البنود والشروط
(١) ما أهمية الاسم؟
تُسمَّى علامة هذا البرج الفلكي، التي يعود تاريخها إلى قديم الزمان، نسبةً إلى الكوكبة الخافتة التي تُرى بأوضح صورة في شهر مارس، عند النظر إليها من نصف الكرة الشمالي. وبينما لا يظهر تجمُّع «النثرة» النجمي في هذه الكوكبة بوضوح كافٍ للعين المجرَّدة، كان عالم الفلك جاليليو جاليلي أول من درسه في عام ١٦٠٩، باستخدام تلسكوب صنعه بنفسه، وأُدرِج في دليل تشارلز مسييه للأجسام الفلكية في عام ١٧٦٩، ويمكن رؤيته في شكل نقاط لامعة متفرِّقة بالمنظار في يومنا هذا. ورغم الربط بين هذه الكوكبة النجمية وحيوان السرطان، فإنها ليست شديدة الشبه به، والأسطورة الإغريقية التي وضعت فيها هيرا سرطانًا في السماء ليس المقصود بها ذلك الكائن القشري الذي تدوسه الأقدام. ومع ذلك، أصبح لكلمة «السرطان» وجود بين النجوم، وذُكرت في إحدى القصص.
أمَّا الورم فهو على الأقل شيء مادي؛ لذا فهو أقل إثارة للحيرة من التجرُّد الذي يتسم به مصطلح السرطان، أو التعدُّد الذي يوحي به. فأحيانًا ما يُمكن تحسُّس الورم تحت الجلد؛ فالمريض يمكنه أن يلمس بإصبعه حجم الورم وشكله، وأن يسمح للطبيب بأن يتلمَّسه أيضًا. وفي بعض الأحيان، يمكن رؤية الورم بالأشعة السينية، أو من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي، الذي تُستخدم فيه مغناطيسات وأمواج راديوية لرسم مخطَّط بما يحويه الجسم من مياه ودهون؛ أو عبر الموجات فوق الصوتية، حيث يمكن تحويل انعكاسات الموجات الصوتية ذات التردُّدات التي تفوق ما يستطيع البشر سماعه إلى صور مرئية. يظهر الظل الذي يمثِّل الورم في صورة نقطة أو لطخة أو بقعة من الضوء في وسط الظلام الذي يُمثِّل خلفية الجسم البشري المصوَّر على الشاشة. فكل ما هو صلب، مثل العظام والقلب والورم، يظهر في شكل درجة طفيفة من اللون الأبيض على خلفية مائلة للسواد تمثِّل الجسم كالكون.
والورم الحميد لا يمتدُّ إلى أماكن بعيدة، ولا يغزو الأنسجة المحيطة في المعتاد. فهو يبقى على حاله، ويظل في مكانه. بَيد أن الورم الحميد يواصل النمو، ويضغط على الأعضاء القريبة والأوعية الدموية. وكلما زاد حجمه وقُربه من الأعضاء الحيوية، زاد الضرر الهائل الناجم عن الورم الذي لا ضرر له في المعتاد. لكن نمو الورم عادةً ما يكون بطيئًا، وهو ما قد يُفسِّر كيف أن السيدة الهندية المصابة بورم على المبيض وزنه خمسين رطلًا، بدون أي أعراضٍ أخرى أو أي أعراضٍ شديدة، تشير إلى تدهور الصحة، اعتادت وجود هذا الشيء الغريب داخلها عدة أشهر، حتى صارت عاجزةً عن التحرُّك بدون مساعدة وهي تحمل تلك الكتلة الزائدة، فقرَّرت أخيرًا اتخاذ إجراء بشأنها. بعض أنواع الأورام تُنتج هرموناتٍ قد تُسبِّب ضررًا مثل الإنسولين أو الكورتيزول، لكن معظم الأورام هي أورام فحسب، ولا حاجة لعلاجها إلا حينما تؤدِّي أعراضٌ إضافية ناتجة عنها إلى إعاقة سير حياة المريض.
علاوةً على ذلك، قد يشير الورم الرباطي إلى الإصابة بداء السلائل الورمي الغدي العائلي، وهي حالة وراثية تؤدِّي في بعض الأحيان إلى نمو مئات أو حتى آلاف السلائل — وهي زوائد دقيقة على البطانة المخاطية — في الأمعاء، وإذا تُركت بدون علاج؛ فقد تُسبِّب سرطان القولون. وما يحدث لدى المصابين بهذه الحالة هو أن طفرةً جينيةً في جينات كبح الأورام تؤدِّي إلى تثبيط استجابة الجسم المعتادة للخلايا الشائخة. بعبارة أخرى، لا تُسبِّب الطفرة الجينية السرطان مباشرة، لكنها تُصعِّب على الجسم قَتْل خلايا القولون التي قد تكون مسرطنةً في مهدها، أو مَنْع الورم الرباطي من النشوء في البطن أو الكتف أو الساق. فاللائمة لا تُلقى على الورم لأنه نما، بل على الجسم لأنه لم يمنع النمو. والجسم لا يتعمَّد إحداث الفوضى، لكن الأمر أشبه بأن يتوقَّف الجسم عن تنظيف نفسه جيدًا بانتظام.
(٢) ما الدنيا إلا مسرح كبير
-
المرحلة الصفرية: السرطان في هذه المرحلة لا يكاد يكون سرطانًا
أصلًا. بل مجرَّد علامة بسيطة غير مؤكَّدة على حالة شاذة
تُنذر بأنها ستكون خبيثة، لكنها لا تتغير. ولا يعلم المرء
حينئذٍ ما إذا كان سيَنْتُج عنها أي شيء. لكن اختصاصي
الأشعة النابه يمكنه اكتشافها بالتصوير الإشعاعي لبعض
أجزاء الجسم بوسائل تتطوَّر تطوُّرًا متزايدًا؛ ومن ثَم
يُحدَّد اسم الحالة التي تُكتشف، وتُعالَج إن أمكن. فإذا
لم يمكننا تسمية شيء ما وعلاجه، عادةً لا نبحث
عنه.
وفي بعض الأحيان، تؤدِّي هذه التسمية العددية إلى الانتظار والمراقبة، وفي أحيان أخرى تؤدِّي إلى الاستئصال الجراحي. والواقع أنه في بعض الحالات، يؤدِّي إجراء الخزعة بهدف التيقُّن من تشخيص ما إلى إنهاء المشكلة كلها. نعالج الورم في هذه الحالة ليس لما هو عليه، ولكن لِمَا قد يتحوَّل إليه، وقد لا يتحوَّل إلى شيء البتة. المرحلة الصفرية هي المرحلة الاستثنائية التي قد يؤدِّي فيها العلاج إلى الشفاء من المرض بسرعة نسبيًّا، والشفاء كلمة يتجنَّب الأطباء استخدامها عادةً عند الحديث عن السرطان حتى وَهُم منهمكون في علاج المرضى منه. إذ يَندُر أن يُقال لأي مريضة بالسرطان إنها قد شُفيت، لكن ما يُقال هو أنها خالية من السرطان.
ومع ذلك، فليست كل السرطانات قابلةً للاكتشاف في هذه المرحلة من التطوُّر. فالصفر يُشير إلى السرطان القنوي الموضعي، وهو المرحلة الصفرية من سرطان الثدي، أو المراحل التي حدثت فيها للتو الإصابة بسرطانات الجلد أو الرئة أو عنق الرحم أو الرحم. لا يوجد حتى الآن مراحل فارقة تشير إلى قُرب الحدوث، أو الحدوث للتو، في سرطان البنكرياس أو الغدد الليمفاوية أو أنواع أخرى كثيرة من السرطان. صحيح أن هذه المرحلة قد تكون موجودةً لدى أي نوع من السرطان، لكن المهم في أي مرحلة هو القدرة على رؤيتها على أفضل نحو ممكن، وإجراء الفحوص لاكتشافها بدقة نسبية، وعلاجها.
-
المرحلة الأولى: الطب مرتبط بالأصول اللاتينية لمصطلحاته ارتباطًا
وثيقًا جدًّا لدرجة أن مراحل تطوُّر السرطان غالبًا ما
يُرمَز إليها بأرقام رومانية بدلًا من الأرقام العربية
الشائعة الاستخدام. وتعني المرحلة الأولى وجود ورم موضعي
لم يَغزُ الأنسجة المحيطة به، ولم يُرسِل خلاياه الخبيثة
إلى العُقَد الليمفاوية القريبة، أو الأجزاء الأخرى من
الجسم.
لكن تقسيم المراحل أصبح أكثر تعقيدًا من ذلك. إذ يمكن وضع تقسيم أدق. فسرطان الثدي من المرحلة الأولى «أ» يشير إلى ورم حجمه أصغر من سنتيمترَين ولا يطال غددًا ليمفاوية، لكنَّ سرطان الثدي من المرحلة الأولى «ب» يشير إلى ورم صغير يشمل رقعًا متفرِّقةً في غدة واحدة إلى ثلاث من الغدد الليمفاوية في الإبْط، على ألَّا تكون كل مساحة رقعة أكبر من مائتَي خلية أو ملليمترَين، وإلا فقَدْ يتحوَّل التشخيص إلى المرحلة الثانية.13 فعلى الرغم من انتشار سرطان الثدي ووصوله إلى العقد الليمفاوية، يعني هذا التقسيم أن السرطان في المرحلة الأولى «ب» يتصرَّف على نحو أقرب إلى المرحلة الأولى «أ» من المرحلة الثانية، ويُمكن التعامل معه على هذا الأساس.
-
المرحلة الثانية: على حسب نوع السرطان، عادةً ما يتقرَّر أنه من
المرحلة الثانية عندما يتخطَّى الورم حجم المرحلة الأولى.
أو يغزو الأنسجة المحيطة به، أو يفعل الشيئَين معًا. قد
تكون الخلايا الضارة قد وصلت إلى الغدد الليمفاوية في
طريقها إلى إحداث ضرر في مكان آخر، ولكن لم يُكتشَف ضرر
في أي مكان آخر بعد. أي إن كل شيء لا يزال موضعيًّا إلى حد
نسبي.
ويمكن تقسيم احتماليات سرطان الثدي من المرحلتَين الثانية والثالثة إلى عدة احتمالات تمزج بين حجم الورم وتأثيره في العُقَد الليمفاوية، فيما تكون تسميته بالفئتَين «أ» و«ب»، على نحوٍ يشبه خطوطًا عريضة لأول ورقة بحثية يُعدها الطالب في المدرسة الثانوية بِناءً على ما يعرفه أو يظن أنه سيُجدي نفعًا من أجل أن ينجح في هذه المادة الدراسية على الأقل، إن لم يكن على درجة من التفوُّق تُمكِّنه من معرفة ما عليه أن يفعله لاحقًا. في سرطان البنكرياس، تنقسم المرحلتان الأولى والثانية انقسامًا فرعيًّا إلى «أ» و«ب»، استنادًا إلى حجم الورم وما إذا كان قد وصل إلى العقد الليمفاوية القريبة، لكن لا حاجة إلى تقسيم المرحلة الثالثة، فأي تقسيم فيها لن يجدي نفعًا في اتخاذ القرار أو توقُّع تطوُّر سرطان البنكرياس وتأثيره في عمر المصاب. فعندئذٍ يكون الأمر قد قُضي.
-
المرحلة الثالثة: المرحلة الثالثة، كما هو متوقَّع، أسوأ من المرحلة
الثانية. إذ يكون الورم فيها قد غزا العقد الليمفاوية أو
الأوعية الدموية أو العقد الليمفاوية والأوعية الدموية
معًا. «التطوُّر» يعني «المضي قُدُمًا»، والمرحلة الثالثة
تعني أن الورم كان يتطوَّر بوتيرة بطيئة لكنها ثابتة،
منتظرًا إطلاق العِنان لنفسه. أي إنَّ المرض تطوَّر،
ومستمر في التطوُّر. وبذلك يكون ماضيًا في طريقه إلى
أعضاء الجسم الأخرى، لكنه لم يصِل إليها بعد.
وفي هذا الصدد، لا تتحدَّث كارلا مالدن عن التقسيم إلى مراحل بمعناه الإكلينيكي، لكنها كتبت عن التشخيص الأَوَّلي لسرطان القولون الذي أُصيب به زوجها بأسلوب يعكس معنى مرحلة السرطان للمريض ولأسرته؛ إذ قالت: «كل ما حدث في الساعات القليلة التالية كان بمثابة سباق بين الأخبار السارة والأخبار المحزنة. وصل إلى العقد الليمفاوية — نعم، الكبد — لا؛ وكنت أبكي في الحالتَين، مهما كانت الأخبار.»14 وكتبت إيف إنسلر في مذكراتها عن مراحل سرطان المبيض بتركيز أكبر على الجانب الإكلينيكي: «ولمَّا كان أعضاء فريق مركز «مايو» الطبي أكثر تمسُّكًا بالتسميات الحرفية؛ فقد قرَّروا أني مصابة بالسرطان من المرحلة الرابعة «ب» (كان السرطان في عقدي الليمفاوية وفي منطقة الأربية). فيما كان أفراد مركز «بيث إسرائيل» الطبي يرَون أني في المرحلة الثالثة «ب». وفي الحالتَين كنت في المرحلة «ب». أي إن كل الاحتمالات كانت سيئة.»15 كل الاحتمالات سيئة، وليست بالوضوح الذي قد يتبادر إلى الذهن عندما يقدِّم طبيب تشخيصَه واثقًا من نفسه متشحًا بمعطفه الأبيض. أوه، ما أشد رغبة المرء في نيل المركز الأول! أوه، وما أشد رغبته في الحصول على المرتبة «أ» دائمًا عندما تكون الفئة «ب» احتمالًا واردًا.
-
المرحلة الرابعة: لا تستمر مراحل السرطان إلى ما لا نهاية. فلا يمكن
تقسيم مراحل السرطان إلى ما يتخطَّى المرحلة الرابعة.
فإعادة الترقيم، على غرار ما ذكره نايجل تافنل بخصوص
مكبِّر الصوت الذي كان يمتلكه في فيلم «سباينال تاب»، لن
تعدو كونها مسألةً متعلِّقةً بدلالات الألفاظ، لكن نطاق
تطوُّر المرض يبقى كما هو. ففي المرحلة الرابعة، وحتى لو
أُطلِق عليها اسمٌ آخر، لن يختلف خطر السرطان. فالورم
ورم، والمرحلة مرحلة.
في المرحلة الرابعة، يكون السرطان قد انتشر ووصل بالفعل إلى أجزاء بعيدة في الجسم. فسرطان الثدي إذا تحوَّل إلى سرطان نقيلي، قد يصل إلى أي مكان تقريبًا، وربما حتى إلى العظام أو الكبد أو الرئتَين. لا يمكن التقسيم الفرعي لهذه المرحلة، مع أن سرطان الرئة يمكن تقسيمه إلى المرحلة الرابعة «أ»، التي تظل فيها عملية النقيلة في منطقة الصدر؛ والمرحلة الرابعة «ب»، التي تصل فيها عملية النقيلة إلى أماكن بعيدة جدًّا، ربما حتى إلى المخ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كلمة metastasis «أي النقيلة»، مشتقة من كلمة يونانية تعني التغيُّر أو التحوُّل، وإذا عُدنا إلى زمن أبعد في الماضي، نجدها تعني «تحوُّلًا في الوضع من مكان إلى آخر». والمعنى الأوَّل يوحي بتعديل داخلي أو تحوُّل في الحالة، في حين يوحي المعنى الثاني بتحرُّك خارجي في الموقع أو الجغرافية. يُتيح المعنى الأول، عند تطبيقه على السرطان، طريقةً للتفكُّر في المرض؛ بينما يُتيح المعنى الثاني طريقةً لاعتبار السرطان شيئًا. بحلول ستينيات القرن السابع عشر، أصبح التعريف الثاني للكلمة يُستخدَم مصطلحًا طبيًّا،16 يشير على وجه الخصوص إلى المراحل الأخيرة من السرطان التي ينتقل فيها من أحد أماكن الجسم إلى مكان آخر، سواءٌ أزيل جراحيًّا من مُرتَكزه الأصلي أم لا. وتشير عملية النقيلة كذلك إلى أنَّ الجسم نفسه قد تحوَّل، فلم يَعُد يحتوي على السرطان في جزء منه فحسب، بل بات السرطان مستشريًا في أرجائه، ولم يَعُد الجسم يحوي سرطانًا، بل أصبح السرطان مجتاحًا له. وعلى نفس المنوال، حدث تغيُّر في خيارات العلاج ورعاية المرضى، وقد طرأ جُلُّ هذا التغيُّر في الرعاية التسكينية وتخفيف الأعراض، وليس في القضاء على المرض، كما طرأ تحوُّل في عقلية المريض والطبيب؛ إذ صاروا يعتبرونه مرضًا مزمنًا أو قضاءً مُبرَمًا.
لا وجود لمرحلة خامسة من السرطان؛ فعملية النقيلة هي نهاية كل شيء.
وعند التشخيص، تبدأ المعركة. إذا استؤصِل السرطان، تنزاح الغُمة. وإذا تطوَّر، فإنَّ المصطلحات لا تُواكب هذا التطوُّر ولا تُوَصِّفه بدقة بقدر ما يتفاقم، وينتزع شيطان السرطان مُراده. يُجبِر السرطانُ المصابَ به على استرجاع كل ذكريات الماضي، أو تُلاحقه ذكريات الماضي؛ لعلمه بأن الغد قد لا يأتي. وحتى إذا نجح العلاج، فتجرِبة السرطان تجعل المرء يُدرك أنه لا أحد يعيش إلى الأبد، ومع ذلك، فحتى المريض بالمراحل الأخيرة من السرطان كثيرًا ما يرى بلوغه يومًا آخر أمرًا مرجَّحًا، أو ممكنًا على الأقل.