتها
التاريخية والاجتماعية من جهة أخرى.
فقد راحت هذه المنظومات تقدم نفسها على أنها لا تفعل إلا أن تردَّ
الحوادث الجارية في العالم إلى أصولها المتعالية الأولى ذات المصدر الإلهي؛
وهو ما كان لا بد أن ينعكس على طبيعة المعرفة الناتجة عنه؛ وأعني تعاليًا بها
إلى حدود فوق-بشرية. وهنا يلزم التنويه بأن المُشكل لا يأتي من أن مصدر هذه
الأصول يكون إلهيًّا، بل في التعاطي معها معزولة عن مجمل الشرط الإنساني الذي
يدخل في عمليات تكوينها وإنتاجها للدلالة والمعنى. وإذن فالأمر فيما يخص
الأصول لا يختلف، في جوهره، عن المشكل بخصوص القرآن (وهو أصل الأصول) الذي لا
يأتي أبدًا من إلهية مصدره، بل مما جرى من عزله — عبر التعالي به — عن مجمل
الشرط الإنساني الداخل في تركيبه؛ وبما يعنيه ذلك من أن التعالي بالقرآن قد
انعكس على طبيعة الأصول المنبثقة عنه، والمعرفة القائمة عليها بالتالي. ومن
هنا ما يلحظه المرء من النزوع المتزايد إلى التعالي بالمعرفة — التي تتصل
علومها بالقرآن مباشرة — وإلى حد ما جرى من إحاطتها، ومعها شخوص أصحابها
ومنتجيها، بأسيجة التقديس والتبجيل، في مقابل ما التصق بما يخرج عنها من
وصمات التدنيس والتحقير. ولعل هذا السياق بالذات، هو ما يمكن للمرء داخله أن
يستوعب ما جرى من السعي إلى تأبيد وتثبيت منظومات معرفية (فقهية وعقائدية
بالذات) عبر فك روابطها مع التاريخ الذي يحددها واقعيًّا ومعرفيًّا؛ فتكتسب
سمات المعرفة المفارقة المطلقة التي لا تتحدد بوعي منتجيها ونظام واقعهم؛ بل
بتعيينها وتحقيقها — وليس حتى تمثيلها — للأصول المفارقة ذات المصدر
الإلهي.
فقد عرفت الثقافة الإسلامية — كغيرها من الثقافات — ظاهرة إضفاء سمات
الإطلاق والقداسة على شخوص وأفكار ومذاهب (في مجالي الفقه والعقيدة بالذات)،
وذلك عبر فك روابطها مع التاريخ الذي تبلورت داخله، وبما يترتب على ذلك من
التعالي بها إلى مقام المقدس الذي يجعل الاختلاف معها، بمثابة ضربٍ من
الانحراف عن الوحي أو الدين ذاته. والملاحظ أن هذا الإضفاء للقداسة — أو ما
يمكن أن يسمى تأسيس التقديس
٢ — قد راح يتحقق عبر تقديم تلك المذاهب لنفسها بوصفها التحققات،
أو التعينات، المطابقة لنص الوحي من جهة، وعبر ما جرى — من جهة أخرى — من
التعالي بأشخاص مؤسسي تلك المذاهب إلى مقامٍ راحوا فيه يتحولون إلى موضوعٍ
لاصطفاءٍ إلهي — نبوي. وفي الحالين، فإن إسكات صوت التاريخ كان هو الإطار
الذي يسمح لهذه المذاهب بالتطابق مع الأصل الإلهي، والتعالي إلى أفقه المقدس.
٣ وبالطبع فإنه يبقى أن هذا التعالي كان — وللغرابة — هو أداة هذه
المنظومات المذهبية في وضع نفسها كأيديولوجيات غير قابلة للتخطي
والتجاوز.
ولقد كان الحظ الأوفى من التعالي المعرفي في ثقافة الإسلام — وبما صاحبه
القداسة المضافة إلى المذاهب والشخوص — من نصيب كلٍّ من الشافعية (في الفقه)
والأشعرية (في العقيدة)؛ وأعني من حيث إصرار كلا المذهبين على ربط نفسيهما
بنص الوحي، وإلى حد المخايلة بكونهما — دون غيرهما — التحقق المطابق لهذا
النص، بل إن ما أضيف إلى شخصي مؤسسيهما — في كتب المناقب — من الاختصاص
باصطفاء إلهي-نبوي؛ قد اقترب بهما من المقام الذي كادا فيه أن يكونا متلقيين
لوحيٍ من السماء. وغني عن البيان أن اتساع دلالة لفظة الوحي
٤ هو ما سمح بتواتر الروايات التي توهم بتلقي البعض من مؤسسي
المذاهب الكبرى (من غير الأنبياء) للوحي. وإذ الوحي — في قول الرازي — «هو
الإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم في
ذبح ولده.»
٥إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فإن الرؤى
المنامية سوف تكون هي الأداة التي يتحقق من خلالها الوحي لكل الآباء المؤسسين
الكبار، من غير الأنبياء، ومع ملاحظة أن النبي (وهو صاحب التأسيس الأول) يكون
هو — وليس المَلَك — واسطة الاتصال مع هؤلاء الآباء الكبار. ومن ذلك ما تورده
الرواية، بخصوص الشافعي، من أنه قال: «رأيت النبي — عليه السلام — في النوم،
فقال لي: يا غلام ممن أنت؟ فقلت: من رهطك يا رسول الله. فقال: ادنُ مني،
فدنوت منه، فأخذ من ريقه، ففتحت فمي، فأمرَّ من ريقه على لساني وفمي وشفتي،
وقال: امض بارك الله فيك.»
٦ وغني عن البيان أنه لا يمكن تأويل ما أخذه النبي من ريقه، ووضعه
على لسان الشافعي وفمه، إلا أن يكون العلم؛ وبما يعنيه من أن النبي هو الأصل
في كل ما يقول به الشافعي من العلم. بل إن البعض سوف يتعالى بهذا العلم إلى
حد اعتبار أن الله نفسه هو مصدره وأصله؛ حيث «قال الربيع: رأيت في المنام قبل
موت الشافعي — رضي الله عنه — بأيام، أن آدم — عليه السلام — مات، ويريدون أن
يخرجوا بجنازته. فلما أصبحت سألت أهل العلم عنه، فقال: يموت أعلم أهل الأرض؛
لأن الله قال:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فما كان إلا يسيرًا
حتى مات الشافعي رضي الله عنه.»
٧ وهكذا لا تكتفي الرواية ببناء سلطة الشافعي كأعلم أهل الأرض
جميعًا، بل وتلمح إلى أن الله هو أصل هذا العلم ومصدره؛ وإلى حد ما سيجري من
التعالي بكتابه إلى المقام الذي يتماثل فيه مع المصحف وكتب الأخبار أو الحديث
النبوي ذاتهما.
٨ وإذ تصبح مصادر السيادة العليا في الإسلام (الله والنبي) هما
مصدر علم الشافعي — والحال كذلك — فإن ذلك كان لا بد أن يرتفع به إلى مقام
العلم المتعالي الذي يفارق علم الآخرين.
٩ وبالطبع فإنه لن يؤثر في ذلك ما تتواتر به الرواية من أن الشافعي
نفسه، أو غيره من هؤلاء الآباء المؤسسين، كان ينظر إلى عمله كاجتهادٍ يقبل
الخطأ والإصابة؛ لأن الأمر يتعلق بالكيفية التي جرى بها التعامل الفعلي مع
إنجازه داخل الثقافة؛ والتي راحت ترسخ الاعتقاد في مفارقته وتعاليه.
١٠ ولقد راح ذلك يتحقق عبر ما يقوم به الآخرون من التعالي من الخارج
بالشخص؛ وذلك من خلال ما حشدوه من فيض الروايات والاستدلالات التي تجعل منه
موضوعًا مباشرًا للاصطفاء والتمييز من جانب مراكز السيادة العليا في الإسلام
(الله والنبي)، ثم عبر ما يقوم به — هو نفسه — من التعالي بالأصول التي
يشيِّد عليها بناءه (الفقهي) إلى حيث تكتسي رداء المفارقة؛ وبما يعنيه ذلك من
تشغيلها بمعزل عن الشرط الإنساني الذي يدخل في بنائها وتركيب معناها. وبالطبع
فإن ذلك كله هو ما سيسمح بإنتاج المطابقة — التي تستقر في وعي الجمهور حتى
اليوم — بين الاجتهاد الفقهي للرجل وبين القرآن ذاته.
١١ ولعله يلزم التنويه بأن هذا التطور يعاكس، على نحو كامل، ما
ينكشف عنه مسار التفكير الفقهي السابق على الشافعي، الذي يبين عن ضرب من
الانفتاح الظاهر على العقل والتاريخ (عرفًا وواقعًا)، وعلى النحو الذي راح
يجري معه جعل العمل بما يقرره النص مربوطًا بما يقرره الواقع؛ وذلك على نحو
ما ظهر في مثال تعليق عمر بن الخطاب للعمل بما يقرره القرآن في شأن «المؤلفة
قلوبهم» بعد أن تغير واقع الإسلام، وانتقل — على قوله — من حال «الذلة» إلى
حال «العزة». فالثابت أن عمر قد علق العمل بحكم القرآن الذي تثبته الآية التي
وردت فيهم؛ مستندًا — فيما يبدو — إلى أنه «قد ذهب أهل هذه الآية، وإنما كان
ذلك في دهر النبي
ﷺ، (وذلك على الرغم مما سيؤكد عليه البعض) مثل الحسن
وابن شهاب، من أن الأمر ماضٍ أبدًا؛ لأن الآية محكمة لا نعلم لها ناسخًا من
كتاب ولا سنة.»
١٢ وبالطبع فإن ذلك يعني أن حركة الواقع كانت هي الموجِّه الرئيس
لمسار التفكير الفقهي؛ وبما يتعارض مع ما سوف يحدثه الشافعي من التضييق الذي
دار معه التفكير في الفقه حول مجرد «النص»؛ ولا شيء سواه تقريبًا.
ولسوء الحظ، فإن الطريقة التي أدار بها الشافعي تفكيره في النص قد قامت،
وبالأساس، على عزله الكامل عن مجمل الشرط المحدد، ليس فقط لعمليات فهمه، بل
وسيرورة بنائه أيضًا. ولعل ذلك ما يستفاد من الطريقة التي تعامل بها مع مفهوم
السنة بالذات؛ وذلك بالمقارنة مع طريقة السابقين عليه في التعامل مع هذا
المفهوم بعينه؛ فقد تميزت الحقبة التي تسبق ظهور أصول الشافعي على رأس المائة
الثالثة من الهجرة، بسيادة ضروب من التعاطي المفتوح مع السنة؛ والتي بدا أن
السنة فيها لم تخرج عن كونها مستودعًا لضربٍ من التقليد أو العمل الجاري
المستقر «الذي دشنه الرسول وحافظ عليه الخلفاء الأوائل ومن تبعهم من الحكام،
وأصَّله العلماء.»
١٣.
والحق أن الأمر قد تجاوز مجرد الحفاظ على التقليد المتوارث من النبي إلى
الإضافة لهذا التقليد من أعمال اللاحقين عليه أيضًا.
١٤ وقد بلغ اتساع هذه الإضافة إلى حد أن أصحاب مصنفات جمع الحديث
الأولى كانوا — في ابتداء تدوين السنة — «يضعون الأحاديث المتناسبة في باب
واحد، ثم يضعون جملة من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنف واحد،
ويخلطون الأحاديث (المنسوبة للنبي) بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.»
١٥ وإذ لا يقف الأمر — والحال كذلك — عند مجرد خلط الأحاديث
المنسوبة للنبي بأقوال الصحابة، بل وحتى أقوال التابعين،
١٦ فإن ذلك يعكس تصورًا ينبني على أن «السنة» ليست من الوحي، وإلا
ما كان قد جرى خلطها لا بمجرد أقوال الصحابة، بل وحتى بفتاوى التابعين.
وبالطبع فإن ذلك مما يئول إلى أن أصل الإلزام في السنة — في تلك اللحظة
الباكرة — إنما يرجع إلى قوة سلطة التقليد الغالبة في مجتمع الجزيرة العربية
البدوي أو شبه البدوي، ولا يعود إلى أنها — كالقرآن — من مصدر إلهي
مفارق.
ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن ثمة ما هو منسوب إلى النبي نفسه، مما يضعف
مفہوم الأصل المفارق للسنة؛ فقد تواترت الرواية عن النبي بالنهي عن تدوين
السنة وكتابتها؛ وذلك على سبيل تمييزها عن القرآن، وتأكيدًا على أنها ليست من
الوحي الإلهي الذي اقتصر عليه التدوين. وذلك فضلًا عما هو معلوم بالتواتر من
تضعيفه لإلزامية كل ما يصدر عنه (بحسب ما جرى في واقعة تأبير نخيل المدينة)؛
وذلك من دون أن يضع معيارًا يمكن به التمييز بين الملزم وغير الملزم مما يصدر
عنه؛ وإلى حد ما جرى من رد «الأعلمية» بشئون الدنيا على العموم إلى البشر
«أنتم أعلم بشئون دنياكم.» ويبدو أن الالتباس، بخصوص هذا الأمر، قد طال البعض
من الصحابة، وإلى حد التوجه مباشرة بالسؤال إلى النبي عما إذا كان ما يقرره
بشأن مسألةٍ ما (کنزول المحاربين في موقعٍ ما بإحدى الغزوات) هو من الوحي، أم
أنه من نتاج فكره وتدبيره، فما كان منه إلا أن أجاب بأنه من فكره وتدبيره،
وبما يؤكد على أن كل ما يصدر عنه لا يكون من الوحي. وإذا كان ثمة من التبس
عليه الأمر كهذا الصحابي، فإن هناك من كبار الصحابة من كان على وعي بأن كل ما
يصدر عن النبي ليس من الوحي؛ إذ ليس من شك في أن مثل هذا الوعي هو الذي دفع
صحابيًّا كعمر إلى الاعتراض على إمداد النبي — في مرض موته — بقرطاس ودواة
ليكتب كتابًا لهم، محتجًّا بقوله: «حسبنا كتاب الله»،
١٧ ليؤكد على وعيه بالتمييز بين «كتاب الله» وبين ما يمكن أن يكتبه
النبي من الكتب غيره. ولو أن الرجل يعتقد في أن كل ما يصدر عن النبي هو من
الوحي، لما كان قد جاز له إهماله أبدًا، ومن دون أن يجادل أحد بأن «الوجع
الذي غلب على النبي» هو الأصل في هذا الإهمال؛ لأن الأمر يتعلق بشخصٍ ذي وضع
استثنائي حتى في حال وجعه. والغريب أن يكون الشافعي نفسه قد أورد عن أحد كبار
الصحابة ما يدعم القول بأنهم لم يتصوروا السنة من الوحي؛ بل تصوروها من
«الرأي» الذي يمكن الاختلاف معه. ومن ذلك قوله: «أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم
عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية (إناء للشرب) من ذهب أو
وَرِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا،
فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية!
أُخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه؟!»
١٨ وبالطبع فإن عمل معاوية برأيه في مواجهة ما سماه الشافعي «الخبر
الثقة عن النبي»، إنما يعكس تصوره للسنة؛ لا بما هي من «الوحي»، بل من قبيل
«الرأي» الذي يمكن الاختلاف معه.
وإذ تواتر النهي عن تدوين السنة عن كبار الصحابة أيضًا، فإن ما يلفت
النظر، في هذا النهي، هو تحوطهم الظاهر من أن يؤدي ذلك إلى أن تكون بديلًا
يستغني به الناس عن كتاب الله. فمما يروى أن «عمر بن الخطاب استشار الصحابة
في تدوين الحديث، ثم استخار الله في ذلك شهرًا، ثم عدل عن ذلك، وقال: إني كنت
أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبُّوا
عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا.»
١٩ وحين يقارن المرء بين موقف عمر الحاسم بخصوص وجوب تدوين القرآن،
وبين ما يبدو من اعتباره تدوين السنن والحديث من قبيل الشيء أو «الشائبة»
الذي يمكن أن تشوب كتاب الله، فإنه يستطيع القطع بيقين، بأن الرجل ينظر
إليهما على أنهما من طبيعتين متباينتين، وأن السنة لها مصدرها المغاير لذلك
الذي صدر عنه كتاب الله. ولعل ذلك ما سيقطع به ما تنسبه المصادر إلى الإمام
علي من أنه قال: «أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك
الناس حين سمعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم.»
٢٠ فإنه لا معنى لهذا الذي يقول به الإمام، إلا القطع الصريح بأنه
قد كانت هناك مدونات غير القرآن عند البعض؛ وهي مدونات للسنن والحديث لم
يتردد الإمام في نسبتها إلى «العلماء»، واعتبار أن سماعها هو ترك لكتاب الله.
وهكذا فإنه الرفض الحاسم — من الصحابة — لتدوين السنن والأحاديث؛ مخافة أن
ترتفع بها الكتابة إلى مقام «كتاب الله»؛ وبما يعنيه ذلك من إقرارهم بانفراد
القرآن وحده بمكانة الوحي الصادر عن الله.
وقد استقر أمر التعاطي مع السنة على ذات النحو من المرونة والانفتاح —
الذي يضعها خارج حدود الوحي — مع أصحاب المدارس الفقهية السابقة على الشافعي.
وهنا يمكن الإشارة إلى ما نقله الشافعي عن أبي يوسف؛ بخصوص الأوزاعي (فقيه
الشام الكبير)، من أن قوله: «على هذا كانت أئمة المسلمين فيما سلف» إنما
يعادل قوله: «بهذا مضت السنة»، وذلك بالرغم من أنه قد يكون «كما وصفت من رأي
أهل الحجاز، أو رأي بعض أمراء مشايخ الشام ممن لا يحسن الوضوء، ولا التشهد.»
٢١ وبحسب ما سبق التنويه به، فإن كتاب «الموطأ» لمالك قد اتسع
لأقوال الصحابة وآثار التابعين، إلى جانب الأحاديث المنسوبة للنبي ذاته؛ وبما
انعكس على الطريقة التي استخدم بها مالك مفهوم السنة؛ حيث الثابت أن مالك لم
يقصر استخدام لفظة «السنة» على ما تواتر عن النبي وحده،
٢٢ بل استخدم المفہوم بمعناه الأوسع الذي اتسع معه ليشتمل على «سنة
المسلمين» و«سنة أهل الكتاب»، كما استخدم مفهوم «السنة عندنا» قاصدًا به «عمل
أهل المدينة». ولعل هذا الاتساع في استخدام مالك لمفهوم السنة هو ما يمكن
فهمه مما نقله الشافعي عن أبي يوسف من أن «أهل الحجاز يقضون بالقضاء، فيقال
لهم: عمن هذا؟ فيقولون: بهذا جرت السنة، وعسى أن يكون قضى به عامل السوق، أو
عامل ماء من المياه.»
٢٣ وبالطبع فإن هذا التنزيل بمصدر السنة، إلى حد أن يكون عاملًا في
السوق (أو من لا يحسن الوضوء والتشهد)، إنما يؤكد على أن الاستخدام الأولي
للمفهوم لم يكن ينطوي على الحمولة الدينية التي أثقلت عليه بعد ذلك، بقدر ما
يكشف عن حضوره بمحض دلالته الاجتماعية بالأساس. وهكذا يمكن القول بأن الأمر —
في البدايات المبكرة لظهور المفهوم — قد وقف عند حدود المضمون الاجتماعي
للسنة؛ ومن دون أن يكتسي بالدلالة الدينية الكثيفة — والأهم المتعالية — التي
ستطغى عليه لاحقًا، ومع الشافعي بالذات.
في مواجهة هذا الضرب من التعامل الواقعي العيني مع السنة، ابتدأ الشافعي
مسار التعالي؛ لا بالسنة وحدها، بل وبأصول الفقه على العموم؛ وهو التعالي
الذي أحاط هذه الأصول بسياج من القداسة التي كان لا بد أن تتسرب، على نحو ما،
إلى المنتج الفقهي النهائي الذي أنشأه؛ فإن أصولًا ذات سمات متعالية ومقدسة،
لا بد أن يكون الناتج عنها مسكونًا بنفس هذه السمات. وهكذا فإنه قد تبنى ذات
التصور المتعالي للقرآن، كصفة قديمة قائمة بذات الله،
٢٤ وعلى نفس طريقة الحنابلة التي لا يكون القِدَم فيها للمعنى فقط،
بل للكلمة المنطوقة ذاتها.
٢٥ ولم يقف الشافعي عند حد التعالي بالقرآن على هذا النحو، بل إنه
قد راح يتعالى بالسنة إلى مقام الوحي الإلهي؛ وذلك على عكس ما استقر من
تمييزها عن الوحي. وقد اعتمد الشافعي، في إنجاز هذا التعالي، على قراءته لبعض
نصوص القرآن قراءة تأويلية تقوم على، وبالأساس، على التوجيه الواضح للدلالة؛
وذلك إما بتضييقها أو بتوسيعها على نحو غير منضبط. فبعد أن أورد الشافعي ما
يفيد أن الله قد «قرن الإيمان برسوله مع الإيمان به.» رتب على ذلك أنه «فرض
على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله.» وراح يؤسس هذا الفرض على أن السنة،
بدورها، هي تنزيل من الله؛ استنادًا إلى قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، «فذكر الله
تعالى الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة.» فسمعتُ مَنْ أرضَى من أهل العلم
بالقرآن يقول: «الحكمة (هي) سُنة رسول الله.»
٢٦ وإذ مضى الشافعي إلى تفسير «الحكمة» — المنزَّلة مع الكتاب — على
أنها «السنة»، فإنه لن يكون غريبًا أن يقرأها الإمام مالك على أنها لا تعني
إلا «المعرفة بالدين والفقه فيه» — بدلالتهما الإنسانية — وهو ما يتسق مع
قراءته المفتوحة للسنة. إن ذلك يعني أن تصور مالك المنفتح للسنة قد انعكس على
تأكيده على الأصل الإنساني للحكمة، وذلك فيما تأدى تصور الشافعي المتعالي
للسنة إلى قراءة للحكمة تجعلها من التنزيل الإلهي. وبالطبع فإن ذلك ينطوي على
ما يمكن القول إنه توجيه الشافعي للدلالة القرآنية، على النحو الذي تضيق معه
إلى مجرد الإشارة إلى السنة النبوية وحدها. وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان
الشافعي قد اعتمد في توجيهه لدلالة الحكمة إلى هذا المعنى الضيق على ما لاحظ
من الاقتران بين لفظتي «الكتاب والحكمة»، فإن ثمة من الآيات القرآنية ما أورد
لفظ الحكمة منفردًا — من دون أن يكون مقرونًا بالكتاب — وبكيفية تنصرف معها
دلالته إلى المجال الإنساني.
٢٧
والحق أن الأمر لم يقف عند مجرد تضييق الشافعي للدلالة، فيما يختص بلفظة
الحكمة، حين صرفها إلى مجرد التنزيل الإلهي، متجاهلًا استخدامها في القرآن
بدلالة إنسانية، على نحو يجعل قصر تداولها القرآني على مجرد التنزيل الإلهي
تضييقًا للدلالة يأباه القرآن، بل إنه سوف يتجاوز ذلك إلى توسيع الدلالة،
فيما يخص مفہوم «طاعة النبي»، على النحو الذي — وللمفارقة — يأباه القرآن
أيضًا. فقد راح الشافعي يستدعي كل الآيات التي «أحكم (الله فيها) فرضه بإلزام
خَلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته.»
٢٨ ولكنه لا يتطرق أبدًا إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الطاعة
مطلقة، أو أنها مشروطة بكونه مجرد مبلِّغ — أو حتى مبيِّن — لحكم الوحي، وأن
طاعته — المقرونة بطاعة الله — لا تكون فيما ينشئه بفهمه وتدبيره؛ وإلا ما
كان القرآن قد عاتبه على بعض ما ينشئه بفهمه، وأمره بالرجوع عنه. وكمثال على
ذلك، فإنه يمكن الإشارة إلى ما قرره النبي بخصوص أسرى بدر، مما راجعه فيه
القرآن، بل وخوَّفه عليه بالعذاب العظيم، على النحو الذي أبكاه، بحسب ما تقول
الرواية التي أوردها المفسرون.
فقد أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ،
٢٩ عن «ابن عباس قوله: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله
ﷺ
لأبي بكر وعمر: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم
بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى
الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله
ﷺ: ما ترى يا ابن الخطاب؟
قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِنَّا
فنضرب أعناقهم، فتمكِّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنِّي من فلان —
نسيبًا لعمر — فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله
ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول
الله
ﷺ وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء
تبكي أنت وصاحبك، فإذا وجدت بكاء بكيتُ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال
رسول الله
ﷺ: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض
عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة — شجرة قريبة كانت من نبي الله
ﷺ —
وأنزل الله عز وجل:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ.
٣٠ وبصرف النظر عما أورده الرازي في تفسيره من قول البعض «إن النبي
ﷺ وأبا بكر بكيا، وصرح الرسول
ﷺ أنه بكى لأجل أنه حكم بأخذ
الفداء، وذلك يدل على أنه مذنب.» (وبدليل قوله) «إن العذاب قَرُبَ نزوله، ولو
نزل لما نجا منه غير عمر.» وذلك يدل على الذنب.»
٣١ فإنه يبقى أن النبي قد أخذ بحكمٍ من نفسه في مسألة الأسرى، لم
يقبل به وحي السماء، بل وخوَّفه بالعذاب. وبالطبع فإن ذلك يعني أن طاعة
الرسول محدودة بكونه مبلغًا — أو حتى مبينًا — لحكم السماء، وليست طاعة مطلقة
لا تمييز فيها بين ما يصدر عن تفكيره ورأيه، وبين ما يتلقاه من السماء. وغني
عن البيان أن ما يعتمده الشافعي من توسيع دلالة «طاعة الرسول»، على النحو
الذي تكون معه طاعة مطلقة، إنما يقوم على السكوت عن هذا التمييز الضروري بين
ما يصدر عن رأي النبي، وبين ما يكون فيه مبلِّغًا عن السماء. وإذا كان هذا
السكوت هو ما سمح للشافعي بالتعالي بالسنة إلى مقام الوحي، فإنه يبقى أنه
يقوم على إخفاء العديد من وجوه مراجعة القرآن — وحتى رده — لرأيٍ أو حكم قال
به النبي من نفسه. وبالطبع فإن ذلك يعني أن القرآن نفسه ينطوي على ما يخلخل
تصور الشافعي لطاعة الرسول على أنها طاعة مطلقة، أو أنها في نفس المقام
المفروض لطاعة الله.
ولسوء الحظ، فإن فرض هذه الطاعة المطلقة للنبي لم يقترن بالتدقيق فيما
يُروى عن النبي؛ على النحو الذي يؤدي إلى تخليص ما يُروى عنه مما لا يتفق مع
— أو يكون فيه تزيد على — كتاب الله، بل إن الشافعي قد انفرد بتثبيت خبر
الواحد؛ استنادًا إلى ما أورده من أخبار تدل على تصديق الصحابة لخبر الواحد
عن النبي.
٣٢ وبهذا التثبيت لخبر الواحد، مع فرض الطاعة المطلقة للنبي، فإن
الشافعي قد فتح الباب أمام ما يمكن القول إنه الفقه النصي أو الآثاري؛ الذي
انفجر في صورة الفقه السلفي اللاحق، الذي لا يزال يثقل للآن — باتساعه
وضخامته — على واقع المجتمعات الإسلامية، رغم ما يبدو من تزيُّده على كتاب
الله في كثير من الأحيان. والغريب حقًّا أن الصحابة الكبار أنفسهم (وأبا بكر
وعمر بالذات) قد بلغ بهم التحوُّط، بخصوص ما يُروى عن النبي، إلى حد عدم قبول
خبر الواحد أبدًا، واشتراطهم ضرورة أن يأتي راوي الخبر بشاهدٍ أو بينة لقبول روايته.
٣٣ ولعل ما يثير هنا هو أن الصحابة ما كانوا يَقبلون بخبر الواحد
رغم قربهم الشديد من عهد النبي، في حين أن الشافعي يقبل به رغم بعده عن هذا
العهد. وغني عن البيان أن هذا الفاصل الزمني بين الشافعي وبين الحقبة
النبوية؛ والذي يدنو من القرنين تقريبًا، قد فاض بما هو معروف من الوضع على
النبي، وعلى النحو الذي تضخمت معه مدونة الأخبار المروية عن النبي على نحو
هائل. ولعل المرء حين يقارن بين ما تنسبه المصادر إلى الصحابة من محدودية
الأخبار عن النبي،
٣٤ وبين ما جرى من التضخم اللاحق في حجم هذه الأخبار، لا بد أن يدهش
من إصرار الشافعي على تثبيت حُجية خبر الواحد. ولربما جاز القول بأنه لا سبيل
إلى تفسير هذا الإصرار خارج سعي الشافعي إلى التعالي بالخبر الذي هو الأصل
المؤسس في منظومته الفقهية بأسرها. وبالطبع فإن ذلك سيكون هو الأصل فيما
سيمضي إليه من اعتبار الإجماع هو، بدوره، نوع من الخبر الذي سيتعالى به أيضًا
إلى حيث يصبح من السنة؛ التي هي — تبعًا لما سبق — وحي من السماء؛ فإنه إذا
كان الشافعي قد ميز في الوحي بين «الوحي المتلو» المنزل بوساطة الملَك (وهو
القرآن)، وبين «الوحي غير المتلو» الملقى في روع النبي (وهو السنة)،
٣٥ فإنه قد راح يميِّز، في هذا الوحي غير المتلو — أو السنة — بين
السنة «المحكية» (وهي السنة بالمعنى المعروف)، وبين ما أسماه بالسنة «غير
المحكية» (التي هي الإجماع). فإن «ما اجتمع المسلمون عليه، وحكوا عمن قبلهم
الاجتماع عليه لا يختلفون فيه، وإن لم يقولوا هذا بكتابٍ ولا سنة، فقد يقوم
عندي مقام السنة المجتمع عليها؛ وذلك لأن إجماعهم لا يكون عن رأي؛ لأن الرأي
إذا كان تفرق (أي اختُلِف) فيه.»
٣٦ وإذ يقرر الشافعي — وعلى نحو صريح — أن الإجماع لا يكون على رأي
(لأن الرأي قرين الاختلاف والتفرق)، فإن ذلك يعني — وبمنطق المخالفة — أنه
يكون إجماعًا على خبر، وفقط فإن هذا الخبر لا يُروى حكاية عن النبي.
وهكذا يكون الشافعي قد تعالى بأصوله الكبرى إلى مقام الوحي المنزل،
متبعًا طريقة في التفكير تقوم على الاتساع بالأعلى من هذه الأصول ليستوعب ما
تحته من أصول كان عليها، بالتالي، أن تضيق لتقبل الإدماج ضمن هذا الذي يقع
فوقها؛ وبما يعنيه ذلك من أن الأصل الأعلى عنده — وهو الكتاب أو النص — قد
راح يتسع ليستوعب سائر الأصول المندرجة تحته، فإن ذلك يعني إعلاءه لتلك
الأصول السفلى إلى مقام النص/الكتاب (القرآن). وبالطبع فإنه كان لا بد أن
ينتهي إلى استحالة أي تفكير في الفقه إلا بالنص، وهو أصل الأصول، وبما يترتب
على ذلك من طرد كل ما سواه من فضاء التفكير الفقهي. وهكذا فإنه إذا كان
الشافعي قد اتسع بالوحي (وهو الأعلى) ليتسنى إلحاق السنة به (وهي الأدنى)،
وذلك عبر تضييقه لها، بحيث لا تتسع لما يكشف عن وعي مستقل أو تجربة خاصة
بالنبي، يحضران بمعزل عن تجربة الوحي، ثم اتسع بالسنة-الوحي (وهي الأعلى)
ليتسنى إلحاق الإجماع بها (وهو الأدنى)، وعبر ذات التضييق للإجماع بحيث لا
يتسع لوعي الجماعة وخبرتها الحية، فإنه قد راح، بالمثل، يتسع بالنص — كتابًا
وسنة وإجماعًا — (وهو الأعلى) ليتسنى إلحاق الاجتهاد به (وهو الأدنى)، وعبر
ذات التضييق له بحيث لا يتسع لأيٍّ من ضروب الرأي والاستحسان. وفي كلمة واحدة
فإنه التضييق للإنساني، وإلى حد إهداره، مقابل الاتساع بالمجاوز والنصي
ليبتلع هذا الإنساني في جوفه.
وتبعًا لذلك فإنه لا اعتبار لرأي واستحسان أو مصلحة وواقع، أو حتى تاريخ
متحقق، بل راح الشافعي يقصي ذلك كله خارج السياق تمامًا؛ إفساحًا للفاعلية
المطلقة للنص، ولا شيء سواه. ولهذا فإنه إذا كانت الممارسة الفقهية السابقة
عليه قد اتسعت لكل هذه الضروب (من الفاعلية الإنسانية) في بنائها لأنظمتها
الفقهية، فإن الشافعي قد راح يقطع معها على نحو كامل. فإذ «الرأي تفرُّق،
فإنه ليس لأحد أن يقول بما استحسن (أو رأَى)، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه
لا على مثال (أو أصل) سبق، (ولهذا) فإنما الاستحسان تعسف وتلذذ أو قول بالهوى
… (وإلى حد قوله) من استحسن فقد شرع.»
٣٧ وليس من اعتبار لواقع أو تاريخ، حتى ولو تحققت وقائعه، بل إنه
الإهدار لها، مع تحققها، ما دامت تشي بما يبدو وكأنه الانحراف عن النص. وهنا
يشار بالذات إلى واقعة فتح مكة التي يكاد ينفرد الشافعي برواية أنها فُتحت
صلحًا مهدرًا، «إجماع أهل العلم، ومن له أدني علم بالسير والفتوح — كالبلاذري
وابن تيمية والسرخسي والكرخي والشوكاني وغيرهم على أنها قد فتحت عَنوة لا صلحًا.»
٣٨ والغريب أن إهدار الشافعي لإجماع أهل العلم على رواية الفتح
عَنوة وانفراده برواية الفتح صلحًا لا يتأتى من تحقيقه لروايته تاريخيًّا،
٣٩ بقدر ما يتأتى من استدلاله عليها «فقهيًّا»، وبحيث بدا وكأنه
يجعل «الفقهي» هو — للغرابة — ما يعيد بناء «التاريخي» ويوجهه.
وبالطبع فإن معرفة تخاصم الإنساني والتاريخي، على هذا النحو، وتتعالى
بأصولها إلى فضاء المطلقات، كان لا بد أن يجري الارتفاع بها، هي نفسها، إلى
فضاء المطلق غير القابل للزحزحة؛ وذلك بفضل ما يضربه حولها هذا الإطلاق من
أطواق القداسة التي تحول دون أن تكون موضوعًا لأي نقد أو مساءلة.
والغريب حقًّا أنه لن يكاد يمر قرن بعد الشافعي، إلا وتُستعاد تجربته في
تأسيس التقديس كاملة، ضمن سياق الجناح العقيدي لعلم الأصول؛ وأعني علم «أصول
الدين»، ومن خلال الأشعري، الذي سوف يكرس الحضور الكامل للأصل وهيمنته على
نحو مطلق في الثقافة بأسرها. والحق أن خطاب الأشعري يكاد أن يكون بأسره
تنظيرًا أكثر شمولًا واتساعًا للمسكوت عنه والمضمر الذي يتأسس عليه خطاب
الشافعي كله. ومن هنا إن الخطاب الفقهي الشافعي إنما يجد (ورغم أسبقيته
التاريخية) ما يؤسسه في الخطاب العقيدي الأشعري (الذي وإن كان اللاحق
«تاريخيًّا»، فإن أوليته تتأتى من كونه الخطاب المؤسِّس معرفيًّا). تمامًا
بمثل ما إن الخطاب الأشعري سوف يجد في الخطاب الشافعي أحد تحققاته أو تعيناته
الأسبق تاريخيًّا.
والحق أنه، ومع إمكان صرف النظر عن هذه الأسبقية (تاريخية أو معرفية)
للواحد منهما على الآخر، فإن التجاوب بينهما، سواء على صعيد ما يمارسانه
وينتجانه، أو حتى حين يكونان موضوعين لممارسة، يكاد يبلغ حد التماثل الكامل.
فإذ انطلق الشافعي يبلور خطابه ضمن سياق الممارسة الفقهية التي ابتدأت مع
الصحابة حتى بلغت أصحاب المذاهب السابقة عليه، واتسعت لكل ضروب العقلي
والتاريخي والواقعي، وإلى حد استدماج هذه الضروب التي تتكشف عن الفاعلية
الكاملة للإنساني، ضمن بناء الأدلة الفقهية ذاتها (رأيًا وأعرافًا وتقاليد
وخبرات محلية وغيرها)، ثم راح الشافعي يُحدث انقطاعًا داخل هذه الممارسة،
تحولت بمقتضاه من الاتساع للإنساني، وإلى حد استدماجه ضمن بنائها، إلى
إهداره، والاستغراق فقط في بناء الدليل-النص، كأصل لا سبيل إلا إلى احتذائه
والتفكير به، فإن الأشعري، بدوره، لم يفعل إلا أن راح يمارس هكذا؛ وأعني أنه
أيضًا قد راح يقطع مع ممارسة عقائدية انفتحت خلالها الفرق المتصارعة على ضروب
من التاريخي والواقعي راحت تنعكس على الأبنية العقائدية لهذه الفرق التي
تتكشف مجرد تسمياتها (خوارج ومعتزلة ومرجئة وشيعة) عن الاتساع للتاريخي إلى
حد أن تأخذ منه اسمها ذاته؛ ليتعالى — وهو الذي كان جزءًا من هذه الممارسة
المنفتحة — إلى حد التنكر لهذا الواقعي والتاريخي (وهو ما يتكشف عنه ما جرى
معه من التحول — فيما يتعلق بمجرد تسمية فرقته «الأشعرية» — من التاريخي إلى
الشخصي، بكل ما يهيم حول شخص الأشعري بالذات من أطياف المتعالي ومخايلاته،
وذلك على الضد من «السياسي» الذي يحيل إليه التاريخي الذي ارتبطت به الفرق
الأسبق)، ومستغرقًا في ضرب من التفكير بما نُص عليه، أو رُوي عن، أو بما
أُجمع واتُّفق عليه.
٤٠
وإذ يبدو أن اشتغال آليات الإطلاق والتعالي إلى مقام المقدس قد كان في
مجال العقائد أبرز منه في مجال الفقه، ابتداءً من الاختلاف في العقائد يعكس،
في الجوهر، صراعات السياسة، فإن الاختلاف في الفقه يعكس اختلاف البيئات
الاجتماعية التي تشكلت فيها المذاهب الفقهية المختلفة، فإن تحليلًا مستفيضًا
لتلك الآليات الأبرز في العقائد يكون أكثر منطقية وإلحاحًا. فالحق أنها
السياسة، وليس الدين أبدًا، هي التي تقف وراء تعالي الأشعرية بنفسها إلى مقام
«المقدس»، في مقابل التدني بالآخر/الخصم إلى حضيض «المدنس» على النحو الذي
يستحق معه الطرد والإقصاء خارج حدود الشرعية. ولعل تأكيدًا على أن السياسة،
وليس الدين، هي ما يؤسس لهذا التعالي — الذي راح يتحقق عبر ضروب من التمييز
والاحتكار والمخايلة — يتأتى من حقيقة أن الخطاب الأشعري قد ابتدأ مسيرة
إنتاجه، الذي لم يتوقف، للتعالي بذاته من إهدار المبدأ الأهم في الأصل
الجوهري الذي يدعي أنه ينبني عليه؛ وأعني به أصل الوحي. فإنه إذا كان الوحي
هو أصل كل حياة في الإسلام، فإنه قد جرى تصوره — بحسب هذا الخطاب — خلوًا، هو
نفسه، من أي حياة؛ وأعني من حيث لم يقدر الخطاب على تصوره كينونة حية تمور —
ككل حياة — بضروب من الاختلاف، الذي يدخل في تركيب الوحي من حيث يكون (أي
الاختلاف) هو أداته في فض شفرة ذاته وانكشاف ممكناته، بل تصوره بنية مغلقة لا
مجال فيها لأي آخرية أو اختلاف. وهكذا فإن تعالي الأشعرية بنفسها — وبما ترتب
عليه من ادعائها التماهي مع الوحي، بما هي تحققه المطابق الوحيد — تلزم عنه
تداعيات تتهدد سلامة الوحي ذاته؛ وأعني من حيث ما تكاد تنتهي إليه من اضمحلال
الوحي ومواته. فإنه إذا كانت الفرضية المضمرة التي يقيم عليها هذا المذهب
أساس بنائه هي أن الوحي لا ينطوي في جوفه على ما يبرر أي تنوع أو اختلاف؛ بل
إنهما يمثلان — بالأحرى — تهديدًا لهويته وإهدارًا لها، فإن ذلك يعكس تصورًا
لهوية الوحي على نحو صوري مجرد. وتعني هذه الصورية أن الوحي خلو من الحياة
التي تدفعه إلى التخارج من ذاته ليتحقق في العالم، في صور وأشكال وجود شتى،
لا يمكن أبدًا أن تكون تكرارًا له، بل استيعابًا له، وارتفاعًا به إلى آفاق
أرقى يدرك فيها ما يسكنه من ممكنات كامنة. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كانت علاقة
«الهوية» التي يكون معها مذهبًا ما «هو» الوحي تفترض تصوره — أي الوحي —
كمجرد وحدة مغلقة لا سبيل إلى الاحتفاظ بها إلا عبر تكرارها، فإنه يلزم
التأكيد على أن التكرار يئول إلى تحويل الوحي إلى أيقونة فارغة لا تنطوي على
أي مضمون محدد، وتنطوي على كل شيء في الآن نفسه،
٤١ وبما يعنيه ذلك من حضور الوحي كمحض تجريد خالص. وهكذا تكون
السياسة — وليس الدين — هي الأصل في هذا التعالي الأشعري، وبما جرى توظيفه من
آليات التماهي وادعاء المطابقة.
وإذن فإن هذا الإقصاء للاختلاف — الذي كان لا بد أن يئول إلى تصور الوحي
أصلًا ثابتًا، أو حتى جامدًا — لا يصدر عن مجرد تصور معرفي للاختلاف، هو أدنى
إلى أن يكون إهدارًا للوحدة وتضييعًا للهوية، وليس سبيلًا للكشف عن ثراء
الكينونة وتنوع الممكنات، بل إنه ينطوي على دلالة سياسية لافتة. إذ الحق أن
مقاربة للوحي تئول إلى فهم مغاير للفهم الأشعري المهيمن لن تكون — ضمن هذا
التصور الأشعري للاختلاف — تجليًا لأحد الممكنات المنطوية في باطنه، بل
انحرافًا وابتعادًا — من الخارج — عن وحدة أصلية، لا سبيل إلى استعادتها إلا
عبر إزاحة هذا الفهم/المغاير بما هو من قبيل الانحراف الذي يلزم إبعاده
وطرده. وإذن فإنه الانقسام بين وحدة الأصل وثباته من جهة، وبين ضروب من
الانحراف والافتراق التي لم تتوقف للآن من جهة أخرى. ومن هنا إن صيغة المأثور النبوي)،
٤٢ الذي يوظفه الخطاب لإقصاء خصومه، لا تتحدث عن الاختلاف (بما هو
جزء من البنية الباطنية للوحي)، بل عن الافتراق (بما ينطوي عليه من الصورية
والتحقق في الخارج). وبالرغم من أن الدلالة الظاهرة للافتراق، في المأثور، هي
التفرق؛ بمعنى الانقسام، فإن دلالة «التباعد» — الذي يبدو أكثر صورية وخارجية
— لا تفارق فضاء المأثور؛ لأنه حين يجعل (النجاة) في التمسك بالأصل، فإنما
ليقرن (الهلاك) بالتباعد عنه. وبالطبع فإنه التباعد، لا يكون عن الوحي/الأصل
فقط، بل، وأيضًا، عن «الجماعة» التي كان لا بد أن تتماهى مع هذا الأصل لا
محالة. وإذن فإنه الانقسام والتباعد، صوريان وخارجيان، ينتجهما الخطاب؛ لا
بين «أصل الهدى والاستقامة» وبين «بدعة الهوى والضلالة»، بل وبين «أهل السنة
والجماعة» في مقابل «أهل الأهواء والجهالة». وغني عن البيان، أن الخطاب قد
راح — ضمن هذا الانقسام — يتماهى مع مقدس الأصل/الجماعة، في مقابل الانتقام
من خصومه بطردهم إلى مدنس الهوى والضلالة. ورغم ما يبدو من طابع مجاوز لهذا
الانقسام، فإن تفكيكًا له، ليتكشف عن مضمون اجتماعي وسياسي يتخفى تحت سطح
لغته المثقلة بإيحاءات «الديني» ومراوغاته. إذ الحق أن عبارات ينثرها الخطاب
على سطحه من قبيل: «وما ظهرت البدع والضلالات في الأديان إلا من أبناء
السبايا كما روي في الخبر … (أو أن أحدهم) كان مولى، وقد جرى على منهاج أبناء
السبايا لظهور أكثر البدع منهم»،
٤٣ لتكشف عن أن تمييز الخطاب ضد خصومه إنما يتجاوز «الديني» إلى ما
تحته. والملاحظ أن الأمر يتجاوز ما تجليه هذه العبارات من قران البدعة
بالعجمة، إلى ربطهما بوضاعة المنزلة في التراتبية الاجتماعية، وذلك بحسب ما
يظهر من حديث الخطاب عن أحد خصومه أنه «إنما كان ينظم الخرز في سوق البصرة،
وليس كما يموِّه المعتزلة على الأغمار، ويوهمون أنه كان نظَّامًا للكلام
الموزون والشعر المنثور.»
٤٤ وإذن فإنه صراع التعالي والتدني. وقد اتخذ الخطاب، من كنية أحد
خصومه، ميدانًا له، ليجري عليه ذلك الاصطراع الرمزي بين نمطين من النظم؛
أحدهما متعالٍ يختص به ذوو المكانة والشرف في الأعلى، والآخر محتقر يشتغل به
أولئك المهمشون عرقيًّا واجتماعيًّا في الأدنى.
ولقد جرى إنتاج هذا الانقسام وتثبيته، بكل ما يترتب عليه من ضروب التماهي
والإزاحة والتمييز والحط، في ضرب من الأدبيات، التي شاعت الكتابة فيها حتى
بلغت ذروتها في القرن الخامس الهجري؛ وأعني أدبيات الفِرق والملل والنحل.
ولعل بلوغ هذا النوع من الكتابة — بما يتسم به من نبرة تمييزية وإقصائية
عالية — لذروته في القرن الخامس بالذات، إنما يرتبط بتمام تشكل الخطاب، ثم
سعيه، بالتالي، إلى تأسيس هيمنته وسيادته العليا داخل الثقافة آنذاك. ومن هنا
إمكان النظر إلى هذا النوع من الكتابة، كأحد تجليات إنتاج الهيمنة؛ وذلك من
حيث راحت تستهدف، لا مجرد عرض أو حتى دحض آراء الخصوم، بل تبديعهم وتكفيرهم،
وإلى حد اعتبارهم، لا مجرد مخالفين يمكن أن يتسع لهم فضاء الثقافة، بل
منحرفين — أو حتى مارقين — لا بد من طردهم خارج حدود الأمة والملة معًا.
٤٥
والحق أن هذه الكتابة، التي كان لا بد أن تخضع لتوجيه الأقوى ورقابته، قد
جعلت من مسألة تبدو فرعية كتسميات الفِرق وألقابها مجالًا لتأكيد هيمنة
الأقوى وتأبيدها. فإذ تبلورت تسميات الفرق الأسبق تاريخيًّا (خوارج وشيعة
ومعتزلة ومرجئة … إلخ) ابتداء من الانتساب إلى وقائع وأحداث من طبيعة سياسية
وتاريخية؛ وبما يعنيه ذلك من الانتساب إلى المجال السياسي الذي لا يمكن
المخايلة بقداسته، بل يمكن — على العكس — القطع، إن لم يكن بدنسه ودونيته،
فعلى الأقل بواقعيته وتاريخيته، فإن ما سيجري لاحقًا — وابتداءً من القرن
الرابع الهجري — من نسبة الفِرق إلى رموز وأشخاص (الأشعرية والماتُريدية
مثلا) إنما يقصد إلى إسباغ القداسة على مقالات هذه الفرق؛ وذلك ابتداء من
التعالي بهؤلاء الرموز إلى مقام تنسرب فيه القداسة إليهم عبر التقاطع مع نبي
أو صحابي. وهكذا فإنه، وفيما راح يجري الانحطاط بالفرق المنتسبة إلى المجال
التاريخي والسياسي إلى حضيض المدنس ابتداء من دونية السياسي ودنسه، فإنه راح
يجري التعالي، في المقابل، بالفرق المنتسبة إلى أشخاص ورموز إلى فضاء المقدس؛
وذلك ابتداءً من القداسة تنسرب إلى هؤلاء الأشخاص عبر جعلهم موضوعًا لخطاب
إلهي نبوي، أو من خلال انتسابهم إلى صحابي، وهنا يشار إلى أن انتساب الأشعرية
إلى رؤيا للأشعري أثناء نومه، أتاه فيها الأمر المقدس من النبي
ﷺ:
«صنف وانصر هذه الطريقة التي أمرتك بها، فإنها ديني، وهي الحق الذي جئت به»،
٤٦ إنما يستهدف المخايلة بقداستها، وذلك عبر جعلها نتاج نوع من
الأمر النبوي الذي لا بد أن تنسرب قداسته إلى ما ينتج عنه. والحق أن الأمر قد
راح يتعدى حدود «الأمر النبوي» إلى حد اعتبارها (أي الأشعرية) موضوعًا لخطاب إلهي؛
٤٧ الأمر الذي يتعالى بها إلى تخوم قداسة «الأمر الموحى به من
الله». وإذن فإنه الأمر يعود عبر النبي إلى الله، وعلى نحو يجعل من
الأمر/الرؤيا يتلقاها الأشعري على رأس القرن الرابع تحقيقًا لوعد إلهي سابق.
والحق أن مخايلة الأشعرية بالتماهي مع الوحي لا تتأتى فقط من أن سبيل الأمر
بها كان «الرؤيا الصادقة» التي هي حسب المأثور عن النبي «جزء من ستة وأربعين
جزءًا من النبوة»، بل ومن أن هذه الرؤيا قد تحققت للأشعري — تمامًا كالحال مع
ابتداء النبي بالوحي — عند سن الأربعين تمامًا. وهنا يتكشف الحرص الأشعري على
تعميق مخايلة القداسة المشار إليها، عبر تأكيد التماثل بين الأشعري وبين
النبي، لا كمجرد طريقة ونص، بل وحتى كتجربة وشخص.
وبالطبع فإنه لن يكون غريبًا مع موضعة هذه الهيمنة وتثبيتها داخل الثقافة
أن يمضي أحدهم إلى أنه «لم يكن بحمد الله ومنِّه في الخوارج ولا في الروافض
ولا في الجهمية ولا في القدرية ولا في المجسمة، ولا في سائر أهل الأهواء
الضالة قطُّ إمامٌ في الفقه، ولا إمام في رواية الحديث، ولا إمام في اللغة
والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ، ولا إمام في الوعظ
والتذكير، ولا إمام في التأويل والتفسير. وإنما كان أئمة هذه العلوم على
الخصوص والعموم من أهل السنة والجماعة.»
٤٨ وهكذا تخلو كافة العلوم التي عرفتها الثقافة آنذاك من أحد ينتمي
إلى هؤلاء «المبتدعين» الذين لم يكن لواحد من متقدميهم تصنيف يظهر ويتداول،
وهل كان لهم علم حتى يكون لهم فيه تصنيف؟ بلى، قوم من متأخريهم تكلفوا جَمْع
شُبَهٍ يخادعون بها القوم عن أديانهم، وصنفوا فيها تصانيف أكثرها لا يوجد إلا
بخط المصنف؛ إذ كان الاشتغال بنقلها من قبيل تعطيل الوقت بالمقت.
٤٩ بل إنه وحتى إذا ظهر تصنيف لأحد هؤلاء المبتدعة، فإنه «لا
يتداوله إلا مخذول».
٥٠ مثله؛ وبما يعني تفاهة وضآلة شأن دائرة متلقي الخطاب/الخصم
ومتداوليه أيضًا. وإذ مضى الأشاعرة، على هذا النحو، إلى الانحطاط بهذا
الخطاب/الخصم، وإلى حد تنزيله إلى حضيض البدعة المقترنة بالدنس؛ وذلك
لاعتبارهم الإقرار، ولو بشيء من مفرداته «تدنسًا … ومن كان متدنسًا بشيء منه
لم يَجُز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل معاني النحو، ولا في
تأويل شيء من الأخبار، ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى»؛
٥١ فإنهم كانوا يطردون هذا الخطاب ومتداوليه خارج حدود الثقافة
كليًّا، ومن غير تمييز بين أيٍّ من حقولها المعرفية.
بل إنه وعلى فرض التمييز داخل الثقافة الإسلامية بين (عقليٍّ) كالطب
والحساب والهندسة، وبين (ديني) كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم
التفسير وعلم الباطن،
٥٢ فإن أحدًا لا يجادل في أن السيادة ضمن حدود الثقافة التي سادت في
الإسلام لم تكن أبدًا للعقلي، بقدر ما كانت للديني. ومن هنا إن الغزالي لم
ينس أن يلحق إشارته للعلوم العقلية بالتأكيد على أن الانشغال بها «ليس من غرضنا.»
٥٣ وبالطبع فإن الضمير في «غرضنا» لا يعود إلى الغزالي كمجرد شخص،
بل كحجة أو سلطة عليا داخل الثقافة بأسرها. وإذ السيادة العليا داخل الثقافة
الإسلامية هي — هكذا — للديني دون سواه، فإن الأشعرية كانت — لا محالة — تقصد
إلى ترسيخ هيمنتها داخل الثقافة عبر التأكيد على مركزية وأولية العلم الذي
تسيَّدته داخل دائرة هذا الديني الذي هو بدوره صاحب السيادة العليا داخل
الثقافة بأسرها؛ وأعني به علم الكلام (أو أصول الدين) الذي تتأتى مركزيته من
أنه «هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، فهي جزئية بالإضافة إلى
(علم) الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة؛ إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات.»
٥٤ وأما أولية هذا العلم فإنها ترتبط بحقيقة «أنه ما من علم من
العلوم الجزئية إلا وله مباد (مبادئ) تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم
(الجزئي)، ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر (لا بد أن يكون كليًّا حتمًا).»
٥٥ وغني عن البيان أنها الأولية هنا، لا بالمعنى التاريخي، بل
بالمعنى المعرفي؛ وذلك لأن ثمة من العلوم الجزئية — داخل ثقافة ما — ما يكون
قد انبثق تاريخيًّا قبل انبثاق هذا العلم الكلي، وذلك بالرغم من أنه يجد كل
ما يؤسسه معرفيًّا في هذا العلم اللاحق. وإذ يرتقي ذلك كله بعلم الكلام (أو
أصول الدين) إلى أن يكون صاحب السيادة العليا داخل دائرة الديني الذي يتسيد،
هو نفسه، الثقافة؛ فإن ذلك يعني أن الأشعرية تضع نفسها — ابتداء من تسيدها
داخل هذا العلم — في مركز السيادة العليا داخل الثقافة في الإسلام.
ولقد راح الخطاب الأشعري يحتل فضاء العلم بأسره، محققًا للسيادة داخله،
ابتداء من مجرد «التعريف» الذي صكه الخطاب للعلم؛ والذي ينبني على الاستبطان
المراوغ لآليات التعالي والإقصاء، فإن قراءة للتعريف، الذي صار فيه ابن خلدون
إلى «إنه علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على
المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة»،
٥٦ لتكشف عن لغة منحازة تطفح بنوازع التسلط والهيمنة على نحو طاغٍ.
فإذ هو التسلط والإقصاء يتحقق من خلال وصمة «الابتداع والانحراف» تطال كافة
المغايرين، فإن الهيمنة تتبدى زاعقة في احتكار «العقائد الإيمانية»، التي
يخفى الخطاب وراء ما يدعيه من اختصاصه بالمحاججة عنها، سعيه إلى الاحتياز
الكامل لها؛ إذ العقائد، التي يختص الخطاب بالمحاججة عنها، ليست منظومة
عقائدية، من بين منظومات متباينة، أو حتى متعارضة؛ ولكن من غير أن يعني
تباينها، الذي يرتبط بكون كل واحدة منها مشروطة برؤية مؤطرة لها، أنها — أو
بعضها — تفقد جدارة الإقامة في حقل الإيمان. فالعقائد تتباين، لا على نحو
تعاقبي ضمن التاريخ العام للدين فحسب، بل وأيضًا على نحو تزامني ضمن الزمان
الخاص بدين معيَّن. وفي الحالين فإن التباين يرتبط بحقيقة أن كل نظام عقائدي
يتأطر — كأي نظام ساهمت الفاعلية الإنسانية في إنتاجه — بمضمون هذه الفاعلية
وما يحددها. فالأصل المفارق للعقائد لا يمنع أبدًا أن شروطًا، تتعلق ببناء
كلٍّ من الوعي والواقع الإنسانيين، تلعب دورًا حاكمًا في صوغ هذه العقائد.
وبالطبع فإن التباين، في تصور العقائد وصوغها، لا يكون انحرافًا وتباعدًا عن
هذا الأصل ذي الطابع المفارق، بقدر ما هو التحدد بشروط يكاد التباين أن يمثل
صميم ماهيتها. لكن الخطاب إذ يلح على تصور التباين، لا تحددًا بشروط تقوم
خارج الأصل، بل انحرافًا وتباعدًا عنه، فإنما ليؤسس لضرب من المطابقة بينه
وبين «العقائد الإيمانية»، وعلى نحو يستحيل معه تصور أي نوع من الحضور لعقائد
إيمانية خارج حدوده، حيث لا وجود البتة خارج هذه الحدود إلا للابتداع
والانحراف والضلال. والحق أن مراوغة هذه المطابقة التي ينتجها الخطاب، إنما
تقوم كاملة في مجرد إضافة «الألف واللام» إلى لفظة «إيمانية»، الواردة في
التعريف، وليس تعريتها عنها؛ فهي الإضافة التي تجعل المحاججة، لا عن عقائد
«إيمانية»، بل عن العقائد «الإيمانية». وإذن فإنه المأزق، في الثقافة، وقد
أنتجته مجرد «الألف واللام»؛ وعلى نحو يتكشف عن الدور الحاكم للغة في
العالم.
والحق أن كون المحاججة قد تبلورت من «الصراع في الإسلام وعلى ساحته»،
وأعني من الصراع ينبثق داخله، وفي قلبه، قصد الاحتياز عليه والتماهي معه،
وليس من «الصراع مع الإسلام وضده»؛ وأعني من الصراع يأتيه من خارجه قصد هدمه،
لمما يؤكد على أنها كانت محاججة عن عقائد «إيمانية» في مواجهة أخرى مثلها؛
وبما يعنيه ذلك من أنها تقبل جميعها الاندراج تحت مظلة الإسلام الجامعة، وعلى
نحو لا يكون التنكر فيه لإحداها تنكرًا للإسلام، وليس عن العقائد «الإيمانية»
التي يصبح الخروج عليها خروجًا على الإسلام نفسه. ولعل إدراكًا لحقيقة أن
السياسة، متبدية في «الإمامة» وما تفرع عنها من مسائل القدر، ومرتكب الكبيرة
وغيرها من مسائل ذات حمولة سياسية زاعقة، كانت هي الإطار الذي تبلور العلم
بأسره داخله، لمما يقطع بأن المحاججة فيه قد نشأت من «الصراع في الإسلام وعلى
ساحته». وإذ السياسة — هكذا — هي إطار الانبثاق وحقل التبلور والانبناء، فإن
ذلك يعني أن المحاججة تخفي موضوعها الجوهري، وهو «مواقف السياسة» خلف قناع
«عقائد الإيمان» الشكلي. وبالطبع فإنها إذ تخفي وتقنِّع السياسي الذي يخصها
وراء سمو «الإيماني»، فإنما لتلقي بالسياسي الذي يخص غيرها إلى هاوية «البدعي
والضلالي».
وإذ التعريف ينبني — في شطريه — على آليتي المحاججة والرد، فإنه إذا كانت
آلية «المحاججة» تنطوي على السعي إلى إخفاء السياسي وراء الديني، فإن آلية
«الرد» تتكفل، للمفارقة، بالكشف عن هذا السياسي، الذي يجري السعي إلى إخفائه؛
لأن الخطاب إذ يعيِّن من يرد عليهم بأنهم «المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات
عن مذاهب السلف وأهل السنة»، فإنه كان يؤكد على أن المحاججة ليست عن «عقائد
الإيمان»، بل عن اعتقادات من يسمون أنفسهم «السلف وأهل السنة»؛ وبما يعنيه
ذلك من أن الخطاب ذاته يقطع بكون محاججته قد تبلورت من «الصراع في الإسلام
وعليه». وهو في هذا الصراع لا يكتفي، في محاججته عن عقائده في مواجهة ما
يغايرها، بتجريد هذه العقائد المغايرة من وصف الإيمان، بل ويجري إلصاق وصمة
«الابتداع والانحراف» بالقائلين بها. وإذ يمارس الخطاب على هذا النحو؛ أعني
مستبدلًا «الانحراف» بالمغايرة والاختلاف من جهة، و«الابتداع» بالرأي
والاجتهاد من جهة أخرى، فإن استخدامه لهذه اللغة الموحية دينيًّا، إنما يرتبط
بالسعي إلى إكمال دائرة الإقصاء لكل اجتهاد مغاير، لا من العالم الذي كانوا
يتصارعون عليه، بل وعن حدود الدين الذي كانوا يديرون تصارعهم فوق
ساحته.
وإذن فالأمر لا يتعلق، في العمق، بالمحاججة عن العقائد الإيمانية، أو حتى
عن عقائد إيمانية، بقدر ما يتعلق بالانحياز لمواقف سياسية تتقنَّع، في صراع
الهيمنة والإقصاء، وراء رفعة الديني وقداسته. ومع صرف النظر عما يخفيه الخطاب
ويضمره من التحيزات، وعما يشتغل به من الأقنعة، في لعبة الإقصاء والهيمنة،
فإنه يبقى أنه قد نجح في إنتاج ما يبتغيه من السيادة الكاملة داخل العلم؛
أعني علم العقائد. وابتداء من المركزية الكاملة لهذا العلم داخل دائرة
«الديني» الذي يحوز، بدوره، مركز السيادة العليا داخل الثقافة، فإن الخطاب
يكون عبر هذا الترقي من العقائدي إلى الديني إلى الثقافي قد حقق سيادته
ومركزيته داخل الثقافة في الإسلام.
وإذا كان التماهي مع الوحي — الذي يسعى به الحاملون لمذهب ما إلى بناء
سيادتهم — هو المدخل إلى نفي الآخر وإقصائه؛ وأعني من حيث إن إزاحة الاختلاف
من دائرة الوحي، لا بد أن تتبعه إزاحة الاختلاف من العالم لا محالة، فإن
استعادة الاختلاف كجزء من تركيب الوحي تكون هي السبيل إلى استعادته في
العالم؛ وبحيث يصبح قبول الآخر — المختلف في المذهب أو حتى في الدين
٥٧ — مما تقتضيه طبيعة الوحي ذاتها. وهنا فإنه إذا كانت علاقة
الهوية تعني أن مذهبًا ما هو الوحي، فإن علاقة الاختلاف لا تعني أكثر من أن
الوحي لا يمكن أن يكون مذهبًا بعينه، بل يكون هذا المذهب وغيره من المذاهب
المباينة له أيضًا. ومن حسن الحظ أن الاختلاف هو ما يتيح للوحي أن ينفلت من
مأزق الخواء والصورية الذي تئول إليها علاقة التماهي معه؛ وأعني من حيث يسمح
الاختلاف للوحي بتحقيق ذاته في أشكال وجود متعددة، بل ويتيح له إمكان تجاوز
تلك الأشكال — التي سرعان ما تستنفد قدرتها على الوجود بسبب ما تنطوي عليه من
محدودية — إلى غيرها من أشكال وجود أرقى، يحقق عبرها المزيد من الوعي بما
ينطوي عليه من ممكنات تكشف عن ثرائه وغناه.
وهكذا فإنه إذا كانت «الأدلجة» تنتهي إلى الإفقار المعرفي الكامل لما
يكون موضوعًا لها؛ فإنه قد بدا أن تعالي المنظومات المذهبية (فقهية وعقائدية)
بنفسها، إلى حيث تضع نفسها في مقامٍ تتطابق فيه مع الوحي، إنما يئول إلى
الإفقار المزدوج؛ سواء لنفسها (بما تكتسبه من الحصانة ضد النقد والسؤال) أو
للوحي ذاته (من حيث تدخل به إلى دائرة الجمود والاضمحلال). ويعني ذلك — ومن
دون أي مواربة — أن التعالي كان أهم آليات الأدلجة في الإسلام؛ وأن تحرير
الإسلام من الأيديولوجيا إنما يكون بالعودة بأنساقه المهيمنة إلى السياقات
المنتجة لها في عالم البشر.