حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
كان كينز مبدعًا في الإدارة مثلما كان مبدعًا في نظريته؛ فقد كان لكل مشكلة اقتصادية في جعبته «خطة كينزية» جاهزة، يُعِدُّها بسرعة البرْق. والجانب المشترك بين هذه الخطط — التي يَعود أصلُها إلى اقتراحه بإنشاء بنك مركزي في الهند عام ١٩١٣، وهو ما أثنَى عليه مارشال بوصفه «معجزة العمل البنَّاء» — هو أنها لاءمَتِ الترتيبات الإدارية القائمة، رغم أنها كانت تسبق دائمًا التقاليد الفكرية السائدة. وهكذا يمكن القول إن كينز قد قدَّم تطورات ثورية للممارسة الحالية. وكان الاستثناء الوحيد هو إقرار كينز عام ١٩٢٩ لبرنامج للمشروعات الحكومية مُدار مركزيًّا، وهو ما تطلَّب إحداثَ ثورة في الإدارة الحكومية. لكن هذه كانت خطة لويد جورج لا كينز؛ أما كينز ففضَّل توجيهَ الزيادة في الاستثمار عبر شركات المرافق العامة. كما فضَّل السيطرة (المالية) غير المباشرة عن السيطرة (المادية) المباشرة على الاقتصاد؛ وذلك من أجْل الاحتفاظ بمزايا صنع القرار اللامركزي. وهو ما أوقعه في صراع مع الأساليب الاشتراكية، إنْ لم يكن مع المُثل الاشتراكية في بعض الجوانب.
فرض اندلاع الحرب مع ألمانيا في ٣ سبتمبر عام ١٩٣٩ تحديًا اقتصاديًّا لم يستطع كينز تجنُّبَه، وقد تَجاوَب معه من خلال مقالين؛ هما «تمويل الحرب» المنشور في صحيفة «ذا تايمز» في ١٤ و١٥ نوفمبر، والمعاد نشره لاحقًا مع بعض الإسهاب والتغيير في الصياغة في صورة كتيِّب بعنوان «كيف تموَّل الحرب؟» المنشور في فبراير ١٩٤٠، أيْ قبلَ خمسة أشهر من عودته لوزارة الخزانة. ولقي هذا الكتيب ثناءً كبيرًا باعتباره أول تطبيق عملي للنموذج الاقتصادي في كتاب «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية، وهو ما كان صحيحًا. لكن الكتيب عكَس أيضًا الخبرة التي اكتسبها كينز من خلال عمله بوزارة الخزانة في الحرب العالمية الأولى.
مع ضمان تحقُّق مستوى التوظيف الكامل من خلال الزيادة الكبيرة في الطلبيات الحكومية، كانتِ المشكلة التي واجهتْ كينز عام ١٩٣٩ هي تحويل الموارد إلى المجهود الحربي دون حدوث تضخم لا مبرر له، أو فرْض ضرائب تثبِّط الاقتصاد، أو فرْض ضوابط بيروقراطية ترتبط بالتخطيط المادي الشامل. ففي الحرب العالمية الأولى أدتْ زيادة المشتريات الحكومية إلى رفع الأسعار، وأدَّى ارتفاع الأسعار إلى تقليل الدخول الحقيقية لأفراد الطبقة العاملة، أما القفزة في أرباح أصحاب المشروعات فكانت تقتطعها الحكومة في صورة ضرائب وقروض. وكانتِ النتيجة اضطرابَ القطاع الصناعي في المراحل الأخيرة من الحرب، وارتفاعَ تكلفة الاقتراض الحكومي — وهو ما زادَ عبءَ الدَّيْن بعدَ الحرب — وامتلاكَ الأثرياء للدَّيْن العام.
وُضعتْ خطة كينز الجديدة للتغلب على تلك المشكلات. وكان أساسها مخططًا للدفع المؤجل؛ إذ تُمتص الزيادة في القوة الشرائية بالنسبة للقطاع الخاص من خلال فرض ضريبة تصاعدية كبيرة على جميع الدخول التي تزيد على حدِّ إعفاء معين يُحدَّد حسب الضرائب المباشرة والادخار القسري. وتُطرح المدخرات القسرية الموزَّعة على حسابات فردية في بنك الادخار البريدي في صورة أقساط بعد الحرب لمواجهة الكساد المتوقع. وكما يقول البروفيسور موجريدج: «تَمتَّع المخطط بإمكانية تطبيقه في ظل الترتيبات القائمة الخاصة باشتراكات التأمين الاجتماعي.» وبعد الانتقادات التي وُجهتْ إلى الخطة الأصلية، اقترح كينز «توفير التمويل اللازم للاستهلاك المؤجل هذا دون زيادة الدَّيْن العام من خلال فرْض ضريبة عامة على رأس المال بعد الحرب»، كما اقترح حماية الناس الأكثر فقرًا عن طريق منح إعانات عائلية — ٥ شلنات أو ٢٥ بنسًا في الأسبوع لكل طفل — وعن طريق توفير غطاء تمويني من الاحتياجات الأساسية تُباع بأسعار منخفضة وثابتة. ولتقدير حجم «الفجوة التضخمية» — أيِ القدْر الذي يَجِب تقليل الاستهلاك المدني به للسماح بتوجيه الناتج إلى المجهود الحربي دون رفع الأسعار — قدَّم كينز في ظل غياب إحصاءات الدخل القومي الرسمية، تقديرات مبنية على أعمال كولين كلارك للناتج القومي والدخل الخاضع للضرائب، ولتقسيم الإنفاق العام بين الحكومة والقطاع الخاص، ولتوزيع الدخل، كل ذلك بأسعار عام ١٩٣٩. وأصبح بعد ذلك من السهل نسبيًّا حسابُ قدْر «نفقات الجهات الخاصة» الواجب تقليلُه لاستيعاب أيِّ زيادة مرغوبة في «نفقات الحكومة» في ظل تلك الأسعار، بجانب التضحيات التي سيتحمَّلها كل قطاع من المجتمع.
لم تؤثر خطة كينز في ميزانية يوليو ١٩٤٠؛ حيث كان عليه أن يستمر في حملته الإقناعية داخل أرْوِقة وزارة الخزانة. لكن ميزانية كينجسلي وود في أبريل ١٩٤١ اعتُبرت أول ميزانية «كينزية»، ليس لأنها تبنَّتِ المعايير المحددة التي اقترحها كينز (رغم أن الدفع المؤجل نجح في البقاء في صورة مخطط متواضع للإعفاءات الضريبية بعد الحرب)، ولكن لأنها بُنيتْ للمرة الأولى على الإطار المحاسبي القومي الذي وضعه جيمس ميد وغيره على أساس مقترحات كينز. وليس من المعروف هل كانتْ تلك الميزانية أول علامة للقبول العام للثورة الكينزية أم لا. ويمثل إقرار خطة كينز على يَدِ كبار معارضيه، مثل هايك، دليلًا على شعبيتها عند الاقتصاديين ومسئولي الخزانة؛ فقد اقترحت وسيلة لتقليل التضخم وقت الحرب. وكما قال جيم توملينسون: «لقد مثَّلتِ التقديراتُ الكينزية الأساس المنطقي النظري ومعايير القياس للسياسات الاقتصادية، والتي توافقتْ مع موقف وزارة الخزانة التقليدي من التمويل وقت الحرب بدلًا من أن تتعارض معها.»
أتاح الجدل الذي أثاره كتيب «كيف تموَّل الحرب؟» الفرصة لكينز ليربط أفكاره الاقتصادية الجديدة بالأفكار السياسية الخاصة بالطريق الوسط، وهي الأفكار التي اعتنقها منذ عشرينيات القرن العشرين. إن «الطريقة الطبيعية» (أيِ التضخم) لإعادة توزيع الدخل من العمال لأصحاب المشروعات، ثم فرض ضريبة عليها، لم تَعُدْ تنفع — كما قال كينز — لأن ارتفاع الأسعار في ظل الظروف الجديدة، وهي قوة الاتحادات العمالية، سيُقابَل بمَطالب لزيادة الأجور بذات القدْر؛ وذلك إمَّا أن يتحقق، وهو ما سيمنع تقليل الاستهلاك المدني؛ أو لا يتحقق، وهو ما سيتسبب في اضطراب الصناعة. فاستقرار الأسعار كان نتاج تعاون الاتحادات العمالية؛ وهي فكرة تعود لأيامه الأولى في عمله باعتباره مُصلحًا نقديًّا. فالهدف من خطته كان «اجتماعيًّا: وهو منع الأضرار الاجتماعية للتضخم في الحاضر والمستقبل، وتحقيق ذلك بشكل يُرضي الحس العام للعدالة الاجتماعية، مع الحفاظ في نفس الوقت على دوافع كافية للعمل والاقتصاد»؛ لذا كانت أهمية اقتراحات كينز مزدوجة؛ فقد سعتْ للتحايل على مشكلة التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف في ظلِّ مستوى التوظيف الكامل، وأناطتْ بالميزانية دورًا في السياسة الاجتماعية يتجاوز الحِفَاظَ على استقرار الاقتصاد الكلي.
من ناحية أخرى، كانتْ تلك الاقتراحاتُ مُعاكِسة للفِكْر اليساري؛ فقد رأى معظمُ الاشتراكيين أن الحرب أتاحتِ الفرصة للتخطيط المادي لا المالي. فتوزيع الدولة للقوة البشرية والموارد حسب «الضرورات القومية» سيَقضِي على «الفوضى» في السوق. كما كان لتحديد حصصٍ للمواد الغذائية والملابس جاذبيةٌ أكبر فيما يتعلق بالمساواة من «الادخار القسري». فكان الاختلاف هو أن خطة كينز تركَتِ التصرف في الدخول بعد الحرب للحرية الشخصية، بينما فرَض نظام الحصص أنْ ينفق الأفراد أموالهم على السلع وبالكميات التي حددتها الدولة. وكَتب كينز في صحيفة «ذا تايمز» في ١٨ أبريل عام ١٩٤٠ يقول: «إنني أستغل الفرصة لطرح مبدأ في السياسة الاقتصادية ربما يُنظر إليه باعتباره الحدَّ الفاصل بين الاقتصاد الشمولي والاقتصاد الحر.» وبالمثل، فإن الاتجاه إلى الدفع المؤجل «عن طريق السماح للأفراد بأن يختاروا بأنفسهم ما يريدون سيوفر على الحكومة وضْع خطط شاملة للإنفاق (بعد الحرب) ربما لا تتفق كثيرًا مع الاحتياجات الشخصية.» مرة أخرى قدَّم كينز طريقًا وسطًا بين «بطلان الفكر اليساري الذي فرَّغ العديدَ من القضايا الهامة من حكمتها وقوتها الداخلية» و«جمود» ردِّ فعل اليمين على أيِّ عبث بالنظام القائم. لقد خسر كينز من الناحية العملية معركته مع المخططين المركزيين، وحلَّ تنظيمُ إجمالي الإنفاق في المرتبة الثانية بعد توزيع القوة البشرية والتوزيع المادي للمدخلات وتحديد حصص السلع الاستهلاكية.
لكن دور كينز كان أصغر بكثير في الورقة البيضاء الشهيرة الخاصة بسياسة التوظيف القائمة على الأفكار الكينزية، التي أُصدرت في ٢٦ مايو ١٩٤٤ (قرار رقم ٦٥٢٧). وأَلْزَمَتِ الجملة الأولى منها — التي رأى كينز أنها «أهم مما جاء في باقي الورقة» — الحكومةَ ﺑ «ضمان وجود نسبة توظيف عالية ومستقرة بعد الحرب». لكن نص الورقة البيضاء كان حلًّا وسطًا بين مؤيدي كينز في القسم الاقتصادي من الحكومة، والمتشككين التقليديين في وزارة الخزانة الذين شعروا بضرورة تقديم تنازلات نتيجة الضغوط السياسية. كان جزءٌ كبيرٌ من تحليل الورقة لمشكلة البطالة المتوقعة مخالفًا لفكر كينز؛ إذ عكس وجهة نظر هوبرت هيندرسون، والتي تَرَى أن مشكلات الاقتصاد البريطاني كانت من ناحية العرض لا الطلب. لكن لم يُنتبَه كثيرًا إلى كيفية تحقيق الشَّرطَين الواردين في الورقة لتحقيق مستوى «توظيف عالٍ» مستقرٍّ ودائمٍ؛ وهما: اعتدال سياسة الأجور (مسئولية أصحاب الأعمال والعمالة النقابية)، والمرونة الكافية لليَدِ العامِلة.
كان الاقتصاد الدولي هو المستهدَف من خطة كينز التالية؛ فنظام معيار الذهب/التبادل الحر المتوارث يبدو أنه قدْ دُمِّر بشكل يتعذر إصلاحه على يد الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والسياسات الاقتصادية القومية في سنواتِ ما بين الحربين. وكان السؤال هو: هل يمكن للاستمرار في العمل بالترتيبات الخاصة بالتفضيل الإمبريالي/منطقة الاسترليني التي وضعت في ثلاثينيات القرن العشرين أن يَضْمَنَ مستوى التوظيف الكامل في بريطانيا؟ أم أن الحرب قدَّمتْ فرصة «لعملية خلق جديدة» كانت مستحيلة وقت السلم لإحياء النظام الليبرالي، لكن دون أن تكون له نزعة تضخمية؛ تلك النزعة التي دمرت النظام القديم؟ شغل هذا السؤال جزءًا كبيرًا من انتباه كينز وجهده المتناقص فيما بين عامَي ١٩٤١ و١٩٤٤. وكانت الإجابة لدى الولايات المتحدة؛ حيث إن السياسة الأمريكية هي التي حددت شكل النظام بعد الحرب.
يوفر تعامُل كينز مع الولايات المتحدة سياقًا هامًّا لفهم أفكاره الاقتصادية؛ فهؤلاء الذين يَستقون معرفتهم بكينز فقط من نموذج «الاقتصاد المغلق» الوارد في كتابه «النظرية العامة» يُغفلون أن المشكلة التي أرَّقتْه طوال معظم حياته المهنية كان سببها آثار الاستدانة غير المتوازنة من الولايات المتحدة على الاقتصاد البريطاني. وتركزتْ معظم خططه الاقتصادية على محاولة تحديد طرق التغلب على هذا الخلل أو معاوضته. وكانت النتيجة تأسيس نظام بريتون وودز عام ١٩٤٤، والتفاوض على القرض الأمريكي عام ١٩٤٥؛ وهو ما نتج عنه قبول بريطانيا ضمنيًّا بدَوْر هامشي في النظام الاقتصادي الدولي الذي تديره الولايات المتحدة. لكن لم يكن أيٌّ من تلك النتائج نهائيًّا؛ إذ قَضَى كينز معظم حياته في استكشاف البدائل بهمة.
في عشرينيات القرن العشرين أراد كينز، كما رأينا، أن يَفصِل النظام المالي البريطاني (والأوروبي بشكل أوسع) عن النظام المالي الأمريكي. لكنه حتى في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي» لم يؤيد تعويم العملة؛ فقد أراد وضع نظام «مُدار» لسعر الصرف؛ نظام لإحداث استقرار في أسعار الصرف لفترات طويلة. وطالما تاقَ لنظام يُتيح تثبيتَ سعر الصرف، مع صلاحيات وآليات لإكسابه المرونة. وفي كل من أوائل عشرينيات القرن العشرين وأوائل ثلاثينياته، حينما حدث تعويم لأسعار العملات بعضها مقابل بعض، اقترح كينز العودة إلى نظام معدَّل لمعيار الذهب يقوم في أوقات مختلفة على نطاقات واسعة من الأسعار أو أسعار صرف قابلة للتعديل أو التعديل التلقائي لحسابات الدائنين أو الأرصدة الاحتياطية الإضافية؛ فقد كان كينز مقتنعًا أنَّ أيَّ نظام لتثبيت سعر الصرف سينهار إذا استُخدم باعتباره أداة لتحقيق الانكماش، وأنه سينجح في وجود سياسات داعمة له تضمن التوظيف الكامل عبر الوقت. وستساعد أسعار الفائدة المستقرة بدورها على الحفاظ على استمرار النمو العالمي، وستعمل باعتبارها أداة لمنع التضخم.
وكما قال كينجسلي مارتن، كانتِ استجابة كينز الفورية حيال التخلي عن معيار الذهب في عام ١٩٣١ مميزةً حيث قال: «لقد استعادتْ بريطانيا بضربة واحدة هيمنتها المالية على العالم، وكانتْ فرحتها فرحة صَبِيٍّ أَطلَق ألعابًا نارية على شخص لا يُحبُّه.» وأَوحى الظهورُ التلقائي لكتلة الاسترليني إلى كينز بفكرة وضْع «نظام جيِّد للجنيه الاسترليني في الإمبراطورية … يُديره بنك إنجلترا ويتمحور حول لندن.» وأشاد كينز بسياسة بنك إنجلترا القومية ﻟ «تعقيم» تدفقات الذهب لإبقاء الجنيه أدنى من قيمته أمام الدولار والفرنك اللذين أَبقَيَا على استخدام معيار الذهب، تمامًا كما أشاد بنفس السياسة التي اتبعها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في عشرينيات القرن العشرين.
لكن لم تَدُمْ هذه النشوة طويلًا؛ فقد أنهى قرارُ روزفلت بتخفيض قيمة الدولار أمام الذهب في ١٩ أبريل ١٩٣٣ ميزةَ بريطانيا التنافسيةَ القصيرةَ الأجل. واقترح كينز عندها أن تربط بريطانيا والولايات المتحدة عُملتيهما بمعيار ذهب معدَّل ما دام أنهما يُطبِّقان سياسات إنعاش اقتصادي على نحو مشترك. لكنه أَعلن في ٤ يوليو ١٩٣٣ أن «الرئيس روزفلت كان محقًّا على نحو رائع» عندما أَفسد المؤتمرَ الاقتصادي العالمي بلندن برفضه كلَّ خطط استقرار العملات باعتبارها «أصنامَ مَن يسمُّون أنفسَهم المصرفيين الدوليين». وأيَّد كينز ذلك قائلًا: «لِتكنِ الشئون المالية قومية بالأساس.»
- (١)
إنني أؤيد على نحو عام الأنظمة الوطنية المستقلة ذات أسعار الصرف المتقلبة.
- (٢)
لكن ما لَمْ تمرَّ فترة طويلة، فلا يوجد داعٍ لتقلب أسعار الصرف باستمرار من الناحية العملية.
- (٣)
بما أن هناك مميزات معينة لاستقرار الأسعار … فإنني أؤيد تمامًا الإجراءات العملية لتحقيق الاستقرار الفعلي ما دام أنه لم تتوافر أسباب جوهرية لتبني سياسة مختلفة.
- (٤)
بل إنني سأذهب إلى حد … التأكيد على ضرورة وجود ضمانة لتقليل قدْر التقلب الذي يمكن السماح به على نحو طبيعي … فما دام أنه لم يوجد أيُّ تعهُّد فعليٍّ، أعتقد أن هامش ١٠٪ كافٍ تمامًا في ظل معظم الظروف التقليدية.
- (٥)
أؤكد على أن الفائدة من تحقيق الاستقرار تعتمد على: (أ) اتخاذ إجراءات من شأنها التحكُّم في حركة رءوس الأموال. و(ب) مَيْل الحركات الكبيرة في الأجور لأنْ تتساوى في الدول المختلفة ذات الصلة.
لكن موقف كينز تجاه الولايات المتحدة رقَّ في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فقد زارها مرتين في عامَي ١٩٣١ و١٩٣٤. وفي زيارته الثانية، وهي الأهم، ذهب كينز لدراسة «الصفقة الجديدة» وقابل روزفلت وشرح نظريته الجديدة عن العرض الفعال في كلٍّ مِن واشنطن ونيويورك. انبهر كينز بشدة. وكتب إلى فيلكس فرانكفورتر في ٣٠ مايو ١٩٣٤ قائلًا: «هنا، وليس في موسكو، يوجد مصنع الاقتصاد العالمي. والشباب الذين يُديرونه رائعون. إنني مذهول مما أراه من كفاءةٍ وذكاءٍ وحكمةٍ. ويمكنك أن تقابل اقتصاديًّا كلاسيكيًّا هنا أو هناك وتشعر وكأنه أُلقِيَ من النافذة؛ لكن هذا ما حدث لمعظمهم بالفعل.» لقد كان التزام كلٍّ من الوزارة والجيل الصاعد من العاملين بمجال الاقتصاد في أمريكا بسياسة توسُّع اقتصادي، مهمًّا في إقناع كينز بأن قيادة أمريكا للنظام الاقتصادي العالمي ربما لا تَضُرُّ بمصالح بريطانيا بالقدْر الذي تخوَّف منه من قبلُ.
وتكمن المفارقة هنا في أن الصفقة الجديدة الخاصة بهتلر كانتْ أكثر تماسكًا من تلك الخاصة بروزفلت، ونجحتْ بدرجة أكبر في التخلص من البطالة. لكنْ باستثناء الإشارة المتحفظة لمميزات النظام الشمولي في تخطيط الناتج والواردة في التصدير المكتوب بالألمانية لكتاب «النظرية العامة»، لم يُعلِّق كينز على نحو صريح على النظام الاقتصادي النازي سواء بالمدح أو بالذم. إلا أنه أدان النازية بوضوح باعتبارها نظامًا سياسيًّا وحشيًّا، واعتاد أن يُطلِق على ألمانيا وإيطاليا «قوى قُطَّاع الطرق». وكان السبب الرئيسي لامتناع كينز عن إبداء استحسانه للنظام الاقتصادي الألماني هو بُغضه للنظام السياسي. لكنْ كان هناك عامل آخر؛ وهو أنه لم يكن من بين الاقتصاديين المهنيين في ألمانيا أو في أيِّ دولة في أوروبا، باستثناء السويد، مَن يمكنه أن يُجارِيَه أو يَدخل معه في مناقشات، على عكس الولايات المتحدة. فبغضِّ النظر عن مساهمة مدرسة ستوكهولم، كانتِ المناقشةُ الفنية المتخصصة التي تَبِعَتْ نشر كتاب كينز «النظرية العامة» مناقشةً أنجلوأمريكية بحتة. ويُعَدُّ هذا أحدَ الأسباب المتجاهَلة التي تبرر انجذاب كينز الفوري تجاه أمريكا ونفوره من أوروبا بعد انهيار ما كان يفترض أنه نظام اقتصادي دولي ذاتي التنظيم في ثلاثينيات القرن العشرين.
على الجانب الآخر، رغم أن ألمانيا النازية لم تكن بأيِّ شكْل شريكًا مناسبًا لبريطانيا، لم يطالبْ كينز قَطُّ بشنِّ حرب وقائية لإيقاف ألمانيا. وأيَّد اتفاقية ميونخ رغم أنه عارَض وسائل هتلر في الوصول إليها، ورأى أن استيلاء هتلر على دانسيج من عدمه لا يهم على الإطلاق، وكان سيسمح له بالاستيلاء على أوكرانيا إنِ استطاع. وكما بَيَّن البروفيسور كار، كانت هناك أسباب معقدة لكل هذه المواقف، لكنَّ تفاديَ حرب أخرى في غرب أوروبا وإتاحة المجال لألمانيا للتوسع شرقًا ضمن إعادة التوازن في أوروبا، التي نادى بها كينز في ١٩١٩ و١٩٢١، كانا أهم تلك الأسباب. ولم تَكَد الولايات المتحدة تظهر في خططه لاحتواء «قوى قُطَّاع الطرق».
لم تشارك الولايات المتحدة في البداية في الحروب الجارية في أوروبا وآسيا، كما تجاهلتْ خططُ جميع المتحاربين للنظام الاقتصادي فيما بعدَ الحرب الولاياتِ المتحدةَ. وكان هذا قائمًا على منطق الثلاثينيات، عندما حاولتْ بريطانيا وألمانيا واليابان إنشاء تكتُّلات اقتصادية مضادة للولايات المتحدة؛ حيث شعرتْ كلٌّ منها بعَدَمِ إمكانية التعايش مع قوة أمريكا التنافسية غير المتوازنة. وفي المقابل اتجهَتِ الولايات المتحدة لزيادة تعاونها الاقتصادي والسياسي مع الدول الأخرى، مع الدعاية الصاخبة من جانب وزير خارجية روزفلت، كوردل هال، لحرية التجارة. وبمجرد دخولها الحرب، أصبح هدفُها الأول من الحرب هو تفتيت التكتلات المركنتيلية الجديدة التي أسَّسها المتحاربون. (وامتدتْ هذه الطموحات على نحوٍ أكثر غموضًا إلى نظام الاتحاد السوفييتي الذي يتمتع بقدْر أكبر من الاكتفاء الذاتي.) كان من شأن هزيمة ألمانيا واليابان أن تؤدي للقضاء على نظامَيْهما تلقائيًّا، لكن الولايات المتحدة يُمكنها أيضًا أن تُمارس ضغطًا كبيرًا على حليفتها المعتمدة عليها، بريطانيا.
وُضعتْ أول خطة لما بعد الحرب في ألمانيا. وأعلن دكتور فولتر فانك وزير هتلر للاقتصاد عن «نظام أوروبي جديد» في باريس يوم ٢٥ يوليو ١٩٤٠. ودعا هذا النظام لتكوين تكتُّل اقتصادي أوروبي بأسعار صرف ثابتة واتحاد مقاصة مركزي في برلين، وأن تقوم العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس المقايضة. وكان الهدف من تلك الخطة استعادة ما سمَّاه فانك «تقسيمًا ذكيًّا للعمل» في أوروبا، مع حماية أوروبا من الآثار الانكماشية في حالة وجود معيار ذهب دولي.
لا نرغب في أن نعكس الأدوار التي اقترحتْها ألمانيا لنفسها ولجيرانها … إذ يجب أن يُتوقَّع من ألمانيا وأن يُسمَح لها بتولِّي القيادة الاقتصادية التي تنبع على نحو طبيعي من قدراتها وموقعها الجغرافي. صحيح أن ألمانيا هي أسوأ قائد عرفه العالم حتى الآن، لكنها يمكن على أسس من المساواة أن تكون شريكًا فعالًا.
وفي ٢٥ من أبريل عام ١٩٤١ تصور كينز نظامًا يعتمد على الجنيه الاسترليني يشمل بعض الدول الأوروبية يمكنه أن يفرض قيودًا على السلع الأمريكية إذا ظلتِ الولايات المتحدة «في وضع الدائن غير المتوازن».
تلقَّى كينز صدمة كبيرة عندما زار واشنطن في الفترة من ٧ مايو إلى ٢٩ يوليو ١٩٤١. فكما كان الحال عام ١٩١٥، كانت بريطانيا تعتمد على مشتريات من الولايات المتحدة المحايدة، والتي لم تكن قادرة على تسديد ثمنها. وفي ديسمبر عام ١٩٤٠ أعلن روزفلت عن برنامج «الإعارة والتأجير»، وهو برنامج لتقديم الإمدادات لبريطانيا ليس في مقابل الأموال المقترضة كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى، ولكن في مقابل لم يُعلَن عنه يُدفَع بعد الحرب. لقد أتى كينز باعتباره مبعوثَ «أمة عظيمة ومستقلة يطلب ما اعتبره حقًّا وما لم يكونوا مستعدين لتقديمه لنا إلا معروفًا.» وفي ٢٨ يوليو؛ أيْ قبل مغادرته لأمريكا بيوم، أُعطِيَ مسوَّدة وزارة الخارجية لاتفاقية الإعارة والتأجير التي كشفت — في المادة السابعة منها — عن المقابل المطلوب؛ وهو: تعهُّد بريطانيا بتجنُّب فرْض قيود على استيراد السلع الأمريكية؛ أي إن بريطانيا تُقايِض نظام التفضيل الإمبريالي مقابل برنامج الإعارة والتأجير. وربما عجَّل كينز المَسعَى الأمريكي لتوقيع تلك الاتفاقية بإخبار وزارة الخارجية الأمريكية في ٢٥ يونيو أن بريطانيا ربما تُضطَرُّ إلى إقرار سياسات تجارية تمييزية للموازنة بين صادراتها ووارداتها بعد الحرب. لكنْ عندما رأى كينز المادة السابعة، انفَجَر غضبًا. وانتشر شَجْبه ﻟ «مقترحات السيد هال المجنونة» في جميع أنحاء واشنطن. بدا كلُّ هذا تكرارًا لتجربة الحرب العالمية الأولى المريرة. لكن كينز كان أكبر سنًّا وأكثر حكمة في تلك المرة. كما أن بريطانيا لم يكن لديها أيُّ خيار واقعي إلا تنفيذ الطلبات الأمريكية في ظل انعدام الأمل في التفاوض على السلام على عكس عام ١٩١٦؛ لذا عاد كينز إلى منزلِهِ الريفي بتيلتون في شهر أغسطس ليضع خطة كينزية جديدة. وجاء فيها اقتراحه الشهير بإنشاء «اتحاد مقاصة» يشمل الولايات المتحدة هذه المرة، والذي وُقِّع عليه بالأحرف الأولى في ٨ سبتمبر ١٩٤١.
كانت السمة الجوهرية في تلك الخطة هي أن الدول الدائنة لا يُسمح لها بادخار فائضها أو فرْض أسعار فائدة عقابية على إقراضه؛ بل يُتاح الفائض تلقائيًّا على هيئة تسهيلات ائتمانية رخيصة على المكشوف للدول المَدِينة من خلال آليةِ عمل بنك اتحاد مقاصة دولي، مُودِعُوه هم البنوك المركزية لأعضاء الاتحاد. لكنه كان لا يزال مستعدًّا للتحوُّل إلى بديل تكتُّل عملة تحت قيادة بريطانيا تُعزِّزه «أدوات شاختية» إذا رفضَتِ الولايات المتحدة الاشتراك في الاتحاد. (وضع دكتور شاخت وهو وزير هتلر للاقتصاد في الثلاثينيات نظامًا ناجحًا لاتفاقات التجارة الثنائية لموازنة حسابات ألمانيا الخارجية.) وأضافتْ مسوَّدةٌ أخرى، وقَّع عليها كينز بالأحرف الأولى في ١٨ نوفمبر ١٩٤١، «الاقتراحَ الشديدَ الأهمية» الذي نص على أن عضوية الاتحاد النقدي قد تكون في مجموعات تقوم بناءً على «الوحدات السياسية والجغرافية» مثل منطقة الاسترليني. واحتفظتْ تلك المقترحات بأهميتها باعتبارها نموذجًا ممكنًا للعودة التدريجية إلى نظام سعر صرف عالمي ثابت كما في يومنا هذا.
أدلَتِ الولايات المتحدة بشروطها صراحة بمجرد دخولها الحرب في ديسمبر ١٩٤١. وأصرتِ الولايات المتحدة على أن تتعهَّد بريطانيا في مقابل المساعدات بأن تتخلَّى عن التمييز التجاري فيما بعد الحرب. وأُضيفَ هذا التعهدُ إلى المادة السابعة من اتفاقية الإعارة والتأجير التي تمَّ توقيعُها في ٢٣ فبراير ١٩٤٢؛ أيْ بعد خمسة أيام من سقوط سنغافورة في يد اليابانيين. أدرك كينز عندها أن خيار التكتل الاقتصادي لن يتحقق؛ إذ لن تسمح أمريكا بتمويل الجهود الحربية البريطانية كي تبرُز بريطانيا بعد ذلك وتكون على رأس نظامٍ «شاختيٍّ» يفرض قيودًا على الصادرات الأمريكية. وكان على كينز أن يُكرِّس نفسَه لحلِّ المعضلة الفكرية؛ وهي كيفية المواءمة بين حاجة بريطانيا إلى أن تكون لها حرية إقرار سياسات تستهدف التوظيفَ الكاملَ من جهة، ونظامَ التجارة الحرة الأمريكيَّ من جهة أخرى. واضطُر إلى تقبُّل فكرة أن عالمَ ما بعد الحرب ستشكِّله القوة الأمريكية؛ أيْ ستحكمه المثالية الأمريكية والعقول البريطانية. كما أنه لم يكن ليرقَى لمكانته الشخصية ولأنْ يكون اقتصاديًّا وليبراليًّا، إنْ لم ينشغل بإمكانية استغلال لحظة تاريخية فريدة كهذه لإعادة صياغة نسخة محسَّنة من النظام الاقتصادي الليبرالي الذي انهار بعد الحرب العالمية الأولى. وأَدرَك كينز كذلك حقيقة أخلاقية وجغرافية سياسية. فبافتراض هزيمة ألمانيا، فإن خياراتِ ما بعد الحرب ستنحصر فيما بين «التوجُّه نحو روسيا أو الولايات المتحدة»؛ أيْ بين الرأسمالية العالمية والاشتراكية القائمة على الاكتفاء الذاتي، دون أيِّ خيارٍ وسطٍ. وكتب يقول: «أليس هناك الكثير ليقال عن تجربة التوجُّه للولايات المتحدة أولًا؟»
من جانبهم كان الأمريكان يفكرون أيضًا في النظام الاقتصادي بعد الحرب؛ إذ وَضَع هاري دكستر وايت، وهو مسئول بوزارة الخزانة الأمريكية، خطةً في مارس ١٩٤٢. واقتَرحَتِ الخطة معيارَ ذهبٍ معدَّلًا يُلحق به آلية ضبط بسيطة في صورة صندوق لاستقرار أسعار الصرف، يمكن للمشاركين فيه أن يسحبوا منه بحدٍّ أقصى يساوي مقدار مشاركتهم بنفس عملتهم؛ وهو مشروعٌ دعَّم من الناحية الفعلية المذهبَ التقليدي لضبط حسابات المدينين، وذلك بتحديده للاعتماد على أمريكا. وكانت القيمةُ الإجمالية لآلية الضبط التي اقترحها وايت (٥ مليارات دولار في البداية ثم ٨ مليارات) أقلَّ بكثير من قيمة الآلية التي اقترحتْها خطة كينز (٢٦ مليار دولار)؛ كما فُرضت شروط صارمة على سحب الحصص. ولم يطَّلع كلٌّ من كينز ووايت على خطط الآخر إلا في صيف عام ١٩٤٢. وتحولتِ الخطتان إلى مواقف تفاوضية لدولتيهما.
لكن اتفاقية بريتون وودز، التي وُقعت في ٢٢ يوليو ١٩٤٤ بعد جولَتَيْ مفاوضات شاقَّتَين في واشنطن، عكست وجهة النظر الأمريكية لا البريطانية، وعكست الخلافات بين الجانبين بشأن مسائل مثل إدارة سعر الصرف والتعامل مع الاحتياطيات والسياسة الجمركية والمسئولية عن عملية الضبط للمصالح الوطنية لكلتا الدولتين بعد أن نقَّحتْها تجاربهما فيما بين الحربين وتوقعاتهما للمستقبل. وانحصرتْ إنجازات بريطانيا التفاوضية في الحصول على ضمانات وإرجاء لدفع الديون وتخفيف بعض الشروط في ظل الخطة الأمريكية. وكان النجاح الرئيسي لبريطانيا هو وضْعَ بند «للعملة النادرة» يسمح للدول المدينة بالتمييز التجاري ضد الدول الدائنة في ظروف معينة.
وبحسب ما قال جيمس ميد وليونيل روبنز، وهما عُضْوَا فرق التفاوض البريطانية اللذان سجَّلا يومياتهما، كان أداء كينز في مؤتمرَيْ واشنطن، في المدة من سبتمبر حتى أكتوبر ١٩٤٣ ومن يوليو حتى أغسطس ١٩٤٤، مزيجًا من البلاغة غير العادية، سواء في الألفاظ والمعاني، والوقاحة غير العادية في الحديث مع الأمريكيين وعنهم. وفي أعقاب إحدى جلسات التفاوض قال هاري دكستر وايت لروبنز: «إن البارون كينز يُشِعُّ عبقرية.» وكتب روبنز في أعقاب جلسة أخرى يتحدث عن «نشوة الأمريكيين أمام مُنشِد ساحر وموهوب يُغنِّي في ضيافتهم وشعاع ذهبي يتلألأ حولهم.» من ناحية أخرى نقل ميد عن كارل بيرنستين، الذي عمل في وزارة الخزانة الأمريكية، «المعاناةَ من أخلاق كينز المتدنِّية». (قال كينز في إحدى مسوَّداته: «إن هذا لا يُحتمل. إنه تلمود آخر.») عكستْ تصرفات كينز الخارجة، بوصفه أحدَ المفاوضين، إرهاقَه وتدهوُرَ صحته بلا شك، وعكستْ أيضًا شعورَه بالإحباط تجاه قلة حيلة بريطانيا. كان هذا الشعور بالمثالية، الممزوج بإدراك أن الولايات المتحدة أصبحتْ في وضع المهيمن، مسيطرًا على جميع المفاوضين البريطانيين. وقال ليونيل روبنز في هذا الشأن: «في عالَم المستقبل سنُضطَرُّ إلى الاعتماد بشكل أكبر على عقولنا.» لكن المشكلة كانتْ تكمن في أن العقول كان يَجِب إسكاتُها إذعانًا للخوف الأمريكي من التسفيه والسخرية، «خاصة على يد اللورد كينز البارع المخيف».
ستخسر لندن بالضرورةِ مكانتَها الدولية، وستنهار تمامًا … ترتيبات منطقة الاسترليني. ويبدو لي أنه ضرْب من الجنون افتراضُ أن نظامًا قائمًا على الاتفاقيات والمقايضات الثنائية دون أن يعرف مَن يمتلك الجنيه الاسترليني ما يمكنه فعلُه به … هو الوسيلةُ المثلى لتشجيع الدول التي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية على أن تتمحوَر أنظمتُها المالية حول لندن.
لم يتَّسق أسلوب الاهتمام بإنجلترا، لا الإمبراطورية البريطانية، مع تراث إنجلترا الإمبريالي؛ «ففي ظل موارد بريطانيا المحدودة والمقيدة على نحو كبير، لا يمكن الحفاظ على الثقة الضرورية في الجنيه الاسترليني إلا إذا كان في وضع دولي قوي.» وهكذا، فإن دعم القوة والأموال الأمريكية — بشروط — للنظام الاقتصادي لبريطانيا القائم على موارد «محدودة ومقيدة» هو الغاية النهائية من تلك «العلاقة الخاصة» التي فرضتْها الحرب.
هل تفضِّل العمل بنظام تجارة يعتمد على المقايضة، وهو الذي يعني من الناحية العملية شبه احتكار الدولة للواردات والصادرات على غرار روسيا؟ هل توافق على الاستمرار الأبدي في فرض قيود صارمة و(ربما) نظام حصص أكثر قسوة؟ هل تتطلَّع إلى تحوُّلنا في الوقت الراهن إلى قوة من الدرجة الثانية …؟
لذا كانت المساعدة الأمريكية هي كل ما تبقَّى من خيارات.
تمنى كينز أنْ تكون مساعدة الولايات المتحدة في صورة منحة أو على الأقل قرض من دون فوائد. وكتب هيو دالتون — وزير الخزانة العمالي — إن «عينَيْ كينز كانتا حالمتين في أثناء حديثه مع الوزراء قبل أن يُغادِر إلى واشنطن. لقد كان واثقًا تمام الثقة … أنه سيحصل على ستة مليارات دولار على هيئة منحة لا تُرَدُّ … ولم يتحدَّث … إلينا كثيرًا عن «الالتزامات».» وقال المصرفي روبرت براند: «عندما أستمعُ إلى اللورد كينز وهو يتحدث، أشعر أني أسمع رنين العملات المعدنية الموجودة في جيبي.» وبعد وقت قصير من وصول كينز إلى واشنطن في ٥ سبتمبر، بصفته أحد رؤساء الوفد البريطاني، أُدرك أن المزاج العام قد اختلف. فخلال مفاوضات شائكة جدًّا استمرت ثلاثة أشهر تحوَّلَتِ المنحة التي لا تُرد، التي قيمتها ستة مليارات دولار، إلى قرض قيمته ٣٫٧٥ مليارات دولار بفائدة ٢٪، مع الالتزام بالسماح بجعل الجنيه الاسترليني قابلًا للتحويل بعد عام من التصديق على الاتفاقية. وكلَّف هذا بريطانيا الحماية الانتقالية في ظل اتفاقية بريتون وودز. وبعد أن كان كينز مبالغًا في تفاؤله، قاد الحكومة العمالية المذهولة والغاضبة خطوة بخطوة ناحية قبول شروط أقل ملاءمة. تدهورتْ صحتُه وساء طبعُه. وفي النهاية استُبدل به السير إدوارد بريدجز الذي وافق على التسوية النهائية.
إن التكتلات الاقتصادية المنفصلة وكل ما يستتبعها من خلافات وخسارة للأصدقاء هي تدابير ناجعة، ربما تُضطَرُّ الدول إلى السعي إليها في عالَم يتَّسم بالعداء … لكنْ من الجنون بالقطع تفضيلُ هذا الحل. فهذا الإصرار على تدويل التجارة وعلى تجنُّب إنشاء تكتلات اقتصادية تُحدد وتُقيد التعاملات التجارية خارجها، هو قبْلَ كل شيء شرطٌ أساسي لتحقيق أقصى أمنيات العالم، وهو التفاهم البريطاني الأمريكي … لقد تعلَّم بعضُنا بالتجربة في مهامِّ الحرب، ثم في مهامِّ السلام في الفترة الأخيرة، أن دولتَيْنا يمكنهما التعاون معًا. لكن من السهل علينا جدًّا أن نفترق. إنني أُناشد مَن ينظرون بارتيابٍ إلى هذه الخطط أن يُنعِموا النظر ويتحلَّوْا بالمسئولية في اختيار طريقهم.
كان السياق المألوف لأفكار كينز الاقتصادية هو الكسادَ الكبيرَ في الثلاثينيات الذي أدَّى إلى انهيار الاقتصاد العالمي. لكن السياق الأبرز كان وضْع الدائن غير المتوازن الذي تلعبه الولايات المتحدة؛ فطوال السنوات العشر التي تَلَتِ الحربَ العالمية الأولى انتعشَتِ الولايات المتحدة، بينما أصاب بريطانيا الكسادُ. ورأى كينز أن مشكلة البطالة في بريطانيا هي مشكلة المبالغة في تحديد قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار. ومِن هذا المنظور كان كتابه «النظرية العامة» بمنزلة إضافة — وليس تتويجًا — لخط أفكاره؛ أيْ نظرية في الكساد العالمي العميق؛ حيث يمكن أن يتحقق التوظيف الكامل إذا انعدم التلاعب بالنقود.
في أعقاب التخلِّي عن معيار الذهب عام ١٩٣١، انقسم العالم إلى تكتلات اقتصادية بناءً على العملات «الرئيسية». وقد دخلتْ بريطانيا الحرب مع ألمانيا عام ١٩٣٩ بصفتها مديرةً لنظام المدفوعات الإمبريالي المعروف باسم «منطقة الاسترليني».
لقد عزَّز نشوب الحرب العالمية الثانية أملَ كينز في إنشاء نظام مدفوعات تُسيطر عليه بريطانيا باعتباره الإطار النقدي للاقتصاد البريطاني. وضاع قدْر كبير من المثالية والمسئولية في التوصل إلى نظام بريتون وودز. إلا أنه أَذِنَ بنهاية الاستقلال النقدي البريطاني؛ فنظام الجنيه الاسترليني لا يمكنه البقاء ما لم يدعمه الدولار. لقد شهدتْ فترة حياة كينز التحول من السيطرة إلى التبعية.