فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
كانت آراء كينز في الاقتصاد — بخلاف النظرية الكينزية في الاقتصاد — تُحرِّكها دوافع فلسفية. وتأثرتْ بنظرته ﻟ «الحياة الجيدة»؛ وتخللتْها نظريته في الاحتمال. ترسخَتِ الأسس الفلسفية هذه لدى كينز في سنوات حياته الأولى؛ فقد جاءت الفلسفة قبل الاقتصاد، وجاءت فلسفة الغاية عنده قبل فلسفة الوسيلة.
كانت فلسفة كينز نتاج جيل ملحد؛ فقد رأى كينز ومعاصروه أنهم يستبدلون ﺑ «الخرافات» المسيحية نظامًا عقلانيًّا للأخلاق والسلوك. لكنهم استخدموا أدوات فكرية ورِثوها عن الماضي المسيحي (واليوناني)؛ حيث كان هيكل فكرهم ذا طابع ميتافيزيقي.
كانت نظريةُ كينز المعرفية المعتمدة على الحدس محوريةً؛ فقد اعتبَر الحدسَ، لا التجربة الحسية، أساسَ المعرفة، بما فيها المعرفة الأخلاقية، وهو تقليد يرجع إلى أفلاطون. فكان تركيزه على التفكير الحدسي في الاقتصاد، إلى جانب رفضه لعلم الاقتصاد القياسي، مبنيًّا على أسس فلسفية لا مجرد مَيْلٍ.
واستمد كينز معتقداته الأخلاقية من كتاب جي إي مور «مبادئ الأخلاق»، الذي نُشر عام ١٩٠٣ وكان ذلك عامه الثاني في الجامعة. وفي عام ١٩٣٨ قال كينز: «لا أرى أي داعٍ لتجاهُل الحدس الأساسي في كتاب «مبادئ الأخلاق».» وهناك ثلاثة أشياء تعلَّمها من مور تبدو ذات أهمية خاصة. كان أولُها استحالةَ تعريف الخير؛ فقد قال مور إن الخير كلمة تعبر عن صفة بسيطة غير طبيعية، ومعروفة بالبديهة. أما الشيء الثاني؛ فهو أن الحالات الشعورية الجيدة أو السيئة تسبق فعل الخير أو الشر؛ فالقِيَم تحدد الواجبات. والشيء الثالث هو أن «أثمن الأشياء التي نعرفها أو يمكن أن نتصورها هي حالات شعورية معينة، والتي ربما تنحصر في الإحساس بلذَّة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة.» وآمَنَ مور بأن تلك حقيقة بديهية. وأضاف كينز الشابُّ المتأثر تأثرًا شديدًا بأفكار مور إلى هذين الشيئين حُبَّ المعرفة.
كانت أعمال الخير عند مور هي تلك التي تجلب حالات شعورية جيدة؛ فقد قال مور إن «هذين الشيئين (لذة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة) والحصول على أكبر قدْر ممكن منهما في وقت معين هما المسوِّغُ الوحيد الذي يَجعل أيَّ شخص يقوم بأيِّ واجب خاص أو عام، وإنهما أسباب وجود الفضيلة، وهما يُمثِّلان الغاية العقلانية للفعل البشري والمعيار الوحيد للتقدم.»
ورأى كينز الشاب في ذلك مشكلتين؛ أولًا: عجز مور — بحسب قول كينز — عن وضع أساس عقلاني لسلوك الإيثار؛ فليس هناك «رابط واضح» بين الخيرية الفردية والعامة، ويعلل كينز ذلك قائلًا: «لأن الخيرية الفردية والخيرية العامة تفرضان عليَّ متطلبات لا يمكن الجمع بينها ولا يمكن المفاضلة بينها على ميزان واحد.» ويمكننا القول إن المتطلبات المتعارضة لدى كينز هي متطلبات مجموعة بلومزبيري والحكومة البريطانية.
ثانيًا: لأننا «لم تسنح لنا الفرصة قَطُّ للمعاينة المباشرة للمشاعر الخيِّرة للآخرين، فإنه من المستحيل تحديد أنواع الأفعال التي تزيد الخيرية العامة ككل.» ويُعَدُّ معيار مور لتقييم الفعل العام أدنى مرتبة من معيار بنثام؛ إذ إنه من المستحيل باستخدام هذا المعيار معرفة هل كان التقدم الأخلاقي يحدث أم لا. وبالأخص، لا تعتمد الحالات الشعورية الجيدة للناس بأيِّ نحو مباشر على صلاح أمر العالم.
بنَى مور جسرًا للإصلاح الاجتماعي بأفكاره عن الوحدة العضوية. وكان الهدف الرئيسي من مبدئه، كما وصفه كينز، هو الحد من محاولات تحديد الخيرية بالرجوع فقط لحالات شعورية منفصلة. بل ينبغي عند الحكم على خيرية وضعٍ معينٍ الرجوعُ إلى الزمن وعناصر التجربة. وحلَّل كينز «الكليات المركبة» لمور إلى حالات عقلية خيِّرة في جوهرها، وإلى أشياء اعتبرها «مناسبة» أو «مرغوبة». ولا تحتاج تلك الأشياء لأنْ تحمِل قِيمة أخلاقية في ذاتها. لكنَّ قيمة التجربة دونها أقل من قيمتها في وجودها. ويمكن للمُصلِح الاجتماعي الادِّعاء بأنه بتحسين جودة عناصر التجربة تزيد الخيرية الأخلاقية في العالم. ويرى مور أن الخيرية تزداد، مع ثبات العوامل الأخرى، بزيادة مقدار الجمال. وقد تصرَّف كينز تبعًا لهذا الاعتقاد بوصفه محبًّا لخير البشرية، ومؤسسًا لمسرح كامبريدج للفنون، وكونه أول رئيس لمجلس الفنون. وفي ذروة الكساد، أشار كذلك إلى أنه إذا وضع برنامجًا للاستثمار العام مستوحًى من مبادئ مور، فإنه سيسعى لتزويد مدن بريطانيا «بكل أدوات الفن والحضارة» وجعْلها «أعظم الإنجازات البشرية على مستوى العالم». وقد يودُّ كينز، كأحد تلامذة مور، العملَ على رفع مستوى التعليم والرفاهية ما دام أن هذا يُحسِّن مستوى الذكاء ويَزيد الوعي والجمال لدى الأمة.
لكن تظهر المشكلة مع ما صنَّفه مور ضمن فئة «الخير المختلط»؛ حيث تعتمد المشاعر الجيدة على وجود نظيرتها السيئة؛ إذ يمكن القول إن مشاعر الشفقة والشجاعة والعدل التي تحمل قيمة أخلاقية إيجابية تعتمد على وجود المعاناة والخطر والظلم. وقد يقلل الإصلاح الاقتصادي من مجمل الخيرية الأخلاقية بقدْر ما يخلِّص العالم من المشاعر السيئة. وربما يَعتبر المصلحون الاجتماعيون تلك الاعتباراتِ تافهةً إذا ما قورنت بالمعاناة والاضطهاد اللذين يمكن التخلص منهما. ويبيِّن انتباه كينز لذلك أمانته الفكرية؛ كما يفسر ضعف حماسته تجاه الإصلاح الاجتماعي.
كما ظهرت مشكلة أخرى في مناقشة مور لفكرة الواجب دفعتْ كينز، بحسب قوله، لقضاء «كل وقت فراغه على مدار سنوات» في دراسة الاحتمال؛ فقد قال مور إننا يجب أن نتصرف بشكل يجلب لنا أكبر قدْر ممكن من الخيرية العامة. لكن معرفتنا بنتائج أفعالنا ستكون احتمالية في أحسن الأحوال. وبما أنه من المستحيل معرفة الآثار المحتملة للأفعال الممتدَّة عبر الزمن إلى المستقبل، فإن أقصى ما يمكننا عمله في معظم الأحوال، حسبما قال مور، هو اتباع القواعد الأخلاقية المفيدة بشكل عام، والتي تمارَس على نطاق واسع كما اقترح هيوم من قبل. وكان هذا الاستنتاج غصة في حلق كينز الشاب؛ فقد استرجع عام ١٩٣٨ قائلًا: «قبل نزول وحي السماء، كنا نزعم أننا القاضي الوحيد في قضيتنا.» وأخذ كينز يحاول اكتشاف أساس عقلاني للأحكام الفردية للاحتمال. وقال في مقالٍ قرأه على أعضاء جماعة «رُسل كامبريدج» في ٢٣ يناير ١٩٠٤ إن مور خَلَطَ بين معرفة الاحتمالات ومعرفة التكرار النسبي للحدوث؛ فقد كان مور يزعم أننا إن لم نعلم بشكل مؤكد أنَّ أيَّ خير يمكننا عمله في المستقبل القريب لن يفوقه مقدار الضرر الناتج عنه في المستقبل البعيد، فإنه ليس لدينا أساس عقلاني للحكم الفردي. لكن كينز قال إن هذا غير صحيح. فكل ما نحتاجه هو «تلاشي أسباب الاعتقاد» بأن أيَّ خير آنيٍّ نفعله لن تفسده النتائجُ بعيدةُ الأمد. فلم يكن الجهل عائقًا أمام الحكم الفردي، بل كان وسيلة لتحييد المجهول. وبتطبيق «مبدأ اللامبالاة» — أيْ تخصيص احتمالات متساوية لكل البدائل التي تتساوى لدينا الأدلة عنها (بما في ذلك انعدام الأدلة) — يمكننا توسيع نطاق الأحكام الاحتمالية. وعلى نحو أكثر عمومية، كانتِ المعرفة الاحتمالية نوعًا من المعرفة المنطقية، بالنظر إلى «ارتباط الأدلة» بالاستنتاجات؛ فقد ارتبطتْ بعقلانية الاعتقادات لا بظروف الأحداث. وكان بحث كينز في الاحتمال الذي نُشر أخيرًا في عام ١٩٢١ نابعًا من تلك الفكرة الجريئة.
كان السؤال الذي طرحه كينز هو: ما هي مبادئ الاختيار والفعل العقلاني عندما يكون المستقبل مجهولًا أو غير مؤكد؟ هذا يعني أن اهتمامه كان بعقلانية الوسيلة لا الغاية، رغم أن الحكْم بخيرية الفعل يعتمد على كلتيهما. وزعم كينز أن العقل يمكنه غالبًا أن «يقلِّل» عدم اليقين إلى احتمال؛ حيث يَدلُّه الحدس إلى أن بعض النتائج أكثرُ أو أقلُّ احتمالًا للحدوث من غيرها؛ أو كما قال إنه «يدرك» علاقة احتمالٍ بين الدليل (المقدمة) والنتيجة في مسألةٍ ما. ويسمح هذا الإدراك ﺑ «درجة من تصديق» النتيجة. فالمنطق الذي يقترحه هو منطق الاستتباع الجزئي.
اعتُبر رأي كينز بأن الاحتمال عبارة عن «تبصُّر» منطقي هجومًا على النظرية السائدة في ذلك الوقت — وهي النظرية التكرارية — التي قالت إن الاحتمال حقيقة من حقائق الطبيعة؛ فإذا كان واحد من كل عشرة مدخنين يموت بالسرطان، فإن احتمال وفاة المدخنين بسبب السرطان هي ١٠٪. كَتب كينز يقول إن المطابقة بين التكرار والاحتمال «هي انحراف شديد عن الاستخدام المعروف للكلمات.» علاوة على ذلك، فإنها تفترض «الافتراض الاستقرائي» الذي لا يمكن اشتقاقه من التكرار.
كانت النقطة التي أراد كينز — قبل كل شيء — أن يُثبِتها هي أن معرفتنا بالاحتمالات أوسع من معرفتنا بالتكرار. وبنفس المنطق فإن معرفتنا بالاحتمالات جزئيًّا هي معرفة رقمية؛ أيْ معرفة النِّسَب. فالحدس المنطقي — عندما يقوم على دليل — لا يمكنه في معظم الأحوال إلا أن يشير إلى أن نتيجةً معينةً أكثرُ احتمالًا للحدوث من الأخرى دون القدرة على الإشارة إلى نسبة احتمال الحدوث أو عدم الحدوث. فلدينا قدْر محدود من التبصُّر الفردي تجاه طبيعة الكون. وطرح كينز فكرة الاحتمالات المجهولة نتيجة استحالة المقارنة بين الاحتمالات في بعض الأحيان بناءً على أوجه مقارنة مختلفة. فعند اتخاذ قرار أخذ مظلة عند الخروج للسير، أيُّ القرائن التي ستدفعنا أكثر لذلك: هل كثرة الغيوم، أم ارتفاع قياس الضغط الجوي في البارومتر؟ وفي تلك الحالة، «سيكون من المنطقي السماح لرغباتنا بتحديد قرارنا وتوفير الوقت الذي سيضيع في النقاش.» مرة أخرى، لا يمكن اعتبار الجهل عائقًا أمام الحكم العقلاني.
تتسم نظرية كينز في الاحتمال بالتفاؤل حيال قوة العقل البشري وبالتشاؤم حيال قدرة العقل على كشف أسرار الكون. اقتبس كينز عن لوك قوله: «في الجزء الأكبر من دائرة اهتمامنا، أستطيع القولَ إن الرب لم يقدِّم لنا سوى «شفق الاحتمال»، وهو ما يناسب — حسب ما اعتقد — الحالة المتواضعة والبدائية التي أراد أن نكون عليها في هذه الأرض.»
وعند تحديد الشيء العقلاني حتى نفعله، علينا أن ننظر إلى اعتبارَين آخرَين لا علاقة لهما بالاحتمال؛ وهما، بحسب كينز: «مدى أهمية القضية» و«المخاطرة الأخلاقية». ويقصد كينز بالأولى قدْر الدليل الذي يؤيد حكمًا احتماليًّا معينًا. ولا يغيِّر هذا من الاحتمال، وإنما قد يغير قدْر الثقة في حكمنا. ويلعب تفريق كينز بين عقلانية أيِّ حكم نصدره وقدْر الثقة التي من المنطقي توافُره فيه دورًا محوريًّا في مناقشة الجانب النفسي للاستثمار في كتابه «النظرية العامة». ويشير مبدأ المخاطرة الأخلاقية إلى أنه من المنطقيِّ أكثرَ استهدافُ نوع أصغر من الخيرية يزيد احتمال تحققه بدلًا من استهداف نوع أكبر من الخيرية يقل احتمال تحققه، وذلك في حالة تَسَاوي احتمال وجود الخير في الحالتين. وعند تَساوي العوامل الأخرى، «تؤدي زيادةُ أهمية القضية وغيابُ المخاطرة الأخلاقية إلى زيادة الرغبة في القيام بفعل ما.» وتُمثِّل هذه الفكرةُ الأساسَ الفلسفيَّ لرفض كينز للتغيير الثوري.
وفي أثناء إعداد بحثِه في الاحتمال للنشر، أضاف كينز بعض الأقسام عن الاستقراء والاستدلال الإحصائي. وكتب يقول إن العالِم المتعمق في المذهب التجريبي لا يمكنه الاستفادة من الاستقراء دون عدم اتساق؛ إذ إن استخدام المنهج الاستقرائي يتطلب تعيين احتمال مسبق لصحتها. أما الصفحات التي تربو على المائة بقليل عن الاستدلال الإحصائي، فهي رائعة بسبب محاولة كينز قَصْر نطاق صحة تلك الطريقة على مجموعات الحالات التي يتوافر فيها معدل التكرار الثابت بدلًا من المتوسط. وهذا مكمن اعتراضه على إساءة استخدام علم الاقتصاد القياسي. ومما لا شك فيه أن اعتراض كينز الفلسفي على الاستقراء جَعَل آراءه الاقتصادية تنحرف بشدة عن المذهب التجريبي، رغم مطالبته المستمرة بتحسين جودة البيانات. وبينما قصد اختيار نماذج قادرة على تفسير «حقائق التجربة»، لم تُشتقَّ نماذجه من التجربة، بل من التأمل الذاتي. وفي هذا السياق يُعَدُّ منهجه أقرب لمنهج الاقتصاديين الكلاسيكيين من منهج نُقَّادهم من أتباع الاقتصاد «المؤسسي».
لم ينتشلْ تلامذةُ كينز كتابَه «بحث في الاحتمال» من غياهب النسيان إلا مؤخرًا. ويُعَدُّ ذلك جزءًا مِن تَنامي الوعي بأهمية نظرية كينز المعرفية في فهم نظريته في السلوك الاقتصادي. هناك جدل حول وضع نظريته في الاحتمال. فهل كانتِ النظرية عبارة عن بِنْيةِ مُنَظِّرٍ واقعي كما يزعم رودريك أودونيل، أم أنها عبارة عن «منطق رأي» كما تقول آنا كارابيلي؟ يبدو أن إصرار كينز على أن الاحتمال هو علاقة «موضوعية واقعية» وأن كل المعتقدات المنطقية تعتمد على فرضيات صحيحة يدعم مذهب أودونيل، رغم أن كينز عدَّل رأيَه لاحقًا استجابةً للنقد الذي وجَّهه إليه فرانك رامزي. وهناك مسألة أخرى تتعلق بالاتساق المعرفي بين كتاب «بحث في الاحتمال» وكتاب «النظرية العامة»؛ إذ يتساءل أثول فيتزجيبونز عن سبب تحوُّل «شفق الاحتمال» بحلول عام ١٩٣٦ إلى «ظلام حالك» من عدم اليقين. وتقدِّم نقطةُ التحول المتمثلة في الحرب العالمية الأولى الإجابةَ. لكن في النهاية هل يرى كينز — في كتاب «النظرية العامة» — في السلوك الاستثماري سلوكًا عقلانيًّا أم غيرَ عقلاني؟ هنا يظهر الخلاف الجوهري بين مَن يَرَوْن أن استراتيجيةَ الاستثمار «التقليدي»، التي ذكرها كينز في «النظرية العامة»، هي شكلٌ «باهت» من العقلانية، ومَن يقولون إن كينز كان يعتقد أن السلوك الاستثماري غير عقلاني. ربما كان هذا حكمًا «تقليديًّا» غيرَ قابل للجدال على الاحتمالات، والذي يحافظ على ثبات معقول للاستثمار مع كون «الغريزة الحيوانية» هي السبب في دورته.
لم تكن تلك المناقشات مجرد اهتمام بالتاريخ؛ فقد كان كينز أول اقتصادي يضع عدم اليقين في قلب المشكلة الاقتصادية، وهو ما أثار قضية نطاق العقلانية ومعناها في علم الاقتصاد. فهل العقلانية ممكنة في عالَم يتسم بعدم اليقين؟ وكيف يمكن تحديدها؟ ترتبط المسألة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية بالظروف التي ينبغي توفيرها؛ لئلا ترى العناصرُ الاقتصاديةُ الفاعلةُ هيكلَ الاقتصادِ يتسم من الأساس بعدم اليقين.
وُضعت نظرية كينز في السياسة ضمن الإطار المفاهيمي ذاته لفلسفته الأخلاقية والاقتصادية. وكانتْ أقربُ محاولاته لتقديم عرض منهجي هو المقالَ الذي كتبه في ١٠٠ صفحة خلال دراسته الجامعية عن إدموند بيرك، الذي نجح في الحصول به على الجائزة الجامعية في المقال الإنجليزي عام ١٩٠٤، وهي نفس السنة التي كتب فيها أول مقالاته عن الاحتمالات. أبدى كينز تعاطفا شديدًا مع آراء مؤسِّس مبادئ التيار المحافظ البريطاني؛ فقد أيَّد فصْل بيرك بين الأخلاق والسياسة، بجانب تفضيله للمصلحة الحالية على المصلحة المستقبلية. لكن كينز انتقد بيرك لجُبْنِه الشديد بوصفه مُصلحًا ولاستخفافه بادعاءات الحقيقة؛ فقد انتقده بشكل عامٍّ لمبالغته في تحميل الافتراضات المنطقية ما لا تَحتمل. وقد كانت الآراء التي قدمها في مقاله هذا الذي كتبه خلال الدراسة الجامعية، وكذلك في كتاباته الناضجة لاحقًا، سابقةً لعصرها.
تكمن «حكمة بيرك السياسية التي لا تُضاهَى» — طبقًا لكينز — في أنه كان أول مفكر على الإطلاق يضع نظرية سياسية تقوم على النفعية بدلًا من الحقوق المجردة، رغم أن تلك النفعية «اقترنت» بمبدأ المساواة القائل إن على الحكومات أن تتجنب التمييز المفتعل ضد أفرادٍ أو طبقات معينة. واقتبس كينز عن بيرك، مؤيِّدًا له، قوله: «القضية بالنسبة لي لا تتمثل فيما إذا كنت تمتلك حقَّ إتعاس شعبك أم لا، وإنما إذا كنتَ ليستْ لديك الرغبة في إسعاده أم لا.» وأضاف كينز: «ليستْ هذه الفكرة عميقة تمامًا، لكن يجب أن نُقِرَّ، بفضل بيرك، بأنه أول مَن عبَّر عنها بوضوح وثبات.» وكان أهم تبعات هذه الفكرة هو احتفاء بيرك بالنفعية بوصفها مبدأً جوهريًّا في السياسة، وهو ما أيَّده كينز بالتأكيد. وقد قال كينز في أحد مقالاته في منتصف عشرينيات القرن العشرين: «إنها لَكارثة فادحة أن تتبنَّى حكومةٌ رأسمالية أيَّ مبادئ. بل يجب عليها أن تكون انتهازية بكل معاني الكلمة وتعتمد على المواءمة وعلى التقدير السليم للموقف. وأيُّ حكومة، سواء كانت ملكية أم حكومة أثرياء أو غيرها، إنْ تبنَّتْ أيَّ مبادئ فستسقط في النهاية.» كان لدى كينز في صناعة السياسات ميل صريح، وإنْ كان غير متطرف، تجاه حرية التصرف في مقابل القواعد الثابتة؛ وذلك لأسباب يُمكن استنتاجُها بسهولة من إعجابه بأفكار بيرك.
لقد تقبَّل كينز الرأيَ الذي أرجَعَ أصلَه لبيرك، والقائل إن هدف السياسة ليس جلب المشاعر «الخيِّرة في ذاتها والمنفصلة عما سواها»، وإنما تيسير سعي أعضاء المجتمع نحو الأهداف الأخلاقية، عن طريق ضمان توافر ظروف «الراحة البدنية والرفاهية المادية والحرية الفكرية». وتتفق متطلبات الرفاهية ومتطلبات الخيرية الأخلاقية إلى حدٍّ ما. لكن كينز لم يَعتبر قَطُّ السياسةَ ملعبًا لتحقيق أهداف أخلاقية، ولم يجعل للعواطف السياسية إلا قيمة أخلاقية محدودة.
كما أقر كينز أحد مبادئ بيرك الجوهرية الأخرى؛ وهو أن السعادة أو المنفعة التي ينبغي أن تسعى الحكومات لتعظيمها هي المنفعةُ قصيرةُ المدى، لا طويلة المدى. وكان هذا نتيجة لقبوله معيار «المخاطرة الأخلاقية» لكلٍّ من مور وبيرك؛ إذ يقول: «طالما رأى بيرك — وكان على صواب — أنه نادرًا ما تصحُّ … التضحية بمنفعة حاضرة من أجل منفعة مستقبلية غير مؤكدة.» وكان مفهوم المخاطرة الأخلاقية أحد المبادئ التي وجهتْ أعمال كينز السياسية. كما حصنه بنفس القدْر من الشيوعية وفِكر التضحية الموجود ضمنًا في معظم الأفكار الاقتصادية التقليدية.
مع ذلك رأى كينز أن بيرك فسَّر معيار «المخاطرة الأخلاقية» على نطاق شديد الضيق؛ إذ انتقد بيرك في مقاله عام ١٩٠٤ «لتفضيله السلام على الحقيقة، ولتردده الشديد في قبول شرٍّ حالٍّ مِن أجل تحقيق منفعة مستقبلية، ولإنكاره أن البشر يفعلون الصواب، إلا فيمَا ندر من الحالات؛ لأنهم يحكمون على أفعالهم بالصواب.» فقد كان تشكُّك بيرك المعرفي هو ما أجبره للعودة إلى التقاليد. أنكر بيرك قيمة السعي للوصول إلى الحقيقة على أساس أن ذلك ربما يفسد سلام الأمة (أي خير حالٍّ) بغير وجود ضمانة لوجود منفعة أكبر. وكان هذا استنتاجًا أراد كينز مقاومته. فقد حاجَّ — مستلهمًا فكر ميل — أنه «مهما كانتِ التبعات الفورية لحقيقة جديدة، فإن هناك احتمالًا قويًّا أنَّ تلك الحقيقة ستؤدي إلى نتائج أفضل من نتائج الزيف على المدى البعيد.» واتَّسَق هذا مع هجومه على فكرة مور باتباع القواعد المتفَق عليها على المستوى العام بدلًا من الحكم الفردي. لكنه خلص إلى أن «التحيز الحديث للحقيقة ربما يكون مبنيًّا على أسس غير كافية إلى حدٍّ ما»؛ لذا يمكن اعتبار كتاب كينز «بحث في الاحتمال» ردًّا على كلٍّ من مور وبيرك في هذه المسألة؛ فقد كانتِ العقلانية مبدأً هامًّا في فلسفة كينز السياسية. وكانت فكرة السياسة التي توجِّهها العقلانية تتضمَّن أفقًا مستقبليًّا متفائلًا، وربما ثوريًّا غير موجود في المذهب الكلاسيكي المحافظ. لقد كان إيمان كينز بقوة العقل وإمكانية تصرُّف الحكام تبعًا لما يُمْلِيه عليهم هو ما جعله يسمح بقدْر كبير من الحرية للحكام في وضع السياسات الاقتصادية.
يُعَدُّ تناوُل كينز لآراء بيرك عن المِلكية والديمقراطية في ضوء «قوانينه» السياسية جديرًا بالملاحظة الدقيقة؛ فقد دافع بيرك عن حقوق المِلكية القائمة على أساسِ أن إعادة توزيع الثروة لن تُحدِث أيَّ فارق حقيقي للفقراء؛ إذ إن عددهم يفوق عدد الأغنياء بكثير، بينما في الوقت ذاته «تُقلِّل عدد مَن يمكنهم الاستمتاع بالمنافع المؤكدة للثروة، وتقلل عدد مَن يمكنهم أن يجلبوا على الدولة المنافع التي يجلبها دائمًا وجود الأثرياء.» ورأى كينز أن هذه الفكرة «تَحمل أهمية كبيرة بلا شك … ويجب أن تكون ضمن أقوى الردود على أيِّ خطط تستهدف تحقيق المساواة.» لكن تلك الفكرة لا تصح إنْ وُجِّهتْ ضد «أي محاولة للتأثير على قنوات تدفُّق الثروة» وضد مواجهة الجوع أو الفقر الشديد؛ فلا تَصلح مثلًا للاعتراض على ضرائب التركات «التي يقصد منها تقليل تكدس الثروة»، ولا للاعتراض على مصادرة المِلكيات الإقطاعية في أثناء الثورة الفرنسية. فطالما اهتمَّ بيرك بالدفاع عن «الأسوار الخارجية» لنظام الملكية، لدرجة أنه لم يَرَ أن ذلك ربما يعرض «قلب» النظام نفسه للخطر.
كانت تلك فكرة تقليدية عُرضتْ بشكل تقليدي. لقد أصرَّ كينز في عمله «بحثٌ في الإصلاح النقدي» (١٩٢٣) على أن الحكومات يجب أن تكون لديها حريةُ مراجعة العقود بين الأحياء والأموات؛ حيث إن «عواقب العوائد الربوية غير المنقطعة ضخمة جدًّا.» فبحسب قوله، إن «مؤيدي ثبات عقود الدَّيْن هم آباء الثورة»؛ وهذا موقف يحمل طابع بيرك عن جدارة، رغم أن بيرك كان يتجاهله أحيانًا.
وسط أزمات ثلاثينيات القرن العشرين، تكوَّن لدى كينز اعتقادٌ بأنه قد يكون من الضروري القيام ببعض التدخلات بشأن «الأسوار الخارجية» أكبر من التي أشار إليها في عام ١٩٠٤ للدفاع عن قلب النظام؛ لذا فقد اقترح في «النظرية العامة» تنفيذ «القتْل الرحيم في أصحاب الدخول الربوية» من خلال عدم السماح بوجود فوائد ربوية على القروض، كما دافع عن قوانين العصور الوسطى الربوية التي أرست حدًّا أقصى للفائدة. لكن عندما أَوضح له مراسله الفرنسي مارسيل لابوردير أن «استقرار الثروات واستمرار التوريث في العائلات التي تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة هي أحد الأصول الاجتماعية غير المرئية التي تعتمد عليها جميع الثقافات بشكل أو بآخر»؛ ردَّ كينز على الفور بقوله: «أتفق تمامًا مع ما تقول، وأرجو أن تكون كلماتك كافية لتأكيده بشكل كافٍ. وكلما كَبِرتُ أُصبح أكثر اقتناعًا بأن ما تقوله صحيح وهامٌّ. لكن يجب ألَّا أسمح لك بتحويلي إلى محافظ متشدد.»
قال كينز إن قضية الديمقراطية تتضمن سؤالين منفصلين؛ أولًا: هل للجماهير الحق في إدارة حكومة ذاتية؟ ثانيًا: هل من النافع والمفيد أن تكون الحكومة الجيدة حكومة ذاتية؟ كان بيرك قد ردَّ على كلا السؤالين بالنفي القاطع. وأيَّد كينز بيرك بشدة في إجابة السؤال الأول. فالحكومة ما هي إلا «أحد ابتكارات الحكمة البشرية» من أجل «إشباع حاجات معينة، وهذا آخر القول.» فللناس الحق في حكومة جيدة لا حكومة ذاتية، وهو مبدأ ينطبق بلا نقاش على مكتب الهند. لكن المسألة الأصعب هي ما إذا كانت الحكومة الذاتية شرطًا لوجود حكومة جيدة، وكان كينز في هذه النقطة أكثر انفتاحًا من بيرك؛ إذ إنه اتفق معه في أن «الناس» غير قادرين على حكم أنفسِهم، وأن على البرلمان أن يكون مستعدًّا دائمًا لمقاومة التحيز الشعبي تحت اسم المساواة بين الأفراد والطبقات. إلا أنه انتقد حلم بيرك بوجود «طبقة ممثلي الشعب» وقال إنه استخفَّ بالقيمة التربوية للحكومة الذاتية. مع ذلك شكَّ كينز في أن يجرؤ أيُّ «كيان شعبي عقلاني أو غير متحيز» على أن يُجري التجربة في ظل المعاناة الموجودة في العالم ما لم يكونوا «تحت تأثير الفكر الخاطئ القائم على الحقوق السياسية الطبيعية.»
لم يَظهَر في عصر كينز ما يشوب الديمقراطية؛ كان هذا لأن «قوتها الكاملة لم تكن قد دخلتْ حيِّز التنفيذ»؛ فالنظام القائم كان نظامًا نُخبويًّا تَحْكمه قلة من الأثرياء، وليس نظامًا ديمقراطيًّا. وكان افتراضُ كينز استمرار النظام بهذا الحال مع إضافة بعض «الخبرة الفنية» نقطةَ ضعف في نظريته السياسية.
زاوج كينز في فلسفته السياسية بين عنصرين جوهريين لمذهب بيرك المحافظ؛ وهما: الرضا بوصفه هدفًا، وتجنُّب المخاطرة بوصفها منهج الحكومة؛ وعنصرين جوهريين في إصلاح الليبرالية؛ وهما: الالتزام بالحقيقة، والإيمان بإمكانية وجود حكْم فردي عقلاني. ورفَض كلًّا من المذهب المحافظ غير المعتمد على العقلانية والاشتراكية الراديكالية. وكان هذا بشكل كبير هو مضمون فكرة «الطريق الوسط» التي اعتنقها في فترة ما بين الحربين العالميتين.
لقد ثار قدْر كبير من الجدل حول ماهية الليبرالية التي اتَّبعها كينز؛ إذ يراه بيتر كلارك جزءًا من الحركة «التقدمية» فيما قبل عام ١٩١٤ التي وحدت الليبراليين اليساريين والاشتراكيين المعتدلين في برنامج ديمقراطي مشترك لإعادة توزيع الثروة. في حين يقول مايكل فريدن إن كينز كان ليبراليًّا «وسطيًّا» صارمًا يطوِّع الحلول التكنوقراطية لمذهب فردي؛ فقد تبرَّأ كينز من السمات المميزة لليبرالية «التقدمية» من خلال تقييد تدخُّل الدولة لملء الفراغات التي يتركها القطاع الخاص، و«التخلي عن إعادة توزيع الثروة بوصفها مجالًا واسعًا للسياسة الاقتصادية الاجتماعية»، و«نزع الديمقراطية» من صناعة السياسات لصالح سيطرة الخبراء.
من الممكن إيجاد مبررات لكِلَا الطرفين. فمن الواضح أن ما جعل كينز بعيدًا عن «التقدميين» هو سلوكه تجاه العدالة الاجتماعية؛ إذ لم يعترض كينز — أو بالأحرى لم يعترض بالقوة الكافية — على النظام الاجتماعي القائم على أساس أنه غير عادل أو غير منصف في توزيع الفرص، بل لأن مبدأ الحرية الاقتصادية لم يحمِ «الأعراف» الاقتصادية والاجتماعية القائمة. فالظلم بالنسبة لكينز يعني أيَّ تغيُّر عشوائي في الترتيبات الاجتماعية المستقرة، كتلك التي تسببها التغيرات في قيمة النقود؛ فقد تعاطف بشدة مع عمال المناجم في أثناء إضرابهم العامِّ سنة ١٩٢٦؛ لأنه رأى أنهم ضحايا العودة لمعيار الذهب بسعرٍ مبالَغٍ فيه للجنيه، والذي تم في العام السابق. وحوَّل كينز مشكلة العدالة من الاقتصاد الجزئي إلى الاقتصاد الكلي؛ فأصبح الظلم مسألة عدم يقين، والعدل مسألة توقُّع تعاقدي. ولعبتْ فكرة إعادة توزيع الثروة دورًا هامشيًّا في فلسفته الاجتماعية، ثم أصبحتْ مجرد جزء من آليات استقرار الاقتصاد الكلي، وليست وسيلة لتحقيق غاية مثالية كالمساواة.
تظهر تلك الاتجاهات في مقاله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» الذي قرأه لأول مرة في صورة محاضرة في جامعة أكسفورد عام ١٩٢٤. وكانت شرور النظام القائم مصدرها في الغالب «المخاطرة وعدم اليقين والجهل». وتطلَّب علاجها «السيطرة المدروسة على العملة وعلى الائتمان من قِبَل مؤسسة مركزية»، و«جمع بيانات الأعمال ونشرها»، و«القرارات الحكيمة المُنسَّقة» فيما يخص إجمالي حجم المدخرات وتوزيعها بين الاستثمار المحلي والأجنبي، ووضع سياسة سكانية «تهتم بالجودة الجوهرية … مثل اهتمامها بالأرقام.» إن ما كان يسعى إليه كينز — كما كتب لاحقًا في عمله «النظرية العامة» — هو سدُّ الفجوات في «ليبرالية مانشستر». وقدَّم كينز معيارًا لتدخُّل الدولة تَمثَّل في فكرة الخدمة أو النشاط «الاجتماعي من الناحية الفنية»؛ بمعنى أن الدولة هي الوحيدة القادرة على تقديمه. واقترن بمجموعة النقاط تلك على نحو غير متناسق بعضَ الشيء منظورٌ تطوريٌّ انحسرتْ بموجبه الرأسمالية الفردية لشركات العائلات أمام الرأسمالية «الاشتراكية الطابع» للمنفعة العامة والشركات الخاصة الكبيرة. وهكذا تنبأَتِ التطورات الصناعية التلقائية ﺑ «إضفاء الطابع الاشتراكي على الاستثمار» الواعي الذي دافع عنه كينز في عمله «النظرية العامة» وجعلتْه ممكنًا.
إنهم لا يوفرون لي الطعام ولا الشراب، ولا يقدمون أي تعزية فكرية أو روحية … فالتوجهات المحافظة لا تؤدي إلى أيِّ شيء؛ فهِيَ لا تُحقِّق أيَّ مَثَل، ولا تتفق مع أي معيار فكري، وليستْ حتى آمنة أو حذرة بحيث يمكنها حماية ما وصلنا إليه من الحضارة مما قد يفسدها.
كان حزب المحافظين بالنسبة لجيل كينز من الليبراليين عدوًّا تاريخيًّا، وظل كذلك طوال سنواتِ ما بين الحربين رغم «سموِّ أخلاق» ستانلي بولدوين؛ فقد اعتبروا الحزب حزب الحماقة والخرافات والتحيز؛ حزب الحماية الاقتصادية والوطنية الجوفاء. وكان المحافظون أنصار القواعد الأخلاقية الرجعية التي ثار عليها جيل كينز. أدرج كينز ضمن أجندة الليبرالية «تحديد النسل واستخدام وسائل منع الحمل وقوانين الزواج ومواجهة الجرائم والتشوهات الجنسية والوضع الاقتصادي للمرأة والأسرة … وقضايا المخدرات.» واتخذ المحافظون — على الأقل في العلن — من كل تلك القضايا التي كانت ذات أهمية خاصة لجماعتَي بلومزبيري وهامبستيد موقفًا طالما وصفه كينز بأنه متخلِّف يرجع للعصور الوسطى.
أرجع كينز حماقة التوجهات المحافظة لارتباطها بمبدأ التوريث. وفسَّر هذا أيضًا عدم كفاءة العديد من الشركات البريطانية؛ فقد سيطر أفراد من الجيل الثالث على الرأسمالية البريطانية. واختفى احترام كينز الذي أظهره في البداية لقائد المحافظين ستانلي بولدوين سريعًا؛ حيث كتب في عام ١٩٢٥: «كنتُ أشعر في البداية أن السيد بولدوين لا يمكن ألَّا يكون بارعًا. لكنه عندما وجدتُه دائمًا يستسلم لعواطفه ويتصرف بحماقة، زال هذا الشعور.» لكنه قال عنه في عام ١٩٣٦ إنه «نموذج لرجل الدولة الذي يُمكنه وضع نظام اشتراكي معدَّل إنْ سَمَحَ له حزبُه بذلك.»
إذا كان حزب المحافظين هو الحزب الأحمق، فقد كان حزب العمال هو الحزب السخيف. لكن كانت معظم توجهاته على الأقل على الطريق الصحيح. وكان ما يحتاجه حزب العمال — حسبما أوضح كثيرًا كينز — هو محركًا يقودُه نحوَ برنامج لإصلاح الليبرالية. انشغل كينز في معظَم كتاباته السياسية بحوار مع ليبرالية حزب العمال. وتخلَّل ذلك أحيانًا استخدامُ لغة شديدة الالتباس؛ حيث حاول أن يَفصِل موقفَه عن موقف الاشتراكية، وأن يؤكد في الوقت ذاته على التوافق بين مجموعة من الطموحات الليبرالية والاشتراكية. ويجعل ذلك الالتباسُ — الذي بدا أن كينز رآه جزءًا ضروريًّا من جهوده الإقناعية — من الصعب معرفة مدى استعداد كينز لأنْ يسلك طريق الاشتراكية. ولم يُضطر كينز خلال حياته للاختيار الذي واجه الكثيرين في سبعينيات القرن العشرين.
رفض كينز بشكل قاطع الاشتراكية باعتبارها علاجًا «اقتصاديًّا» لمشكلات الرأسمالية. وطالما قال إن الاقتصاديين الكلاسيكيين والاشتراكيين يؤمنون بقوانين الاقتصاد نفسها. لكنْ في الوقت الذي اعتبرها الفريق الأول صائبة وحتمية، رآها الفريق الثاني صائبة ولا يمكن تحمُّلها. وحاول كينز أن يُثبِت خطأَ تلك القوانين. وأضاف أن مجرد فكرة تحول الرأسمالية نحو الاشتراكية تجعل الملكية العامة غير ضرورية.
عارَض كينز الجانبَ الثوري للاشتراكية. وأدرك أن السواد الأعظم من أعضاء حزب العمال لم يكونوا «بلشفيين يعقوبيين شيوعيين»، لكنه رأى أن مكْر تلك المجموعات وحقدها أثَّر في الحزب بالكامل؛ حيث تمَّ الجمْع بين الخبيث «وما هو مثالي من أجل بناء جمهورية اشتراكية حقيقية.» وقال كينز في إحدى المناظرات مع الاشتراكي الاسكتلندي توماس جونستون عام ١٩٢٩، إن حزب العمال يجب أن «يَظهَر بمظهَر المعارِض لكلِّ مَن هو أكثر نجاحًا أو مهارة أو اجتهادًا أو أكثر نجاحًا من المتوسط … وذلك قمة الظلم والحمق؛ فهذا يدمر ما يجب أن يكون دائمًا هو القطاعَ الأقوى من المجتمع ويُلقي به في المعسكر الرجعي.»
عارضَ كينز صراحةً الأساسَ الطبقي الذي تقوم عليه السياسة الاشتراكية. وقال في إحدى ملاحظاته الأكثر اقتباسًا: «حزب العمال هو حزب طبقي تختلف طبقته عن طبقتي. وإنْ سعيتُ يومًا لتحقيق مصالح فئوية، فعليَّ أنْ أسعى لتحقيق مصالحي … من الممكن أن أتأثر بما قد يَبدو عدلًا وحُسنَ تقدير، لكن في «الحرب الطبقية» سأكون في جانب الطبقة البرجوازية «المستنيرة».» فقد كان من أنصار المساواة برفع مستويات الطبقات الدنيا، لا بخفض مستويات الطبقات العليا. وقال: «أريد أنْ أشجِّع كل الجهود والقدرات والشجاعة والشخصيات الاستثنائية. ولا أريد أن أستعدي كل ما هو ناجح واستثنائي.»
وأخيرًا رفض كينز معارضة حزب العمال للنخبوية. وشعر بأن العناصر المفكرة في حزب العمال «لن تكون لديها أبدًا السلطة الكافية، وسيتخذ مَن لا يفقهون شيئًا على الإطلاق عما يتحدثون بشأنه جل القرارات.» كان المحافظون أفضل حالًا في هذا الجانب؛ حيث إن «الدائرة الداخلية في الحزب يمكنها أن تحدد تفاصيل سياسة الحزب وآلياتها.» آمن كينز — كما تُبيِّن كتاباته الأولى — بحكم الطبقة الأفلاطونية الحارسة التي تقيدها — ولا تهيمن عليها — الديمقراطية.
أُعجب كينز بثلاثة أشياء في الاشتراكية، هي: شَغَفها بالعدالة، ومُثُل الخدمة العامة الفابية، ومثاليتها المبنية على إلغاء دافع الربح. وكان لدى كينز مدينته الفاضلة كذلك، وهي ما ألهم أعماله في الاقتصاد، والتي عبر عنها على نحو بارز في مقاله «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» المنشور عام ١٩٣٠. في هذا المقال يشرح كينز تصوُّرَه لمجتمع ينعَم بالوفرة والرفاهية والجمال والفضيلة والتنوع، ويَعتبر فيه «حب المال» مرضًا عقليًّا. لكن تلك المثالية كان منبعها كامبريدج أكثر من الفلسفة الاشتراكية (حيث ليس هناك فيها مكان واضح للمساواة أو الأخوة أو الديمقراطية). هذا بخلاف أنها لا تتحقق إلا بعدَ حلِّ المشكلة الاقتصادية. في الوقت الراهن، كما قال كينز: «علينا أن نستمرَّ في التظاهر بأن الجميل قبيح والقبيح جميل؛ إذ إن القبيح نافع والجميل لا ينفع.» باختصار، عارَض كينز الاشتراكية بوصفها وسيلة، ولم يُقرَّها بوصفها غايةً إلا من خلال تصوره الذاتي.
قدم دميتري ميرسكي، المراقب الدقيق للثقافة البريطانية في فترةِ ما بين الحربين، تفسيرًا ماركسيًّا لفلسفة الممارسة لدى كينز في كتابه «مفكرو بريطانيا العظمى». فقال إن النخبة الأرستقراطية المفكرة تَعتَبِر نفسَها خارج نظام الطبقات أو أعلى منه؛ نظرًا لأنها لا تشارك في عملية الإنتاج بشكل مباشر. فهِيَ طالبتْ في مجال الاقتصاد بنظام، والذي أطلقتْ عليه الاشتراكية، لكنها في الحياة الفردية أرادتْ مزيدًا من الحرية، وهو ما ربطها بالرأسمالية.
تبدو تلك الأطروحة المضادة أقلَّ أهمية اليوم؛ فقليل من الناس الآن يعتقدون أن الاشتراكية — بالشكل الذي رفضه كينز — مناسبة لمشكلاتنا الاقتصادية. لكن السؤال يكمن فيما إذا كان طريق كينز الوسط لا يزال مفيدًا أم لا. فقد توقَّع نموَّ العجز في إجمالي الطلب في الاقتصاديات الرأسمالية الناضجة — في ظل تضاؤل فرص الاستثمار — لكنْ ستستمر عادات الادِّخار الملائمة للعصر الفردي. وسيكون التدخل الحكومي ضروريًّا للحفاظ على الطلب على الاستثمار، وإعادة توزيع الدخل على الفئات الأكثر استهلاكًا، وإعادة تنظيم ظروف العمل والأجور من أجل زيادة الاتجاه إلى الراحة بشكل تدريجي، مع تعزيز العلم لقدرات الإنتاج. وإلا فسيكون الكَسَاد الكبير فيما بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٢ — كما حذر — مجرد مقدمة لحالة شبه ركود دائمة. وقد وردتْ أفكارُه السياسية في سياق أفكاره الاقتصادية الموجهة لمواجهة انتشار البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين، وهو ما سنتناوله في الفصل القادم.