خاتمة
عندما كتبتُ عن كينز منذ ١٥ عامًا، كان نجمه آفلًا. وهناك إجماع على أن العصر الكينزي انهار بسبب الفوضى النظرية واضطراب السياسات، وكان ضحية تزامُن التضخم والبطالة اللذين عجز الاقتصاديون الكينزيون عن تفسيرهما وصُنَّاع السياسات الكينزيون عن السيطرة عليهما. وكان هذا هو الوضعَ الذي عاد فيه بقوة علمُ الاقتصاد الكلاسيكي — وهو الذي بدا أن كينز قد قوَّض أُسُسَه — ورجعَتِ الحكومات إلى السياسات التي كانتْ تتبنَّاها قبلَ العصر الكينزي مع إجراء بعض التعديل عليها. اعتُبرَتِ الأسواقُ ذاتية التنظيم على نحو مثالي، واقتصرتْ مهمة الحكومة في الاقتصاد الكلي على الحفاظ على «النقود القوية»؛ أيْ كانتْ مهمتها بشأن الاقتصاد الجزئي هي تحريرَ الأسواق من أجْل خفْض «المعدل الطبيعي للبطالة». وعزز على نحو كبير إحياءُ الاقتصاد الكلاسيكي ونظريتِه في السياسة الاقتصادية انهيارَ الشيوعية في عام ١٩٩٠. وأتاح هذا للمرة الأولى منذ عام ١٩١٤ عودةَ اقتصادِ العالَمِ الواحدِ المبنيِّ على توزان الميزانيات والتجارة الحرة وحركة رءوس الأموال غير المقيَّدة؛ والتي كانتْ وصفةَ النجاح الاقتصادي فيما قبلَ عام ١٩١٤. وأُطلق مصطلح «العولمة» على هذا الامتداد العالمي لنظام السوق.
لقد تأثر حديثِي عام ١٩٩٥ عن إسهام كينز في الاقتصاد بهذه التطورات النظرية والأحداث التي وقعت في عالم الواقع، لكن كان هناك بالنسبة لي الكثيرُ الذي بَقِيَ من كينز؛ فقد كتبتُ أقول: «إن السياسات الانكماشية المتبعة على مدار الخمسة عشر عامًا الأخيرة خلَّفتْ مستوياتٍ عاليةً من البطالة الدائمة، وذلك كما توقع كينز.» بعبارة أخرى، لم ترتدَّ الأنظمة الاقتصادية سريعًا إلى مستويات التوظيف الكامل والنمو السريع بعد الصدمة. وقد أعادتِ الأحداثُ التي تَلَتْ ذلك فكرَ كينز إلى الحياة. ومن المنظور المعاصر، فإن ما يُسمَّى ﺑ «فترة الاعتدال الكبير» فيما بعد عامَيْ ١٩٩٧ و١٩٩٨، التي بدتْ أنها حافظتْ على النظام الجديد الذي تكُون الأسواقُ فيه غيرَ منظمة أو موجهةٍ من قِبَل الحكومات، استمرت لأقلَّ من عشرة أعوام، وهي تشبه كثيرًا «فترة العشرينيات الهادرة» التي سبقَتِ الكسادَ الكبير فيما بين عامَيْ ١٩٢٩ و١٩٣٢. ومع انهيار الأوضاع المالية في عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، ثبت أن المدرسة الكلاسيكية الجديدة أخطأتْ عندما اعتقدتْ — شأنُها في ذلك شأنُ المدرسة الكلاسيكية القديمة — بصحة فكرة أن الأسواقَ ذاتيةُ التنظيم.
لقد تغيرتْ أفكاري عمَّا ميَّز كينز وميراثه، ومن بين أسباب ذلك تغيُّر العالم. وسأشير فيما يلي إلى خمسة موضوعات متعلقة بكينز حَظِيَتْ بأهمية كبرى لديَّ منذ نَشْر الطبعة الأولى من الكتاب.
دَوْر عدم اليقين
سأُعطِي الآن اهتمامًا بعدم اليقين في فِكْر كينز أكبرَ من اهتمامي به في ١٩٩٥. ليس السبب أنني لم أكن على دراية بأهمية هذا الأمر. في واقع الأمر، فإنني لن أغير كلمة واحدة من الفقرة الأولى من الفصل الأول، لكني لن أجعل تلك الفقرة في قلب حديثِي عن نظرية كينز. ففي هذا الجانب، اتَّبعتُ الطريقة التقليدية للمعالجة؛ إذ كان الهدف من كتاب «النظرية العامة» هو تفسير كيف يمكن للاقتصاد أن يَخرُج من فخِّ انخفاض نسبة التوظيف، لا كيف وقع فيه. بعبارة أخرى، كانت النظرية هي نظريةَ تَوازُن.
لقد بدا هذا النموذجَ الأمثلَ لعصره؛ لأن العالم أراد أن يعرف وسيلة للخروج من الفخ. لقد بيَّنتْ نظريةُ المضاعِف حجمَ الطلب الإضافي المطلوب ضَخُّه في اقتصاد يُعاني من الكساد لإعادته إلى مستوى التوظيف الكامل؛ لذا كان نموذج الدخل/الإنفاق أنسب ما قدَّمه كينز لصانع السياسة، وقد كان هذا النموذج هو الصيغة الذي وردتْ بها النظرية في كتابه المميز.
في كتاب «النظرية العامة» كانت التوقعاتُ تُعامَل معاملةَ أمورٍ مسلَّمٍ بها؛ فلم يكن إجمالي الطلب سوى دخل متوقع. ولم يُفسر سبب توقع مستوًى معين من الدخل بدلًا من غيره. إلا أن أي نظرية تسعى لتفسير «حركة» اقتصادٍ ما عبْر الزمن تتطلب نظرية للتوقعات.
وهنا يأتي دور نظرية كينز للتوقعات غيرِ المؤكدة. فالسبب الذي يؤدي إلى انهيار الاقتصاديات هو وجود توقعات «غير مؤكدة». يلعب عدم اليقين دورًا ثانويًّا في القصة الرئيسية لكتاب «النظرية العامة»؛ إذ لا يَظهَر إلا بعد عرض الجزء الإيجابي من نظريته، الذي يَفترض عمل توقعات. لكنه من الواضح، على ما أظن، أنه من دون التوقعات غير المؤكدة ستنهار القصة بالكامل؛ إذ لن يحدث انهيار الاستثمار الذي يدفع الاقتصاد نحو الكساد، ولن تُوازِن أسعارُ الفائدة تلقائيًّا أيَّ خلل بين الادخار والاستثمار المتوقَّعَيْن، وستصبح النظرية الكلاسيكية هي النظريةَ الوحيدةَ القابلةَ للتطبيق في كل الظروف. لكنَّ ما كان مجرد «استطراد» في كتاب «النظرية العامة» أصبح رسالتَه الجوهرية بعدما أعاد كينز صياغة «الأفكار الأساسية البسيطة» التي أسستْ لنظريته في مقال بعنوان «النظرية العامة للتوظيف»، الذي نشر في دورية «ذا كوارترلي جورنال أوف إيكونوميكس» في فبراير عام ١٩٣٧. وبنى اقتصاديون مثل شاكل (١٩٦٧) ومينسكي (١٩٧٥) وتشيك (١٩٩٢) وديفيدسون (١٩٧٢ و٢٠٠٧) شروحَهم لكينز على ذلك المقال.
قال كثير من المعلقين إن كينز لم يكن لديه سوى القليل ليقولَه، أو لم يكن لديه ما يقوله على الإطلاق عن عدم الاستقرار المالي. لكن هذا لم يكن صحيحًا؛ فاضطراب الاستثمار باعتباره سببًا للأزمات فكرةٌ مستمرة عبر كتاباته (انظر مثلًا كتابه «بحث في النقود»)؛ وكان سبب هذا الاضطراب — وهو عدم اليقين الحتمي بشأن المستقبل — محددًا فيها بوضوح. وبنفس القدْر من الوضوح اعتبر كينز المعرفةَ بالمستقبل القابلة للتنبؤ بها افتراضًا ضمنيًّا ينبع من النظرية الكلاسيكية للسوق الذاتية التنظيم. فإنْ كنا نعلم ما سيأتي به الغد، فلن تَقَعَ أبدًا أيُّ أزمات مالية أو اقتصادية؛ وذلك بافتراض منطقية السلوك.
ربما يتعارض رأيُ كينز أن التوقعات غير المؤكدة هي السبب الأساسي للأزمات المالية مع الرأي الشائع اليوم أن انهيار القطاع المصرفي فيما بين عامَيْ ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ نتج عن «الخطأ في تقدير ثمن المخاطر». ويتضمن هذا فكرة أخرى؛ وهي أن المخاطر يمكن تقدير ثمنِها بدقة، لكنَّ الذي يمنع الأسواق من تقدير الثمن الصحيح هو الخلل في المعلومات أو الحوافز؛ لذا فإن السبيل إلى منع وقوع مزيد من الأزمات هو تحسين «إدارة المخاطر» من قِبَل المصارف والسلطات النقدية؛ من خلال زيادة الشفافية ووضع نماذج مخاطرة أفضل، وقبل كل شيء تحسين الحوافز للقيام بالتقييم الصحيح للمخاطر. ويبدو أن الجدل ينحصر بين مَن يَرَوْن أن المخاطر تُقَدَّر ثمنُها بدقة دائمًا — فرضية السوق الفعالة — ومَن يُسلِّمون بأن المعلومات غير الدقيقة و/أو الحوافز غير المناسبة يُمكِنها أن تدفع أسعار السوق إلى الانحراف عن الأسعار الصحيحة التي تحددها «الأساسيات».
وفي المقابل، فرَّق كينز بين المخاطرة وعدم اليقين؛ فالمخاطرة تكون عندما يمكن معرفةُ الاحتمالات (أو قياسُها)، أما عدم اليقين فهو عندما لا يمكن معرفةُ الاحتمالات (أو قياسُها). وكانت فكرته الأساسية هي أن النظرية الكلاسيكية للأسواق الذاتية التنظيم قامتْ على الافتراض المعرفيِّ بأنَّ المشاركين في السوق لديهم معلومات كاملة؛ وهو افتراض أُعيدَ إحياؤه في نظرية التوقعات العقلانية. إذا سلَّمنا بذلك فستترتب فرضية التوظيف الكامل، وإنْ لم نسلِّم به فستنهار؛ فاقتصاد كينز هو اقتصاد تكُون فيه معرفتنا بالمستقبل «محدودةً وضئيلةً جدًّا عادةً»، وتَخِيب فيه التوقُّعاتُ باستمرار. ويجعل هذا تراكمَ الثروة «موضوعًا غير مناسب بالمرة لمناهج النظرية الاقتصادية الكلاسيكية»؛ فالنماذج التي تَفتَرِض أن لدينا احتمالاتٍ قابلةً للحساب لكلِّ ما قد يَطرَأ في المستقبل من ظروف هي نماذج احتيالية بالأساس.
فسيكون الوضع كما لو أن سقوط التفاحة على الأرض يعتمد على دوافع التفاحة، وعلى جدوى وقوعها، وعلى ما إذا أرادتِ الأرض أن تسقط التفاحة عليها، وعلى الحسابات الخاطئة للتفاحة ذاتها بشأن بُعدِها عن مركز الأرض.
ويمكن أن يرجع جزء من عدم اليقين بشأن سرعة سقوط التفاحة إلى أخطاءٍ من جانب التفاحة (أي: «حسابات خاطئة») يمكن تصحيحُها من حيث المبدأ. لكن الصفات «البشرية» الرئيسية التي يفترضها كينز في تفاحته هي «الدوافع» و«النوايا». فهذه الصفات هي ما يمثل الحدَّ الفاصل بين علم الاقتصاد وعلم الفيزياء، وهو ما يجعل الاقتصاد علمًا «أخلاقيًّا» والفيزياء علمًا «طبيعيًّا». فما قَصَدَه كينز هو أن علم الاقتصاد «يهتمُّ بالتأمل الذاتي والقِيَم … بالدوافع والتوقعات والشكوك النفسية.» ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل لأنه عرضة للتغير على نحو خارج عن التوقعات، وهذا يرجع في الغالب إلى أننا اخترنا أن يكون كذلك. وتعني هذه الرؤية ضمنًا وجودَ قيود كبيرة على قابلية علم الاقتصاد القياسي للتطبيق؛ إذ اعتقد كينز أنه لا يمكن تطبيقه بشكل أساسي إلا في تلك المجالات التي يمكن فيها قياس المخاطرة. ويستبعد ذلك كثيرًا من مخاطر أسواق الاستثمار.
إن الوسيلة الأساسية التي نعتمد عليها للتأقلم مع عالم يسوده عدم اليقين هي قياس المخاطرة بالأرقام، وهذا ما تُقدِّمه نماذج التنبؤ الرياضية باستخدام نسخةٍ ما من نظرية بايز لتحويل الاحتمالات السابقة إلى احتمالات لاحقة. ويوفر هذا الاطمئنانَ الضروريَّ للاستثمار، لكنه اطمئنانٌ زائفٌ؛ فبينما يسمح تكرار الرهان على الأحصنة بتحديث «الاحتمالات السابقة» خاصتك لتتفق مع المستويات «الحقيقية» للأحصنة، ليس ثمة قدْرٌ من معلومات عن الأحداث الاقتصادية في الماضي يقرِّب صاحبَه من الاحتمالية الحقيقية لحدوث تلك الأحداث في المستقبل؛ لأن المستقبل يختلف حتمًا عن الماضي، وما نفعله هو أننا نستخدم الرياضيات كي «نخترع» عالمًا من الاحتمالات القابلة للحساب، ثم نعتمد عليه بصفته انعكاسًا للعالم الواقعي.
ليس من الحماقة اعتبار المستقبل قابلًا للقياس، بل إنه في الواقع هو الأساس المنطقي الوحيد للتصرفات الفردية، كما أنه يتضمن — كما قال كينز — قدْرًا كبيرًا من الاستقرار؛ فالتنبؤات الرياضية يمكنها أن ترسم المستقبل الذي تزعم توقُّعه من خلال تشكيل توقعاتنا؛ فهي قد تنتج ما يطلق الاقتصاديون عليه التوازنات «المتكررة»، وهي المسارات التي تتشكل، ليس بسبب ما في العالم بالفعل ولكن بسبب تصوراتنا عنه؛ فالتنبؤات تُعطي صورةً للمستقبل تبعث على الثقة، وذلك ما دام لم يحدث شيء يهز الثقة في الصورة.
لماذا ينهار الاستثمار؟ أجاب كينز بأنَّ آليةَ تحويل عدم اليقين إلى مخاطرةٍ يمكن حسابها تقوم على الاعتقاد الشائع بأن «الأوضاع الحالية ستستمر إلى ما لا نهاية، إلا إذا توافرتْ أسبابٌ محددة لتوقُّع حدوث تغيير في المستقبل القريب … ومن ثَمَّ فإننا نفترض أن التقييم الحالي للسوق — مهما كان — صحيح تمامًا بالتناسب مع معرفتنا الحالية، وأنه لن يتغير إلا بالتناسُب مع وجود تغيرات في تلك المعرفة.» وهذا الاعتقاد باطل من الناحية الفلسفية؛ «إذ لا تُمثل معرفتُنا الحالية أيَّ أساس كافٍ للتوقعات الرياضية المحسوبة.» إلا أنه بتبنِّي هذا الاعتقاد فإن المستثمر يُمكنه «أنْ يشجِّع نفسه بفكرة أن المخاطرة الوحيدة التي يتعرض لها تتمثل في حدوث تغير حقيقي في الأخبار «في المستقبل القريب»»، وهو أمرٌ مِن غير المحتمل أن يكون كبيرًا؛ لذا «فإن الاستثمار يصبح «آمنًا» بدرجة معقولة بالنسبة للمستثمرين الفرديين في الفترات القصيرة، ويصبح آمنًا بالتبعية في سلسلة متتابعة من الفترات القصيرة … إذا استطاعوا الاطمئنان، إلى حدٍّ ما، إلى أنه لا يوجد تحول في الأمر.» لقد رأى كينز أن «أكبر أسواقنا الاستثمارية … بُنيتْ على مثل هذه العملية.»
يكمن عيب الطريقة السابقة في أنها تتجرد من عدم اليقين عن طريق افتراض أن المستقبل يتكون من سلسلة متتابعة من الفترات القصيرة جدًّا التي من المتوقع أن يكون لدينا عن كلٍّ منها معلومات موثوق فيها. ومن الناحية العملية، فإن العائد المنتظر (التدفق النقدي المستقبلي المخصوم) لأيِّ استثمار عبر عدد معين من السنوات عرضةٌ لجميع أنواع المجهول؛ فيما يتعلق بأسعار الفائدة المستقبلية، ومعدلات التضخم، وأسعار الصرف، واختيار أسعار الفائدة للخصم وغيرها. إن فرضية السوق الفعالة القائلة إن كل المعلومات ذات الصلة عن أسعار الأوراق المالية المستقبلية كامنةٌ بالفعل في أسعارها الحالية؛ هي فرضية خاطئة تمامًا مثل الاعتقاد أن التحليل الاقتصادي القياسي سيُمدُّنا بمعلومات موثوق بها عن المسار المستقبلي لمتغيرات الاقتصادَيْن الكلي والجزئي؛ فالأُولَى تعجز عن تفسير كيف يمكن للأسعار الحالية أن تختلف عما يُسمَّى «القِيَم الحقيقية»، أما الثانية فتفترض معرفة أشياء لا يمكن حساب احتمالاتها على أساس علمي. وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن التوقعات تتحقق في المتوسط، رأى كينز أنها تَخِيب في المتوسط؛ حيث تَندُر حالات تحقُّقها. كما رأى أن عدم اليقين أجبر الاستثمار المحترف على المضاربة؛ إذ إن سرعة التبادلات مهمة لتفادي الخسارة.
إن التزام الهدوء والثبات النابعَيْن من اليقين والأمان يختفي فجأة؛ فالمخاوف والآمال الجديدة ستسيطر على السلوك البشري دون سابق إنذار، وقد تفرض قوى التحرُّر من الوهم فجأة أساسًا تقليديًّا جديدًا للتقييم، وكل الآليات المنمَّقة المهذَّبة التي وُضعتْ لأجْل سوق منظمة على نحو جيد وغرفة تحديد أسعار مختارة بعناية ستصبح عرضة للانهيار.
وهذا بحسب ما أعرف تفسير نظري جيد للانهيار الاقتصادي الذي وقع في خريف عام ٢٠٠٨.
لكن هذا هو نصف القصة فقط؛ فالاستثمار يعتمد على ما أَطلَق عليه كينز الكفاءة الحدية لرأس المال — أيْ معدل العائد المتوقَّع إلى التكلفة — في مقابل سعر الفائدة. فإذا كانت الكفاءة الحدية لرأس المال أكبر من سعر الفائدة فسيحدث استثمار، وإذا قلَّتْ عنه فلن يحدث. وفي ظل النظرية الكلاسيكية، يتم ضبط سعر الفائدة، وهو السعر الذي يوازن بين الادخار والاستثمار، على نحو تلقائي وفق أيِّ تغيير في الكفاءة الحدية لرأس المال. وافق كينز على أن حجم الاستثمار يعتمد على سعر الفائدة، لكنه رفض أن يتم تحديد سعر الفائدة في السوق من أجْل الادخار والاستثمار؛ فهو يَرَى أن سعر الفائدة هو السعر الذي من أجله يتخلَّى الناس عن النقود التي يدخرونها. تلك هي نظريته الخاصة بتفضيل السيولة المتعلقة بسعر الفائدة. فتلعب النقود جزءًا مهمًّا في رؤية كينز لانهيار الاستثمار؛ فالاحتفاظ بالنقود بديل لشراء الاستثمارات، وكان كينز أول اقتصادي يحدد على نحو واضح دور النقود باعتبارها «مخزنًا للقيمة»، وينشأ ما أَطلَق عليه «تفضيل السيولة» عندما ينهار الاعتقاد المدعم للاستثمار. ويمكن أن يؤخر حدوثُ زيادة في تفضيل السيولة خفْضَ سعر الفائدة الضروري لاستعادة الاستثمار في مواجهة انخفاض الربحية المتوقعة. في واقع الأمر، إن انخفاض الربحية المتوقعة للاستثمار والتحول للاحتفاظ بالنقود وجهان لعملة واحدة، وهذا ما حدث بالفعل في عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠٠٨؛ فقد انخفضَتِ السيولة على نحو مفاجئ مع زيادة البنوك لأرصدتها النقدية وإيقافها للإقراض. وقد لعبت الاستدانة دورًا أكبر في حالة الكساد مما فعلتْ في وقت الكساد الكبير، لكن الدافع الأساسي للتحول للاحتفاظ بالنقود — وهو فقدان الثقة في المستقبل — كان واحدًا. إن الزيادة في تفضيل السيولة عند انخفاض الكفاءة الحدية للاستثمار هو التفسير الأساسي الذي قدَّمه كينز لعدم امتلاك السوق لآلية تصحيح تلقائية.
إن طريقة التوازن التي قدَّمها كينز جعلتْه أيضًا لا يُقدِّم تفسيرًا نظريًّا لكيفية حدوث البطالة القسرية، والتي تعرف بأنها الحالة التي يكون فيها عددٌ أكبر من الناس مستعدِّين للعمل بأجر حقيقي أقلَّ لكنهم مع ذلك غير موظَّفين. السؤال هو: لماذا قلَّلتِ المنافسةُ بين العمال الأجورَ الحقيقية على نحو كافٍ بحيث لا يمكنهم جميعًا إيجاد وظائف لهم؟ أو لنضعِ السؤال بطريقة أخرى: كيف يمكن لطريقة كينز الخاصة بالتوازن في حالة نقص التوظيف أن تمثِّل توازنًا حقيقيًّا إذا كانتْ تحتوي على أسعار تؤدي لاختلال التوازن؟ هناك خلل نظري كبير في النظريات الكينزية فيما بعدَ الحرب، والذي يتمثَّل في عدم قدرتها على تفسير سبب حدوث البطالة الدائمة إلا فيما يتعلق بالأجور «المتماسكة»، والتي لم تستطع أيضًا تحديد سبب حدوثها. حاول أكسل ليونهوفود أن يملأ تلك الفجوة النظرية من خلال نظرية (غير كينزية) للتوظيف الكامل على مدى فترة طويلة. فكما أشار، إن الأمر المبتكر الأساسي في كتاب «النظرية العامة» كان إنشاء نموذج يتفاعل فيه النظام مع أيِّ اضطراب من خلال إدخال ضبط الناتج، لا الأسعار. وبعد حدوث صدمة، يتم ضبط كلٍّ من الناتج والأسعار. لكن يتم ضبط الأسعار على نحو أبطأ من الناتج؛ لأن الناس لا يعرفون سعر التوازن الجديد؛ لذا فهم يتعاملون بأسعار تؤدي لاختلال التوازن. فلا يوجد خبير مثمِّن لوضع «متجه لأسعار المقاصة للسوق» قبل أن تبدأ عملية المبادلة. علاوة على ذلك، وعلى المدى الطويل جدًّا فقط تحتاج أسعار الفائدة طويلة الأجل أن تتوافق مع الاحتمالات التحويلية المادية الأساسية والتفضيلات الشخصية الزمنية. وهكذا، يمكن لعدم اليقين أن يجعل الأجور الحقيقية وأسعار الفائدةِ طويلةِ الأجل لعدة أعوام أعلى من الأسعار المطلوبة للتوظيف الكامل.
الجدل حول الحافز
عندما انهار النظام المالي في عام ٢٠٠٨، آخِذًا معه الاقتصاد الحقيقي، تدخلتِ الحكومات في كلِّ مكان ﺑ «حُزَمٍ تحفيزية» مكوَّنة من مزيج من طباعة النقود، وتخفيض الضرائب أو تقديم دعم للإنفاق الخاص، وزيادات كبيرة في الإنفاق العام المموَّل من خلال القروض. تمَّ كلُّ هذا وفق الوصفة الكينزية. وحتى روبرت لوكاس، أحد رواد مدرسة شيكاجو الاقتصادية، أقرَّ قائلًا: «إننا جميعنا كينزيون فكريًّا.» لكن علامات الانتعاش الاقتصادي سرعان ما أدَّتْ إلى استعادة للجانب الفكري الطبيعي. فمعظم الاقتصاديين والعديد من صناع السياسات يدعون لسحب سريع للحافز على أساس أنه سيؤدي إلى إفلاس الحكومات أو التضخم أو كليهما. ما أظهره هذا التحول السريع هو أن نموذج الاقتصاد الذي حاول أن يُخرِجه كينز من عقول الاقتصاديين في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ما زال مستقرًّا في مكانه. إنه يترنَّح فقط في لحظات الفزع، لكنه سرعان ما يُثبِّت نفسَه ثانية. في واقع الأمر، إن الجدل الحالي حول الحافز هو إعادة للجدل الذي دار بين كينز ومنتقديه في وقت الكساد الكبير.
في عام ١٩٢٩، ومع وصول نسبة البطالة في بريطانيا إلى ١٠٪ من العمالة المؤمَّن عليها، كتب كينز وهوبرت هيندرسون كتيبًا بعنوان «هل يمكن لِلويد جورج أن ينجح؟» في هذا الكتيب، اقترحَا برنامجًا كبيرًا للمشروعات العامة، والتي سيتم تمويلُها من خلال القروض لإحداث «موجةِ رخاء تراكمية». وحاولتْ وزارة الخزانة البريطانية دحضَ بنود الاقتراح باستخدام حجة طوَّرها اقتصاديُّها الوحيدُ في ذلك الوقت؛ آر جي هوتري. ادَّعى هوتري أنه، في ظل ثبات عرض النقود، «سيزاحم» أيُّ قرض حكومي للمشروعات العامة قدْرًا مكافئًا من الإنفاق الخاص. ويمكن زيادة نسبة التوظيف فقط عن طريق التوسع في الائتمان، أو ما أُطلق عليه حينَها التضخم. وأُملِي رئيس الوزراء، ستانلي بولدوين، هذه الكلمات: «يجب علينا أن نأخذ النقود الحالية أو نُصدِرَ نقودًا جديدة.»
إذا كانت النقود لن تُطبَع، فيجب أن تأتي من مكان ما. فإذا اقترضَتِ الحكومة دولارًا منك، فهذا دولار لم تنفقه أو لم تقرضه لشركة لتنفقه على استثمار جديد. فكل زيادة دولار واحد في الإنفاق الحكومي يجب أن يقابله نقص دولار واحد في الإنفاق الخاص. والوظائف التي توجد من خلال الإنفاق المُحفِّز تُقابِلها وظائفُ فُقدتْ بسبب انخفاض الإنفاق الخاص. فيمكننا بناءُ طرق بدلًا من المصانع، لكن الحافز المالي لا يساعدنا على بناء الاثنتين معًا.
إن مردود تلك الحجة بالنسبة للسياسة هو أن الحافز المالي خطأ ويجب إيقافه بأسرع وقت ممكن لإفساح المجال أمام الإنفاق الخاص. وتلك هي الدعوة التي يكاد يكون قد أجمع عليها السياسيون والمعلقون المحافظون، والتي ستكون صحيحة إذا كان الاقتصاد في مستوى التوظيف الكامل. لكنْ عندما يكون الوضع أن ينخفض الإنتاج والتوظيف بنسبة ٥٪، فقد كان من الواضح أن تلك الدعوة لا معنى لها؛ فالإنفاقُ الحكومي بتوظيفه للعمال الذين لا يعملون لا يأخذُ التوظيفَ من هؤلاء الذين يعملون بالفعل؛ فهو يُضيف لحجم التوظيف. ومن الواضح على نحو متساوٍ أن الإنفاق الحكومي الإضافي سيتم تمويله في البداية بطباعة النقود؛ لأن أي انخفاض في إجمالي الإنفاق سيؤدي إلى انهيار في عرض النقود. لكن مع إنفاق النقود الجديدة، ستكون هناك دولارات إضافية كي تَقتَرِضها الحكومة دون أن تأخذها من مالكي الدولارات الحالية. فسَّرَ كينز كلَّ هذا على نحو واضح في عام ١٩٣٧ عندما أشار إلى أن القرار الخاص بالاستثمار يجب أن يتضمن «طلبًا مؤقتًا على النقود … قبل أن يحدث الادخار المقابل»؛ لذا، على الرغم من أن الاستثمار الإضافي (سواء العام أم الخاص) لا يمكن تقليله بسبب «نقْص الادخار»، فإنه يمكن أن يزيد عن عرض التسهيلات التمويلية «إذا كان النظام المصرفي غيرَ مستعدٍّ لزيادة عرْض النقود والعرض من المالكين الحاليين للأرصدة الراكدة غير مرن.» في تلك الحالة، يمكن للبنك المركزي أن يقوم على نحو دائم بإنشاء التمويل اللازم للاستثمار الإضافي، سواء العام أم الخاص، من خلال طباعة المزيد من النقود. وإذا حدث الاستثمار، فإن «المستوى الملائم من الدخول سيتم إنتاجه بحيث يكون هناك قدرٌ كافٍ من الادخار للقيام بالاستثمار الجديد.»
يرى أتباع هوتري المعاصرون أن طباعة النقود شرط ضروري وكافٍ لإحياء الإنفاق الخاص. فلا توجد حاجة لإنفاق حكومي إضافي على المشروعات العامة … إلخ. فعندما يشتري البنك المركزي سندات الدَّيْن الحكومية والخاصة بالشركات، فإنه يُضيف للاحتياطيات النقدية للبنوك والشركات. وتُمكِّن عمليات الشراء هذه البنوكَ من توسيع الودائع (القروض) والشركاتِ من توسيع استثماراتها. وهكذا، فإن «عمليات السوق المفتوحة»، التي يتمُّ القيامُ بها لأيِّ مدًى ضروري، ستكون كافية لإحداث انتعاش حتى من كساد شديد.
ربما يستمرُّ المُقرض، الذي ستُفقِده التجربةُ ثقتَه، في طلب أسعار فائدة جديدة للشركات، والتي لا يمكن للمقترض أن يتوقَّع الحصول عليها … إذا كان هذا هو الوضع، فلن يكون هناك سبيل للخروج من كساد طويل، وربما لا ينتهي إلا من خلال التدخل المباشر للدولة لتحفيز الاستثمارات الجديدة وتمويلها.
أدَّى الركود الياباني الطويل في تسعينيات القرن العشرين إلى بروز فكرة «فخ السيولة». سأل كينز: لماذا يجب على شخصٍ ما الاحتفاظُ بالنقود لأيِّ غرض غير الدوافع التحوطية والمبادلات، في حين أنه يمكن أن يحصل على دخل باستثمار تلك النقود في سندات الدَّيْن؟ وَجد كينز أن الشرط الضروري لهذا الادخار القائم على المضاربة هو «وجود «عدم يقين» فيما يتعلق بسعر الفائدة المستقبلي». فإذا كان بالإمكان توقُّع أسعار الفائدة التي ستسود في المستقبل على نحو يقيني، «فسيكون من الأفضل دائمًا شراء سندات دَيْن عن الاحتفاظ بالنقود باعتبارها مخزنًا للثروة.» لكن إذا كان هناك نوع من عدم اليقين بشأن أسعار الفائدة المستقبلية، فقد تكون النتيجة مختلفة تمامًا. فإذا ارتفعتْ أسعار الفائدة، فسيكون هناك فَقْد لرءوس الأموال، والذي سيزيد كلما زاد طولُ أجَل سند الدَّيْن. حذَّر كينز من أنه، بالنسبة لمستثمر يُفكِّر في امتلاك سندِ ديْنٍ أجَلُه عدد معين من السنوات، «… إذا احتاج لنقود سائلة قبل انقضاء تلك السنوات، فهناك خطر التعرض للخسارة في حالة شراء سند دين طويل الأجل ثم تحويله إلى سيولة نقدية، مقارنةً بالاحتفاظ بالنقود.» وخَلَص كينز إلى أنه عندما يكون هناك عدد كافٍ من المستثمرين الذين يتوقَّعون أن الحركة التالية في أسعار الفائدة ستكون باتجاه الصعود، سيدَّخرون على الأقل جزءًا من ثروتهم في شكل نقود سائلة، لا سنداتِ دَيْن. إنهم سيقومون بهذا حتى لو كانوا سيتخلَّوْن عن دخلٍ يُمكِنهم الحصول عليه في المستقبل القريب. على الجانب الآخر، عندما تنخفض عوائد سندات الدَّيْن على نحو كبير بحيث يكون التوقع العقلاني الوحيد هو حدوثَ ارتفاع مستقبلي في عائد السندات (أيْ يكون التوقع العقلاني الوحيد هو خسارةَ رءوس الأموال)، سيحتفظ المستثمرون بأيِّ أرصدة نقدية إضافية، والتي كان بإمكانهم ضخُّها في استثماراتهم. وسيقع الاقتصاد حينها في فخ السيولة؛ حيث سيراكم الناس أرصدتهم النقدية دون حدود. ولن تستطيع عمليات السوق المفتوحة إنقاذه. فقط السياسة المالية هي التي تستطيع إنقاذه. لا يعتقد كينز أن فخ السيولة المجرد — بمعنى أن منحنى تفضيل السيولة وعرض النقود يكون مسطحًا — قد حدث من قبلُ، على الرغم من أن الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين قد اقتربتْ من الوقوع فيه. لكن من الواضح أنَّ أيَّ تسطيح لهذا المنحنى، حتى لو كان بحيث لا يبلغ الوقوع في الفخ، يقلل فاعلية السياسة النقدية. ولم يكن كينز قَلِقًا بشدة بشأن الفخ؛ حيث إنه إذا حدث بينما يتم تعطيل السياسة النقدية، فستكون الحكومة قادرة على اقتراض مبالغ غير محدودة بسعر فائدة اسميٍّ لإنفاقها الخاص.
إن مناقشة كينز لفخ السيولة تعرضتْ لنقْد عنيف لكونها غيرَ مكتملة من الناحية التحليلية؛ فقد افترضتْ بَدِيلَيْن فقط؛ الاحتفاظَ بالنقود وشراءَ سندات الدَّيْن. لكن المدخرين قد يُعبِّروا عن رغبتهم في ادخار السيولة بزيادة طلبهم على الأصول السائلة الأخرى مثل الأوراق المالية. وإذا كان لدى المستثمرين الاختيار بين النقود وسندات الدين والأوراق المالية، ويسمح بالزيادة في كمية النقود لتغيير توقعات التضخم، فإن فخ السيولة الخاص بكينز سيتفكك. لكن يتراءى لي أن هذا لا يُنقِذ اعتقاد كينز بأن السياسة النقدية علاج كافٍ للكساد؛ فالإنعاش الكمي لا شك أنَّ له تأثيرًا إيجابيًّا على الأسعار في سوق الأوراق المالية. لكن أغلب هذا الإنعاش لم يتغلغل بعدُ (حتى تاريخِ تأليف هذا الكتاب، في فبراير عام ٢٠١٠) إلى الاقتصاد الحقيقي. كما أن هذا يرفع فقط أسعار الأصول الحالية، لكنه لا يشجع على أيِّ استثمار جديد؛ لأن المقرضين لا يزالون يطلبون من المقترضين أكثر مما يمكن أن يتوقعوا الحصول عليه. فالافتراض العام هو أن ظهور فقاعات الأصول، تمامًا مثل التحول نحو الاحتفاظ بالنقود، يمكن أن يشير إلى قلة فُرَص الاستثمار. ويجب عدم الخلط بين «الدافعِ القائم على المضاربة» عند كينز للاحتفاظ بالنقود، والرغبةِ في الاحتفاظ بالسيولة نفسها.
حالات اختلال التوازن العالمي
تم تصميم خطة كينز التي وضعها في عام ١٩٤١ لإنشاء اتحاد مقاصة دولي للتغلب على حالات اختلال التوازن العالمية في عصره؛ أيْ منْع ضبط ميزان المدفوعات بسبب اتجاه الولايات المتحدة لمراكمة احتياطيات الذهب؛ الأمر الذي أدَّى إلى حدوث انكماش في باقي دول العالم. وقد شهدَتِ السنوات الأخيرة بدءَ دول شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط لهذه العملية الخاصة بمراكمة الاحتياطيات.
لقد تكوَّنتْ رؤية كينز لحالات اختلال التوازن العالمية، ليس فقط من خلال الاضطرابات التي حدثتْ في فترةِ ما بين الحربين، وإنما أيضًا بقراءته للتاريخ النقدي؛ فقد اعتقد أنه على مدار التاريخ كانتِ الرغبة في اكتناز المدخرات أقوى من الرغبة في استثمارها؛ لأنه في كل الأوقات كانت هناك مخاوف غامضة تقبع تحت السطح، تحدُّ من تفاؤلنا وتخلق تحيزًا دائمًا باتجاه الإبقاء على القيمة الحالية بدلًا من إنشاء قيمة جديدة. كان هذا هو تفسيرَه لسبب بقاء العالم فقيرًا لفترة طويلة؛ فقد اعتقد أن الاستثمار يحدث بسبب نوبات التفاؤل، والتي سماها «الغرائز الحيوانية». ويمكننا تتبع حالات الارتفاع الشديد في الاستثمار هذه عبر التاريخ؛ بدءًا من ازدهار قِطَاع السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، وحتى ازدهار قطاع شركات تكنولوجيا المعلومات الذي انتهى في عام ٢٠٠٠. لكن الناس في الغالب يُفضِّلون اكتناز نقودهم بدلًا من استثمارها؛ أي إن هناك دائمًا مستوًى أعلى من تفضيل السيولة، والذي يفرض ضغطًا دائمًا على أسعار الفائدة ويجعلها تتجه للزيادة. وهنا يظهر السبب في دفاع كينز عن قوانين العصور الوسطى الربوية التي رآها باعتبارها محاولة لمنع الناس من تكوين ثروات من خلال اكتناز النقود.
لقد قدَّم تاريخ الهند في كل الأوقات مثالًا لدولة فقيرة بسبب تفضيلٍ للسيولة تحوَّل إلى رغبة شديدة جدًّا، لدرجة أنه حتى التدفقُ الدائم والكبير للمعادن الثمينة لديها ليس كافيًا لتخفيض سعر الفائدة لمستوًى يتوافق مع نمو الثروة الحقيقية.
اعتقد كينز أنه منذ العصور القديمة وحتى الآن، أدَّى مَيْلُ الشرق لاكتناز التدفقات الخاصة بالمعادن الثمينة إلى وقوع الغرب في مشكلة انكماشية دائمة؛ فمشكلة نقص الذهب في الغرب كانت تنفرج من وقت لآخر من خلال اكتشافات الذهب والفضة في العالم الجديد ومن خلال استيلاء الغرب على أماكن وجود المعادن الثمينة في الشرق.
لذا كان كينز سيرى حالات اختلال التوزان العالمية في الوقت الحاضر باعتبارها إعادة ظهور لنمط قديم، وإنْ كان بشكْل حديث.
إن عملية الضبط تكون «إجبارية» بالنسبة للمَدِين و«اختيارية» بالنسبة للدائن. فإذا لم يُرِدْ، أو يَسمح، الدائن بأن يكون له دور في تلك العملية، فلن يُعانيَ من أيِّ مشكلة؛ ففي حين أن احتياطي أيِّ دولة لا يمكن أن ينخفض عن الصفر، فلا يوجد سقف يمكن أن يحدد الحد الأقصى. ينطبق هذا أيضًا حين تكون القروض الدولية وسيلة للضبط. فيجب للمدين أن يقترض، أما الدائن لا يوجد ما يفرض عليه … الإقراض.
تُخفِّض الدولة التي لديها عجْز في الحساب الجاري من الأسعار المحلية (أو تكاليف الإنتاج) خاصتها برفع أسعار الفائدة؛ مما يؤدي، كما يرى كينز، إلى البطالة؛ حيث إن سياسة تقييد الائتمان لأسعار أقلَّ، كما كتب في عام ١٩٢٥، يمكن أن تُحقِّق فقط الغاية منها «من خلال الزيادة المتعمدة للبطالة». فالدولة الكانزة الكبرى في سنواتِ ما بين الحربين كانتِ الولايات المتحدة، والتي أتاحتْ لها مكانتُها التنافسية القوية، المدعمة بسعر صرف أقل من قيمته، سحب الذهب من باقي الدول في النظام، بما في ذلك بريطانيا.
تم تصميم خطة كينز الخاصة باتحاد المقاصة التي وضعها في عام ١٩٤١ للاحتفاظ (بحسب رؤيته) بمزايا نظامِ سعرِ صرفٍ ثابت، مع تجنُّب التكاليف المقابلة لعملية الضبط. وكما أوضحتُ من قبلُ في الفصل الخامس، كانتِ السمة الجوهرية في تلك الخطة تتمثل في أن الدول الدائنة لن يُسمَح لها بادخار فائضها أو فرض أسعار فائدة عقابية على إقراضه، بل يُتاح الفائض تلقائيًّا على هيئة تسهيلات ائتمانية رخيصة على المكشوف للدول المدينة من خلال آلية عمل بنك اتحاد مقاصة دولي مُودِعوه هم البنوك المركزية لأعضاء الاتحاد. لكن اعترضَتِ الولايات المتحدة على الخطة، والتي لم تكن لتسمحَ بجعْل فائضِها «المكتسب بصعوبة» على نحو تلقائي تحت تصرف الدول المدينة «التي تَصرِف دونَ حساب». بدلًا من ذلك، أدتِ اتفاقية بريتون وودز، التي أُبرمتْ في عام ١٩٤٤، إلى إنشاء صندوق النقد الدولي، والذي كان الهدفُ منه تقديمَ المعاونة المالية القصيرة الأجل، بشروط، للدول التي تَمُرُّ بأزمات مؤقتة فيما يتعلَّق بميزان المدفوعات لدَيْها. لكنَّ العبءَ كان ما زال ملقًى على عاتق الدولة المدينة فيما يتعلق بتخفيض أجورها وأسعارها لاستعادة توازن ميزان المدفوعات.
إن عدم إعادة إنتاج نظام سعر الصرف الثابت لنظام بريتون وودز، والذي استمر من عام ١٩٤٩ وحتى عام ١٩٧١، للطابع الانكماشي للنظام فيما بين الحربين؛ كان يرجع بالكامل للسياسات «المضادة للاكتناز» من جانب الولايات المتحدة، والتي أَغرقَتِ العالمَ «الحرَّ» بالدولارات، لدرجة أنها بحلول ستينيات القرن العشرين بدأتْ في المعاناة من عجز في الميزان التجاري. لقد انعكس الوضع الآن، لكن فكرة أن على الدولة التي لدَيْها عجزٌ تخفيضَ أسعارها المحلية تمَّ الاحتيالُ عليها من خلال حقيقة أن الدولار أصبح الأصل الاحتياطي الرئيسي في العالم. في كتاب «العملة والمالية في الهند» (١٩١٣)، اعتبر كينز معيار صرف الذهب في طليعة عملية التطور النقدي. فعلى نحوٍ عامٍّ، تطلَّع الكتاب إلى اليوم الذي تستمر فيه دولة أو دولتان فقط في الاعتماد على معيار الذهب، مع احتفاظ باقي دول العالم باحتياطياتها من عملاتها، والتي ستكون «جيدة تمامًا مثل الذهب» نظرًا لإمكانية تحويلها إلى ذهب. ومع أفول عصر الجنيه الاسترليني، أصبح الدولار العملة «الرئيسية» الوحيدة على مستوى العالم. ومع اتساع العجز التجاري، طَبعَتِ الولاياتُ المتحدة كميةً متزايدةً من الدولارات لتغطية وارداتها غير المتبادلة. وقد راكمَتِ الدولُ التي لديها فائضٌ التزاماتِها بالدولار الأمريكي، والتي استثمرتْها في سندات الخزانة الأمريكية. لم يكن على الولايات المتحدة تقييد الائتمان المحلي برفع أسعار الفائدة؛ حيث إن الدولارات التي طبعتْها رجعتْ إليها. وفي غياب ما كانتْ ستكون قوة انكماشية كبيرة، ازدهر الاقتصاد العالمي لمدة عشرين عامًا.
إن المشكلة في هذا النظام، كما أَوْضحها تريفين الأستاذ بجامعة ييل، هي أن الزيادة في التزامات الدولة صاحبة العملة الرئيسية أثارتِ الشكوكَ بشأن قدرتها على ردِّ قيمة تلك الالتزامات ذهبًا؛ أدَّى هذا إلى الانهيار المتوقَّع لمعيار صرف الذهب، والذي حدث في عام ١٩٧١. أصبح الدولار غير قابل للتحويل، وتم إنشاء عملة احتياطيٍّ دولية جديدة، وهي حقوق السحب الخاصة التابعة لصندوق النقد الدولي. لكن على الرغم من وجود إمكانية لتحويل الأرصدة الدولارية إلى تلك العملة الجديدة، فقد استمرَّ الدولار في كونه عملة الاحتياطي الرئيسية في العالم، في عالمٍ به مزيجٌ من أسعار الصرف العائمة والثابتة والمُدارة.
في تسعينيات القرن العشرين، ظهرتْ ثانيةً على نحو غير متوقَّع الحاجةُ لوجود احتياطيات، بشكل أساسي للوقاية ضد حدوث حركات قائمة على المضاربة للنقود الساخنة التي يمكن أن تدفع أسعار الصرف بعيدًا عن قِيَم التوازن الخاصة بها. وبدءًا من تلك الفترة، أنشأتْ حكوماتُ دول شرق آسيا مجتمِعةً «نظامَ بريتون وودز الثاني»، رابطةً عملاتِها بالدولار، وجاعلةً احتياطياتها النقدية بالدولار. أعاد هذا إنتاج المزايا التوسعية لنظام بريتون وودز الأول، لكن على حساب وضْعٍ غير متوازن على نحو متزايد للاحتياطي، مع حدوث مبالغة في تقدير قيمة الدولار على نحو تدريجي في مقابل المنافِس الأكبر له؛ وهي العملة الصينية الرنمينبي.
إن أي تحليل كينزي سيضع حالات اختلال التوزان العالمية في قلب الانهيار الاقتصادي الحالي؛ فالبطالة بالنسبة لكينز تبدأ عند وجود اختلال في التوازن بين الادخار والاستثمار، والذي يتم تسييلُه من خلال تخفيض الناتج. إن اختلال التوازن يمكن أن يبدأ من خلال رغبة متزايدة في الادخار أو رغبة متناقصة في الاستثمار أو مِن مزيجٍ من الاثنتين. افتَرِضْ أن الاقتصاد مغلق، كما فعل كينز في كتابه «النظرية العامة»، ثم افتَرِضِ الآتي: وجودَ رغبة متزايدة في الادخار (من قِبَل الصينيين) لا تُقابِلها رغبةٌ متزايدة من قِبَل الولايات المتحدة في الاستثمار يُعرِّض الاقتصادَ الأمريكي لضغط انكماشي. تمَّتْ معاوضة هذا من خلال تدفُّق الدولارات المستثمَرة في سندات الخزانة الأمريكية، والتي مكَّنتْ آلان جرينسبان من الحفاظ على سعر فائدة أموال الاحتياطي الفيدرالي عند مستوًى منخفض على نحو غير طبيعي. لكن ما نتج مِن توسُّع في الائتمان لم يؤدِّ إلى حدوث ارتفاع كبير في معدل الاستثمار، وإنما أدى إلى إنشاء أصْل خاص معتمِد على الديون وزيادة كبيرة في الاستهلاك. إن الموقف كان صعبًا للغاية؛ لأنه لم يتمَّ إنشاءُ أيِّ موارد جديدة لسداد القروض المحلية أو الأجنبية. وفيما بين يونيو ٢٠٠٤ ويوليو ٢٠٠٦، رفع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، من أجْل وقف التضخم وإعادة أسعار الفائدة القصيرة الأجل لمستوًى طبيعيٍّ أكثر، سعرَ فائدة أموال الاحتياطي الفيدرالي من ١٪ إلى ٥٫٢٥٪، وأبقاها عند هذا المستوى حتى أغسطس من عام ٢٠٠٧. أدَّى هذا إلى انهيار الازدهار الذي كان موجودًا في القطاع العقاري، وأدتْ تبعات ذلك على الميزانية العمومية للبنوك التي قامتْ بتقديم الرهونات العقارية أو توريقها إلى انهيار النظام المصرفي. وكما أوضح كينز في تناوُله للأزمة البنكية في بريطانيا في عام ١٩١٤: «إذا كان «أ» يَدِين ﻟ «ب» بنقود و«ب» ﻟ «ج»، و«ج» ﻟ «د» … إلخ؛ فإنَّ فَشَلَ «أ» في السداد قد يعني أيضًا فَشَلَ المجموعة كلها.»
لا أستطيع منْعَ نفسي من الاعتقاد أن هناك خطرًا الآن يتمثل في حدوث انكماش وكساد في الأعمال … وإذا تمَّتْ محاولةٌ أطول مما ينبغي لوقف وضع المضاربة من خلال النقود العزيزة، فربما تؤدي تلك النقود، بوقفها للاستثمارات الجديدة، إلى إحداث كساد عامٍّ في الأعمال.
هذا ما أعتقد أنه حَدَثَ في عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠٠٨.
الاقتصاد السياسي عند كينز
في الوقت الحالي، تركِّز أجندة الإصلاح لتجنُّب الأزمات المستقبلية بالكامل على إصلاح النظام المصرفي أو إعادة بنائه لمنْع الإقراض غير الحكيم. وهذه الإصلاحات ضرورية جدًّا. لكنَّ هناك افتراضًا شائعًا وهو أنه بمجرد انتهاء الأزمة، يمكن أن تستمر السياسة الخاصة بالاقتصاد الكلِّي كما كانت؛ أيْ بهدف واحد، وهو معدل التضخم. لكن ستستمر العديد من المخاطر في الوجود، والتي لا يمكن التعامل معها على نحو ملائم لأنها غير قابلة للقياس؛ لذا فإن جانبًا من المهمة الخاصة بتقليل المخاطر يجب أن تضطلع به الحكومة. وهذا يعني توسيعَ المهامِّ الخاصة بالاقتصاد الكلي للحكومة.
تتمثل الوصفة الكينزية لاقتصاد تَقِلُّ فيه نسبة عدم اليقين في ثلاثة عناصر أساسية؛ وهي: اتخاذ إجراءات لتحفيز الاستثمار وأخرى لتحفيز الاستهلاك، هذا إلى جانب إصلاح النظام النقدي الدولي لمنْع انتقال البطالة من دولة لأخرى.
إن الواجب الأول للدولة هو ضمان وجود استثمار كافٍ في الاقتصاد للحفاظ على مستوى التوظيف الكامل المستمر. وعلى الرغم من أن تخفيض الضرائب قد يُعطي انتعاشًا مؤقتًا للاستثمار، فسيكون له فقط تأثير ضعيف وغير مؤكد على توقعات الربحية. للسبب نفسه، شك كينز في نجاح سياسة نقدية خالصة في الحفاظ على مستوى استثمارٍ ذي نسبة توظيف كاملة. لقد عُرض من قَبل أساسُ تلك الشكوك؛ فمحاولة السلطة النقدية تخفيض أسعار الفائدة الطويلة الأجل لتكون أقلَّ من السعر الذي تعتبره السوق (من خلال التجربة التاريخية) سعرًا «آمنًا» أو «طبيعيًّا»، بحَثِّ الناس على بيْع السندات في مقابل السيولة، «ربما تُعَدُّ العائقَ الأساسي أمام حدوث هبوط في سعر الفائدة لمستوًى منخفضٍ جدًّا.» من ثَمَّ، فإن مشكلة الحفاظ على مستوى التوظيف الكامل تنشأ من «الارتباط بين سعر فائدة طويل الأجل مستقرٍّ نوعًا ما ومعتاد، وكفاءة رأسمالية حدِّية غير مستقرة على نحو كبير ومتقلبة.» يتمثل حلُّ كينز للمشكلة في استخدام السياسة النقدية في فرض سعر فائدة طويلِ الأجَلِ منخفِضٍ على نحو دائم؛ فقد قال في هذا الشأن: «إنَّ «أيَّ» مستوًى من الفائدة يُعتقد بدرجة كافية من الاقتناع أن من المرجَّح بقاءَه لمدة طويلة «سيبقَى» لمدة طويلة …» لهذا السبب، لم يُرِدِ استخدام أسعار الفائدة لإدارة الدورة الاقتصادية؛ وهو الشيء المعاكس تمامًا للممارسة الحالية. لكنه اعتقد أنه «يبدو من المحتمل أن التقلبات في … الكفاءة الحدية لرأس المال … ستكون كبيرة جدًّا، بحيث لا يُمكِن معاوضتُها بإدخال أيِّ تغييرات عملية على سعر الفائدة.» ومن هنا، وبعيدًا عن الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضةً دائمًا، فيجب «إضفاء الطابع الاشتراكي» على الاستثمار. كتب كينز يقول: «أتوقَّع أنْ أرى الدولة … تتحمَّل مسئولية أكبر فيما يتعلق بالتنظيم المباشر للاستثمار»، و«لذلك أرى أن إضفاءً شاملًا بعضَ الشيء للطابع الاشتراكي على الاستثمار سيُثبِتُ أنه الوسيلة الوحيدة لضمان الاقتراب من مستوى التوظيف الكامل.»
لم يكن كينز يقصد ﺑ «إضفاء الطابع الاشتراكي على الاستثمار» التأميمَ؛ فتلك العملية لا تحتاج لاستبعاد «كلِّ طرق التسوية والأدوات التي مِن خلالها ستتعاون السلطة العامة مع القطاع الخاص.» تعكس تلك العبارةُ غيرُ القاطعة في كتاب «النظرية العامة» تفكيرَ كينز بشأن «الشراكات بين القطاعين العام والخاص»، والذي نَتَجَ عن انخراطه في السياسات الخاصة بالحزب الليبرالي في عشرينيات القرن العشرين. في واقع الأمر، سعى كينز لتوسيع مكوِّن المرافق العامة في الاستثمار لإعطاء استقرارٍ أكبرَ للاستثمار. أما اليومَ، فكان سَيرى المؤسسات الاستثمارية الكبرى مثل صناديق التقاعُد باعتبارها داعمًا كبيرًا للاستقرار. ويمكن لتدفقٍ منتظمٍ من الاستثمار المدعم من الحكومة تقليلُ التقلبات لمستويات متواضعة، الأمر الذي يمكن التحكم فيه بسهولة، إذا كانتْ هناك رغبة، وذلك بتسريع أو إبطاء عناصر في برنامج الاستثمار. إن مثل هذا الاستثمار ليس من المفترض أن يحقق بالضرورة أرباحًا كبيرة. لكن في حالة تحقيقه لعوائد إيجابية، سيكون هذا مكسبًا. وإذا كانتْ لدى الأسواق معلومات كاملة، فسيكون الاستثمار العام غيرَ فعَّال. لكن مع وجود عدم يقين، سيكون هناك مكسبٌ مقارنةً بعدم وجود استثمار عام على الإطلاق، بسبب الخسائر الناتجة عن عدم اليقين.
يجب أن يُصاحِب الإنتاجَ الواسعَ النطاق في أيِّ اقتصاد استهلاكٌ واسعُ النطاق. ويتضمن هذا النوع من الاستهلاك بدوره توزيعًا للثروة لإعطاء الناس القدرة الشرائية. وبدلًا من القيام بهذا النوع من التوزيع، قامتْ آلية سحْبٍ كبرى بحلول عام ١٩٢٩ بوضع نسبة متزايدة من الثروة المنتجة في ذلك الوقت في يَدِ أشخاص قليلين؛ أدى هذا إلى تراكم رأس المال. لكن بأخذ القدرة الشرائية مِن يَدِ المستهلكين على نطاق واسع، حَرَمَ المدخرون أنفسَهم من الطلب الفعَّال على منتجاتهم، والذي كان سيُبرِّر إعادة استثمار رءوس أموالهم المتراكمة في مصانع جديدة. نتيجة لذلك، وكما هو الحال في أيِّ لعبة قمار، عندما تتركز الفيشات في يَدِ عدد قليل جدًّا من اللاعبين، فإن اللاعبين الآخرين لا يُمكِنهم الاستمرار في اللعبة إلا من خلال الاقتراض. وعندما تتوقف قدرتُهم على الاقتراض، تتوقف اللعبة.
إن «آلية السحب» نفسَها كانتْ عاملة في بريطانيا والولايات المتحدة في الفترة السابقة على الأزمة التي حدثتْ في عام ٢٠٠٧؛ حيث تمَّ اللجوء للاقتراض لتعويض عدم المساواة المتزايدة بين الناس في الثروة والدخول.
وأخيرًا، كان كينز سيُريد القيام بإصلاح كبير في النظام النقدي الدولي. وستتمثل الحاجة الأساسية في تقليل حجم الاحتياطيات العالمية. ففيما بين عامَيْ ٢٠٠٣ و٢٠٠٩، زادت الاحتياطيات العالمية القابلة للقياس من ٢٫٦ إلى ٦٫٨ تريليونات دولار، بنسبة زيادة سنوية متوسطة تبلغ حوالي ١٥٪ في وقت كان فيه الناتج المحلي الإجمالي العالمي ينمو بمعدل سنوي قدْرُه ٤٫٤٪. وفي عام ٢٠٠٣، وصل حجم احتياطيات الذهب العالمية لحوالي ٧٪ من إجمالي الاحتياطيات، وزاد هذا الرقم في عام ٢٠٠٩ إلى ١٢٪.
إن هذا التحول باتجاه السيولة يؤدِّي إلى زيادة كبيرة في الضغط الانكماشي؛ فالاحتياطيات طريقة للتأمين ضد عدم اليقين، والمطلوب هو تقليل تكلفة هذا التأمين بتقليل نسبة عدم اليقين، وستحتاج أيُّ حزمة من الإجراءات منوطٍ بها تحقيق هذا أن تتضمن تدويل الاحتياطيات ووضع ضوابط على تدفقات الأموال الساخنة والاتفاق على أسعار الصرف.
اقترحَتِ الصينُ إنشاء «عملة احتياطي فوق سيادية»، لكن دون إبداء أيِّ تفاصيل. تتمثل الخطوة الأولى في سبيل ذلك في إصدار حقوق السحْب الخاصة لتمويل الأرصدة الدولارية الحالية. وهناك سابقةٌ في هذا الإطار، والتي تتمثل في اقتراح صندوق النقد الدولي تمويل الأرصدة التي بالجنيه الاسترليني، وهو الاقتراح الذي رفضتْه بريطانيا في عام ١٩٤٤، ثم عادتْ لتَقْبَلَه في عام ١٩٧٨ في خطوة أدتْ إلى القضاء بالكامل على منطقة الاسترليني. وستكون هناك حاجة للاتفاق على سعر للإنشاء المستقبلي لموارد صندوق النقد الدولي والشروط التي على أساسها سيتم إقراضها. وإلى جانب فرض ضريبة «توبين» أو وضع ضوابط كمية على المبادلات المالية القصيرة الأجل، فإن تلك الإجراءات ستُقلِّل على نحو كبير الحاجةَ للاحتفاظ بمثل هذه الاحتياطيات الكبيرة. لكن هناك حاجة أيضًا للاتفاق على أسعار الصرف. فتعد التقلبات الكبيرة في قِيَم العملات غير المبررة على نحو كبير بحدوث تغيرات في الظروف التنافسية، السببَ الرئيسي لعدم اليقين في عالمنا اليوم. باختصار، نحتاج للعودة لعناصر خطة كينز التي تمَّ رفضُها في عام ١٩٤١. كان كينز سيقول إنه ما لم يكن النظام النقدي العالمي ثابتًا، فستكون هناك عودة للحماية وستنحسر العولمة.
نحو علم اقتصاد جديد
ادَّعى كينز أنَّ نظريته كانَت «عامة» أكثر من الاقتصاد الكلاسيكي؛ لأنها تضمَّنَتْ مجموعة متنوعة من الأوضاع الاقتصادية التي تُقدِّم حالات مختلفة من المعرفة. السؤال الآن: ما مدى محورية نظرية كينز؟ فإذا كان محرك النمو الرأسمالي معرَّضًا لعدم اليقين الوجودي الأصيل، فإن أداءَه المتواضع وانهياراته المتكررة أمرٌ مفهوم. أما، على الجانب الآخر، إذا كان عدم اليقين يمكن صياغتُه على نحو معقول باعتباره مشْكلة خاصة بالمعلومات يمكن التغلب عليها من خلال التعلُّم والمعالجة الأكثر فاعلية للبيانات، فنظرية كينز سيتمُّ تهميشُها وستعود النظرية الكلاسيكية لتكون هي النظريةَ المحورية. وستتطلب عودة الاقتصاد الكلاسيكي تهميش نظرية كينز وإعادة التأكيد على رؤيتها الخاصة بالسوق الذاتية التنظيم، القائمة على «المعلومات الكاملة» باعتبارها النظرية العامة. إن انهيار فكرة السوق الذاتية التنظيم فيما بين عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ يوحي لي بأن نظرية كينز هي النظرية «العامة». لكن كيف سيبدو اقتصادٌ يأخذ عدم اليقين بمحمل الجد؟
يتمثل الجانب الأساسي في دور الرياضيات في علم الاقتصاد؛ فقد استخدم الجيل الأقدم من الاقتصاديين الرياضيات لغرض محدود جدًّا؛ وهو جعْل بديهياتهم عن العالم الحقيقي أكثر دقة، وليست إنشاءَ نظام بديهي تكمن ميزته في عدم واقعيته. لا بد أن تكون هناك عودة لاقتصاد يترك مساحة للملاحظات المهمة للسلوك الاقتصادي الذي لا يمكن التعبير عنه من خلال الرياضيات. كان كينز نفسُه ضدَّ الدقة المبالَغ فيها؛ فسواء كان صاحِبَ عبارة «من الأفضل أن تكون قريبًا من الصواب عن أن تكون مخطئًا على نحو جازم»، فإن تلك العبارة تلخِّص منهجَه في هذا الشأن. وبقي صياغة تدريس الاقتصاد وإنتاج المَراجع الاقتصادية ووضْع المعايير المهنية للدوريات الاقتصادية بحيث تعكس تلك المبادئ.
الخلاصة
تَبرُز نتيجةٌ واحدةٌ واضحةٌ من تلك الخاتمة الموجزة؛ وهي الحاجة لدَوْرٍ أكبرَ من جانب الحكومة في إدارة الاقتصاد. ويتطلب هذا بدوره إعادةَ التأهيل الفكري للدولة، بحيث تُصبح عنصرًا فاعلًا اقتصاديًّا عقلانيًّا في الغالب، بدلًا من مجرد ساعٍ وراء الأصوات الانتخابية. مرَّتْ عقودٌ عديدة دون أن يتحدث أحد، مثلما فعل كينز في عام ١٩٣٦، عن كون الدولة «في وضع يسمح لها بحساب الكفاءة الحدية للسلع الرأسمالية على المدى الطويل وعلى أساس المنفعة الاجتماعية العامة.» نحتاج للتفكير في هيكل للدولة يسمح لها بالفصل بين دورها الاستثماري والدوافع السياسية التي تُحرك السياسيين.
نحن لسنا بحاجة لكينز جديد؛ بل بحاجة لكينز القديم، لكنْ مُعدَّلًا على نحو ملائم، والذي لن يكون مرشدَنا الوحيد للمستقبل الاقتصادي، لكنه سيظلُّ مرشدًا مهمًّا لا غنى عنه.