النظرية العامة
يشترك كتابا كينز «بحث في النقود» و«النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود» في جوهرٍ فِكْرِيٍّ قويٍّ واحد؛ إذ إن الفصل بين خطط الادخار والاستثمار، وعدم وجود أي «عملية اقتصادية فعالة» (بحسب كلمات صامويلسون) للموازنة بينهما، وثبات الاستهلاك في مقابل تذبذُب الاستثمار، ووظيفة النقود باعتبارها مخزنًا للقيمة؛ كلها أفكار وردتْ في كتاب «بحث في النقود». وأضاف كتاب «النظرية العامة» آليةً موحدةً في صورة «مبدأ الطلب الفعال». وللمرة الأولى يطرح كينز في حياته المهنية نظريةً للعرض والطلب على الناتج ككلٍّ؛ فقد أوضح أنه إذا قلَّ الطلب عن العرض، فربما يقلُّ الناتج ليعود التوازن بينهما مرة أخرى، وهو ما طرح إمكانية «وصول الاقتصاد إلى حالة من التوازن المستقر … في مستوًى أدنى من التوظيف الكامل.» وكان هذا هو الاكتشاف المهم بالنسبة للاقتصاديين الذين أرادوا تحسين أوضاع العالم؛ إذ فسر أسباب الكساد وبيَّن الخطوات المطلوبة للخروج منه.
لقد حوَّل الكتاب الجديد — بحسب اعتقاد كينز — الانتباه من تحليل «أسباب» حدوث تغير في مستوى الناتج إلى تحليل «توابع» هذا التغير، وهي نقطة تُركت «ناقصة وملتبسة جدًّا» في الكتاب السابق. وكان هذا أقرب ما يكون للقول إن كلا الكتابين ضروريان لفهم «الصورة الكلية» للاقتصاديات الحديثة. أما من الناحية الفعلية، فقد أُهمل كتاب «بحث في النقود»، بينما أصبح كتاب «النظرية العامة» المرجع الأساسي بالنسبة للاقتصاديين ولرجال السياسة الذين يستشيرونهم.
لولا انهيار الاقتصاد العالمي، لكان من المستبعد أن يهتم كينز أو غيره بالتركيز على النتائج بدلًا من الأسباب. فلم يكن ما يريد الجميع تحليله في ثلاثينيات القرن العشرين هو العقبات المؤسسية أمام الانتقال من أحد أوضاع التوازن المُرضي إلى وضع آخر، بل كان المراد هو تحليل العوامل القادرة على إبقاء النشاط الاقتصادي عند مستويات منخفضة. كذلك كان المطلوب من السياسة الاقتصادية ألَّا تمنع التقلبات في توازن التوظيف الكامل — وهو الهدف التقليدي للمصلحين النقديين — بل أنْ ترفع مستوى توازن التوظيف. وقدم كينز كلًّا من النظرية والخطة العملية للظروف الجديدة. وتحتلُّ الجوانب النفسية ومبدأ التوقعات بؤرة تصوُّره التحليلي، كما قدم مفاهيم ومصطلحات وأدوات جديدة تفيد صانع السياسة على نحو مباشر.
لقد تأثر فكر كينز على نحو مباشر بالكساد العالمي بطريقتين؛ أولًا: بدَّد الكسادُ إيمانَه بقوة السياسة النقدية، وهو انحراف جذري عن ماضيه الشخصي. ورغم توافر النقود الرخيصة بعد تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني عام ١٩٣١، فقد كانت معدلات التعافي ضعيفة جدًّا. واستنتج كينز أن «تدخُّل الدولة المباشر لتعزيز الاستثمارات الجديدة ودعمها» ربما يمثل «السبيل الوحيد لتفادي الوقوع في حالة كساد طويلة، وربما دائمة.»
ثانيًا: أدى الكساد لتحول تركيز كينز — أكثر من أي شيء آخر — من بريطانيا إلى الولايات المتحدة؛ فقد كانتِ الإشكالية في كتاب «بحث في النقود» هي جمودَ اقتصاد مع وجود مبالغة في تقييم سعر الصرف. أما الأجور والأسعار في أمريكا، فكانت أكثر مرونة بكثير من نظيرتها في بريطانيا، وكان القطاع الأجنبي الأمريكي أصغر بكثير، ومع ذلك كان انهيار الناتج هناك أشد وطأة. فحفزت الأحداث في أمريكا كينز على التفكير بصورة أعم في مشكلة الاقتصاديات الغنية. كما أدت عمومية الكساد على مستوى العالم إلى استبعاد حلول تتضمن خفض قيمة العملة أو الحماية أو غيرها من العناصر «الخارجية». حاول كينز في كتاب «النظرية العامة» تفسير إمكانية أن يتسبب غلق باب الاستثمار مقترنًا بالميل الكبير للادخار في حدوث بطالة متوطنة «قسرية» على نطاق واسع في المجتمعات الغربية الغنية. ويمكن اعتبار كلٍّ من نموذج «الاقتصاد المغلق» في كتاب «النظرية العامة» والمدرسة «المالية» الكينزية بمنزلة نتائج للكساد العالمي.
كما تأثرت إحدى المسائل الفنية المبكرة التي أثارها كتاب «بحث في النقود» بالوضع العالمي. فالمعادلات الأساسية هي معادلات متعلقة بمستوى الأسعار. والتغيرات في الناتج وفي وضع التوظيف ليستْ سوى أحداث — حتى وإن كانت أحداثًا مطولة ومؤلمة — في سياق ضبط تكلفة إنتاج الناتجِ وفقًا للأسعار التي يمكن بيعُه بها على نحو مربح. وبدتْ هذه الرؤية التحليلية — المستمدة من كتاب سابق لكينز؛ وهو «بحث في الإصلاح النقدي» — ملائمة للكساد الذي حدث في عامَي ١٩٢٠ و١٩٢١، حينما بدا أن انخفاض الناتج ونسبة التوظيف كان نتيجة لانخفاض الأسعار. لكن تلك الرؤية تعارضت مع ما حدث في الكساد الذي وقع في عامَي ١٩٣٠ و١٩٣١ الذي ظهرت آثاره الأولى وأشدها وأبقاها في الدول الصناعية على مستويات الناتج والتوظيف لا الأسعار.
وحتى قبل نشر كتاب «بحث في النقود» حاوَل رالف هوتري إقناع كينز بتحويل انتباهه من التغيرات في الناتج إلى التغيرات في الإنفاق؛ إذ كتب هوتري لكينز في عام ١٩٣٠ يقول: «إنْ حدث أيُّ شيء يؤثر في الطلب على السلع، فإن أول نتيجة ستكون الزيادة أو النقص في المبيعات «في ظل الأسعار القائمة» … فهناك دائمًا فاصل زمني قبل أن تُضبَط الأسعار، وربما يكون الفاصل كبيرًا.» وفي ٢٨ نوفمبر ١٩٣٠ أقرَّ كينز أن التغيرات في الأسعار وفي الناتج ربما تلعب دورًا في ضبط الاقتصاد عند حدوث زيادة أو نقص شديد في الطلب، كما أقر أنه «ربما يكون من الصعب منع النظرية النقدية ونظرية العرض قصير الأجل من العمل معًا في المستقبل.» فقد رأى كينز أن الآثار المباشرة للتغيرات في الإنفاق على الكميات تغطي على آثارها على التكاليف والأسعار.
من بين مَن يؤيدون الادعاء بأن الكساد سببه زيادة الادخار على الاستثمار … كم يبلغ عدد هؤلاء الذين يدركون أن جانبًا كبيرًا من المدخرات التي تكون وافرة جدًّا في أثناء الكساد عبارة عن دخول أصحاب المشروعات التي لا تُنفَق، لسبب بسيط هو أنهم لم يكتسبوها؟
وإذا كانت خسائر رجال الأعمال تعتبر اقتطاعات من الدخل القومي، فقد اختفت «المدخرات الزائدة».
وفي ملاحظة بتاريخ ٢٢ مارس ١٩٣٢ أظهر كينز الاحترام لروبرتسون (بالإضافة إلى هوتري وهايك) باقتراح وضع تعريف ﻟ «الدخل الإجمالي» ليشمل الخسائر والأرباح «غير العادية» لكي «يحدث توازن بين الادخار والاستثمار بالضرورة في كل الأوقات.» وعندها «يضبط أي ادخار من الدخل الإجمالي من نفسه ليتوافق دائمًا وبالضرورة مع الاستثمار … فلم يَعُد الادخار هو الأساس بل صار تابعًا.» لذا كان بمقدور كينز بحلول ٢ مايو ١٩٣٢ أن يقول: إن «حجم التوظيف يعتمد على حجم الاستثمار … وإن أي شيء يزيد الأخير أو يُنقصه سيزيد الأولَ أو يُنقصه بالتبعية.»
بدأَتِ العناصر الأساسية التي يقوم عليها كتاب «النظرية العامة» — وهي الاستهلاك والاستثمار والدخل والناتج — في الظهور من بين حطام التعريفات الخاصة لكتاب «بحث في النقود». وتخضع تلك العناصر للقياس الإحصائي؛ ومِن ثَمَّ محاسبة الدخل القومي؛ ومن ثَمَّ أهداف محددة للسياسة الاقتصادية.
«أيها السادة، إن تغيير عنوان هذه المحاضرات من «النظرية البحتة للنقود» إلى «النظرية النقدية للإنتاج» هو تغيير ذو مغزًى.» هذه هي الكلمات — كما يتذكر لوري تارشيس — التي افتتح بها كينز في ١٠ أكتوبر عام ١٩٣٢ «أولى محاضراته الثمانية، والتي أعلنتْ بالفعل عن انطلاق الثورة الكينزية.» كان استفسار كينز هو: ما الذي يحدد حجم الناتج في اقتصاد نقدي؟ والإجابة عن هذا السؤال كانت في كتاب «النظرية العامة»، لكن معظم الإجابة كان لا يزال كامنًا في لغة كتاب «بحث في النقود» ومفاهيمه. ومع ذلك برز الكثير من لَبِنات كتاب «النظرية العامة» المألوفة. واتضحت أكثر في مجموعة المحاضرات التي ألقاها كينز في خريف عام ١٩٣٣.
يتحدد حجم الناتج حسب إجمالي «الدفع» أو الإنفاق؛ فإذا نقَص الإنفاق على الناتج الجاري عن الدخل الجاري — أيْ، بلغة كتاب «بحث في النقود»، إذا قلَّتْ عوائد المبيعات للناتج الجاري عن تكاليف إنتاجه — يجب أن ينخفض الدخل إلى مستوى الإنفاق من خلال انخفاض في الناتج والتوظيف. ولتفسير كيف يمكن تقليل تكاليف الإنتاج بتقليل نسبة التوظيف بدلًا من تقليل الأجور، قدَّم كينز مسوَّدة أولية للفصل الثاني من كتاب «النظرية العامة». واحتدم الجدال في عام ١٩٣٣ بسبب الفرضية القائلة إن الأجور الحقيقية تعتمد على حالة الطلب الفعال، لا على مفاوضات الأجور النقدية («ربما لا مفر للعمالة من الحصول على أجور حقيقية مرتفعة في أثناء الكساد») وبسبب ظهور مفهوم «البطالة القسرية» في المقابل. وفي ظل غياب إمكانية ضبط الأجور الحقيقية، يصبح استناد النظرية الكلاسيكية على قانون ساي — الذي ينص على أن «العَرض يخلق الطلب المكافئ له» — للحفاظ المستمر على وضع التوظيف الكامل أمرًا مؤكدًا كذلك.
يتحدد الإنفاق — في الاقتصاد الحر — تبعًا «للعوامل النفسية للسوق» وهي: حالة التفضيل الزمني (والتي أُطلق عليها دالة الاستهلاك لاحقًا) التي تربط بين الادخار والدخل، و«أشباه العوائد» المتوقعة أو الربحية المتوقعة للاستثمار (والتي أُطلق عليها لاحقًا الكفاءة الحدِّية لرأس المال)، وحالة تفضيل السيولة التي تحدد إلى جانب كمية النقود سعر الفائدة. وتنبِّئنا تلك المعاملات الخاصة بالاقتصاد النقدي، بجانب جدول إجمالي العرض و«استجابة الأرباح» (للتكاليف في مقابل الأسعار) «بحالة الناتج المترتبة … وكيفية التأثير في تلك المعاملات للحصول على مستوى الناتج المرغوب.» وطُرح هذا بشكل أوضح في عام ١٩٣٣: «إن القوى الأساسية في تحديد حجم التوظيف هي حالة الثقة والميل للاستهلاك وتفضيل السيولة وكمية النقود. ويمكننا أن نسمِّي هذا «القانون العام للتوظيف».» وبذلك يكون قد سُلط الضوء بقوة أكثر على دور التوقعات وعدم اليقين.
أدرك كينز أن تحديد حجم الإنفاق الإجمالي من خلال «العوامل النفسية» ربما لا يكون كافيًا للحفاظ على وضع توظيف ناتج كامل، لكنه لم يَذكر السبب بدقة في عام ١٩٣٢. كان كينز مدركًا بالفعل أن سعر الفائدة يتحدد وفق الطلب على النقود لا الطلب على القروض. وبناءً على ذلك، فإن سعر الفائدة «يُثبت القيمة الحالية لأشباه العوائد المتوقعة.» لكنه لم يَجهَر صراحة برأيه الأخير القائل إن صحة قانون ساي تعتمد على فاعلية الآلية الكلاسيكية لضبط سعر الفائدة؛ إذ تمسَّك برأيه الوارد في كتاب «بحث في النقود» الذي يرى أن السلطة النقدية لها السيطرة الكاملة على الأسعار على المدى القصير والطويل، وأن واجبها هو «إقرار سعر الفائدة الذي يحقق مستوى الاستثمار الأمثل.» ولم يطرح كينز الفرضية القائلة إن الاحتفاظ بالنقود بدافع المضاربة ربما يمهد الطريق لانخفاض سعر الفائدة بشكل واضح حتى عام ١٩٣٣.
وتساءل كينز: كيف يمكن — في ظل غياب سياسة تُحقق الاستقرار — منْعُ الدخل والناتج من الانخفاض «حتى يتوقف الإنتاج بشكل تام»؟ والإجابة المختصرة هي أنه بعد أي صدمة للاستثمار ينخفض الإنفاق (الاستهلاك) بمعدل أقل من الدخل، وهذا ما يجعل «التوازن المستقر» ممكنًا. وذكرت هذه الإجابة هي الأخرى بشكل أوضح عام ١٩٣٣ حينما قال كينز: «يجب أن يتساوى الادخار والاستثمار، وسيَضبط الدخل نفسه ليحقق هذا الشرط.» فلا يمكن زيادة الدخل وهو في مستوًى متدنٍّ ما لم يقلَّ «الميل للادخار» أو يزيد حجم الاستثمار. وكانت الميزة التي قدمتْها صيغة كينز الأقل دقة المطروحة عام ١٩٣٢ هي أنها احتفظتْ بالتحليل الدوري الوارد في كتاب «بحث في النقود». فانخفاض الدخل يميل لإحداث انخفاض في أسعار الفائدة مع ارتفاع نسبة المخزون النقدي إلى الدخل، وهو ما يسمح بزيادة الاستثمار. لكن في حال عدم خفض سعر الفائدة على نحو أكبر من خلال السياسة المصرفية، «فربما لا تتم الزيادة في الاستثمار … بنفس سرعة الزيادة في المدخرات مع اتجاه الناتج للزيادة من جديد»، وهو ما يسبب توقف التعافي قبل الوصول إلى وضع التوظيف الكامل. ويعطي هذا صورة لمفهوم كينز عن «التوازن» دون المستوى الطبيعي، والتي هي أشمل مما نجح في بيانه في كتاب «النظرية العامة»، الذي صمم تحليله الثابت لإصلاح الاقتصاد في وقتٍ ما من أجل تحديد هدف دقيق أمام السياسة الاقتصادية.
وكان مِن بين أسباب عدم الدقة النسبية في محاضرات كينز عام ١٩٣٢ أنه لم يستخدم نظرية المضاعِف لريتشارد كانْ؛ فقد عجز تمامًا مثل «كانْ» عن إدراك الصلة المنطقية بينها وبين تحليل التوازن النقدي.
كتب ريتشارد كانْ مقالَه «العلاقة بين الاستثمار الداخلي والبطالة»، المنشور في دورية «إيكونوميك جورنال» في يونيو ١٩٣١، ليهاجم اعتراضات وزارة الخزانة البريطانية على برامج المشروعات العامة المموَّلة بالقروض بوصفها علاجًا للبطالة. وقد بُنيتْ تلك الاعتراضات على ضآلة حجم التوظيف الذي يوفِّره إنفاق نقدي معين والعبء الناتج على الميزانية وعلى فكرة «مزاحمة» الاستثمار الخاص. وأكد كينز وهيندرسون في كتيِّبهما «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» الذي ظهر في عام ١٩٢٩ أن برامج المشروعات العامة ستوفِّر، بجانب قدْر يمكن حسابُه من التوظيف الأساسي، قدْرًا من التوظيف «الثانوي» الناتج عن إنفاق العاملين الجدد لأجورهم، لكن هذا التوظيف الثانوي لا يمكن حسابه. وكان السؤال الذي طرحه كانْ هو: ما الذي قد يمنع الزيادة في دخل فردٍ ما بمقدار جنيه استرليني واحد من زيادة دخل المجتمع على نحو لا نهائي؟ الإجابة البديهية هي أن جزءًا من الدخل الإضافي سيُدخر في كل مرة يتم إنفاقه حتى يتبدد أثر الزيادة. وإذا فُرض معرفة حجم ذلك الجزء المدخر، فإن إجمالي الدخل الزائد أو التوظيف الثانوي يمكن حسابه، وسيكون رقمًا محدودًا يمكن التعبير عنه بنسبة أو مضاعَف للاستثمار الأولي أو للتوظيف الأساسي. بالإضافة إلى ذلك، فإن قدْر الاستثمار الإضافي سيخلق قدْرَ ادِّخار مكافئًا من خلال رفع الدخول الإجمالية، وهذا يؤكد افتراض كينز أن «الاستثمار يجرُّ الادخار دائمًا ليسير بنفس الإيقاع»، كما يدحض ادِّعاء وزارة الخزانة بأن الاستثمار العام المموَّل بالقروض سيسحب المدخرات من الاستخدامات القائمة بالفعل. ويُعَدُّ ذلك جوهر نظرية المضاعِف.
ولم تكن نظرية كانْ صحيحة؛ إذ إنه حَسَبَ «تسربات» مِن تدفُّق الإنفاق الزائد بخصم مدفوعات البطالة (أيْ ما ينفقه العاطلون بالفعل) وكذلك الإنفاق الإضافي على الواردات (الذي لم يكن يزيد التوظيف الداخلي على نحو مباشر)، كما لم يدرك أن صيغته أقرَّتِ التساوي الضروري بين الادخار والاستثمار. (ففي أيِّ اقتصاد «مفتوح» لا يكون التساوي ضروريًّا بين الادخار والاستثمار؛ بل بين الادخار والواردات من جهة، والاستثمارات والصادرات من الجهة الأخرى.) طُرحتْ فكرة تسرُّب الادخار «الشخصي» لأول مرة في أدبيات نظرية المضاعف في مقال للمتخصص الدنماركي، ينس فارمنج، في دورية «إيكونوميك جورنال» في يونيو ١٩٣٢. جَمَعَ فارمنج «بين دالة ادخار شخصي مرتبط بالدخل على نحو حصري ومعادلات المضاعِف الجبرية لِكانْ من أجل وضع آلية لضبط الدخل توازُن الادخار مع التغير الأولي في الاستثمار.» رأى كينز بشكل شبْه مؤكد مقال فارمنج عندما قُدِّم لأول مرة إلى دورية «إيكونوميك جورنال»؛ لذا فمِن المرجَّح أن التأثير النظري انتقل على نحو مباشر أكثر من فارمنج، وليس مِن كانْ، إلى كينز في تلك المرحلة. وطرح كانْ — المتأثر هو الآخر بفارمنج — صيغة لنظرية المضاعف مشتقةً من الميول الحدِّية للادخار والاستيراد في بحثه في سينسيناتي بالولايات المتحدة في ديسمبر ١٩٣٢. وتضمَّن عمل كينز «الطريق إلى الرخاء» الذي نُشر بعدها بثلاثة أشهر عرضًا لتلك النسخة المعدلة من نظرية المضاعف لِكانْ، لدعم حجته بشأن برامج المشروعات العامة الممولة بالقروض.
تُعَدُّ نظرية المضاعف أبرز النقاط سيئة السمعة في الفكر الكينزي؛ فقد نشأتْ من قضية الثقة (أو «المزاحَمة») ومن مشكلة تمويل الميزانية. واعتمدتْ دقة مضاعف التوظيف — في مقابل مضاعف الدخل — دائمًا على نقطة الثقة؛ حيث استندتْ إلى الافتراض العشوائي بشأن كيفية تقسيم الإنفاق الإضافي بين زيادة الإنتاج وارتفاع الأسعار. ولَمْ يَحظَ هذا الأمر باهتمام كبير في بداية ثلاثينيات القرن العشرين حينما كانت الأسعار في انخفاض، إلا أنها أصبحتْ لها آثار قاتلة بعد الحرب. ربما يؤكد كثير من أتباع المدرسة الكينزية بكل ثقة أن «الكميات هي التي تتغير لا الأسعار». لكنَّ تشكُّك كينز الشهير في فكرة «المستقبل الممكن تقديره» راح في ذلك الوضع ضحيةً للدافع العاطفي لديه لتقديم أدوات عمل للحكومات.
ثار جدل واسع عن مسألة التوقيت الذي توصل فيه كينز على وجْه التحديد إلى نظريته الجديدة الخاصة بالعرض الفعال. لم يكن ثمة اختلاف أن ذلك حدثَ في عامَي ١٩٣٢ و١٩٣٣. لكن ما عدا ذلك يعتمد على اختبار فهمه لها. ربما من الأفضل أنْ تُترك لكينز الكلمة الأخيرة في هذا الشأن، رغم أن ذلك مستحيل؛ فقد أوضح في محاضرة له بتاريخ ٦ نوفمبر ١٩٣٣ أن الأفكار الجديدة تَظهَر في البداية في صورة «كيان مُخيف باهِت غامض فوضوي» في عقل الإنسان، ثم «تأتي الصيغة اللغوية الدقيقة عنها في مرحلة متأخرة مِن تطورها. فمن الممكن أن تفكر بدقة ووضوح قبلَ وقت طويل من تَمكُّنك — إن جاز التعبير — من التصوير الفعلي لأفكارك.» لقد عرَف كينز أكثر مما استطاع التعبيرَ عنه في خريف عام ١٩٣٢، لكنه كان أكثر ثقة فيما عرَفه في العام التالي؛ لذا استطاع أن يُعبِّر عنه على نحو أفضل.
إن كتاب «النظرية العامة» المنشور في ٤ فبراير ١٩٣٦ هو عمل يتميز بسحْر أبدي؛ فهو كتاب بسيط ودقيق، غامض وعميق؛ فقد قدَّم طريقة منهجية للتفكير، ليس فيما يخص سلوك الاقتصاديات المعاصرة وحسب، بل أيضًا فيما يخص العقبات في الطريق إلى زيادة الثروة في كل الأزمان؛ فقد جمع بين تصور لسلوك الاقتصاديات وبيان دقيق لإمكانية تحقيق التوازن في حالة نقص التوظيف. ورغم أن صغار الاقتصاديين ذوي النزعة التأملية انجذبوا إليه، باعتباره يحوي حصيلة من الأفكار الملهمة، فقد كانت فائدته العملية هي ما جذبتْهم إليه في عالم يترنَّح بين ديمقراطية آفلة وشمولية فتيَّة.
ليس الكتاب على نفس الدرجة من سوء التنظيم كما يُشاع عنه؛ فمَن يبدأ الكتاب بقراءة الفصل الثالث، ثم الفصول من الثامن وحتى الثالث عشر، ثم الفصل الثامن عشر، فسيُكوِّن تصوُّرًا دقيقًا لجوهر نظرية كينز. وتَظهَر الإشكاليات الأساسية عندما يحاول كينز الربط بين نظريته وما يُسمِّيه «النظرية الكلاسيكية» عن طريق التعليق أو محاولة التوفيق بينهما أو النقد الهدَّام، وهو الأسلوب الأكثر استخدامًا. وتزداد حِدَّة الإشكاليات تحديدًا في الفصل الثاني وهو بعنوان «مسلَّمات علم الاقتصاد الكلاسيكي»، والفصلين الرابع عشر والخامس عشر اللذين يتناولان النظرية الكلاسيكية لسعر الفائدة ونظرية كينز عن الفائدة في صورتها الأكثر اكتمالًا، وكذلك في الكتاب الخامس عن «الأجور النقدية والأسعار». ومن الأفضل قراءة الفصل السادس عشر «ملاحظات متعددة عن طبيعة رأس المال» والفصل السابع عشر «الخصائص الجوهرية للفائدة والنقود»، بجانب الكتاب السادس (الفصول من الثاني والعشرين وحتى الرابع والعشرين) باعتبارها أفكارًا عامة تأمُّلية حالمة نابعة من جوهر النظرية. كما يمكن تخطِّي الكتاب الثاني «تعريفات وأفكار»، وهو ما يحدث في العادة.
لقد استخدم كينز في كتاب «النظرية العامة» تحليلًا «قصير الأجل» خاصًّا بمارشال. فبما أن رأس المال المساهَم به ثابت، فإن السبيل الوحيد لضبط الاقتصاد مع زيادة أو نقص شديد في الطلب هو الاستخدام المكثف بشكل أو بآخر للموجودات القائمة. وبدتْ هذه أداة تحليلية منطقية وسط ظروف الكساد الكبير. لكنها استَبعدَتِ التغيرات في «هيكل الإنتاج» التي اعتبرها اقتصاديو المدرستين النمساوية والسويدية أساسية في عملية الضبط، سواء كانت مصحوبة بالبطالة أم لا.
هناك سِمَةٌ أخرى لمنهج كينز التحليلي جديرة بالملاحظة؛ فقد تخلَّى عن المنطق الفالراسي للتوازن العام لصالح التسلسل السببي المنطقي. وكان التسلسل التالي أساسيًّا في كتاب «النظرية العامة»: بفرض الميل إلى الاستهلاك، يتحدد حجم التوظيف وفقًا لحجم الاستثمار؛ وبفرض توقُّع ربحية الاستثمار، يتحدد حجم الاستثمار تبعًا لسعر الفائدة؛ وبفرض معرفة كمية النقود، يتحدد سعر الفائدة حسب حجم تفضيل السيولة. ويَستخدم هذا التسلسلَ السببي، كما سنرى، لإثبات أنه إذا كان الدخل (عوائد المبيعات) الذي يتوقَّعه أصحاب المشروعات من تشغيل عدد معين من الناس يتوقع أن يقلَّ عن تكلفة تشغيل هذا العدد، فسينخفض الناتج ونسبة التوظيف حتى تتساوى تكاليف التوظيف مع عوائد المبيعات المتوقعة.
يُعيد كينز ترتيب الرؤية «الكلاسيكية» التي تقول إن البطالة القسرية مستحيلة في ضوء نفس التسلسل السببي المنطقي لتأكيد اعتمادها على النظرية الكلاسيكية لسعر الفائدة. فبفرض معرفة الأجور الحقيقية، تعتمد نسبة التوظيف على قانون ساي، الذي ينص على أن «العرض يخلق الطلب المكافئ له»؛ وبفرض توقع ربحية الاستثمار، يعتمد قانون ساي على تحديد سعر الفائدة على نحو حصري في سوق القروض. وإنْ لم يكن هذا صحيحًا، فستنهار النظرية الكلاسيكية تمامًا.
وينبغي إيضاح ثلاث نقاط بخصوص تعريفات كينز (الكتاب الثاني) قبل أن نعرض للأفكار الرئيسية؛ أولًا: يتساوى الادخار والاستثمار طبقًا للمعادلات التالية: الدخل = الاستهلاك + الاستثمار، الادخار = الدخل − الاستهلاك، الادخار = الاستثمار. وهذا يطرح السؤال التالي: ما الذي يمكن ضبطه في الاقتصاد لتكون المعادلة الأخيرة صحيحة؟ ثانيًا: اقترحَ كينز تقليص التغيرات في الدخل الاسمي من خلال أسعار الأجور — وهى المدفوعات النقدية لكل ساعة عمل — وذلك من أجْل قياس تأثير التغير في الطلب على التوظيف. وبافتراض معرفة متوسط أسعار الأجور، فسيتغير حجم التوظيف بنفس حجم التغير في الدخل الاسمي. بدا هذا تبسيطًا منطقيًّا قصير الأجل، لكنه طرح السؤال عن كيفية مشاركة آثار عملية الضبط بين التوظيف والأجور في الظروف الفعلية. وأخيرًا: قدَّم كينز «منهج التوقعات» لتحديد التوازن قصير الأجل من خلال جعل التوظيف قصير الأجل يعتمد بالأساس على توقعات الأرباح طويلة الأجل.
طرح كتاب «النظرية العامة» على نحو صريح فكرةً لم تَرِدْ في كتابَيْه السابقين إلا ضمنًا؛ وهي أنَّ النقود ليستْ فقط مجرد وسط للتبادل، بل هي كذلك مخزن للقيمة. والشرط الرئيسي لوظيفة النقود تلك هو عدم اليقين؛ فالاحتفاظ بالنقود يقلل التعرض للمخاطر، وبذلك يخفف التوتر. ومن سوء الحظ أن كينز لم يطرح فكرة «الطلب على النقود» في «تسلسله السببي» إلا في جزء متأخر نسبيًّا من الكتاب؛ حيث إن جميع استنتاجات كينز — وسبب تأليفه للكتاب — تنبع من إدراكه أنه حينما يزداد عدم اليقين على نحو كبير جدًّا، تُمثل السيولة انسحابًا من النشاط الاقتصادي. ويواجه صاحب المشروع دائمًا الاختيار بين استخدام النقود بشكل أو بآخر أو عدم استخدامها على الإطلاق؛ لذا تُمثل حرية عدم الإنفاق لدى الناس في اقتصاد نقديٍّ الجوهرَ المنطقيَّ لرفض كينز فكرة أن «العرض يخلق الطلب المكافئ له»، ولطرحه فكرة أن «الإنفاق يخلق الدخل المكافئ له.» وتُعَدُّ هذه الأفكار أساس «رؤيته».
يُعد الكتابان الثالث والرابع — اللذان يتناولان الطلب على الاستهلاك والطلب على الاستثمار وسعر الفائدة — هما اللبَّ التحليلي لكتاب كينز؛ لأن تلك المتغيرات هي ما يحدد حجم الناتج ونسبة التوظيف. ويمثل «الميل للاستهلاك» (ومن ثَمَّ للادخار) على المدى القصير نسبةً «مستقرة إلى حدٍّ ما» من الدخل الجاري. ويتيح شكل الدالة (أو الأجزاء المدخرة من الدخل المتزايد أو المتناقص) حسابَ رقمٍ محددٍ (عن طريق المضاعف) لحجم ضبط الدخل المطلوب للموازنة بين خطط الادخار والاستثمار. وتُمكن دالةُ الاستهلاك كينز من تفسير سبب عدم استمرار الدخل والناتج، بعد حدوث زيادة أو نقص شديد في الطلب، في الانخفاض إلى الأبد (كما في أرض الموز)، بل يصبحان في وضع من «التوازن في حالة نقص التوظيف»، كما تُمكن الدالة الحكومات من معرفة حجم النقود الإضافية الواجب أن تنفقها لتفادي «فجوة الناتج». وتُعد الدالة بجانب مضاعف الاستثمار أهمَّ أدوات السياسة الاقتصادية التي قدَّمها كتاب «النظرية العامة» لنا.
من المهم ملاحظة أنه بينما يتساوى الادخار والاستثمار «الفعليان»، فإنه ليس من الضروري أن يتساوى الادخار والاستثمار «المخططان». وعندما لا يتساويان، فإن بعض الخطط على الأقل ستتحقق وتَفُوق التوقعات أو تخيب. فإذا زاد الادخار المخطط عن الاستثمار المخطط، فسيتجه الاقتصاد نحو الانكماش. وإذا زاد الاستثمار المخطط عن الادخار المخطط، فسيتجه الاقتصاد نحو التوسع.
وبهذا يَقلِب كينز علمَ النفس الكلاسيكي رأسًا على عقب؛ إذ يمدح الاقتصاديون الكلاسيكيون «الاكتناز» أو «الادخار» بوصفه وسيلة لزيادة المعروض من رأس المال. وتضمنت فكرة كينز عن «مفارقة الادخار» أنَّ أيَّ زيادة في الادخار المخطط يمكن أن تؤدي إلى حدوث انخفاض في الادخار الفعلي بسبب انخفاض الدخل، ما لم يرتفع مستوى ربحية الاستثمار المتوقعة على نحو مستقلٍّ. لكن وجود زيادة في الميل للادخار يمكن أن يأتي بنتائج عكسية على الاستثمار؛ إذ يمكن أن يقلل توقعات أصحاب المشروعات للاستهلاك المستقبلي الذي تعتمد عليه ربحية الاستثمار. هذا بخلاف أن مشكلة توفير القدْر الملائم من الاستثمار — في ظل زيادة الميل الحدِّي للادخار بزيادة الدخل — تميل إلى التفاقم بمرور الوقت. فلتحقيق مستوى التوظيف الكامل يحتاج المجتمع الغني أن يستثمر نسبة أكبر من دخله، حتى إن انخفضتْ ربحية الاستثمار المتوقعة؛ لأن الفجوة بين الدخل والاستهلاك ستزداد.
وبافتراض وجود «ميل للاستهلاك»، فإن حجم التوظيف يعتمد على معدل الاستثمار أو على الزيادة في رأس المال المساهَم به. كما يظهر «الحافز على الاستثمار» عندما يكون العائد المتوقع للاستثمار أعلى من تكلفة القيام به؛ أيْ عندما تكون ما سماها كينز ﺑ «الكفاءة الحدية لرأس المال» إيجابيةً. وفي الفصل الثاني عشر الذي بعنوان «حالة التوقعات طويلة الأجل»، يبرز عدم الاستقرار في الطلب على الاستثمار باعتباره السبب الأساسي في التقلبات الاقتصادية. والسبب هو التذبذب في التوقعات المستقبلية بخصوص عائد الاستثمار.
ويمثِّل «إدراك عدم اليقين المفرط للأساس المعرفي الذي نبني عليه تقديراتنا للعائد المتوقع» نقطةَ انطلاق كينز؛ فسوق الأوراق المالية تُقلِّل مخاطر الاستثمارات بجَعْلها سائلة أو حاضرة للأفراد، لكن هذا يجعل الاستثمار ككلٍّ أكثر تذبذبًا؛ إذ يمكن للمستثمرين أن يبيعوا ويشتروا في ظرف لحظة واحدة. ولا تعتمد أسعار الأسهم على احتمالات الاستثمار الحقيقي — التي لا يمكن معرفتُها في أغلب الأحيان — بل على الشعور السائد الذي يمكن أن يتذبذب بشدة بسبب الأخبار اليومية؛ فعدم وضوح المعلومات التي تدعم التقييم التقليدي للأسهم هو ما يجعل دالة الاستثمار معتمدة على نحو خاص على «الغريزة الحيوانية»، التي تُعرَّف بأنها «دافع تلقائي للفعل بدلًا من اللافعل».
ويري معظم أتباع المدرسة الكينزية أن الفصل الثاني عشر يحتوي على «رؤية» كتاب «النظرية العامة»، بل والثورة الكينزية، في كلٍّ من هجومها على أخلاقيات الرأسمالية — «عندما تصبح تنمية رءوس الأموال في بلد ناتجًا ثانويًّا لأنشطة أحد أندية القمار، فالعملية قد تكون لا جدوى لها» — وكذلك رفضها لفكرة القدْرة على التقدير في الأمور الإنسانية. وتؤدي المناقشة إلى نتيجة طبيعية؛ وهي أن الدولة ينبغي أن تتحمل «مسئوليةً أكبر من ذي قبل في التنظيم المباشر للاستثمار … بنظرة بعيدة.» كما تقرُّ المناقشةُ منطقيةَ تفضيلِ السيولةِ — وهو تفضيل الاحتفاظ بالسيولة النقدية بدلًا من استثمارها — الذي يلعب دورًا محوريًّا في نظرية كينز عن سعر الفائدة.
يتحدد حجم الاستثمار تبعًا لسعر الفائدة مع وضع حالة التوقعات في الاعتبار. ويؤمن كينز بأن سعر الفائدة يتحدد في سوق النقود؛ إذ يعتبر أن الفائدة هي سعر التخلي عن السيولة، التي تعني التحكم المباشر في المبالغ المالية. وقال في عام ١٩٣٧ إن الفائدة هي «مقياس لدرجة القلق لدينا.» فكلما زاد تفضيل الناس للاحتفاظ بمدخراتهم في صورة نقود، ارتفع سعر الفائدة الذي سيطلبه الناس للتخلي عن نقودهم. وبذلك يكتمل التسلسل المنطقي لكتاب «النظرية العامة» ببيان أن سعر الفائدة يمكن أن يظل في مستوًى أكبر من «معدل العائد على رأس المال» الضروري لتحقيق مستوى التوظيف الكامل.
إن «الشرط الأساسي» بل وأيضًا «التفسير الوحيد المعقول» لتفضيل السيولة هو «عدم اليقين تجاه مستقبل سعر الفائدة». إذ برهن كينز على أنه إن لم يكن ذلك صحيحًا، فسيتجه المستثمرون الراغبون في التخلص من السندات إلى شراء الدَّيْن الحكومي، وسيؤدي هذا إلى رفع أسعار السندات وخفض عوائدها، وهو ما يزيد من ربحية الاقتراض بغرض الاستثمار بالنسبة لرجال الأعمال. لكن إنْ رأى المضاربون أن سعر الفائدة «شديد الانخفاض» — أيِ انخفض لأدنى من مستواه «التقليدي» أو المتوقع — فسيبيعون السندات للحصول على مقابل نقدي؛ وبذلك يوقفون أو يعكسون اتجاه الانخفاض في سعر الفائدة. ولم يتناول كينز ما الذي يجعل سعر الفائدة المتوقع على ما هو عليه، وهو ما فعله دينيس روبرتسون.
يمكن للسلطة النقدية التدخل عن طريق شراء السندات بنفسها (عمليات السوق المفتوحة). لكن هذا يمكن أن يؤدي لمبيعات سندات مقابلة من قِبل القطاع الخاص إذا اعتُبرت السياسة النقدية «غير حكيمة». ويمكن عندها السقوط في «فخ السيولة»؛ وهو عندما تعجز السياسة النقدية عن دفع سعر الفائدة للانخفاض إلى أدنى من مستوًى تحدده مَخاوف التضخم أو العجز عن السداد. وكلما انخفض سعر الفائدة انخفضتْ «عوائد عدم السيولة» المتاحة للحماية من مخاطر الخسارة في حساب رأس المال. ويقول كينز إن هذه هي العقبة الرئيسية أمام انخفاض سعر الفائدة لمستوًى شديد التدني. فإذا كان سعر الفائدة لفترة طويلة ٢٪ مثلًا، فإنه «لا يبشر بالخير بقدْر ما يُثير المخاوف، ويُقدِّم في الوقت نفسه عائدًا ثابتًا لا يكفي إلا لتعويض جزء صغير جدًّا من الخوف.» وربما يصبح تفضيل السيولة حينها «عامًّا تقريبًا»؛ حيث يفضل الجميع تقريبًا الاحتفاظ بالسيولة النقدية على الاحتفاظ بالدَّيْن. إلا أن التحول للاحتفاظ بالسيولة النقدية يمكن أن يحدث في ظل سعر فائدة أعلى، مثلما حدث في الولايات المتحدة عام ١٩٣٢. وفي هذه الحالة ستكون السلطة النقدية قد فقدتْ بالفعل السيطرة الفعالة على السعر الطويل الأجل للفائدة. لكن السياسة النقدية التي تَحظَى بثقة الجمهور يُمكِنها أن تَنجَح فيما ستفشل فيه السياسة التي يرى الناس أنها «ذات طابع تجريبي أو أنها عرضة للتغير بسهولة.»
وتَصِل مناقشة كينز لمشكلة سعر الفائدة إلى جوهر نظريته؛ إذ إن تأكيده على كون تفضيل السيولة يمكن أن يُبقِيَ سعر الفائدة مرتفعًا جدًّا بدرجة لا تسمح بالوصول لمستوى استثمار يتحقق فيه التوظيف الكامل — من وجهة نظره — قد حسم هجومه النظري على مبدأ «العرض يخلق الطلب المكافئ له». كما يقوِّض رفضُه اعتبارَ الفائدةِ مكافأةً على الادخارِ النظرةَ الكلاسيكية للادخار باعتباره فضيلة في حالات الكساد؛ حيث إنه لا يؤدي إلى خفض سعر الفائدة؛ ومن ثَمَّ لا يُشجِّع الاستثمار. ويُعزِّز عدم الفاعلية المحتملة للسياسة النقدية في ضمان النتيجة نفسِها من الحاجة لسياسة مالية لمواجهة الكساد.
يلخص ما سبق الجانبَ الإيجابي من «النظرية العامة» لكينز؛ فالأفكار الأساسية «شديدة البساطة»، كما قال في المقدمة. ولا تظهر الصعوبات في محاولة فهم نظريته، بل في علاقة نظريته بما سماه النظرية «الكلاسيكية». فلأيِّ مدًى لا تتفق نظريته مع الأفكار التقليدية؟ وإنْ لم تكن متسقة معها، فلأيِّ درجة كانتْ نظريتُه «أصحَّ» أو «أعمَّ» بحسب قول كينز؟ ليس هناك مِن إجابة حاسمة على أيٍّ مِن هذين السؤالين. لقد وضع كينز نظريته في مقابل تصوره الخاص للنظرية «الكلاسيكية» الذي نفى كثيرٌ من خصومه تبنِّيَهم له. كما أنه من غير الواضح ما قصده كينز بكلمة «أعم»؛ إذ فرَّق في الفصل الأول من الكتاب بينها وبين «الحالة الخاصة التي تفترضها النظرية الكلاسيكية»، بينما قارن في مواضع أخرى بينها وبين «الحالة الجزئية» كما فعل في أثناء هجومه على النظرية الكلاسيكية لتجاهلها العلاقات المترابطة بين العمالة وأسواق السلع.
افتتح كينز عَرضه بمهاجمة وجهة النظر «الكلاسيكية» القائلة إن التوظيف يتحدد وفق سوق العمل؛ إذ قال في الفصل الثاني معتمدًا على أفكار بيجو في كتابه «نظرية البطالة» (١٩٣٣) إن المنظِّرين الكلاسيكيين يَرَوْن أنه في ظل مرونة مثالية للأجور النقدية لا توجد أيُّ عقبة أمام تحقيق مستوى التوظيف الكامل، مهما كان وضع الطلب الاسمي.
ومن وجهة النظر «الكلاسيكية»، كما قال كينز، يعتمد حجم التوظيف على مسَلَّمتَيْن بشأن الأجور «الحقيقية»؛ وهما: أن الأجور في حالة التوازن تتساوى مع الناتج الحدي للعمل، وأنها تتساوى مع نقص المنفعة الحدية للعمل. فالمسلَّمة الأولى تقدِّم منحنًى تناقصيًّا للطلب على العمل يعكس انخفاض الكفاءة الحدية للعمل، بينما تقدِّم المسلَّمة الثانية منحنًى تصاعديًّا للعرض يعكس ارتفاع مستوى نقص المنفعة الحدية للعمل أو «الألم». وفي ظل الأجور المرنة على نحو مثالي، يتحدد حجم التوظيف في المرحلة التي يُصبِح فيها نقصُ المنفعة (والأجر المدفوع) لآخِر ساعة عمل مساويًا لقيمتها الربحية بالنسبة لصاحب العمل؛ أيْ عندما لا تكون هناك عقبات أمام استمرار وضع التوظيف الكامل. وفي مثل هذا الوضع لا يمكن أن تَظهَر البطالة القسرية، فقط ستظهر البطالة الاختيارية وبعض البطالة «الاحتكاكية». وتعد البطالة الاختيارية غير قسرية؛ لأنه يمكن دائمًا للعاملين الخروج منها بمراجعة حساباتهم النفسية للَّذة والألم وتقبُّل أيِّ عمل إضافي يُتاح أمامهم. (لم يكن من الواضح قَطُّ كيف يمكن ترجمة مفهومَيِ الكفاءة واللذة المرتبطين بساعات العمل إلى قدْر من التوظيف في نظام يعمل بالأجور الأسبوعية. وكان الحل المعتاد هو افتراض أن زيادة التوظيف تمتص العمال ذوي المهارة الأقل والأكثر تفضيلًا للبطالة الاختيارية.)
وقد تقبَّل كينز المسلَّمة الكلاسيكية الأولى، لكنه رفض الثانية؛ فقد رأى إمكانيةَ تحقُّق بعض الظروف التي يكون فيها عددُ العمال الراغبين في العمل بأي أجر نقدي أكبرَ من عدد فُرص العمل المعروضة. وسيتخطى العملُ من الناحية الإجمالية منحنى العرض الخاص به؛ وبذلك تحدث «البطالة القسرية». والسبب هو أن اتفاقات الأجور تتم بلغة النقود. وإذا انخفضتْ على نحو فوري الأجور والأسعار معًا بعد حدوث نقص شديد في الطلب، فسيبقى الأجر الحقيقي كما هو. ووقتها لن يحدث أيُّ شيء من أجْل تحسين ظروف الأعمال؛ لذا سيستمر معدل البطالة في الازدياد. قال بيجو إن الأجور يمكنها في ظل المرونة التامة للأجور أن تنخفض بمعدل أكبر من دخول (أرباح) أصحاب الأعمال — أيْ تكون التكاليف أعلى من الأسعار — فيقلَّ الأجر الحقيقي ويسمح ذلك بزيادة نسبة التوظيف. قلَب كينز هذه الفكرة رأسًا على عقب بوصْف الدخول بالمتوقعة؛ إذ يعتمد أثر انخفاض الأجور النقدية في التوظيف على أثره في توقعات الأرباح. وكما قال كينز على نحو دقيق في عام ١٩٣٣: «إنَّ الدخْل هو الشيء المتوقع الذي يُغرِي أصحاب الأعمال بأن يؤسسوا المشروعات.»
انقطعتْ مناقشة هذه القضية في الفصل الثاني لتُستكمل في الكتاب الخامس بعد أن شرح كينز نظريته الخاصة. وفي الفصل التاسع عشر بعنوان «التغيرات في الأجور النقدية»، يتناول كينز أثر تقليل الأجور النقدية على مُحدِّدات إجمالي الطلب؛ وهي: الاستثمار والادخار وتفضيل السيولة. وكان استنتاجه الرئيسي هو أن التقليل العام للأجور النقدية يمكن أن يحسِّن مستوى التوظيف على نحو غير مباشر في نظام مغلق بشرطين: (أ) إذا عزَّزَ انخفاض الأجور الثقة بالاقتصاد. (ب) إذا أدَّى إلى انخفاض مستوى الأسعار؛ ومن ثَمَّ انخفاض الطلب على أرصدة المبادلات التي تتناسب مع المخزون النقدي على نحو يسمح بانخفاض سعر الفائدة. لكن السياسة الأكثر ضمانًا لتحقيق الشرط الثاني هي زيادة المخزون النقدي الاسمي؛ حيث قال كينز: «لا يُفضِّل سياسةَ الأجور المرنة على السياسة النقدية المرنة … إلا شخص أحمق.» وكما قال في الفصل الثاني: تظهر البطالة القسرية حينما تؤدي الزيادة في الأسعار المرتبطة بأسعار الأجور إلى زيادة حجم التوظيف.
وأضاف ديفيد تشامبرنون في نقده لكتاب «النظرية العامة» شرطًا لسياسة كينز لرفع نسبة التوظيف؛ وهو أنها لن تنجح إلا إذا امتنع العمال عن المطالبة برفع الأجور النقدية بعد حدوث ارتفاع في الأسعار. وتنبَّأ بأن التضخم سيمنع قبولهم للنقص في الأجر الحقيقي وهو ما اكتُشف في النهاية أنه للأسف هو الواقع. وأدى ذلك لتوجيه الاتهام المتكرر لكينز بأن أساليبه الخاصة بزيادة نسبة التوظيف تعتمد على «وهْم النقود»؛ أيْ خفض قيمة النقود أملًا في ألَّا يلاحظ العمال انخفاض أجورهم الحقيقية. لكن لم يكن الاتهام منصفًا؛ إذ إن ما قاله كينز لم يكن إلا محاكاة للاعتقاد السائد بأن التعافي من الكساد يتطلب تعافيَ الأسعار وعَودتها إلى مستوياتها «الطبيعية» قبل الكساد؛ أي إنه افترض استمرار ثبات تكلفة المعيشة في ظل عدم تغيير أصحاب الأجور لعقودهم للتكيف مع الاضطرابات المؤقتة. ولم يكن يقترح ضخ مزيد من النقود في اقتصاد يتعرض بالفعل لضغوط تضخمية.
في الفصل الحادي والعشرين بعنوان «نظرية الأسعار»، أقرَّ كينز بأن زيادة نسبة التوظيف ستكون مصحوبةً بارتفاعٍ متوسطٍ في الأسعار بعيدًا عن أيِّ تغير في متوسط أسعار الأجور؛ لأن العمل غير متجانس، ولأنه من المحتمل حدوث أزمات في العرض، ولأن تكلفة رأس المال قد ترتفع على نحو أسرع من تكلفة العمل. لقد تقبَّل كينز مثلَ هذا الارتفاع في مستوى الأسعار المرتبط بأسعار الأجور باعتباره شرطًا أساسيًّا لزيادة نسبة التوظيف، كما رأينا. لكنْ من المحتمل كذلك أن يُضيف التعافي ضغطًا على الأجور النقدية؛ لذا من المحتمل ظهور حالات «شبه تضخم» لا تصل لمستوى التوظيف الكامل. فعند تحقيق مستوى التوظيف الكامل تتحقق نظرية كمية النقود؛ حيث تؤدي أيُّ زيادة أخرى في الطلب على النقود إلى رفع الأسعار. ويبيِّن الفصل الحادي والعشرون أن الملخص التقليدي لرسالة كتاب «النظرية العامة»، وهو: «ضبط الكميات لا ضبط الأسعار»، غير مكتمل على نحو كبير؛ فهذا الفصل لا يُبيِّن كيف تنقسم الزيادة (أو النقص في هذه الحالة) في الطلب على النقود بين الأسعار والأجور والناتج، رغم أن كينز رأى أنه من المنطقي افتراض أن «الزيادة المتوسطة في الطلب الفعال في وضع يتسم بانتشار البطالة يمكن ألَّا تصبَّ في رفع الأسعار إلا قليلًا، وأن تصبَّ بشكل رئيسي في زيادة نسبة التوظيف.» وفي عام ١٩٣٩ أقنعه جيه جي دانلوب وإل تارشيس جزئيًّا أن زيادة العوائد والمنافسة غير السليمة ستؤدي لخفض متوسط تكاليف وحدات العمل في ظل زيادة نسبة التوظيف، وهو ما يُبرز الحاجة إلى زيادة الأسعار وانخفاض الأجور الحقيقية، ورأى كثير من أتباع الفكر الكينزي بعد الحرب أن هذا العامل سيكون كافيًا لتجريد سياسات التوظيف الكامل من أي مخاطر تضخمية. وكان ذلك هو الوهم الحقيقي.
كانت نتيجة مناقشة كينز لمشكلة الأجور هي نقض الفكرة «الكلاسيكية» القائلة بعدم وجود عقبات أمام الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل عند أي مستوًى للدخل النقدي في ظل المرونة التامة لأسعار الأجور النقدية. بل أوضح أنه لا يوجد إلا مستوًى واحدٌ من الدخل النقدي (أو إجمالي الطلب) يمكنه تحقيق أجر حقيقي يسمح بمستوى التوظيف الكامل؛ أي إنه في ظل نطاق واسع من الظروف الفعلية لا يتحدد الأجر الحقيقي في سوق العمل، وإنما يتحدد وفق مجموعة من العوامل التي تؤثر في مستوى الطلب على السلع في الاقتصاد.
ويطرح السؤالُ التالي نفسَه: إلى أيِّ مدًى تُعَدُّ نظرية كينز لسعر الفائدة مهمة في ظل إنكاره لقانون ساي؟ تبدو آلية دالة الاستهلاك/المضاعِف كافيةً لتفسير عملية ضبط الدخل. ويعتبر الاستهلاك دالة للدخل؛ حيث يبين المضاعِف حجم الدخل الواجب تغيره للموازنة بين خطط الادخار والاستثمار. وإذا افترضنا أن الاستثمار لا يتأثر بالتغيرات الطفيفة في سعر الفائدة، فسيصبح سعر الفائدة غيرَ ضروري لتفسير أي شيء؛ فسيصبح «معلقًا في الهواء» بحسب تعبير كينز. لكنه وافق اتفاقًا مع رأي روي هارود على وضع رسم بياني يعرض الادخار باعتباره دالة للفائدة والدخل معًا. لذا أصبح سعر الفائدة ضروريًّا لتحديد «توازن محدد». وطالما شعر أتباع كينز من مؤيدي دالة الاستهلاك بالندم على هذا الاتفاق مع رأي هارود؛ لأنه يجعل الأهمية النظرية لكتاب «النظرية العامة» معتمدة على وجود تفضيل للسيولة. فإذا أمكن إثبات أن كينز بالغ في سيادة مبدأ تفضيل السيولة أو أنه لم يقدم نظرية كاملة عن الفائدة، فالطريق مفتوح لتعرُّض البناء النظري الذي طرحة كينز لهجوم شديد.
ركز شريك كينز السابق، دينيس روبرتسون، على النقطة الثانية؛ فقد قال إن اعتبار سعر الفائدة دالة للطلب على النقود «في المضاربة» لا يمثل نظرية كاملة للفائدة؛ لأن الانخفاض في الطلب على النقود في المبادلات المرتبط بالمخزون النقدي سيقلل سعر الفائدة، ويعزز الاستثمارَ (وهو ما اعترف به كينز). وزعم روبرتسون أن هذه النقطة أعادتْ إحياء نظريةِ النقود القابلةِ للإقراض الكلاسيكيةِ، والخاصةِ بارتباط سعر الفائدة بعاملَيِ «الإنتاجية والادخار». كما فسَّرَتِ الحقيقةَ الواضحةَ المتمثلةَ في حدوث انخفاض في سعر الفائدة خلال الكساد وارتفاعه في أثناء الانتعاش الاقتصادي. وتبع ذلك سلسلةٌ من المقالات والتعقيبات الغاضبة التي نُشرت في دورية «إيكونوميك جورنال»، وهو ما اختُتم باقتراح كينز طَبْعَ مذكرةٍ وردتْ فيها الكلمات التالية: «سمعتُ في اندهاش (من روبرتسون) أن أسلافنا رأَوْا … أن زيادة الرغبة في الادخار ستؤدي إلى تراجع في معدل البطالة والدخل، وستؤدي فقط إلى هبوط في سعر الفائدة إذا ما استمر هذا الوضع.» وكتب كينز إلى روبرتسون في ٢٥ يوليو ١٩٣٨: «رأى أسلافنا … أن سعر الفائدة يعتمد على عرض الادخار. بينما تنص نظريتِي على أنه يعتمد على المعروض من النقود غير المستغلة. ولا يمكن التوفيق بين هذين الرأيين مطلقًا.»
أما زميل كينز المشهور الآخر في كامبريدج والخصم الرئيسي المفتعل لكتاب «النظرية العامة» آرثر بيجو، فقد هاجم كينز من جهة أخرى؛ إذ زعم بيجو في عدد ديسمبر من عام ١٩٤٣ لدورية «إيكونوميك جورنال» أن العجز في إجمالي الطلب سيؤدي إلى خفض الأسعار؛ ومن ثَمَّ زيادة القيمة الحقيقية للأرصدة النقدية، وكذلك صافي الثروة، ما دام حجم الديون لم يصل إلى حجم تلك الأرصدة. إن «تأثير بيجو» هذا يزيد من الاستهلاك؛ مما يؤدي إلى زيادة إجمالي الطلب في النهاية إلى مستواه الطويل الأجل في ظل وضع التوظيف الكامل.
لقد دخل روبرتسون وبيجو معركة بائسة؛ لا ليُظهِرا أن الفكر الكلاسيكي أنكر إمكانية حدوث «البطالة القسرية»، بل ليُبيِّنا أن هذه البطالة لا يمكن أن تكون جزءًا من حالة توازن. فتراجُع الاقتصاد يحرك عوامل التعافي بغضِّ النظر عن سياسة السلطة النقدية. ورغم الإقرار بوجود تلك العوامل لاحقًا، بالإضافة للحكم على هجوم كينز على النظرية الكلاسيكية بأن فيه خللًا منطقيًّا، فإن النظرية التقليدية لم يُعَدْ إحياؤها. واضطُرَّ منتقدو كينز للاعتراف بأن تفعيل عوامل التعافي غير مؤكد أو مضمون بعد مرور مدة طويلة من النشاط الأقل من المستوى الطبيعي؛ لذا لم تكن تلك العوامل على قدْر كبير من الأهمية بالنسبة للاقتصاديين أو الحكومات التي رأتْ أن كينز قدَّم لها أدوات لمنع حدوث التقلبات الكبيرة في الطلب من البداية أو لقلب تأثيرها سريعًا إن حدثت.
أما معظم الجزء المتبقي من كتاب «النظرية العامة»، فكان يقصد أن تكون الأفكار الموجودة به ملهمة لا قاطعة. فهي تضم نظرية للتاريخ الاقتصادي وردت فيها نقطة ضعف «إغراء الاستثمار» النابعة من عدم اليقين باعتبارها مشكلة دائمة، كما اعتُبر فيها القرن التاسع عشر «حالة خاصة» ارتبطتْ فيها المُيول النفسية لتحقيق «نسبة توظيف متوسطة مرضية على نحو معقول». هناك أيضًا «ملاحظات عن المركنتيلية» في الفصل الثالث والعشرين، والتي حاول فيها كينز أن يحدد المسار التاريخي لاهتمامه بالطلب الفعال، وذلك في مقابل الفكر الاقتصادي السائد المبني على فكر ريكاردو الذي يفترض أن علم الاقتصاد هو العلم الذي يبحث كيفية توزيع الموارد بين الاستخدامات المختلفة. وهناك أيضًا ما سماه بيجو بالتأملات الخاصة ﺑ «يوم القيامة» فيما يتعلق بمصير الاقتصاديات الرأسمالية الناضجة إن لم تتدخل الدولة لتعزيز الطلب القليل على الاستثمار الخاص. أبهرتْ بعضَ الاقتصاديين على وجه الخصوص إحدى نسخ فرضية «الركود المزمن»، التي وردت في الفصل السابع عشر بعنوان «الخصائص الجوهرية للفائدة والنقود». ويوحي كينز من خلال شرحه المتميز لرؤيته الانكماشية أن الرغبة في اكتناز النقود يمكن أن تقضي على جميع صور الإنتاج الأخرى في سبيل أن يبقى الأغنياء — مثل الملك ميداس — غارقِينَ في بحْر من الذهب. ونجحت الحكومات بعد الحرب في «إفساد» النقود، وهو ما كان له تبعات توقَّعها كينز — في إطار فكري آخر — عام ١٩٣٣؛ حيث قال إن النتيجة هي «نظام قائم على المشروعات يكون عرضة لزيادة الطلب والبطالة تمامًا مثلما أن نظامنا الفعلي عرضة لنقص الطلب والتوظيف.»
وربما يُنظر للفصل الأخير بعنوان «ملاحظات ختامية عن الفلسفة الاجتماعية» باعتباره تطويرًا لأفكاره الخاصة بالطريق الوسط التي وضعها في العشرينيات، والذي طرحتْه نظريته الجديدة. إذ يمكن التعامل مع الادخار المفرط من خلال إعادة توزيع القوة الشرائية على الذين لديهم ميل أكبر للاستهلاك (العمال) ومن خلال تقليل مزايا الادخار بإقرار سعر فائدة منخفض. وسيقضي ما سبق على فرصة المدخرين في الاعتماد على قيمة ندرة رأس المال؛ أي إن النتيجة ستكون تنفيذ «القتْل الرحيم في أصحاب الدخول الربوية». وبما أنه من المستبعد أن تتمكن السياسة المصرفية من الإبقاء على «سعر الفائدة الأمثل»، فقد نادى كينز ﺑ «تأميم شامل نوعًا ما للاستثمار»، وهي عبارة ملتبسة تحتاج للتفسير في ضوء إقرار كينز قبل عشر سنوات لنمو قطاع المرافق العامة في الاقتصاد (انظر الفصل الثاني). ومع القضاء على عجز الطلب، ستفقد الفاشية والشيوعية جاذبيتهما، وستتحقق مزايا «نظام مانشستر» ووعوده الكاملة؛ وهي: الكفاءة والحرية والتنوع في الحياة في الداخل، والانسجام والسلام المشترك في الخارج. توقع كينز في ختام بليغ لكتابه، والذي يُعَدُّ من المقولات الأكثر اقتباسًا، انتصارَه الفكري بعد أن كتب أنَّ «قوة المصالح الخاصة مبالَغ فيها جدًّا مقارنةً بالطغيان المتدرج للأفكار.»
ولم ينتظر كينز طويلًا؛ فقد حدث تحول فكري لدى جميع الاقتصاديين الشباب في بريطانيا والولايات المتحدة بمجرد نشر كتاب «النظرية العامة»، واستُخدمت السياسة المالية الكينزية في الولايات المتحدة بدءًا من عام ١٩٤٠، وفي بريطانيا بدءًا من عام ١٩٤١.
لكن لم يكن ما قَبِلتْه الأوساط الاقتصادية كلُّه ميراثَ كينز فقط؛ فقد كان الاقتصادي الإنجليزي جون هيكس — المنضم حديثًا للثورة الكينزية — هو مَن وضَع النموذج الكينزي «المتنقل» عام ١٩٣٧، وهو الذي درسه طلبة الاقتصاد منذ ذلك الحين. يُحوِّل هيكس التسلسلَ المنطقي الذي طرحه كينز إلى مجموعة من المعادلات المتزامنة التي يوضحها بيانيًّا من خلال منحنياته الشهيرة الخاصة ﺑ «الادخار والاستثمار/تفضيل السيولة والمعروض من النقود». وترَك هذا النظام «التعميمي» مساحة لنظرية كينز الخاصة — التي تنص على أن الادخار يتحدد وفق الدخل، وأن الاستثمار لا يتأثر إلى حدٍّ ما بتغير سعر الفائدة، وأن تفضيل السيولة يحكم أسعار الفائدة — وأيضًا على الأقل لبعض صور «رؤية وزارة الخزانة» التي ألَّف كينز كتابه ليقوِّضها. ويعتمد الأمر برمَّتِه على اتجاه المنحنيات. وتَظهَر نظرية كينز والنظرية الكلاسيكية بوصفهما «حالات خاصة» في «النظرية العامة» الحقيقية، مع افتراض أن حالة كينز الخاصة هي الأكثر فائدة للسياسة الاقتصادية. لقد كان أداء هيكس متميزًا بحقٍّ.
لم يعارض كينز، الذي سعى قبل كل شيء للتأثير في السياسة الاقتصادية، هذه الطريقةَ التوافقيةَ لنشْر أفكاره ما دامت تجعل أفكاره أكثر قبولًا وانتشارًا بين شباب الاقتصاديين. لكنه استغل الجدل الذي ثار بعد نشر كتاب «النظرية العامة» لتعديل نظريته عام ١٩٣٧ بطريقة بَيَّنَتِ افتراضاته المعرفية بشكل أفضل من الكتاب. ويمثل المقال، الذي وضح فيه هذا والذي نشر عام ١٩٣٧ في دورية «ذا كوارترلي جورنال أوف إيكونوميكس»، بالنسبة لأتباع كينز الأصوليين النصَّ المقدَّسَ لموقف أستاذهم.
إن إعادة بيان كينز لجوهر كتاب «النظرية العامة» معنيٌّ على وجْه الخصوص بآثار عدم اليقين في الاستثمار وسعر الفائدة؛ فقد اختار من الكتاب بالتحديد فكرةَ الفصل الثاني عشر «حالة التوقعات الطويلة الأجل» التي تؤكد على تقلُّب الطلب على الاستثمار، وكذلك فكرتَي الفصلين الثالث عشر والسابع عشر اللتين تشرحان سبب أهمية السيولة أو النقود. فالرغبة في امتلاك السيولة هي، قبل كل شيء، السببُ الذي يجعل الاقتصادَ غيرَ المركزي القائمَ على المشروعات غيرَ مستقرٍّ، والذي يضمن أن تحدث تقلباته في مستوى نشاط أقل من الطبيعي. وتساءل كينز عن سبب استخدام جميع العقلاء للنقود باعتبارها مخزنًا للقيمة. والإجابة الوحيدة المناسبة هي الشعور الجذري بعدم اليقين؛ وهي احتمالية استبعدها افتراض النظرية الكلاسيكية بأن المستقبل «محدد وقابل للتوقع». ولم يَرِدْ في المقال المنشور عام ١٩٣٧ أيُّ دالة للاستهلاك ولا مضاعف للاستثمار، وإنما عرض المقال معلومات غامضة وغير مؤكدة ومستويات الثقة المتذبذبة ومشاعر الشجاعة والخوف والأمل، التي لا تقترن في أحسن الأحوال إلا ببعض الاستراتيجيات والتقاليد التي يمكن أن تُطيح بها التغيرات في «الأخبار». وقال كينز إن عدم اليقين هو سمة الحياة البشرية. لهذا يتميز كتاب «النظرية العامة» — بحسب عبارة شاكل — ﺑ «ارتباطه الوثيق … بالمشكلات المستعصية للإنسانية حبيسة الزمان.»
وفي التنقيح النهائي هذا لفكره، تَبرز النقود — أو ما سمَّاها كينز السيولة — قبل كل شيء باعتبارها استراتيجية توفِّر الطمأنينة. وقد مرَّ على كينز من الناحية الفنية وقت طويل منذ أنْ كان مُصلِحًا نقديًّا، إلَّا أنَّ رؤيته لم تتغير كثيرًا؛ إذ تمحورتْ أعماله — مثل أعمال جيله من الاقتصاديين بالكامل — حول أثر النقود الخفي وقدرتِها المبهرة على التأثير في الاقتصاد الحقيقي؛ فقد أرادوا جميعًا أن يجعلوا الاقتصاد النقدي يتصرف باعتباره اقتصادًا «تبادليًّا حقيقيًّا»؛ أيِ اقتصادًا ليس فيه بطالة. أما السؤال العميق الذي تطرحه أعمال كينز فهو: هل النقود هي السبب في انحراف سوء الأداء الاقتصادي؟ أم أن عدم اليقين هو السبب في انحراف السلوك النقدي؟ وما بين هذين الرأيين لا تزال نظرية السياسة النقدية تتأرجح.