المُصلِح النقدي
جاءتْ مناقشة كينز لمشكلة البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين في إطار نظرية كمية النقود؛ إذ كان متأكدًا من أن التقلبات في النشاط الاقتصادي يمكن منعها من خلال تطبيق سياسة نقدية ملائمة. وكان مُنَظِّرو نظرية كمية النقود في زمن كينز مصلحين نقديين أرادوا استخدام نظريتهم لتحقيق استقرار النشاط الاقتصادي. وكانت تلك النظرية أول نظرية تسعى لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي على المدى القصير.
وتُعتبر تلك نقطةً غريبة في ظاهرها؛ إذ إن نظرية كمية النقود هي نظرية تربط المعروض من النقود ﺑ «مستوى سعر» شراء السلع بدلًا من «كمية» السلع المنتجة. لكن الواقع يشير إلى أن التغيرات الخاصة بالنقود والأسعار كانت ترتبط بالتقلبات في كمية الناتج ومعدل البطالة، وهو ما يحتاج إلى تفسير. وعلى مدار العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين أو نحو ذلك، حاول الاقتصاديون — بما فيهم كينز — أن يستفيدوا ممَّا سمَّوْه نظريةَ كميةِ النقود لتفسير التقلبات في الناتج؛ وكان مِن أسباب ذلك هو ملاحظتهم للارتباط بين الأوضاع النقدية والتقلبات في النشاط الاقتصادي، وكذلك لأنَّ السياسة النقدية مثَّلتْ نطاق عَمَلٍ واعدٍ للذين طمحوا لإدارة النظام الرأسمالي لا لتدميره. وفي الثلاثينيات تخلَّى كينز عن استخدام نظرية كمية النقود في تفسير التقلبات قصيرة الأجل في الناتج. إلا أن النقود في كتاب «النظرية العامة» لا تزال تحتفظ بقدرتها على إرباك الاقتصاد الحقيقي. لكن تأثيرها هذا نابع من وظيفتها كمخزن للقيمة لا كوسيلة للتبادل. ويثير ذلك مسألة أخرى وهي إمكانية الاعتماد على السياسة النقدية باعتبارها أداة للإدارة الاقتصادية.
لقد قامتْ نظرية كمية النقود على تناول النقود من منظورِ دَوْرِها في المبادلات؛ فالنقود هي وسط للتبادل ووسيلة لتنفيذ عمليات شراء السلع والخدمات وبيعها. ليس للنقود وظيفة أخرى، على الأقل في أيِّ اقتصاد «حديث» في ظل وجود نظام قانوني وسياسي مستقر ونظام بنكي متطور. وفي ضوء هذا، لا يمكن لحدوث تغير في كمية النقود (أو قيمتها) أن يُربِك المعادلة السابقة إلا إذا أسفر عن تغيرات غير متناسبة في المخزونات النقدية لدى العناصر الاقتصادية الفاعلة. وكان هذا بالفعل هو افتراض الذين استخدموا نظرية كمية النقود في تحليل التقلبات الاقتصادية. وكان دائمًا ما يقال إن رفع الأسعار يخدم المستثمرين وأصحاب المشروعات على حساب المدخرين والعمال؛ والعكس بالعكس. وقامت هذه المسألة على التمييز بين الأسعار المرنة والأسعار غير المرنة؛ لذا افتُرض أن أسعار الأجور «ثابتة» أو على الأقل «متماسكة» على المدى القصير، وأن أسعار البيع «مرنة». وفي الوقت نفسِه تبدو عملية تثبيت مستويات الأسعار سهلة على نحو خادع، وذلك عند التعامل مع النقود من منظور دورها في المبادلات. فهذا المنظور يَعتبر النقود مجرد وسيلة لإجراء المبادلات. طالما قال كينز قبل عام ١٩١٤ إن الناس يُقبِلون على الحصول على النقود فقط ليصرفوها بأسرع ما يمكن. وكل ما كان يجب على السلطة المركزية عمَلُه هو ضمان وجود تدفق ملائم للنقود؛ وسيسير كل شيء على ما يُرام. وكانتْ أعمال كينز منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى كتابه «بحث في النقود»، بما فيه كتابه هذا، تدور في فلك تلك الفكرة، رغم أنها أصبحتْ في النهاية إشكالية بالنسبة له.
كانت هناك صيغتان مطروحتان لنظرية كمية النقود عندما بدأ كينز عمله في الاقتصاد؛ الأولى: صيغة «المبادلات» لإرفينج فيشر، والثانية: صيغة كامبريدج ﻟ «الأرصدة النقدية» التي وضعها ألفريد مارشال الذي درَّس علم الاقتصاد لكينز. واستخدم كينز كلتا الصيغتين في محاضراته فيما قبل عام ١٩١٤، قائلًا إنهما «يصلان عمليًّا للنتيجة نفسها.» تنص معادلة فيشر للتبادل على أنه في أيِّ فترة محددة تُساوي كميةُ النقود مضروبةً في سرعة دورانها — وهي متوسط عدد مرات إنفاق العملة في فترة محددة — متوسطَ سعرِ كل مبادلة مضروبًا في الحجم الكلي للمبادلات. وكل ما يَعنيه هذا هو أن قيمة ما يُنفق تساوي قيمة ما يُشترى، وهي نتيجة ليستْ بجديدة. لكنْ لا تزال هناك حاجة لثلاثة افتراضات أخرى لتتحول معادلة التبادل إلى نظرية خاصة بمستوى الأسعار؛ أولًا: هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار. ثانيًا: تتحدد سرعة دوران النقود، بغضِّ النظر عن المعروض من النقود، تبعًا لمستوى الدخل وعادات الإنفاق في المجتمع، وهما عاملان لا يتغيران إلا ببطء. ثالثًا: يتحدد حجم التبادلات، بغض النظر عن كمية النقود، تبعًا لقوًى «حقيقية». إنْ صحَّتْ تلك الافتراضات، فسيؤدي أيُّ تغير في كمية النقود إلى تغير متناسب في مستوى الأسعار.
أما صيغة «الأرصدة النقدية» من نظريةِ كمية النقود لمارشال، فتنصُّ على أن كمية النقود تُساوي متوسط سعر كل مبادلة مضروبًا في الحجم الكلي للمبادلات مضروبًا في مقلوب سرعة دوران النقود، وهو النسبة من الدخل أو الثروة (استخدم مارشال المصطلحين بالتبادل) التي يحتفظ بها المجتمع في صورة سائلة في فترة معينة. لم تركز معادلة كامبريدج على إنفاق النقود، وإنما على دور النقود باعتبارها مخزنًا مؤقتًا للقوة الشرائية فيما بين عمليتَي البيع والشراء. ومهَّد ذلك لوظيفة النقود بوصفها «مخزنًا للقيمة» من خلال الإشارة إلى الدوافع الفردية للاحتفاظ بالسيولة النقدية وافتراض إمكانية تحليلها هي الأخرى.
لم تُشِرْ تلك النظرية في هذا الاتجاه على نحو أكبر من وجهة نظر كينز قبل الحرب؛ إذ اعتبرها، ليس فقط أنها مجرد تدريب على استعمال المنطق — من خلال عرضها للشروط اللازمة لصحتها — وإنما أيضًا مجموعة من الافتراضات الواقعية عن عالم الواقع. ورأى كينز بالتأكيد أن هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار، منتقدًا «رجال الأعمال» و«الرأي الشائع» لاعتقادهما عكسَ ذلك. واعتقد أيضًا أن «سرعة الدوران» أو «الطلب على الأرصدة النقدية لكي يتم الاحتفاظ بها» يتحدد بشكل مؤسسي، ولا يخضع للتغيرات العشوائية. كما أيَّد الافتراضَ الثالث، الذي ينص على أن حجم المبادلات يتحدد وفق قوًى «حقيقية». وبهذا يكون كينز قد أيد نظرية كمية النقود بصيغتَيْها. كما أقرَّ في الوقت ذاته بأن تقلبات الأسعار يمكن أن تكون لها آثار مؤقتة على سرعة الدوران وحالة التجارة، رغم أن مناقشته لتلك النقطة لم تكن باهتمام كبير.
كانت رؤية كينز «لآلية التحول» من النقود إلى الأسعار مارشالية الطابع بامتياز؛ إذ إنه اتَّهم فيشر بالعجز عن تحديد آلية في هذا الشأن؛ إذ تُؤدِّي الزيادة في احتياطيات الذهب في البنك المركزي إلى انخفاض أسعار الفائدة؛ ومن ثَمَّ يزيد اقتراض أصحاب المشروعات؛ ويُعَدُّ إنفاقُهم لودائعهم الجديدة هو السببَ في ارتفاع الأسعار، وهذا التأثير «ينتقل تدريجيًّا لجميع جوانب المجتمع إلى أن تَظهَر الحاجة لكميات جديدة من الذهب لتمويل قدْر جديد من التجارة الفعلية ليس أكبر مما كان في السابق.» فمستوى الأسعار هو ما يوازن بين «الطلب على السيولة النقدية» وبين «المعروض من النقود». لكنَّ النقطة المهمة هي أنَّ ضخَّ الأموال يستغرق وقتًا لتَظهَر آثارُه النهائية على الأسعار، وبينما تتكيف الأسعار مع التغيرات في المعروض من النقود تنشط حركة التجارة أو تقل. كما يترتب على ذلك أنه في ظل معيار الذهب «يعتمد المعروض من القوة الشرائية على البنوك والذهب معًا.»
سعى المصلحون النقديون قبل عام ١٩١٤ إلى الحدِّ من تأثير الذهب على «المعروض من القوة الشرائية». وتطلَّب استقرارُ مستوى الأسعار وضْعَ كمية النقود تحت سيطرة السلطة النقدية المركزية. لكنْ عندما تكون النقود الرسمية عبارة عن قِطَع نقود ذهبية، فستحدَّد قيمة النقود على المدى البعيد طبقًا للظروف غير المنظمة للعرض والطلب في سوق الذهب. وأرجع كثيرون انخفاض مستوى الأسعار في أواخر القرن التاسع عشر، إلى حدٍّ كبير، إلى زيادة تكلفة استخراج الذهب من مناجم كاليفورنيا وأستراليا التي نضبتْ، إضافة إلى زيادة معدل اكتناز الذهب في الهند. من الناحية الفنية، لم تكن كمية النقود الذهبية تُعدُّ متغيرًا خارجيًّا؛ فقد وَضع المصلحون خُططًا لتغيير كمية الذهب في النقود — ومن أمثلتها معيار مارشال الجدولي والدولار المعوض لفيشر — بغرض تحقيق استقرار أكبر في مستوى الأسعار. أما الاقتصادي السويدي كنوت فيكسل، فقدَّم اقتراحًا جريئًا؛ إذ قال إن المعيار الدولي المثالي هو المعيار الورقي، وهو ما يُعطي البنوك المركزية السيطرة الكاملة على المعروض من النقود. وقال فيكسل في كتابه «الفائدة والأسعار» المنشور بالألمانية في عام ١٨٩٨: «هناك سعر معين للفائدة على القروض يكون محايدًا بالنسبة لأسعار السلع، ولا يَمِيل لرفعها ولا لخفضها.» وأَطلق عليه سعر الفائدة «الطبيعي» (أو سعر الربح). ويكمن جوهر ما في أفكاره المعارضة لمعيار الذهب في أنها تَمنع البنك المركزي من تعديل سعر الفائدة السوقي تبعًا للتغيرات في سعر الفائدة «الطبيعي». ولم يتبنَّ كينز هذا التوجُّهَ حتى عام ١٩٣٠. لكنه حتى قبل عام ١٩١٤ طالب مثلما طالب إرفينج فيشر بمعيار «أكثر منطقية واستقرارًا» من معيار الذهب. واقترح كينز في عمله «العملة والمالية في الهند» (١٩١٣) خطة لإصلاح النظام المصرفي الهندي من أجل زيادة المرونة الموسمية لاحتياطي الروبية، وتطلَّع إلى اليوم الذي تقتصر فيه العملات القائمة على الذهب على دولة أو دولتين، يُدير بنكُها المركزي ما كان في الواقع معيارًا دوليًّا ائتمانيًّا. وقال: «من غير المرجح أننا سنستمر في ترك التعديلات الدقيقة في منظومتنا الاقتصادية تحت رحمة مُنقِّبٍ عن الذهب محظوظٍ، أو عملية كيميائية جديدة، أو تغير الأفكار في آسيا.» وأكَّد أيضًا على أنَّ «تفضيل وجود عملة احتياطيٍّ ملموسة … أصبح شيئًا من الماضي؛ حيث كانتِ الثقة في الحكومات في مثل تلك الأمور أقل منها الآن.» لكن خُطَطه المتتالية التي قدَّمها، حتى خطة بريتون وودز من أجْل إقرار عملات مدارة، أبقتْ على دور «ملكي دستوري» للذهب باعتباره أساسًا لنظام سعر صرف مدعوم، وبوصفه خط الدفاع الأخير ضد التضخم.
ورغم أن الخطط «الدستورية» لإصلاح معيار الذهب قبل الحرب العالمية الأولى قد باءتْ بالفَشَل، فإن هذا المعيار كان في طريقه للتحوُّل إلى معيار «مُدار» في ظل استخدام البنوك مجموعةً متنوعةً من الأدوات لمعاوضة تدفقات الذهب أو تحييدها من أجْل استقرار الأسعار المحلية. وكان يعتقد أن آثار تدفق الذهب إلى الداخل أو الخارج تعتمد على نحوٍ عامٍّ على قدرة البنك المركزي على التصرف. وأدَّى ذلك إلى أنْ تؤكِّد النظرية النقدية قبل الحرب بشكل متزايد على دور السياسة المصرفية في تحديد المعروض من النقود. وتحوَّل الاهتمام من تأثير حركة الذهب على الأسعار إلى تأثير تدفق الائتمان. كانت نظرية كمية النقود تتحول تدريجيًّا إلى نظريةِ كمية الائتمان. قال كينز في مقال بعنوان «إلى أيِّ درجة يتحمل المصرفيون المسئولية عن تناوُب الأزمات والكساد؟» — والذي قرأه على نادي الاقتصاد السياسي في ديسمبر ١٩١٣ — إن المصارف يُمكِنها أن تُقرِض أصحاب المشروعات دون أن تقترض المبلغ الذي أقرضتْه من المدخرين؛ فخلق الائتمان يمكن أن يكون سببًا مستقلًّا للتضخم؛ إذ عندما «يسبق» الاستثمار الادِّخار، فيجب أن يحدث الكساد ليتمكن الادِّخار من «اللحاق» بالاستثمار. وعرَض تلك الأفكار مرة أخرى في منتصف العشرينيات. لكن ما دام البنك المركزي يمتلك وسائل تنظيم معدل خلْق الائتمان في البنوك التجارية، فإن وجود النقود الائتمانية لا يشكل أيَّ خطر على قدْرة البنك على «السيطرة على المعروض من النقود».
إن الإفراطَ في إصدار الأوراق المالية وحجمَ التضخم — المرتبط بعملية الإصدار تلك وبالزيادة في الائتمان المصرفي — يبدو لي أن سببهما هو تجاوز الإنفاق العام لقدرة الحكومة على تحمُّله من خلال الضرائب والقروض … وفي ظل هذا الوضع يصبح تنظيم إصدار الأوراق المالية أمرًا مستحيلًا … وأظن أنه من المنصف علميًّا إرجاعُ سبب التضخم للإفراط في الإنفاق العام، واعتبارُ تقليص الإنفاق العام والخاص هو الحلَّ الوحيد لمواجهة هذا التضخم.
وعلى المستوى الأعمِّ كانتِ القضايا التي شغلتْ مساحة متزايدة من الاهتمام، مقارنة بنظيرتها السائدة قبل الحرب، هي تلك التي نشأتْ عن التضخم وقت الحرب وتقلبات العملة بعد الحرب وعبء الديون وقت الحرب. وأُرْجِعَ السببُ في التضخم في أثناء الحرب وبعدها في ضوء نظرية كمية النقود إلى التمويل الحكومي التضخمي. ولتفسير العلاقة بين تضخم الأسعار المحلية وانخفاض أسعار الصرف، وَضَع الاقتصادي السويدي جوستاف كاسل نظريةَ «تكافؤ القوة الشرائية» الخاصة بأسعار الصرف. وأثارت مسألةُ قدْرة ألمانيا على دفع التعويضات مناقشةً فنيةً حول طبيعة «مشكلة التحويل». وكان لكينز دور نشِطٌ في كل تلك المناقشات. ومن الأشياء المهمة التي قدَّمها في ذلك الوقت تحذيرُه من إمكانية حدوث تضخُّم. وفي كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» اقتبس كينز ملاحظة تعود إلى لينين مُقرًّا بما فيها تقول: «ليس هناك وسيلة لقلب أُسس المجتمع القائمة أدقَّ وأقوى من إفساد عملته.» فقد شكَّل التقلبُ الشديدُ للأسعار ولأسعار الصرف في الفترة التالية للحرب مباشرة، بجانب التغير في موازين القوى بين الولايات المتحدة وأوروبا، المادةَ التاريخيةَ لكتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (١٩٢٣).
كان الهدف الصريح لكتاب «بحث في الإصلاح النقدي» هو تحقيق استقرار الأسعار المحلية. فاستقرار الأسعار وحدَه كفيلٌ بجَعْل النشاط الاقتصادي مستقرًّا أو طبيعيًّا. وقد كتب كينز يقول: «إنني أعتبر أن استقرار الأسعار والائتمان والتوظيف ذات أهمية قصوى.» ونصَّتْ فكرتُه على أن التقلبات في قيمة النقود تُسبب تقلبات على المدى القصير في النشاط الاقتصادي؛ لأنها تغيِّر نَصيب الطبقات من الدخل وتُخِلُّ بالتوقعات القائمة. ويقال إن انخفاض الأسعار يَضُرُّ بنسبة التوظيف؛ لأن الأجور النقدية تكون ثابتة على المدى القصير، ولأنه يحبط توقعات عوائد المبيعات. لكن كينز قال: «سيكون مِن الأسوأ في عالَمٍ فقير زيادة نسبة البطالة بدلًا من إحباط أصحاب الدخول الربوية.» وكان هذا الجمع بين المسائل النظرية والمؤسسية من السمات المميزة لكينز. ويُعَدُّ ذلك أحدَ أسباب الخلافات الكثيرة بشأن مقصده الحقيقي. لكن النقطة المهمة التي أكَّدها هي أن استقرار الأسعار كان ضروريًّا بالنسبة لإمكانية التنبؤ التعاقدية التي كانتْ ترتبط باستقرار الاقتصاد. فكان الإصلاح النقدي ترياقًا للثورة الاجتماعية.
هناك أربع نقاط لافتة للنظر في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي»؛ أولًا: أن كينز هاجم السياسات الهادفة لاستعادة معيار الذهب. وخلال ذلك واجه استنتاجها المنطقي بالحجة الخاصة بالمصلحين الاقتصاديين بأن استقرار الأسعار المحلية قد لا يتماشى مع استقرار أسعار الصرف؛ فبدلًا من ضبط الأسعار المحلية وفق سعر الصرف، ينبغي ضبط سعر الصرف وفقًا لمستوى أسعار محلية يتماشى مع نسبة توظيف «طبيعية» (أيْ كاملة على نحو معقول). وخَصص كينز قسمًا رائعًا عن سوق الصرف الآجل؛ ليبين أن التجَّار يُمكِنهم «التحوُّط» من تقلبات سعر الصرف بشكل أسهل من تحوط المنتجين لتقلبات الأسعار المحلية؛ لذا فإن «العقود والتوقعات الاقتصادية — التي تَفترض استقرار سعر الصرف — ربما تَقِلُّ كثيرًا حتى في الدول التجارية، مثل إنجلترا، عن مثيلتها التي تفترض استقرار مستوى الأسعار المحلية.»
كان السياق المهم لتلك الحجة هو الهيمنة الصاعدة للولايات المتحدة؛ إذ قال كينز: «في ظل التوزيع القائم للذهب على مستوى العالم، فإن العودة إلى معيار الذهب يعني حتمًا أن نسلِّم إدارتَنا لمستوى الأسعار وتعامُلَنا مع دورة الائتمان لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الخاص بالولايات المتحدة.» وستضع السلطات النقدية الأمريكية سياستها النقدية تبعًا لظروفها الداخلية، لا وفق متطلبات الدول الأخرى مثل بريطانيا. وكان أفضل الحلول في هذا الشأن يتمثل في تقسيم العالَم إلى كتلتين بعملتين «مُدارتين»؛ هما الجنيه الاسترليني والدولار. قال كينز: «وما دام قد تمكَّن مجلس الاحتياطي الفيدرالي من الحفاظ على ثبات أسعار الدولار، فسيتساوى هدف تحقيق ثبات أسعار الجنيه الاسترليني مع ثبات أسعار صرف الدولار أمام الجنيه الاسترليني.» وسيعود الذهب وسيلةً نهائية لتسوية الديون الدولية.
ثانيًا: رأى كينز أنه يمكن تحقيق استقرار الأسعار من خلال السياسة النقدية وحدها. فلم يَرَ في ضغط الأجور عاملًا معقِّدًا للمشكلة. كما لم يشكِّك في مسألة مرونة الفائدة في الاستثمار، رغم أنه أدرك وجود حدود توقُّعية للتغيرات في أسعار الفائدة الحقيقية، وهي فكرة لم يستغلَّها إلا في كتابه «النظرية العامة». فالسيطرة على التضخم تكمن بالأساس في منع التمويل الحكومي التضخمي.
ثالثًا: كان كينز ينظر للنقود بمعناها الواسع، لا الضيِّق. وكانت السياسة السليمة تقتضي «مراقبة عملية خلق الائتمان والسيطرة عليها والسماح بخلق العملة بناءً على ذلك.» ويرجع هذا إلى أن كمية السيولة النقدية كانتْ مؤشِّرًا عكسيًّا؛ إذ يجب التصدي للارتفاع المستقبلي في الأسعار، لا ارتفاعها في الماضي. ومهَّد الخلاف بين كينز وإدوين كانان وقت الحرب لظهور الخلافات بين شكلَيِ النظرية النقدية القائمَين على النقود «بمعناها الواسع» و«بمعناها المحدود» في ثمانينيات القرن العشرين. وطرحتْ مشكلة نوع النقود التي يجب تتبعها أو مراقبتها للمرة الأولى.
ربما يكون هذا صحيحًا على «المدى الطويل» … لكنَّ هذا المدى الطويل هو مؤشر مضلِّل للأوضاع الحالية. فعلى المدى الطويل سنكون موتى جميعًا. وستكون مهمة الاقتصاديين شديدة السهولة وبلا جدوى إنْ لم يستطيعوا عمل أيِّ شيء سوى إخبارنا وقت الأزمات أنه عند انتهاء الأزمة، ستنفرج الأمور وتتحسن مرة أخرى.
عندما ترتفع الأسعار، يقلل الناس «أرصدتهم الحقيقية» (أيِ القيمة الحقيقية للنقد الحاضر ونسبة احتياطيات النظام المصرفي إلى التزاماته)، والعكس صحيح، وتُغير البنوك المركزية شروط احتياطياتها لمعاوضة تدفقات الذهب.
وفي ضوء عدم الاستقرار على المدى القصير لما نسمِّيه الآن دالة «الطلب على النقود»، فإنه ليستْ هناك علاقة مستقرة على المدى القصير بين المخزون النقدي والدخل القومي من النقود. رأى كينز أن «المزاج العام ومزاج عالم الأعمال» يُمكِنهما التأثير بشكل منفرد على مستوى الأسعار؛ فقد كان على السلطة النقدية — عند محاولة إحداث استقرار في الأسعار — أن تكون مستعدَّة للتدخل فيما يتعلق بالمعروض من النقود والطلب عليها؛ وبلغة كينز، فإن واجبها يكمن في «محاولة تثبيت القيمة الحقيقية للنقد الحاضر والودائع المصرفية، وفي حالة تعذُّر ذلك أو استحالته، فواجبها التدخل لتغيير كمية الأوراق النقدية وغيرها من صور السيولة النقدية المتداولة ونسبة احتياطيات النظام المصرفي إلى التزاماته من أجل موازنة التغير في العاملين السابقين.» وقد جعل استخدامُ المعادلات الجبرية مهمةَ الإدارة النقدية تبدو سهلة جدًّا في مجملها. ويمكن مواجهة أيِّ اتجاه لحدوث زيادة في الأرصدة الحقيقية عن طريق خفض سعر الفائدة البنكية؛ «حيث إن الإقراض السهل يُبدِّد مزايا الاحتفاظ بهامش سيولة للطوارئ.» ويمكن للبنك المركزي أن يغير كمية السيولة التي يتيحها للنظام المصرفي من خلال شراء سندات الدَّين وبيعها. وما دُمنا قد «تجنَّبْنا التمويل التضخمي من ناحية، وتجنَّبْنا العودة إلى معيار الذهب غير المقنَّن من الناحية الأخرى»؛ فستئول السيطرة على المعروض من النقود، ومن ثَمَّ مستوى الأسعار، إلى البنك المركزي.
لقد أقرَّ كِتاب «بحث في الإصلاح النقدي» بأن الصدمات النقدية يمكنها أن تؤثر في النشاط الاقتصادي بسبب عدم اليقين بشأن الاتجاه المستقبلي للأسعار. وكان منظِّرو نظرية كمية النقود يَمِيلون للقول إن التغيرات «غير المتوقعة» في مستوى الأسعار هي وحدها ما يسبب اختلالات في التناسب. لكن كينز تحلَّى بقدْر أكبر من الواقعية، وحاجَّ قائلًا إنه حتى إن كان ارتفاع الأسعار أو انخفاضها متوقَّعًا؛ فإن عدم اليقين بشأن مدى التغير يمكن أن يؤثر على السلوك الاقتصادي. لقد بيَّن كينز الأهمية المحورية لعدم اليقين، لكنه لم يُحدِّد أيَّ سعر أو مجموعة من الأسعار ترتبط به من أجْل تفسير إيقاعات حركة التجارة، وهي مسألة تناوَلها في كتابَيْهِ التاليَيْنِ.
لكنْ لم يتمَّ النظرُ في تلك المسائل العميقة بعناية عندما قرَّر ونستون تشرشل العودة بالجنيه الاسترليني إلى معيار الذهب في أبريل ١٩٢٥. وقد تناول كينز في كتيِّبه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل»، المنشور في يوليو من نفس العام، ذلك القرارَ باعتباره صدمة نقدية تسببت فيها الحكومة ومُنِيَتْ بها الصناعة الوطنية. وكان رأيُه أن إعادة الجنيه الاسترليني إلى سعر صرفه أمام الدولار في فترة ما قبل الحرب — ٤٫٨٦ دولارات للجنيه الواحد — فيها مبالغة في قيمة الجنيه بنسبة ١٠٪؛ وهو ما يتطلب خفضًا بنسبة ١٠٪ في تكلفة الإنتاج النقدية إذا استمر حجم الصادرات البريطانية الحالي بنفس المستوى. وسيلاقي ذلك معارضة عمالية قوية لا يمكن التغلب عليها — كما قال كينز — إلا «بتعزيز التوظيف» دون حدود. وقال كينز إنه يمكن مواجهة هذا الأمر من خلال عَقْد «اتفاق وطني» لتقليل الأجور وغيرها من الدخول بالاتفاق. لكنه مع ذلك أعرب عن شكِّه في أن تؤدي سياسة الحكومة فعلًا إلى تجمُّد الاقتصاد وانخفاض نسبة التوظيف. فستعزِّز الحكومة الانكماش بشكْلٍ يَزيد البطالةَ ولا يُعالجها، وستقترض من الخارج لتعويض النقص في الصادرات.
لقد خفضنا الأسعار من خلال رفع سعر صرف الجنيه الاسترليني ومن خلال السيطرة على حجم الائتمان؛ لكننا «لم نخفض التكلفة» … لقد حان الوقت لدفع ثمن أخطاء وزارة الخزانة وبنك إنجلترا الفادحة، منذ البداية وحتى اعتقادهم بأنهم إنْ تولَّوْا أمر خفض الأسعار فستنخفض التكلفة من تلقاء نفسها.
بعد مرور أقل من عام على نشر كتاب «بحث في الإصلاح النقدي»، شرع كينز في تأليف كتاب جديد أطلق عليه في البداية اسم «نظرية النقود والائتمان». وكان من المقرر أن يكون عبارة عن دراسة لنظرية النقود في ضوء علاقتها ﺑ «دورة الائتمان». كان كينز قد أناط بالسلطة النقدية في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي» مهمةَ معاوضةِ التقلباتِ في «الأرصدة النقدية». لكن تكوين هذه الأرصدة وأسباب تقلُّبها لم تُتَناول بالتحليل. وخلال تناوُله للمشكلة عاد كينز إلى أفكار مقالِهِ المنشور عام ١٩١٣؛ إذ يمكن للبنوك أن تَمنح ائتمانًا أكبر أو أصغر مما يريد الناس ادِّخارَه. ومهمة السياسة النقدية هي إبقاء الائتمان المصرفي في نفس مستوى المدخرات المتوقعة.
تأثر كينز على نحو كبير في تحليل العلاقة بين «النقود المصرفية» والادِّخار بزميله في جامعة كامبريدج، دينيس روبرتسون، الذي كان يؤلف وقتها كتابه «السياسة المصرفية ومستوى الأسعار» المنشور عام ١٩٢٦. وكان احتكاكه الفكري بروبرتسون في تلك المرحلة ذا أثر حاسم على تطور أفكاره الخاصة؛ فقد كان روبرتسون، قبل كل شيء، مُنظِّرًا لنظرية الدورة الاقتصادية؛ حيث اتَّخذ المؤلفات الاقتصادية في أوروبا القارية أساسًا لمعرفة أسباب تقلب نمو الثروة. تأثر كينز على نحو دائم بجانبين في نظرية الدورة الاقتصادية؛ أولهما: اعتبار أن الدورة الاقتصادية هي دورة استثمار تُسبِّبها تقلبات الربحية المتوقعة للسلع الرأسمالية. وثانيهما: أن تلك الدورة «الحقيقية» تتضخم لدرجة الطفرة والكساد بسبب العوامل النقدية، وخاصة عجز السياسة النقدية عن إبقاء الاستثمار في نفس مستوى الادِّخار. ورأى روبرتسون أن التقلبات الاقتصادية «الحقيقية» لا يمكن فصلُها عن التقدُّم. لكنه أراد استخدام السياسة النقدية لمنع التقلبات «غير الملائمة» في النشاط الاقتصادي الحقيقي. وربما يستتبع ذلك، التخلي عن هدف استقرار الأسعار.
بدأ كينز وروبرتسون بالإقرار بأن تضخم الائتمان أو انكماشه هو السبب الوحيد الذي يمكنه أن يُبعِد مسار الاستثمار عن الادخار الاختياري. وقد خَصص روبرتسون معظم كتابه «السياسة النقدية ومستوى الأسعار» — بكل مصطلحاته الغريبة — ليُبيِّن كيف أن الصور المختلفة للإنفاق والادخار القسْريَّيْن يمكن أن تَحدث نتيجة العمليات الائتمانية. وتضمَّن ذلك فكرةَ أن التضخم المؤقت يوجِد صندوق استثمار من خلال «إجبار» الناس على تقليل الاستهلاك؛ ومن ثَمَّ زيادة «الادخار». وأُعيد اكتشاف فكرة «الادخار القسري» الشهيرة، التي طرحها لأول مرة توماس جوبلن بعد الحروب النابليونية، بعد ملاحظة الطريقة التي «صادرت» بها الحكومة دخول مواطنيها دون فرض ضرائب عليها خلال الحرب العالمية الأولى؛ إذ تقتطع الحكومة بالأساس جزءًا من الناتج القومي عن طريق إنفاق كمية إضافية من النقود الجديدة المصدرة بناءً على رغبتها من خلال النظام المصرفي. ويؤدي هذا الإنفاق إلى رفع مستوى الأسعار العام (حيث تؤدي إلى زيادة الطلب في ضوء مستويات الأسعار السابقة) وتجد العناصر الفاعلة الاقتصادية الخاصة نفسَها في حاجة (أو رغبة) للاحتفاظ بالنقود الجديدة المصدرة بدلًا من إنفاقها؛ لأن ارتفاع مستوى الأسعار يتطلب أرصدة نقدية اسمية أكبر تتناسب مع حجم المبادلات الفعلية. وستؤدي محاولات الحكومة لتكرار تلك العملية إلى الدخول في دوامة تضخمية متسارعة في ظل توقُّع العناصر الفاعلة الاقتصادية الخاصة أهدافَ الحكومة، ومحاولة التصدي لها من خلال تعديل معدل إنفاقها.
في أثناء تأليفك كتاب «السياسة النقدية ومستوى الأسعار» ومناقشتنا له، رأى كلٌّ منا أن التَّفاوت بين الادخار والاستثمار — بما حمله هذان المصطلحان من غموض وقتها — لم يكن إلا نتيجة لِما يمكن تسميته الدفع باتجاه التضخم أو الانكماش من قِبَل النظام المصرفي. وقد تبنَّيتُ تلك الفكرة لوقت طويل، وتوصلتُ في النهاية إلى أنها غير صحيحة؛ فنتيجة لظهور تعريفات أوضح، في رأيي، للادخار والاستثمار، وجدتُ أن تلك الظواهر البارزة يمكن أن تحدُث من دون أيِّ فعْل صريح من جانب النظام المصرفي.
لقد تحدَّث روبرتسون عن أن المدخرات إما أن يتم استثمارها أو تجميعها. لكن كينز أكَّد على اختيار ثالث؛ وهو ألا تُستثمر المدخرات ولا تُجمع، بل تُستخدم لشراء أصول قائمة. وبذلك يمكن للادخار أن «يسبق» الاستثمار (والذي يعني شراء تجهيزات رأسمالية «جديدة») من دون إبطاء السرعة الكلية للدوران. وتأثرت تلك الفكرة بسوق المضاربة الصاعدة بسوق نيويورك للأوراق المالية فيما بين عامَي ١٩٢٧ و١٩٢٩. وبات كينز لا يؤمن بقدرة صيغة «التبادلات» لنظرية كمية النقود على تفسير التقلبات الاقتصادية على المدى القصير. فلم يكن إجمالي المبادلات في فترةٍ ما هو الشيءَ المهم بالنسبة لنسب التوظيف، بل كان المهم هو ما إذا كان الدخل النقدي يُنفق على الناتج الحالي أم لا.
كما تأثَّر كينز في تمييزه بين «الاستثمار الأجنبي» و«الإقراض الأجنبي» في «بحث في النقود» باشتراكه في الجدل الدائر حول التعويضات الألمانية؛ إذ إن إقراض المدخرات البريطانية، والتي لا يتم استثمارها محليًّا، للخارج لم يكن يعني أن كل المدخرات يتم استثمارها؛ لأن أيَّ محاولة لزيادة الإقراض للخارج بسعر صرف ثابت بشكل يفوق الفائض التصديري لبريطانيا ستؤدي إلى استنزاف الذهب، وتُجبر على رفع سعر الفائدة البنكية في الداخل. وسيؤدي ذلك إلى انخفاض معدل الاستثمار المحلي بمقدارٍ يُساوي الزيادة في الإقراض الأجنبي عن فائض الحساب الجاري.
لقد كان كينز وروبرتسون يُحاولان — دون تحقيق نجاح كبير — دمْجَ تحليل الادخار والاستثمار في نظرية النقود بدلًا من الإبقاء على الفصل الموجود بينهما، والذي كان يميز المدرسة الكلاسيكية أو مدرسة نظرية كمية النقود.
حاجَّ على نحوٍ مقنع بيتر كلارك في كتابه «الثورة الكينزية في طور التكوين» (١٩٨٨) بأن نشْر «بحث في النقود» تأجَّل وتغيَّر ما فيه من تحليل بسبب الحاجة لأنْ يَطَّلع كينز على ما يسمَّى ﺑ «رؤية وزارة الخزانة»، التي ظهرتْ في عامَي ١٩٢٨ و١٩٢٩، لدحض خطة لويد جورج لعلاج البطالة من خلال برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض. وكان صاحب تلك الرؤيةِ سيئةِ السمعة هو رالف هوتري؛ فقد قال هوتري في مقال نشر في دورية «إيكونوميكا» في مارس ١٩٢٥ إنه في ظل ثبات المعروض من النقود، «سيزاحم» أيُّ قرض حكومي للمشروعات العامة (بلغتنا اليوم) قدْرًا مكافئًا من الإنفاق الخاص. فلا يمكن زيادة نسبة التوظيف إلا بزيادة الائتمان؛ أيْ بالاقتراض من البنوك. لكن زيادة الائتمان كانت أهم من المشروعات العامة التي أدانها هوتري بوصفها «إحدى العادات الموروثة». وبدأتْ وزارة الخزانة منذ أواخر عام ١٩٢٨ سيرًا على، نهج هوتري، تدَّعِي أن «ما كان يقصده كينز بالطبع هو تضخم محدد في الائتمان»، وهو ما لم يتماشَ مع الإبقاء على معيار الذهب. وأُملِيَ رئيس الوزراء ستانلي بولدوين هذه الكلمات: «علينا إما أن نأخذ النقود الحالية أو نُصدر نقودًا جديدة.» ومع استبعاد الخيار الثاني بسبب معيار الذهب، اكتسبتْ فكرة المزاحمة أرضية أكبر. ولم يكن كينز وقتها قد أعدَّ تحليله الخاص بدالة الاستهلاك/المضاعِف ليدحض تلك الفكرة، وحتى لو أعدَّه وطرحه وقتها لأصبحَتِ القابلية لتطبيقه في ظل غياب النقود الرخيصة محل شك.
اتخذ كينز خطوة تجاه إعداد هذا التحليل في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون في مايو ١٩٢٩. وردَّ كينز على مَزاعم «رؤية وزارة الخزانة» بأنه لا توجد مدخرات كافية لتمويل أيِّ استثمار «إضافي» بأن تلك المزاعم افترضَتِ التوظيف الكامل لكل الموارد؛ فقد تضمنَتِ الموارد غير المستخدمة المدخرات غير المستغلة بسبب «التطلُّع إلى الرخاء». وكانتْ تلك طريقة غريبة في عرض المسألة. لكن الفكرة التي طرحها كينز — بلغة عمله «بحث في النقود» — هي أن الخسائر الناتجة عن الركود تسببتْ في انخفاض المدخرات القومية عن مستواها في حالة جَنْيِ أصحاب المشروعات لأرباح «طبيعية». وكان مضمون ذلك هو أن أيَّ سياسة (بما في ذلك برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض) تنجح في استعادة مستويات الدخول «الطبيعية» ستولِّد المدخرات المطلوبة لتمويل الاستثمار.
وبالتوازي مع ذلك، لن تقتصر آثار زيادة الإنفاق الحكومي لزيادة نسبة التوظيف على مَن يتمُّ تشغيلهم في المشروعات الحكومية فحسب؛ ففي مقابل كل رجل يعمل في مدِّ طريق أو بناء منزل، هناك على الأقل رجل آخر سيجد عملًا لإمداده بالمواد الضرورية. وعلاوة على ذلك ستُنتج القوة الشرائية الإضافية «قوة تراكمية» تحرِّك النشاط الاقتصادي؛ مما يجعل آثار التوظيف لأيِّ إنفاق رأسمالي معين أوسع بكثير من الآثار المباشرة وغير المباشرة المشار إليها بالأعلى، رغم أنه «لا يمكن قياس آثار مِن هذا النوع على أيِّ نحو دقيق.» وكان «مُضاعِف التوظيف» الذي طرحه ريتشارد كانْ عام ١٩٣١ محاولة لقياس تلك الآثار «التراكمية».
إن المنظور الأكثر مباشرةً لتحليل الناتج والتوظيف الذي أفرزه هجوم كينز على «رؤية وزارة الخزانة» في عام ١٩٢٩ جعل معظم ما ورد في كتاب «بحث في النقود» مجرد إسهاب — من وجهة نظر كينز — حينما نُشر في أكتوبر عام ١٩٣٠. ومع ذلك فقد كان كتابًا غنيًّا بالفهْم المؤسسي للأسواق المالية والنقدية، وببعض الأسس النظرية وببعض الأفكار النظرية الفضفاضة التي اتخذها كينز لاحقًا نقطةَ انطلاق له.
من الصعب تلخيص ما جاء في هذا الكتاب؛ لكن فرضيته النظرية الأساسية تقوم على أن الادخار والاستثمار تقوم بهما شريحتان مختلفتان من الناس بدوافع مختلفة، ولا توجد آلية تلقائية في اقتصاد النقود الائتمانية لإبقائهما عند مستوًى واحد؛ فهناك سعر ربح على رأس المال (وهو الذي سمَّاه كينز سعر الفائدة «الطبيعي» تبعًا لفيكسل)، وهناك سعر فائدة على القروض، وهو سعر «السوق». لكن سعر السوق الذي يريده المقرِضون قد يكون أعلى أو أدنى من سعر الربح المتوفر للمستثمرين أو المتوقع من جانبهم؛ لذا تَظهَر إمكانية عدم إنفاق المستهلكين أو المستثمرين لكل ما يجْنونه من دخل.
ويكمن الاستنتاج العملي من كل هذا في أن المُوازن الوحيد في اقتصاد النقود الائتمانية هو «السياسة» المصرفية؛ ففي ظل معيار الذهب لم يُسمح لبنك إنجلترا بخفض سعر الفائدة البنكية بالقدْر الكافي للسماح بمعدل استثمار يكافئ ما يرغب المجتمع في ادخاره، وكانت النتيجة هي انتشار البطالة. وكان تحوُّل كينز من التركيز على المخزون النقدي إلى تدفق الإنفاق حاسمًا في هذا الشأن؛ فقد أدَّى عدم كفاية الإنفاق على الاستثمار الذي يرتبط بمعدل الادخار إلى انهيار مستوى الأسعار وارتفاع نسبة البطالة.
أصبح من الشائع الاعتقاد أن الثروة المتراكمة في العالم قد جُمعت بصعوبة نتيجة الإحجام الاختياري للأفراد عن الاستمتاع الفوري بعملية الاستهلاك، وهو ما نسميه الادخار. لكن يجب أن ندرك أن الإحجام فقط ليس كافيًا في حد ذاته لبناء المدن أو تطهير المستنقعات … بل المشروعات هي التي تبني وتحسن ما يملكه العالم … فإن سارتِ المشروعات على نحو جيد، فستتراكم الثروة مهما كان ما يحدث للادخار؛ وإن توقفت، فستتبدد الثروة أيًّا كان معدل الادخار.
لذا ربما يكون الادخار خادمًا للمشروعات أو لا. وهو على الأرجح لا يخدمها؛ إذ إن العلاقة بين الادخار والمشروعات ليستْ مباشرة لكنها وثيقة جدًّا؛ فكثيرًا ما يكون الرابط الذي ينبغي أن يصل بينهما مفقودًا. فالادخار ليس هو ما يحرك المشروعات وإنما الربح.
لسوء الحظ، حاول كينز أن يصوغ تلك الأفكار المبهرة على هيئة «معادلات أساسية»، وهي التي ظهرتْ أصولُها في مرحلة سابقة لظهور الكتاب، عندما كان لا يزال يحاول استخدام نظرية كمية النقود في تفسير تقلبات النشاط الاقتصادي. ويصطدم قارئ كتاب «بحث في النقود» بأفكار قديمة وضعها كينز في أثناء تأليفه الكتاب. ومن أجل المواءمة بين الأفكار الجديدة والقديمة، تم استخدام مصطلحات مثل «الدخل» و«الأرباح» و«الادخار» بطريقة خاصة. ورغم أن كينز كان يحاول توضيح أن منع أسعار الفائدة من الانخفاض يمكن أن يؤدي إلى حدوث ركود واستمراره، فقد كان تركيزه منصبًّا على إحداث تغيير في مستويات الأسعار لا في الناتج والتوظيف.
إن المجموعات الثلاث من التعريفات ذات الصلة هي: (أ) الدخل النقدي للمجتمع (أو الإيرادات «الطبيعية»، أو إيرادات التوازن لعناصر الإنتاج أو تكاليف الإنتاج). (ب) الأرباح التي تُعرَّف بأنها الفرق بين تكاليف الإنتاج وأسعار البيع، وتستبعد الإيرادات «الطبيعية» لأصحاب المشروعات. (ﺟ) الادخار، ويعرف بأنه ذلك الجزء من دخل المجتمع «الطبيعي» الذي لا يُنفق على الاستهلاك. وكان الهدف من استبعاد الأرباح والخسائر (التي سماها كينز أيضًا المكاسب المفاجئة) من الدخل هو فصل المتغير الذي يسبب زيادة الناتج أو انخفاضه. لكن تلك المحاولة أفضتْ إلى تعريفات غير عملية للدخل والادخار اللذين كانا سببًا في معظم الالتباس. فنحن نتوهم أنهما يظَلان ثابتين سواء كانت قيمة الأرباح بالإيجاب أم بالسلب. لكن مسألة «سبق» الادخار الكلي للاستثمار أو «تخلُّفه» عنه، استندتْ بالكامل إلى تعريف الادخار والاستثمار.
إن كتاب «بحث في النقود» يُعَدُّ، من الناحية الشكلية، محاولة لوصف ديناميكيات أيِّ اقتصاد ينتقل من مستوى أسعار (المستهلك) إلى آخَر من خلال مجموعة من المعادلات؛ إذ يطرح الكتاب، من ناحية، مسألةَ تدفُّق النقود المكتسبة من جانب عناصر الإنتاج خلال عملية إنتاج السلع الاستهلاكية والاستثمارية، ويطرح من الناحية الأخرى مسألة تقسيم تلك النقود لأجزاء تُنفق على شراء السلع الاستهلاكية وأجزاء تُدخر. ويظل مستوى أسعار السلع الاستهلاكية مستقرًّا، ما دامت نسب النقود المكتسبة خلال عملية إنتاج السلع الاستهلاكية والاستثمارية بقيتْ مساويةً لنسب النقود التي تنفق على الاستهلاك والادخار الحاليَّيْن.
وفي هذه الحالة، تتساوى تكاليف الإنتاج وأسعار بيع السلع الاستهلاكية، وتنعدم الأرباح، ويتساوى الادخار مع تكلفة الاستثمار. لكن — من الناحية الأخرى — إذا أنفق الناس مبالغ أقل على شراء السلع الاستهلاكية مِن التي اكتسبوها من إنتاجها، فستنخفض أسعار المستهلك. وفي هذه الحالة، ستتجاوز التكاليف الأسعار وتقل الأرباح بالقدْر ذاته، وسيسبق الادخار تكلفة الاستثمار.
لقد وُضع هذا المنظور المعقد ليؤكد نقطة جوهرية واحدة؛ وهى أنه إنْ أراد الناس أنْ يفوقَ الادخارُ تكلفةَ الاستثمار، فسيصاب الاقتصاد ككلٍّ بالكساد ما لم يتسبب أيُّ شيء بشكل متزامن في رفع «قيمة» الاستثمار أو ربحيته. ولا يتم التحويل المطلوب للإنفاق من الاستهلاك إلى الاستثمار بشكل تلقائي؛ إذ يعتمد حدوث ذلك على «مجموعة مختلفة من الاعتبارات»؛ وهي ما إذا كانت الربحية المتوقعة للاستثمار في تزايد، أو ما إذا كان سعر الفائدة ينخفض، أو كلاهما، في الوقت نفسه.
يحدث الكساد إنْ لم يكنِ الحافز لشراء أجزاء «جديدة» من التجهيزات الرأسمالية كافيًا لامتصاص معدل الادخار من الدخل «الطبيعي»؛ بعبارة أخرى، إذا قلَّ سعر الربح المتوقع عن سعر السوق الذي يحدده النظام المصرفي. ويطبِّق كينز تحليل عدم اليقين الذي بدأه في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» على مجموعة محددة من الأسعار، وهي أسعار السلع الرأسمالية؛ فالتقلبات في سعر الفائدة «الطبيعي» — نتيجة تقلب التوقعات — حول سعر السوق الذي تحدده الممارسات البنكية هو ما يفسر الدورة الاقتصادية.
يتضمن كتاب «بحث في النقود» النقاشَ الأول من نقاشَيْ كينز المشهورَيْن للجانب النفسي للمضاربة في أسواق الأوراق المالية، والذي تأثر كثيرًا بانهيار «الصعود» الطويل لسوق نيويورك للأوراق المالية في عام ١٩٢٩. وتكمن الفكرة الرئيسية للنقاش في أن جزءًا من المدخرات «يُحتفظ» به لأغراض المضاربة بسبب عدم اليقين بشأن القيمة المستقبلية للأصول الرأسمالية. فإذا كان يُتوقع ارتفاع سعر الأسهم في سوق الأوراق المالية، فستتحول المدخرات إلى «أوراق مالية»؛ والعكس صحيح إذا كان من المتوقع انخفاض سعر الأسهم. وعندما يضارب معظم المستثمرين يحدث صعود في سوق الأوراق المالية؛ وحينما لا يضارب معظمهم يحدث الكساد. وهكذا فإن الاحتفاظ بالأرصدة النقدية بدافع المضاربة قد ورد في كتاب «بحث في النقود»، لكنه لم يتحوَّل إلى ما يُعرف بنظرية تفضيل السيولة إلا في كتاب «النظرية العامة».
لم يكن لدى كينز أيُّ شك في أن «الفجوة» بين الاستثمار و«الادخار» يمكن معالجتها عن طريق خفْض سعر الفائدة السوقية. لكن ذلك كان متعذَّرًا بسبب معيار الذهب؛ فسعر الفائدة — في اقتصاد مفتوح وفي ظل ثبات سعر الصرف — له وظيفتان قد لا تكونان متسقتَيْن؛ هما: تنظيم الاستثمار، وإدارة ميزان المدفوعات. فإذا تجاوزتْ رغبة مجتمع ما في إقراض مدخراته للخارج صافيَ فائضه التصديري، فسيعني ذلك تصديرَ الذهب، وهو ما ينبغي للسلطة النقدية تعويضه برفع سعر الفائدة؛ الأمر الذي يزيد من تكلفة رأس المال داخل الدولة. وستكون النتيجة النهائية لارتفاع سعر الفائدة البنكية هي انخفاض «معدل كفاءة الأجور» (الدخل القومي)، وهو ما سيسمح بزيادة الفائض التصديري. ويبين هذا مرة أخرى عدم التناسق في فرضية السياسة الاقتصادية الواردة في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي». ويظل عرض كينز لأسلوب عمل سعر الفائدة البنكية نموذجيًّا؛ لكنه قصَد نموذج تعديل مستوى الأسعار لا الناتج.
فهل رأى كينز في مرونة الأجور علاجًا نهائيًّا لأيِّ تغيُّر في دالة الاستهلاك أو الاستثمار؟ لقد أَوْحَى أحد أجزاء كتاب «بحث في النقود» بذلك فعلًا؛ ففي الكتاب الرابع، نجد قصة كلاسيكية عن دورة الائتمان تعتمد على ضبط تأخر الأجور عن الأسعار؛ ففي مرحلة الصعود الاقتصادي، يكون هناك تضخم سلعي (في الأسعار) وتضخم في الأرباح وتضخم في الدخل، ثم ينعكس الأمر في مرحلة الانكماش؛ حيث تنخفض الأسعار وتنخفض الأرباح، وأخيرًا تنخفض الأجور النقدية كإجراء أخير في عملية الضبط. لكنْ في الباب الثالث يتحدث كينز عن «حكاية الموز المجازية» الشهيرة التي لا تعالِج فيها مرونةُ الأجور الاضطرابَ الأولي؛ لأنه إذا زاد معدل الادخار المراد نتيجةَ حملة ادخار مع خفض أصحاب العمل للأجور، «فستقل قدْرة الناس على الإنفاق بما يساوي إجمالي تكاليف الإنتاج.» وإن ظلت أسعار الفائدة ثابتة، فلن يحدث التوازن إلا عندما يتوقف الإنتاج كله ويموت الناس جوعًا، أو عندما يؤدي الفقر المتزايد إلى تقليل المدخرات، أو «ينشط الاستثمار بطريقة أو بأخرى»؛ من خلال المشروعات العامة الممولة بالقروض، على سبيل المثال.
وإذا استُبعد كلٌّ مِن ضبْط سعر الفائدة والمشروعات العامة، فلن تَبقَى أيُّ آلية ضبْط واقعية إلا الفقر. ويطلق كينز على ذلك اسم «علاج الطبيعة». لم يوضح كينز بالقدْر الكافي أن القصة الأولى (في الكتاب الرابع) تتعلق باقتصاد مفتوح يمكن أن يؤدي خفض التكاليف فيه إلى زيادة الطلب على الصادرات، وأن القصة الثانية تتعلق باقتصاد مغلق ليس فيه قطاع تصديري. كما عجز كينز عن بيان كيف أن «الادخار» يمكن أن يظل متفوقًا على الاستثمار في أرض الموز في ظل تراكم الخسائر الاقتصادية وانخفاض الدخل. وكان هذا أهم المشكلات الاقتصادية الفنية في كتاب «بحث في النقود»، الذي نتج إلى حدٍّ كبير عن تعريف كينز غير العملي ﻟ «الادخار».
ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي للسياسة النقدية القومية هو إقرارَ سعر فائدةٍ يسمح بالتوظيف الكامل على المدى الطويل في ظل مستوى أسعارٍ معين بتبنِّي أسلوب «كفاءة الأجور». ولا يمكن ضمان استقلال سعر الفائدة هذا إلا عن طريق الضبط الدوري لسعر الصرف. قال كينز إن جمود الأجور وقت الانكماش لا يتماشى مع «المرونة تجاه الإقراض للخارج»؛ لذا تَشكَّك كينز فيما إذا كان «من الحكمة العمل بنظام عملة ذي نطاق أوسع من النظام المصرفي والنظام الجمركي ونظام الأجور.» لكنْ لم يتعارض هذا التصريح المتطرف عن القومية النقدية على نحو كامل مع فكرة إقرار نظام نقدي دوري أكثر مرونة.
إن الذين يُرجِعون السيادة للسلطة النقدية في إدارة الأسعار لا يزعمون بالطبع أن الظروف التي تُطرح خلالها النقود هي المؤثر «الوحيد» في مستوى الأسعار؛ إذ إن الاعتقاد بإمكانية إبقاء الاحتياطي عند أيِّ مستوًى مرغوب فيه عن طريق ضخ كمية كافية من النقود لا يتعارض مع الإقرار بأن مستوى الاحتياطي يعتمد على عوامل أخرى عديدة بجانب مقدار النقود التي تم ضخها.
اعتمد كينز فيما بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣١ على نموذج عدم التوازن بين الادخار والاستثمار في كتابه «بحث في النقود»، باعتباره أساسًا لاستشاراته التي قدمها لحكومة رامزي ماكدونالد العمالية حول السياسة النقدية، وذلك في ظل تأثرها بالمراحل الأولى للكساد العالمي. وقدَّم كينز في لجنة ماكميلان — التي شكَّلها فيليب سنودن وزير الخزانة في حكومة العمال لاستشارتها في شئون العملة والائتمان — ستة حلول ممكنة للكساد، والتي يمكن تطبيقها على حالة بريطانيا وقتها. وقد استبعد إمكانية تخفيض قيمة العملة واعتبره الملاذ الأخير. كان هناك عدد من الاقتراحات لتخفيض التكاليف المحلية للإنتاج، وكان أحدها — والذي ينص على الاتفاق على خفض مستوى الدخول النقدية — مطابقًا لما اقترحه عام ١٩٢٥، ويمكن إعفاء الصناعات التصديرية من الضرائب مثل اشتراكات التأمين الاجتماعي، أو تخفيض معدلاتها. أما الحلول الثلاثة الأخرى، فكان الهدف منها زيادة نسبة التوظيف في ظل تكاليف الإنتاج القائمة؛ وكان أولها هو الحماية التي «تقوم بما لم تَقُمْ به التجارة الحرة في ظل الظروف الحالية.» أما الثاني فتَضَمَّن سياسته القديمة لتحويل المدخرات المهدرة في الخارج إلى برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض. وتضمَّن حلُّه الأخير تنسيقَ الجهود الدولية من أجل رفع مستوى الأسعار عالميًّا.
قُدِّمتْ مجموعة الاقتراحات تلك في شهرَي فبراير ومارس عام ١٩٣٠. ورُجِّحَ اقتراح الحماية في ظل زيادة الكساد العالمي. وعُيِّن كينز في المجلس الاستشاري الاقتصادي الجديد الذي شكَّله رئيس الوزراء حديثًا في يناير عام ١٩٣٠؛ وفي يوليو من العام ذاته عُين رئيسًا للجنة فرعية من الاقتصاديين ليقدموا «تشخيصًا موحدًا … وقائمة مسببة بالحلول الممكنة.» واستخدم كينز في مذكرته المقدَّمة إلى اللجنة بتاريخ ٢١ سبتمبر ١٩٣٠ لغةً أنيقةً للحديث عن العلاقة بين الوضع الاقتصادي البريطاني الجامد ومكانتها الدولية المتراجعة؛ إذ عرَّف «التوازن التجاري» بأنه ذلك الذي يسُود «عندما تكون النسبة بين مستوى الأجور النقدية في الداخل إلى مستواها في الخارج بحيث يتساوى الميزان الخارجي (أيْ ميزان الاستثمارات الأجنبية) مضافًا إلى حجم الاستثمار في الداخل، في ظل سعر الفائدة الذي تحدده الظروف الدولية … مع حجم المدخرات في الداخل.» كان أهمُّ عوامل ارتفاع مستوى البطالة في بريطانيا اختلالَ التوازن التجاري بالعودة إلى معيار الذهب عام ١٩٢٥ دون خفض التكاليف النقدية للإنتاج. وأدتِ المبالغة في تحديد قيمة الجنيه الاسترليني إلى تقليل الفائض التصديري المتاح للاستثمار الأجنبي، مع رفع سعر الفائدة البنكية؛ وهو ما قلل من حجم الاستثمار المحلي. وبذلك انخفض إجمالي الاستثمار مقارنة بالادخار في وضع التوظيف الكامل؛ وهو ما أدى لحدوث خسائر اقتصادية وارتفاع مستويات البطالة.
كان من المفترض أن تُواجه البدائلُ المتعلقةُ بالسياسة الاقتصادية المقترحة في هذا التحليل اختلالَ التوزان التجاري بتقليل تكاليف الإنتاج (وخاصةً الأجور النقدية) أو تحسينها بتقليل ضغط الإقراض للخارج و/أو زيادة الميزان الخارجي في ظل ظروف تجارية معينة؛ وهو ما يشير إلى مزيج من الحماية والاستثمار العام الممول بالقروض. تقبَّل كينز فكرة الانخفاض الحتمي في مستوى المعيشة في بريطانيا، لكنه قال إن رفع الأسعار كان وسيلة أفضل لتحقيق ذلك من تخفيض الأجور النقدية؛ حيث ستقلُّ المعارضة الاجتماعية ويقع العبء على المجتمع بالكامل، بما في ذلك طبقة أصحاب الدخول الربوية.
استخدم كينز للمرة الأولى في عرضه لفكرة الاستثمار العام الممول بالقروض صيغة بدائية من نظرية المضاعف التي وضعها ريتشارد كانْ. طرحت فكرة الحماية الجمركية باعتبارها وسيلة لزيادة الميزان الخارجي وزيادة الثقة الاقتصادية، وأيضًا نظرًا لأن «أيَّ دولة صناعية ربما تكون قادرة مثل نظيراتها على تصنيع الغالبية العظمي من المنتجات.» وكانت تلك الفكرة انتهاكًا جوهريًّا لفكر التجارة الحرة. وفي حال رفض الحكومة لمثل تلك السياسات، فمن المنطقي أنها ستُضطر إلى محاولة تحقيق التوازن التجاري بتفعيل خطط الانكماش. وسيكون التذبذب بين الجانبين هو أسوأ اختيار.
دفع استبعاد تخفيض قيمة العملة بجانب أهمية «الثقة» الاقتصادية كينز إلى طرح دفاعٍ مبنيٍّ على أسس نظرية عن سياسة الحماية؛ باعتبارها «علاجه» المفضل للكساد في الفترة التي انتهتْ بتخلي بريطانيا عن معيار الذهب في سبتمبر عام ١٩٣١. وراع كينز في أثناء التوصل إلى تلك النتيجة المتحفظة — وإن كانت راديكالية من الناحية النظرية — الحججُ التي قدَّمها كلٌّ من بنك إنجلترا ووزارة الخزانة إلى لجنة ماكميلان في وقت سابق من نفس العام؛ فقد أعرب بنك إنجلترا عن شكِّه في اعتقاد كينز الخاص بالفاعلية المطلقة للسياسة النقدية؛ إذ قال المتحدث باسم البنك إن خفْض سعر الفائدة ليس كافيًا لدفع المستثمرين للاقتراض إذا كانت احتمالات الاستثمار سيئة؛ فذلك مثل الفَرَس الذي من الممكن توجيهُه ناحية الماء لكن لا يمكن إجبارُه على الشُّرْب. وقال السير ريتشارد هوبكنز، أحدُ المسئولين بوزارة الخزانة، إن برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض سيؤدي لمزاحمة «نفسية» للاستثمار الخاص إذا انتشر عدم الثقة في المشروعات التي من المقرر إنفاق إيرادات القروض عليها، أو في تولي الحكومة عملية الإنفاق؛ فقد كانتِ الحماية هي السياسة الوحيدة التي وعدت بتحقيق المتطلبات النظرية والثقة المطلوبة للنجاح في ظل الظروف المحددة.
وأثرت تلك الاعتبارات في التطور اللاحق في نظرية كينز وكذلك في الثورة الكينزية في صناعة السياسات الاقتصادية؛ إذ تضمَّن وضعُ نماذج نظرية «مناسبة» للعالم الواقعي وضْعَ أدوات متعلقة بالسياسات تُناسِب النطاق الواسع للظروف الواقعية؛ فكينز المنظِّر لم ينفصل قَطُّ عن كينز مستشار السياسات الاقتصادية.