ميراث كينز
يجب أن يعكس أيُّ تقييم لأعمال العباقرة الراحلين التوجُّهَ العقليَّ السائدَ في أزمنتهم. وفي وقت تأليف هذا الكتاب (يوليو ١٩٩٥) كانت سمعة كينز تتسم بأنها متذبذبة بعضَ الشيء. ومنذ عشر سنوات كان يمكن القولُ إن الحقبة الكينزية قد ولَّت نهائيًّا. وقد قالها نايجل لوسون وزير الخزانة البريطاني بالفعل؛ فقد أعلن في إحدى المحاضرات عام ١٩٨٤ أن «محاربة التضخم ينبغي … أن تكون هدف سياسات الاقتصاد الكلي. أما خلْق ظروف مشجِّعة على النمو والتوظيف … فينبغي أن يصبح … هدفَ سياسات الاقتصاد الجزئي.» فليس هناك أيُّ التزام نحو التوظيف الكامل، بل كان الهدف هو تحرير الأسواق بأكبر قدْر ممكن وتقبُّل مستوى النشاط الذي تُحققه. واليومَ يَظهر بعضُ الارتداد إلى أفكار كينز؛ لأن السياسات الانكماشية المتَّبَعة على مدار الخمسة عشر عامًا الأخيرة خلَّفتْ مستوياتٍ عاليةً من البطالة الدائمة، وذلك كما توقَّع كينز بالفعل فيما يتعلق بتلك السياسات. استمرتِ البطالة في الاتحاد الأوروبي في الارتفاع منذ سبعينيات القرن العشرين، ووصلتْ إلى ١٠٪ من قوة العمل اليوم، ولم تنخفض كثيرًا منذ التعافي من الركود الذي حدث فيما بين عامَي ١٩٩١ و١٩٩٢. ويبدو الأمر وكأنما لا تُنتِج شعوب الدنمارك وأيرلندا وسويسرا مجتمِعينَ أيَّ شيء على الإطلاق، وهو أبعدُ ما يمكن عن أن يكون إنجازًا لقُوى السوق.
رغم أن النظرية النقدية عجزتْ عن الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق مستويات مناسبة من التوظيف، لَمْ يُعَدْ إحياءُ السياسات الكينزية، كما عرفناها، من جديد؛ فمعظم الحكومات ترى أن الحلول الكينزية للبطالة إما غير فعالة وإما ضارة، تمامًا مثلما حدث عندما بدأ كينز في تقديمها والدفاع عنها. ومِن ضمنِ ما يعكسه ذلك، الرأيُ القائل إن معظم البطالة في يومنا هذا «هيكلية» لا كينزية؛ بمعنَى أنها لا تعكس نقصًا في الطلب، بل تعكس سوء هيكل رأس المال والأجور المرتبطة به. علاوة على ذلك، ينتشر الاعتقاد أن سوء الضبط الهيكلي قد حدث (أو تُرك ليستمرَّ كلَّ تلك المدة) نتيجةً للسياسات «الكينزية» التي تُوجِد التوظيف أو تُحافظ عليه في وظائف غير منتجة أو تحقق خسائر. وحتى إنْ أقررْنا — ولو جزئيًّا — أنَّ البطالة القائمة تَرجع إلى العجز في إجمالي الطلب، فإنه يُعتقد أن زيادة الطلب ستُلغِي كل المكاسب التي تحققتْ على حسابها في ملف التضخم منذ عام ١٩٧٩.
باختصار، تَبرز السياسات الكينزية لنا اليوم وهى محاطة بتاريخ طويل من ارتفاع التضخم والتمويل العام غير الحكيم وزيادة سلطات الدولة وانهيار التشاركية والانفلات العام، وهي عوامل بَدَتْ كلُّها ملازمة للحلول الكينزية لعيوب المجتمع الصناعي. ونحن لن نُطيقَ السَّير في هذا الطريق مجددًا. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، تحوَّل كينز، الذي اعتُبر منقذًا للعالم من الماركسية، إلى العبقري الكبير الذي فَشِل، تمامًا مثل ماركس.
تَتطلَّب المسألة المتعلقة بكيفية إنتاج الحقبة الكينزية لتوقعات قَوضَتِ الثورة الكينزية تفسيرًا نظريًّا وتاريخيًّا على حدٍّ سواء. وربما يستطيع أحد المؤرخين كغيره أن يقدِّم لنا تفسيرًا ما. وسيكون شِقَّا التفسير (النظريُّ والتاريخيُّ) أمرًا شخصيًّا يرجع له؛ لأنه ما مِن اتفاق بشأن «مكمن الخلل». لكن مَن يُريد أن يُعيد روح فكْر كينز إلى الحياة عليه أن يُواجِه نقاط فشلِ مذهبِه بأمانة، دون محاولةِ تبرئة الأستاذ من أخطاء تلامذته. إن الثورة الكينزية كانت في جوهرها ضحية الطموح المفرط — أو بالأحرى التغطرس — الذي يحركه عدم الصبر، وتدعمه المزاعم غير المؤكدة بشأن المعرفة النظرية والعملية على حدٍّ سواء. كما كانت الثورة المضادة القائمة على النظرية النقدية مجرد محاولة لاكتساب قدْر أكبر من التواضع والثقة في قوى السوق العشوائية.
من الصعب إيجاد مكانٍ لكينز نفسِه في الخلاف بين المذهب الكينزي والمذهب القائم على النظرية النقدية؛ لأن كتابه «النظرية العامة» قُصد به فهْم عالم الثلاثينيات لا عالم الستينيات أو السبعينيات من القرن العشرين. كما أنه من الممكن الخروج باستنتاجات نقدية (صالحة) من كتاب «النظرية العامة» في ظل افتراضات مُعينة بشأن توقعاته، لكن هذا لم يكن الهدف من تأليف الكتاب. ولفهْمِ كثيرٍ مما قاله كينز عن النقود والائتمان وأسعار صرف العملات وعن النظام المصرفي والأسواق المالية، يجب على القارئ أن يَرجِع إلى كتابَيْ كينز «بحث في الإصلاح النقدي» و«بحث في النقود». أما هؤلاء الباحثون عن الإلهام من كينز في الوقت المعاصر، فعليهم الالتفاتُ إلى ثلاث حقائق أخرى؛ أولها: أنه رغم أن كينز كان مفرط الثقة من الناحية الفكرية — وهي سمة ورثها عنه تلامذتُه — فقد كان متواضعًا على نحوٍ لافتٍ في توقُّعه لما يمكن أن تُحقِّقه السياسات الاقتصادية في مجتمع حرٍّ، وهي نقطةٌ نَزَعَ مؤيِّدوه إلى تجاهُلِها. وثانيها: أن أهدافه الاجتماعية كانتْ — حسب قوله — «متحفظةً ومعتدلة»؛ فلم يدعم أيُّ شيء في فلسفة كينز الاجتماعية، ولا في ليبرالية ذلك العصر، التوسُّعَ المطَّردَ في أنشطة الدولة الخاصة بالرعاية الاجتماعية، الذي ساهم بشكل كبير في الأزمات المالية في السبعينيات. ثالثها وآخرها: أن كينز قد نادى بالنموِّ ليس لِذَاته، بل باعتباره وسيلة لتحقيق الرفاهية وبناء حياة متحضرة. بل إن كينز في الحقيقة حاجَّ في أواخر عشرينيات القرن العشرين بأن البطالة الناتجة عن التقدُّم التقني كانتْ علامة على أن المشكلة الاقتصادية في طريقها للحل. وكَتب إلى تي إس إليوت في عام ١٩٤٥ يقول: «إن سياسة التوظيف الكامل عن طريق الاستثمار هي تطبيق واحد فقط من تطبيقات النظرية الفكرية. ويمكن تحقيق النتيجة نفسِها كذلك عن طريق زيادة الاستهلاك أو تقليل العمل … فتقليل العمل هو الحل الأخير لمشكلة البطالة.»
ازدهرَتِ الثورة الكينزية لربع قرن بعد وفاة كينز. وتقبَّل معظمُ الاقتصاديين «الأفكار الاقتصادية الجديدة» (حتى إن ميلتون فريدمان قال عام ١٩٦٦: «لقد أصبحنا كينزيِّين جميعًا الآن»، وهي عبارةٌ كرَّرها ريتشارد نيكسون عام ١٩٧٢)، والْتزمتْ معظمُ الحكومات بتحقيق التوظيف الكامل. لا شك أنه لم يُقدِّس كلُّ مَن اعتبروا أنفسَهم «كينزيين» كتابَ «النظرية العامة». بل في الواقع، انحسَرَ تأييدُ نظرية كينز. ونتيجةً لعمل باتينكين (١٩٥٦)، أُعيد تبنِّي النظرية الكلاسيكية على نحو جزئي، من حيث إن ثباتَ الأجور النقدية كان يُنظر إليه بوصفه عقبةً «أساسية» أمام الوصول إلى التوظيف الكامل، كما زعم آرثر بيجو دائمًا. وفي كتاب ليونهوفود (١٩٦٨) عن النظرية الاقتصادية لكينز، اعتُبر «توازن البطالة» عند كينز وسيلة بلاغية؛ فقد اعتُبرتْ نظريتُه نظريةً لاختلال التوازن تؤكد على أخطاء التنسيق، وهو منهج أكَّد على ارتباط كتاب «النظرية العامة» بكتاب «بحث في النقود»؛ الأمر الذي قلَّل الفجوة بينه وبين مؤيدي نظرية اختلال التوازن النقدي في ثلاثينيات القرن العشرين. لكن ثبات الأجور النقدية المنخفضة بجانب الاحتمال القائم دائمًا بحدوث انهيار في الاستثمار الخاص جَعَلَا دور السياسة الحكومية ضروريًّا لضمان استمرار مستوى التوظيف الكامل.
بخلاف ما سبق، بدتْ جوانبُ ثلاثةٌ لميراث كينز منيعة؛ أولًا: تقبَّل كلُّ الاقتصاديين من الناحية العملية نموذجَ الاقتصاد الكلي الخاص بكينز؛ فقد ابتكر كينز فرعًا جديدًا لعلم الاقتصاد؛ هو الاقتصاد الكلي المعنيُّ بدراسة سلوك النظام الاقتصادي ككلٍّ بدلًا من دراسة سلوك الأفراد أو الشركات أو الصناعات. وقد تعلَّم الطلاب في ستينيات القرن العشرين أنه من الممكن تشكيل الاقتصاد وتشخيص حالة الطلب الفعال ووضع آليات مناسبة للتدخل المالي. ثانيًا: قدَّم كتاب «النظرية العامة» الأساسَ الفكريَّ لإنشاء الحسابات القومية. وكان لنموِّ الإحصائيات الاقتصادية السريعِ، الناتجِ عن ذلك، بالغُ الأثر في تطوُّر علم الاقتصاد القياسي الذي قدَّم بدوره (كما يمكن أن يكون قد قيل حينها) أساسًا آمنًا للتنبؤ في سياسات الاقتصاد الكلي. ثالثًا: أعاد كينز الإيمان بالنظام الرأسمالي؛ فالاقتصاد الكينزي ساهم في إخراج الفاشية والشيوعية وبعض صور الاشتراكية من تاريخ العالم المتقدم.
كما ساهمَتِ النظرية الكينزية في ظهور علمِ اقتصاد التنمية المعنيِّ بدراسة النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة. ووسَّع روي هارود بالتحديد تفسيرَ كينز للبطالةِ قصيرةِ الأجل ليجعل منه نموذجًا للنمو الذاتي، مع التأكيد على الدور المحوري للاستثمار المادي. وشهد منتصف ستينيات القرن العشرين زيادةَ الإيمان بقدْرة سياسات الاقتصاد الكلي على الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل، بل وتحقيق معدلات نمو عالية، وغيرها الكثير من الأهداف الاجتماعية المرغوبة.
بعدها بعشر سنوات وصلَتِ الثورة المضادة لنظرية كينز إلى أَوْجِها؛ إذ ظهر أهم أبحاث الاقتصاد الكلي في سنواتِ ما بعد الحرب عام ١٩٦٨ على يد ميلتون فريدمان، وذلك بعد أن أعاد الحياة لنظرية كمية النقود في عام ١٩٥٦. وزَعَم ميلتون في هذا البحث أن محاولات الحكومات لتقليل معدل البطالة لأقلَّ من «المعدل الطبيعي» الذي تحدده مؤسسات السوق، أدت فقط إلى تسريع وتيرة التضخم. وفي ١٩٧٦ أُعلنت نهايةُ الثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية في المكان الذي ظهرتْ فيه، عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني العمالي، جيمس كالاهان، أن خيار «الإنفاق للخروج من الركود لم يَعُدْ مطروحًا»، وأن هذا الخيار لم ينجح في الماضي إلا من خلال ضخِّ «المزيد والمزيد من التضخم في الاقتصاد». وأصبح استقرار الأسعار بدلًا من التوظيف الكامل هو الهدفَ المعلَنَ لسياسات الاقتصاد الكلي في جميع أنحاء العالم.
كذلك، شكَّكَتِ الثورة المضادة، المتمثلة في النظرية النقدية، في معظم الجوانب الأساسية من ميراث كينز؛ فإذا كانتِ التغيُّرات الاسمية (التغيرات في النقود) تؤثر في الأسعار، لا الناتج، على المدى الطويل — كما زعم فريدمان — فإننا لسنا بحاجة إلى الاقتصاد الكلي، بل إلى نسخة مُحدَّثة من نظرية كمية النقود. وإذا كان الاقتصاد — كما زعم فريدمان — «بطبيعته أكثر استقرارًا في دوراته» مما افترض كينز، بينما تُعَدُّ تدخلات الاقتصاد الكلي عرضة «لتأخيرات مطولة ومتغيرة»، فإننا لسنا بحاجة لسياسات مضادة لدورات الاقتصاد وحسب، بل سيؤدي ذلك لاختلال الاستقرار. وإنْ كنا في غنًى عن تلك السياسات، فإننا لسنا بحاجة لنماذج مفصلة للتنبؤ بالاقتصاد الكلي. وأخيرًا، لم تحمِ سياساتُ كينز للاقتصاد الكلي الرأسماليةَ من الاشتراكية، لكنها أدتْ إليها بافتراضها للحاجة لزيادة التدخل السياسي في الاقتصاد الجزئي لإنجاح سياسات الاقتصاد الكلي. فبدلًا من محاولة تحفيز الاقتصاد من خلال مزيج من الإنفاق والتخطيط العامَّين، ينبغي على الحكومات أن تركز على السيطرة على التضخم وتحسين عمل نظام السوق.
لقد حددت الأحداث مصير الثورة الكينزية، سواء وافق بعض الناس على ذلك أم اعترضوا؛ حيث أدَّى الكساد في ثلاثينيات القرن العشرين إلى ظهورها، ويبدو أن فترتَي الخمسينيات والستينيات قد عززتْها، بينما قضى عليها «الركود التضخمي» في السبعينيات (وهي حالة تَجْمع بين ارتفاع مستويَيِ البطالة والتضخم). أما ميراث الثمانينيات فهو ملتبس، وينبغي ألا يُشار إليه إلا في نطاق ضيق.
كانت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين هي العصرَ الذهبيَّ للرأسمالية؛ فوَفْق المعايير التاريخية انخفضَتِ البطالة إلى مستويات استثنائية، وتسارع النمو في الدخول الحقيقية على نحوٍ استثنائي، واستقرتِ الأنظمة الاقتصادية بشكل غير مسبوق؛ كل ذلك على حساب تكلفة تضخمية متواضعة. وأَرجَع كثيرون تلك النجاحات إلى السياسات الكينزية التي استُوحيتْ من نظرية كينز.
ثم أخذ الرخاء في التراجع؛ فمِن أواخر الستينيات بدأ التضخم والبطالة في الازدياد، وأخَذ النمو في التباطؤ. وفي الدول الأعضاء بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة ١٠٫٥٪ في المتوسط سنويًّا في المدة بين عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٩، بعد أن كانت ترتفع بنسبة ٣٫١٪ سنويًّا فيما بين عامَيْ ١٩٦٠ و١٩٦٨. أما البطالة فقد زادت بنسبة ٥٫١٪ بعد أن كانتْ تزيد بنسبة ٣٫١٪ لنفس الفترتين. وانخفض النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من ٣٫٩٪ فيما بين عامَيْ ١٩٦٠ و١٩٦٨ إلى ١٫٩٪ فيما بين عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٩. وفي عام ١٩٧١ أدَّى الخلل المتزايد في التوازن في الاقتصاد الكلي (بما فيها ذلك الخاص بالمدفوعات الخارجية) إلى انهيار نظام أسعار الصرف الثابتة، والقابلة للتعديل الذي أُقرَّ في اتفاقية بريتون وودز عام ١٩٤٤، وذلك حتى قبل وقوع الصدمة الأولى في أسعار النفط فيما بين عامَي ١٩٧٣ و١٩٧٤.
وبعد أن نُسب الفضل إلى السياسات الكينزية في النجاح المتحقق، نُسب إليها الفشل الذي يليه. وكلا الاستنتاجَين يَحتملان الشك. فهل كان للأفكار الاقتصادية — الكينزية أو غيرها — تأثيرٌ على ما فَعلتْه الحكومات؟ وهل كان لسياسات الحكومات تأثير على ما حدث؟ والإجابة على هذين السؤالين هي بالإيجاب بشكْل شبه مؤكَّد، لكن التفاعلات بين العوالم الثلاثة للأفكار والسياسات والأحداث على الأرض مُعقدة، لدرجة أنه من غير المرجح أن يَحظَى أيُّ تفسير للعلاقات بينها بالإجماع العام. لكن يمكننا على الأقل أن نُميِّز بين الاستخدامات البلاغية والفنية للأفكار الاقتصادية، وألَّا نَنسب التمددَ العام في نشاط الدولة بعدَ الحرب إلى كينز، وألا نُحمِّل السياسات الكينزية كل التبعات — الإيجابية والسلبية — لهذا التمدد. وكما كَتب كريستوفر ألسوب: «إن بناء دول الرفاهية والتدخل الصناعي وتنفيذ برامج الإنفاق العام … لا علاقة لها كثيرًا … بأفكار كينز الاقتصادية … فمن الضروري … ألَّا ننسى نقطة أساسية؛ وهي أن رسالته الأصلية كانتْ وسطية في جوهرها.» وبعد ما سبق، مِن المهمِّ أن نذكر أن كينز كان ضد التضخم والتأميم والتخطيط والمساواة في الدخول وغير ذلك، حتى وإن لم يوجد سبب آخر سوى أن الكثيرين ممن روَّجوا لتلك الأفكار فعلوا ذلك بِاسمه.
عند محاولة تقييم تأثير السياسة الكينزية على أحداثِ ما بعد الحرب، تظهَر مشكلة أولية تتمثل في فهم المقصود بالسياسة الكينزية؛ ففي فرنسا وإيطاليا — على سبيل المثال — ما يُطلق عليه الآن سياسات نشطة مَعنيَّة بالطلب كان يُنسب لكينز بالخطأ. ولتمييز السياسة الكينزية على نحوٍ أفضل، يمكن النظر إلى مدى الالتزام بالوصول إلى مستوى التوظيف الكامل والحفاظ عليه؛ حيث لم يكن هذا الالتزام إلا في بريطانيا والولايات المتحدة، وقد كان ملتبسًا؛ فقد تعهدتِ الورقة البيضاء بشأن التوظيف في بريطانيا، التي ظهرتْ في عام ١٩٤٤، بأن تلتزم الحكومة بمستوًى «مرتفعٍ ومستقرٍّ» للتوظيف. فما المقصود بالمرتفع؟ وما المقصود بالمستقر؟
واقترح جيم توملينسون طريقة أخرى أكثر صرامة لتمييز السياسات الكينزية؛ قائلًا إن الثورة الكينزية «ينبغي أن تُعرَّف في ضوء محاولة إضفاء الشرعية على عجز الميزانية باعتباره أداةً يمكن استخدامها لتحفيز الارتفاع في مستوى الطلب الإجمالي.» ويمكن عند ذلك القولُ إن السياسة الكينزية هي عمليةٌ يَحدث فيها عجز الميزانية بشكل متعمَّد من أجل رفع مستوى الناتج. وفي ضوء هذه الطريقة، لم توضع أيُّ سياسة كينزية في أثناء ذروة «العصر الذهبي»؛ لأن «الحكومة البريطانية، وهي بعيدة كل البعد عن ضخ الطلب في الاقتصاد، طالما تمتعت بفائض كبير في الحساب الجاري»، وذلك بحسب تأكيد آر سي أو ماثيوز في عام ١٩٦٨. وكان ذلك هو الحال أيضًا في الولايات المتحدة حتى عام ١٩٦٤. وكذلك لم توضع أيُّ سياسات للإدارة النشطة للطلب في أنجح اقتصاديات «العصر الذهبي»؛ وهما الاقتصاد الألماني والاقتصاد الياباني. والشاهد هو أن عالَمَ ما بعد الحرب لم يكن في حاجة لثورة كينزية في السياسة الاقتصادية ولم يقم بها من الأساس.
تحدث كينز في كتاب «النظرية العامة» عن «حالة» سعيدة في القرن التاسع عشر سمحتْ بالوصول إلى مستوًى معقول من التوظيف الكامل دون تدخُّل الحكومة. وربما ينبغي النظر إلى «العصر الذهبي» باعتباره نتيجة لحالة مشابهة. فكما أوضح كلٌّ من كرافتس وَوودوارد، فقد أُتيح في جميع أنحاء العالم المتقدِّم «فرصٌ كثيرة لتقليد التكنولوجيا الأمريكية وتقليل الزراعات ذات الإنتاجية المنخفضة واستغلال الطاقة الرخيصة.» وأدتْ فرص المجاراة التكنولوجية لرفع الإنتاجية الحدية لرأس المال؛ وهو ما أدَّى إلى زيادة الطلب على الاستثمار الخاص. وسمَح ارتفاعُ نسبة نمو الإنتاجية بزيادة كافية في الدخول الحقيقية في سبيل إرضاء تطلعات العمال مع الحفاظ على الاستقرار النسبي لتكاليف الوحدات. كما أنفقَتِ الحكومات نسبةً من الدخل القومي أعلى بكثير من النسبة التي أنفقتْها منه قبل الحرب. وكما قال جون هيكس في عام ١٩٧٧: «إن اقتران التقدم التقني السريع (وهي حقيقة مؤكدة) بالنزعات الاشتراكية التي زادتِ الطلب على السلع العامة (وهي حقيقة أخرى مؤكدة) كان من شأنه أن يؤدي إلى هذا الانتعاش الاقتصادي دون التحفيز الإضافي للسياسات الكينزية.»
وفي تلك الحالة السعيدة لعبَتِ الولايات المتحدة دورًا محوريًّا؛ فمِن الناحية العملية كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتعتْ برفاهية «استقلال» سياسات الاقتصاد الكلي لديها؛ ففي ظل نظام معيار صرف الذهب الذي أُقرَّ في اتفاقية بريتون وودز، كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي كانتْ تستخدم معيار الذهب، أما باقي الدول فاحتفظتْ بمعظم احتياطياتها بالدولار. ووُضعتِ الشروط النقدية لهذا النظام ككلٍّ حسب السياسة المالية الأمريكية، بينما انحصرتْ سياسات الاقتصاد الكلي في الدول الأخرى في الحفاظ على سعر صرف عملاتها أمام الدولار. وفي فترة حكم ترومان وآيزنهاور، اتَّسمتْ سياسة الميزانية الأمريكية بالتحفظ، وكانتْ أسعار الفائدة منخفضة، وتَحقَّق فائض في الميزان التجاري. ومثَّلَتِ الولايات المتحدة حتى منتصف ستينيات القرن العشرين مُرتكَزًا آمنًا لمعظم الدول ضد التضخم، وقدمتْ لها في ذات الوقت سيولة كافية لمنع الآثار الانكماشية المرتبطة بمعيار الذهب المنفرد. وسمح الاستقرار في النظام النقدي بالتحرير التدريجي للمدفوعات وللنظام التجاري؛ وهو ما صبَّ في صالح ارتفاع الدخول الحقيقية، كما كان يمكن أن يتوقع آدم سميث. وأخيرًا كانتْ ثمة عملياتُ ضخٍّ موجَّهةً للطلب من جانب الولايات المتحدة — من خلال خطة مارشال وخلال الحرب الكورية — وهو ما كان له نفس الأثر التحفيزي الذي خلَّفتْه اكتشافات الذهب في كاليفورنيا و«الحروب الصغيرة» في منتصف القرن التاسع عشر. باختصار كانت حقبة السلام الأمريكية هي التي أمَّنتْ توازنًا تقريبيًّا في الاقتصاد الكلي في جميع أنحاء «العالم الحر» في أثناء العصر الذهبي، والتي كانتْ شبيهة جدًّا بحقبة السلام البريطانية في القرن التاسع عشر؛ فقد جعل ازدهارُ الاقتصاد الدولي (على عكس ثلاثينيات القرن العشرين) مشكلاتِ الاقتصاد الوطنية أكثرَ قابلية للحل.
لكنْ إنْ عجزَتِ السياسة الكينزية الموجهة عن تفسير العصر الذهبي، فإن الالتزام الصريح أو الضمني بتفادي الانخفاض الشديد في الطلب — وكذلك الاعتقاد بنجاح السياسة الكينزية عند الحاجة — ربما من شأنه أن يضمن تحقيق التوقعات (أي: «حالة الثقة») الضرورية للحفاظ على انتعاش الاستثمار الخاص لمدة طويلة. وبدا أن المدرسة الكينزية في الخمسينيات على وجْه التحديد قد وضعتْ حاجزًا قويًّا أمام تقدُّم الاشتراكية، سواء كان ذلك من خلال المِلكية العامة أو التخطيط القومي. وكان ربطُ السياسة الكينزية اللاحقُ بنمو القطاع العامِّ غيرِ المتناسب المقترنِ بزيادة النضال العمَّالي عاملًا حاسمًا في تدمير الشقِّ النفسي أو التوقعي للثورة الكينزية؛ وهو الاعتقاد أنها ستوفر عالمًا أكثر أمنًا للرأسمالية والرأسماليين.
من المهمِّ أنْ نأخذ المقارنة مع القرن التاسع عشر إلى مدًى أبعد قليلًا؛ فالانتعاش الذي حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر تبعه ركود من السبعينيات وحتى التسعينيات من نفس القرن، وهو ما لم يكنْ كسادًا بنفس صورة كساد ثلاثينيات القرن العشرين كما يقال عادةً؛ بل كان عبارة عن فترة جمعتْ بين الرخاء والركود، جَرَتْ فيها عملية إعادة هيكلة تكنولوجية كبيرة مصحوبة بانتقال الدينامية التنافسية من بريطانيا إلى ألمانيا والولايات المتحدة. ولا يختلف ذلك تمامًا عمَّا حدث في سبعينيات القرن العشرين وما تلاها؛ حيث انتقلتِ الميزة التنافسية هذه المرة إلى الدول المُطِلَّة على المحيط الهادئ. لكن الظاهرة التي غابتْ عن الحقبة الأولى هي «الركود التضخمي»؛ فقد زادتِ البطالة بشدة في أغلب فترات ثمانينيات القرن التاسع عشر لكن الأسعار انخفضتْ. وفي المقابل، هل أطالتِ السياسات الكينزية الانتعاش الاقتصادي الذي حدث في خمسينيات وستينيات القرن العشرين على نحو «مصطنع»؟
طبقًا للنظرية الكينزية الأصلية، فقد انتهتْ فترة الانتعاش الاقتصادي الطويلة بوقوع صدمة أسعار النفط في عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٤، رغم أنه جرى الإقرار بأن هذه الأزمة هي حصادٌ لأخطاء السياسة الاقتصادية والأحداث «الاجتماعية» غير المبررة، مثل القفزة التي حدثتْ في الأجور عام ١٩٦٨. لكن انهيار أداء الاقتصاد الكلي اتضح من منتصف ستينيات القرن العشرين على الأقل. وتزامَن ذلك مع التحوُّل إلى سياسات كينز النشطة.
عُمِّمَتِ المدرسة الكينزية في الستينيات على مستوى العالم، وقد لاقتْ رواجًا وتقديرًا من ناحيتين؛ إذ امتدَّ استخدام السياسة المالية لموازنة الأنظمة الاقتصادية إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإلى اليابان بدرجة أقل، وزادَ نشاطُ السياسة المالية وطموحها مع عودة المخاوف من حدوث ركود. بوجْه عام، بينما انصبَّ اهتمام كينز في البداية على ضمان الاستغلال الكامل للموارد القائمة، حاولتِ المدرسة الكينزية في ستينيات القرن العشرين أن تضمن الاستغلال الكامل للموارد المحتملة؛ أيْ نمو القدْرة الإنتاجية للاقتصاد بهدف منع حدوث التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف ومواجهة «المطالب الاجتماعية» المتزايدة المعلقة على الاقتصاد. وقد ارتبط ما سمَّاه ديفيد ماركواند، في كتابه الشهير الذي ظهر في عام ١٩٨٨، الحقبةَ الديمقراطيةَ الاجتماعيةَ في المدرسة الكينزية؛ باتجاه السياسة إلى التيار اليساري وبالاستخدام الجادِّ لسياسات الميزانية للمرة الأولى من أجْل نقْل الطلب من القطاع الخاص إلى القطاع العام. وأصبحَتِ الميزانية أداة لإدارة الطلب ولتحقيق النمو والرخاء. وبدايةً من ستينيات القرن العشرين بدأ نصيب الإنفاق العام في الناتج المحلي الإجمالي يزداد في كل مكان. وكانت المرحلةُ الأهم في الاقتصاد الكلي، من وجهة النظر العالمية، هي مرحلةَ تخفيضِ الضرائب في عهدَيْ كينيدي وجونسون وإقرار برامج إنفاق «المجتمع الكبير» فيما بين عامَيْ ١٩٦٤ و١٩٦٦. وبالنظر الآن إلى تلك المرحلة — رغم أن ذلك لم يتضح وقتها — نجد أن ما سبق بجانب التمويل التضخمي لحرب فيتنام تَسبب في إنهاء دور الولايات المتحدة بوصفها المرتكز العالمي ضد التضخم.
ويمكننا أن نحدِّد عِدَّة أسباب منطقية للتحوُّل مِن هدف التوظيف الكامل إلى النمو؛ ففي الولايات المتحدة أدَّتِ النزعة الملحوظة لزيادة نسبة البطالة على نحو طفيف في ذروة كل دورة اقتصادية في الخمسينيات (رغم أن متوسط نسبة البطالة في الخمسينيات الذي زاد بالكاد على ٥٪ كان قريبًا على نحو كافٍ من النسبة المستهدفة وهي ٤٪) إلى إثارة المخاوف الكينزية القديمة من حدوث «ركود مزمن» في الاقتصاديات الناضجة؛ إذ أوحى هذا بوجود فجوة متزايدة في الناتج؛ أيْ فجوة بين معدَّل نمو الناتج السنوي الفعلي والمتوقع. ورأى مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس — مع رفضهم لفكرة أن عوامل التقدم التكنولوجي قد تكون السبب في ارتفاع نسبة البطالة — أن التوسع في الطلب يمكن أن يقلل البطالة إلى ٤٪ دون حدوث تضخم «غير مقبول» في الأسعار؛ حيث حاجَّ جيمس توبين بأن أضرار «الارتفاعات الطفيفة في الأسعار» مبالَغ فيها على نحو كبير. وقد عزز الوعدُ الكينزي بأن التوسع في الطلب يمكنه تحقيق معدل نمو أسرع رغبةَ السياسيين في دعم معدل النمو الأمريكي لتجنُّب خسارة الحرب الأيديولوجية (وكذلك سباق التسلح) مع الاتحاد السوفييتي الذي كان يُروِّج في خمسينيات القرن العشرين لمعدلات نمو هائلة وإنجازات تكنولوجية مذهلة مثل القمر الصناعي سبوتنيك.
أما في دول أوروبا فكان اللجوء إلى تقليل التمويل سببُه الخوف من أن يؤدِّي نقص العمالة إلى تباطؤ النمو (فقد منع سور برلين الذي بُني عام ١٩٦١ تدفُّق العمالة الرخيصة من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية)؛ وكذلك الخوف من أن يؤدِّي فتح الاقتصاديات المحلية أمام التجارة الحرة وتدفقات رءوس الأموال، على المستوى العالمي ونتيجة لإنشاء السوق الأوروبية المشتركة في عام ١٩٥٨، إلى جعْلها عرضة أكثر للصدمات الخارجية؛ وكذلك الخوف من عودة الأحزاب اليسارية التي ابتعدتْ عن السلطة كثيرًا، مع تبنِّيها لأيديولوجيات حديثة (أيْ غير ماركسية). لقد بدا أن سياسة النمو الكينزية هي الخيار الوحيد في ظل اختفاء العرض الوافر وسياسات الحماية الاقتصادية والأيديولوجيات البالية من الصورة. وفي بريطانيا ذات معدل النمو البطيء، أُقرتْ سياسة النمو لتُمكنها من «اللحاق» بالمنافسين الصناعيين مثل ألمانيا وفرنسا. ولجأَتِ اليابان إلى تقليل التمويل عام ١٩٦٥ عندما بدأتْ تخسر أدوات جوهرية بعد الحرب، مثل الجمارك والسيطرة على حركة رءوس الأموال. وانتشر في جميع الدول الاعتقادُ بأن النمو السريع ضروري لرفع سقف الأجور الحقيقية المتاح وللحصول على دعم الاتحادات العمالية لتحديد الأجور بتوسيع نطاق برامج الرعاية الاجتماعية.
وفي ستينيات القرن العشرين اتجهَتِ الدول النامية — التي كان قد تَحرَّر بعضُها لتوِّه من الاستعمار — إلى التصنيع الحكومي لتتمكن من اللحاق بالدول الغنية؛ إذ أمكنها تسريع وتيرة النمو بتوجيه العمالة الريفية غير المستغَلَّة جيدًا إلى الصناعات الثقيلة. وطَرَحَ الاقتصادي الأرجنتيني راءول بريبيش، المتأثر بشدة بفكر كينز، فرضيةً خاصةً ﺑ «معدل التبادل التجاري» للاستثمار العام في الصناعات البديلة للاستيراد. وكانتِ النتيجة سلسلة من حالات الانتعاش في مجال الاستثمار العام في إطار مِلكية الدولة والتخطيط التوجيهي، والتي يمولها على نحو كبير الاقتراضُ من الخارج.
وكان توقُّع حدوث انخفاض في معدَّل تراكم رأس المال منطقيًّا، بعدَ أن بدأتْ إعادة الإعمار بعد الحرب وخطط «اللحاق» بالدول المنافسة. وكان الأقل منطقيةً هو توسيعَ نطاق الفكر الكينزي من المشكلة قصيرة الأجل الخاصة بضمان التوظيف الكامل للموارد المتاحة إلى مشكلة زيادة نمو تلك الموارد. وبالنسبة لأنصار النمو من أتباع المدرسة الكينزية كانت إدارة الطلب النشطة (بما في ذلك تقليل التمويل) غير ضرورية لمنع حالات الركود أو معاوضتها فحسب، وإنما أيضًا لتفعيل احتمالات النمو على المدى الطويل في الاقتصاد، وهي فكرة محيرة في مجملها. كان كينز نفسُه سيقول في هذا الشأن — بل قال بالفعل — إنَّ أيَّ ضخ خارجي للطلب في ظل مستوى التوظيف الكامل سيؤدي إلى التضخم. وتلك هي «الحالة الخاصة» التي تنطبق عليها مبادئ المذهب الكلاسيكي في علم الاقتصاد؛ حيث لا يمكن تحقيق نمو سريع في الناتج إلا من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين وسائل الإنتاج؛ وهما من الأمور التي لم يكن لدى كينز أيُّ جديد ليقوله عنها. لكن أنصار النمو من أتباع المدرسة الكينزية في المقابل قالوا إن زيادة الإنتاجية تَنتج عن عملية النمو نفسها؛ إذ يعتمد معدل نمو الناتج على معدل نمو الاستثمار؛ فكلما زادت سرعة دفع الاستثمار من أجل النمو، زادت المكاسب من ناحية الإنتاجية نتيجةً لأثر اقتصاديات الحجم الضخمة الديناميكية؛ مما يؤدي إلى «دائرة مفرغة» من الزيادة في الإنتاجية والتنافسية وسرعة النمو. وبافتراض توفُّر طلب إجمالي كافٍ، يمكن دائمًا دفع الناتج للزيادة على نحو أكبر من مدخلات العمل؛ لذا فإن نِسَب التوظيف العالية لم تكن عقبة أمام التوسع الناتج عن زيادة الطلب؛ أي إن النمو (بلغة الاقتصاد) كان رهنًا بالطلب لا بالعرض.
سار التوسع في الطلب جنبًا إلى جنب مع التخطيط التوجيهي؛ فقد تضمنَتِ الخطةُ القومية البريطانية لعام ١٩٦٥ معدلاتِ النمو المتوقعة لمدة خمس سنوات في كل قطاع لتحسين توقعات رجال الأعمال. لكن المؤشر الأهم كان النمو المتوقَّع للإنفاق العام؛ فقد كان يبين للقطاعات الصناعية حجم التمويل المطلوب لزيادة قدراتها الإنتاجية، ويضمن، في الوقت نفسه، شراءَ الزيادة في الناتج؛ لذا برز الإنفاق العام باعتباره المحرك الحقيقي للنمو، وكانت تلك أزمة مصيرية للاقتصاد السياسي الكينزي؛ فقد شجعَتِ الحكومات كذلك اندماج الشركات للوصول إلى حدٍّ أدنى من الكفاءة. وأُضيفَ تخفيض قيمة العملة باعتباره أداة أخرى لمساعدة الأنظمة الاقتصادية في تحقيق معدلات نموٍّ أعلى بدلًا من مجرد التغلب على حالات اختلال التوزان في ميزان المدفوعات في إطار اتفاقية بريتون وودز.
وبالنظر الآن، سنجد أن كل الافتراضات المسبقة التي أكدتْ على الاتجاه إلى النمو — في الدول المتقدمة والنامية على السواء — اتضح أنها غير مضمونة من الناحيتين الفكرية والسياسية. ولم يتوصل أحد في واقع الأمر إلى وسيلة لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي عبر الوقت أكثر من المعدل الفعلي. السؤال الآن: هل كان نمو الإنتاجية سببًا لنمو المخرجات أم العكس؟ اختلف الاقتصاديون بهذا الشأن. مرة أخرى، كان الكينزيون متفائلين جدًّا بشأن آثار نمو القطاع العام على نمو الإنتاجية وسلوك الأجور وتوقعات رجال الأعمال؛ فقد ظنوا أن القليل من التضخم (الذي لم يحددوا مقداره) كان محفزًا، ولم يُلمحوا قط إلى وجود توقعات خاصة بالتضخم. وأخيرًا بالَغوا بشدة في مدى البطالة الريفية «المقنَّعة» في الدول النامية؛ ومن ثَمَّ في العائد بالنسبة للنمو الناتج عن تحويل هذه الموارد غير المكلِّفة ظاهرًا إلى الإنتاج الصناعي. وإن كانت هناك فكرة مشتركة تربط بين تلك الافتراضات المسبقة، فهي أن الدولة حكيمة والسوق حمقاء.
يُقرُّ أَتْباع المدرسة الكينزية أنفسُهم الآن أن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية في ستينيات القرن العشرين كانت مبالغًا فيها؛ فالأرقام واضحة؛ إذ تَضَاعَف معدل التضخم في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في ذلك العقد من ٣٪ إلى ٦٪ دون حدوث أيِّ تحسُّن في المتغيرات الحقيقية. لقد حَدد التضخمُ المتزايد، الذي كان الناتجَ الحقيقي للأفكار الكينزية الخاصة بالنمو في ستينيات القرن العشرين، مهمةً مستحيلة لسياسات الاقتصاد الكلي الكينزية في العَقْد التالي. وبمجرد خروج التضخم عن الحدِّ، أضرتِ التدخلات الحكومية بالاستقرار بصورة كبيرة؛ إذ تضمنتْ إما قبولَ نِسَبٍ أعلى من البطالة لوقف ارتفاع الأسعار، أو قبولَ نِسَب أعلى من التضخم لوقف ارتفاع معدلات البطالة. وأدَّى تذبذب السياسة الاقتصادية بين هذين الخيارين إلى ارتفاع مؤشر التضخم والبطالة لمعظم فترة السبعينيات. واكتسبَتِ النظرية النقدية مزيدًا من التأييد لقدرتها على تفسير الركود التضخمي المتزايد في ضوء التفاعل بين سياسة الاقتصاد الكلي الكينزية «القائمة على السيطرة على الدورة الاقتصادية» وسلوك الأجور الذي تكيف على نحو أسرع مع توقعات التضخم.
ومن الناحية الأعم، فقد أدَّى الضغط الشديد للطلب إلى ما قد يتوقعه أي اقتصادي كلاسيكي: وهو الارتفاع الشديد في التكاليف بسبب نقص العرض. وقابلَتِ القفزة التي حدثتْ في الأجور في الغرب — التي بدأتْ في عام ١٩٦٨ — زيادة في أسعار المواد الخام والطاقة، والتي بدأتْ في عام ١٩٧٢ ووصلتْ إلى زيادة لأربعة أضعاف في أسعار النفط فيما بين عامَي ١٩٧٣ و١٩٧٤؛ وهو ما أدى إلى خفض سقف الأجور الحقيقية الذي يمكن تحقيقه في ظل التوظيف الكامل في الدول الصناعية. وانهارتِ الضوابط المباشرة على الأجور (أي: «سياسات الدخول») مع اقتراب نهاية العَقْد؛ مما أدَّى إلى تقييد الأرباح، وهو ما لا يمكن تعويضه إلا بضخِّ مزيد من النقود في القطاع العام. وأصبحَتِ الدول الغربية، بتعبير ذلك الوقت، «خارجةً عن السيطرة».
وفي النهاية تراجعَتِ الحكومات؛ إذ شددت الحكومات الغربية السياسة المالية والنقدية لمواجهة الموجة الثانية لارتفاع أسعار النفط فيما بين عامَي ١٩٧٩ و١٩٨٠؛ وهو ما أدَّى لأشد كساد منذ ثلاثينيات القرن العشرين. أما الدول النامية التي حققتْ حالات انتعاش في الاستثمارات العامة خاصتها في السبعينيات من خلال اقتراض أموال النفط بأسعار فائدة حقيقية سالبة، فقد واجهتْ أعباء الديون الأجنبية المنهِكة في ظل انهيار عوائد صادراتها، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات عقابية وانكماش الاستثمار الأجنبي. فَرَضَ صندوقُ النقد الدولي، في مقابل إعادة جدولة الديون وتقديم قروض جديدة، حُزَمَ إجراءاتٍ قاسيةٍ لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وكان لسياسات النمو التي تقودها الدولة على مستوى العالم عكس ما كان مرجوًّا منها تمامًا؛ فقد رَفعتْ تكلفة إنتاج السلع والخدمات بدلًا من أن تُقلِّلها، وقلَّلتْ قدرة الاقتصاديات على تحقيق ناتج قابل للتسويق بدلًا من أن تَزيدها. وكانت تلك هي نهاية الحقبة الكينزية.
ورغم هذا، من الصعب تحميل السياسات الكينزية المسئولية عن هذه الكوارث دون الوضع في الاعتبار المناخَ الفكري العام والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الحكومات والاقتصاديات لأنْ تسير في الطريق الذي سلكتْه. لقد كانت المبالغة في تقدير قدرات أدوات الاقتصاد الكلي مهمة بالتأكيد؛ لكن من المهمِّ بالقدْر نفسِه القبول القدري من قِبَل اليمينيين واليساريين بمستقبل جماعي وتشاركي فرضتْه — هكذا بدا — الزيادة في نطاق تنظيم الأعمال ونمو جماعات الضغط وظهور الطلب على نطاق متزايد من الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية. وبعد الفترة الممتدة عبر عامَيْ ١٩٧٤ و١٩٧٥، عندما فقدَتِ الحكومات قدرتَها على «إدارة» اقتصادياتها، كان أسوأ ما يمكن أن يقال عن المذهب الكينزي هو أنه مثَّل حاجزًا أمام الأفكار الجديدة وأمام وضْع استراتيجيات سياسية بديلة. كل ذلك لأنه في تلك المرحلة لم تكن الثورة الكينزية قادرة عن تجديد نفسها؛ فقد سببتْ مشكلات لا تتأثر بما لديها من حلول، ولم تَعُدْ لدَيْها المواردُ الفكرية ولا السياسية لفهْم تلك المشكلات أو التعامل معها. ولا يمكن إلقاء اللوم على كينز في حدوث هذا. غير أن بعض جوانب ميراثه الفكري ثَبَتَ أنها تُسبب مشكلات؛ حيث بدا أنها منعتْ أيَّ نقْد من داخل المعسكر الكينزي لأيِّ محاولات لتوسيع نظريته وتطبيقها على مشكلات ومواقف لم توضع من أجل التعامل معها.
أولًا: فَتحتْ عِبارتان غيرُ دقيقتين في كتاب «النظرية العامة» السبيلَ أمام الاعتقاد أن الإنفاق العام أفضل من الإنفاق الخاص؛ فقد أدرك كينز أن الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل والإبقاء عليه ربما يتطلب «إضفاءً شاملًا نوعًا ما للطابع الاشتراكي على الاستثمار»، كما قال إنه إنِ استأجرتْ وزارة الخزانة الناسَ لحفْر حُفَر ثم ردْمِها من جديد، فستقلُّ البطالة و«من المرجح أن يزيد الدخلُ الحقيقي للمجتمع وثروتُه الرأسمالية على نحو كبير عما هو عليه.» ومع ذلك كان كينز منتبهًا دائمًا لأثر السياسة الاقتصادية في سيكولوجية الأعمال؛ إذ أدرك أن إنفاق الدولة المفرط سيَهدم الثقةَ في توجُّه السياسة الاقتصادية، وسيؤدي لمشكلات في التمويل لدى الحكومة، وهو ما سيُفسد مهمة الإبقاء على سعر فائدة حقيقي منخفض لفترة طويلة. ولم يستطع أحد أن يُلخِّص آليةَ «ضريبة التضخم» بطريقة أبلغ ولا أقصر من كينز الذي قال عنها في عام ١٩٢٣: «يمكن للحكومة أن تعتمد على هذه الآلية إنْ لم يتيسَّر لها أيُّ بديل؛ فهي أصعب ضريبة يمكن للناس التهرب منها، ويمكن حتى لأضعف الحكومات أن تفرضها عندما لا يمكنها أن تفرض غيرها.» لقد أدرك أنه إنْ حُكم على التمويل العام بأنه غير حكيم، فلن يتمكَّن مِن تحقيق غايته الكينزية الفريدة؛ لأن العناصر الفاعلة الاقتصادية المستشرفة للمستقبل ستتخذ خطوات لحماية نفسها من مخاطر تنصُّل الحكومة من ديونها أو تسييلها. لكنه لم يناقش صراحة حجم الإنفاق العام الآمن أو الفعال الذي يمكن السماح به للدولة في مجتمع حرٍّ.
ثانيًا: لم يتضمَّن كتاب «النظرية العامة» أيَّ إرشادات واضحة لما قصده كينز بالتوظيف الكامل، لا مفاهيميًّا ولا إحصائيًّا. وإنْ وضعتْ أي «نظرية عامة» للتوظيف تُغذِّي الاعتقاد بأن مستوى التشغيل يتحدد بالكامل في سوق السلع لا في سوق العمل، فإن تسميتَها مضلِّلة. لقد فرَّق بالفعْل كينز في إحدى فقرات كتابه بين البطالة الاختيارية والقسرية، أو كما أطلق عليهما لاحقًا: البطالة «الكلاسيكية» والبطالة «الكينزية»، لكن هدفه البياني كان إنكارَ التفسيرات الكلاسيكية للبطالة، وهو ما تجاهله أتباع كينز أيضًا. وأقرَّ ريتشارد كانْ بأن «مفهوم البطالة الاختيارية لم يُثِرِ اهتمامي»، وأن التفرقة بين نوعَيِ البطالة «لم تكنْ لها أيُّ أهمية عملية». والسبب أن كتاب «النظرية العامة» يمكن أن يُفهَم منه أنه إنْ سيطرَتِ الحكومة على تمويل الأجور وتخصيص العمالة، فسيمْكن دائمًا تحويلُ البطالة الاختيارية إلى بطالة قسرية وتقليل نسبة البطالة إلى الصفر، كما حدث بالفعل بالاتحاد السوفييتي. لم يُفكِّر كينز في الأمر بهذه الطريقة؛ بل كان ذلك فِكْر أتباعه الأكثر جماعية الذين تأثَّروا بالتخطيط وقت الحرب، وليس هناك في كتاب «النظرية العامة» ما ينصُّ صراحة على أن البطالة الاختيارية هي خيار يمكن أو ينبغي التعامل معه في المجتمعات الحرة فقط عن طريق تغيير حوافز سوق العمل.
لذا يجب أن نَخرج من نطاق كتاب «النظرية العامة» لنكتشف رؤية كينز لطبيعة البطالة؛ فقد اقتبسَ في كتاب «النظرية العامة» وصاغَ باستخدام مصطلحات جديدة المقارنة القديمة بين البطالة «الطبيعية» التي ترتبط بمؤسسات سوق العمل البطيئة التغير والبطالة «غير الطبيعية» التي تَنتج عن انكماش دوري. ورأى أن حجم البطالة «الطبيعية» في بريطانيا تغير كما يلي: فقد كان حوالي ٥٪ في المتوسط فيما قبل عام ١٩١٤، وأعلى بقليل من ٥٪ في عشرينيات القرن العشرين، واقترب من ١٠٪ في الثلاثينيات؛ ومن هنا تحولَتِ البطالة الطبيعية إلى بطالة «غير طبيعية». لذا بحلول ١٦ ديسمبر ١٩٤٤ كتب كينز إلى بيفريدج يقول إنه «لا ضرر من استهداف أن تكون نسبة البطالة ٣٪، لكني سأُفاجَأ إنْ نجحْنا في تحقيق هذا.» ويبدو أن كينز كان ينظر للبطالة «الطبيعية» باعتبارها مستوى البطالة الذي تستقر عنده الأجور النقدية (والأسعار). فعندما تزيد البطالة عن المعدل الطبيعي تقل الأجور النقدية، وحينما تقل عن المعدل الطبيعي تزداد الأجور النقدية. ويشبه هذا الفكرةَ الكينزية الجديدة الخاصة بمعدل التضخم غير المتسارع للبطالة؛ أيْ مستوى البطالة الذي يُمكِنه احتواء التضخم. لكن تلك الفكرة أتاحتْ لغير الكينزيين أن يتوصلوا لاستنتاج أن الوسيلة الوحيدة الممكنة لخفض مستوى البطالة «الطبيعية» (أو معدل التضخم غير المتسارع للبطالة) في مجتمع حرٍّ هي عملُ إصلاحات في سوق العمل؛ فقد ترك الهوسُ الكينزي بسياسات الدخول مسألةَ الدفاع عن الحرية التعاقدية لأصحاب النظرية النقدية.
ثالثًا: لم يترك كينز أيَّ نظرية ملائمة للأسعار. لا يمكن اتهام كينز نفسه بالتساهل في مسألة التضخم؛ إذ لم يُحلِّل كينز بيانيًّا الآثار السلبية للتضخم على النظام الاجتماعي للرأسمالية فحسب، بل إنه أيضًا في ١٩٢٠ — في ظل ارتفاع أسعار المستهلك في بريطانيا بنسبة ٢٠٪ في العام (وهي النسبة نفسُها التي كانتْ موجودة في عام ١٩٧٥) — طَالَبَ بتطبيق شديد لسياسة «النقود العزيزة» وتخفيض النفقات الحكومية على نحو كبير جدًّا باعتبارهما البديلَين الوحيدين لاشتراكية الدولة؛ حيث قال: «إنني أقترح هذا لأني أقدِّر الخطر الكبير في استمرار العلل القائمة دون علاج حاسم ومرٍّ. وسأفعل هذا رغم معرفتي أني أخاطر بحدوث كساد وربما أزمة.» كما كتب في عام ١٩٤٠: «باستبعاد جميع وسائل السيطرة غير التقليدية (أي الاشتراكية) … أشعر بأنه ينبغي عليَّ أن أُعطِيَ اليوم النصيحة نفسَها التي أَعطَيْتُها وقتَها.» فالتأخير في فرْض سياسة «النقود العزيزة» والالتزام بها في منتصف سبعينيات القرن العشرين زاد الوضعَ سوءًا عما كان من المفترض أن يكون عليه.
ويمكن تعميم تلك النقطة؛ ففي الحقبة السابقة على الحقبة الكينزية، انخفض مستوى الأسعار في أثناء الكساد، وارتفع وقت الانتعاش الاقتصادي، وبقي على هذا الحال في المتوسط؛ لذا كان من السهل على كينز أن يكون توسعيًّا وداعيًا لاستقرار الأسعار؛ ففي الواقع يمكن إثبات أن استقرار مستوى الأسعار تَطَلَّب زيادة الإنفاق عندما كانتِ الأسعار تنخفض. أما في الحقبة الكينزية فقد استمرتِ الأسعار في الارتفاع وقت الكساد والانتعاش على حدٍّ سواء، حتى وإنْ كان بمعدلات مختلفة. وكان إنجاز السياسة الكينزية في السبعينيات هو تغيير المفهوم الشائع أن البطالة كانتْ تكلفة غير مقبولة للاقتصاد الحرِّ، إلى إدراك أنها كانت تكلفة مقبولة لتقليل التضخم. ولم يكن ذلك مجرد تحيُّز أيديولوجي؛ فالسياسة الكينزية للتوسع في التوظيف «لا يمكن تطبيقها» إلا عند تبدُّد توقعات التضخم من النظام الاقتصادي؛ حيث إنه في حالة توقُّع ارتفاع مستوى التضخم، فإن العمال ببساطة سيطالبون بأجور أعلى.
ولكن كيف حدث هذا الموقف الغريب؟ فرغم سمعة كينز في مواجهة التضخم، فإن النماذج المستنبَطة من «النظرية العامة» كانت نماذج أسعار ثابتة؛ إذ ركزتْ على الطلب غير الملائم بدلًا من الزائد. لكن «النظرية العامة» للنقود يجب أن تتضمَّن كِلَا الاحتمالَيْن والمواقف الوسط، ومن الصحيح أنَّ كتاب «النظرية العامة» قَبِل بصحة نظرية كمية للنقود لكن عند الوصول لمستوى التوظيف الكامل؛ حيث قال فيه: «إذا ما وُجدتِ البطالة، فإن «التوظيف» سيتغير بنفس نسبة التغير في كمية النقود؛ وعند التوظيف الكامل ستتغير «الأسعار» بنفس تغير كمية النقود.» وعلى نحو أكثر واقعية، أقرَّ كينز بأن التضخم يمكن أن يبدأ قبل الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل — أشار إلى ما سمَّاه «حالات شبه التضخم» عندما يواصل الناتج ارتفاعه مع ارتفاع أكبر في الأسعار — وذلك بسبب الجمود الهيكلي (عدم التوافق المهاري والجغرافي) وقدْرة «الاتحادات العمالية» في ظل تضييق الخناق على سوق العمل على رفع الأجور على نحو أعلى من الإنتاجية. وفي مثل هذا الوضع هل يعتبر إجمالي الطلب غير كافٍ؟ لم يُجِب كينز على هذا السؤال. فهل على إدارة الطلب أن تستهدف الوصول إلى ما سمَّاه أبا ليرنر «التوظيف الكامل المنخفض» وتحقيق استقرار الأسعار، أم الوصول إلى «التوظيف الكامل المرتفع» ووضع ضوابط على الأجور والأسعار؟ ولم يُجِب كينز على ذلك أيضًا؛ فقد اقتصر على الإشارة إلى أن مهمة تقييد رفع الأجور كانتْ «مشكلة سياسية وليستِ اقتصادية»؛ وكان «يَميل إلى غضِّ الطرف عن مشكلة الأجور في اقتصاد به مستوى توظيف كامل.»
وبدلًا من وضع نظرية للتضخم، ظهرتْ ملاحظة تجريبية تعود إلى عام ١٩٥٨؛ وهي «منحنى فيليبس» الذي يوضح أن هناك علاقة مستقرة عبر الزمن بين مستوى البطالة ونسبة التغير في الأجور النقدية وكذلك الأسعار من خلال استنباط لاحق. تحولتْ منطقة كينز الرمادية الخاصة ﺑ «شبه التضخم» إلى «المنطقة الآمنة» لمنحنى فيليبس، التي قيل إنه تتوافر للحكومات فيها «قائمة اختيار» بين درجات التضخم والبطالة. وأراد الكينزيون المحافظون إدارة الاقتصاد في ظل «هامش طاقة غير مستغلة» أكبر قليلًا من أجْل تقليل التضخم. كانت هذه سياسة يمكن استنباطها من نموذج كتاب «النظرية العامة»، لكنَّها تعرضتْ للانتقاد باعتبارها غير أخلاقية من قِبَل أنصار النمو من الكينزيين، الذين أرادوا زيادة الطلب حتى يتم توظيف آخِر عاطل يبحث عن عمل في أيِّ وقت باستخدام سياسة الدخول للسيطرة على التكاليف، إما بالاتفاق مع الاتحادات العمالية أو من خلال التشريعات. لكن آلان كودنجتون لاحظ أن التقليد الكينزي في اعتبار مركزية السلطة ناتجةً عن حلِّ مشكلات الإدارة الاقتصادية يغفل السؤال بشأن حجم السلطة التي تمتلكها الحكومة بالفعل، أو التي ينبغي لها أن تمتلكها في مجتمع حرٍّ. ولم يؤدِّ عجْزُ الكينزيين عن التقدير الجدِّيِّ للقيود على العرض — وهو نتيجة لرؤية كتاب «النظرية العامة» للكساد — إلى الإخلال فقط بالتوازن الفكري الذي حاول كينز نفسُه الحفاظ عليه، وإنما أيضًا بالتوازن السياسي للثورة الكينزية. وبنهاية سبعينيات القرن العشرين بدأ محبو الحرية وهؤلاء الذين يُقَدِّرون الكفاءة في مغادرة المعسكر الكينزي بأعداد كبيرة.
لم يكن كينز بهذا القدْر من السذاجة السياسية الذي نَعتَه به بعض خصومه — فقد ذكر ذات مرة أن السياسيين يسمعون فقط ولا يَرَوْن — لكنه لم ينتبه كثيرًا للعملية السياسية التي توضع السياسة الاقتصادية في إطارها؛ ومن ثَمَّ أَعطَى في أغلب الأحيان انطباعًا بأنه إنْ كان جهاز الدولة مسلَّحًا بالنظريات السليمة ويُدار على يَدِ مسئولين نُزَهاء، فإنه من الممكن ائتمانه على سلطات تفويضية أكبر على السياسة الاقتصادية مما قد يَعتبره الفيكتوريون حكيمًا أو مرغوبًا فيه. ومن السهل الاعتقاد أن كينز نفسَه كان سيتصف بعقلانية وحَذَرٍ أكبر في الاستشارات والخطوات الخاصة بالسياسة الاقتصادية من الاقتصاديين والسياسيين الكينزيين اللاحقين، لكن من الصعب أن نجد في كتاب «النظرية العامة» أو في أيٍّ من كتاباته الأخرى أيَّ مناقشة صريحة للحدود الضرورية الواجب وضعُها للتفويض باتخاذ القرارات الاقتصادية؛ وذلك إما لأن الأمراء كانوا فاسدين بالفطرة كما رأى الفيكتوريون، وإما من أجل الحفاظ على مصداقية السياسات المتبعة أو الالتزامات المحددة. ولاحظ بعض الكينزيين، مثل كريستوفر دو، أن تدخلات الحكومات البريطانية لضبط السياسة المالية والنقدية في خمسينيات القرن العشرين أدتْ إلى اختلال الاستقرار الاقتصادي، لكنه أرجع ذلك لعدم الكفاءة، رغم أن بعض المراقبين الأكثر استقلالًا فكريًّا، مثل تيرينس هاتشيسون، رأوا أن الحكومات كانتْ تسعى إلى استغلال الاقتصاد للفَوْز بالانتخابات (ونجحتْ أحيانًا في ذلك).
الأكثر أهمية أن الكينزيين لم يشكُّوا في أن العملية السياسية ربما تكون سببًا في التضخم؛ إذ أرجعوا العواقب السيئة لفترة السبعينيات إلى انخفاضات أو ارتفاعات شديدة عشوائية في الأسعار أو أخطاء يُمكن تجنُّبُها أو أنانية قيادات الاتحادات العمالية وغير ذلك. وتُرك لمَدرسة الاختيار العام الاقتصادية المعارِضة للفكر الكينزي مهمةُ إثبات أن السياسيين كانوا يسعَوْن لتحقيق منفعة سياسية بدلًا من تحقيق الرخاء الاجتماعي، وكانوا يسعَوْن للقيام بمحاولات لإخضاع صُنع القرار الاقتصادي لقواعد دستورية أو غيرها. وسواء كان منظِّرو مدرسة الاختيار العام الاقتصادية على صواب أم على خطأ في تحديدهم لدوافع السياسيين والبيروقراطيين، فإن قضية المصداقية يجب أن تُواجَه في ظل عصر الأسواق المالية العالمية. ولسوء الحظ أَفقدتْ تجربةُ الإدارة الكينزية في السبعينيات الأسواقَ ثقتَها في أيِّ حكومة لا تُقيِّد نفسَها بتعهُّدات حديدية لتخفيض معدل التضخم.
لم يكن النقد الأساسي الموجَّه لكينز هو أن نظريته عن الناتج ككلٍّ كانتْ «عامة» جدًّا لدرجة أنه لم يكن من الممكن تطبيقُها على أيِّ نوع من المجتمعات، والتي تتراوح بين الديمقراطية والشمولية — وهي مسألة أقرَّ بها كينز صراحةً في المقدمة الألمانية لكتاب «النظرية العامة» — وإنما هو أنه لم يُحدِّد قَطُّ أيُّ أنماط التطبيق مناسبةٌ للمجتمعات الحرة وأيُّها غيرُ مناسب. فمِن الصعب معرفة هذا من كتاباته الاقتصادية والسياسية. ومن المرجح أنه لم يَرَ أنه من الضروري القيام بهذا، اعتمادًا — بالطريقة الإنجليزية — على القيود التلقائية لمجتمع «يفكر ويشعر على نحو سليم» من أجْل أن يمنع الحكام من ارتكاب أشياء مروِّعة بِاسمه.
في ضوء هذه الخلفية التي عُرضتْ كلُّ النقاط فيها على نحو مختصر جدًّا، يمكن معرفة أسباب تعليق العمل بالسياسة الكينزية منذ نهاية السبعينيات، رغم البطالة الشديدة والدائمة. لقد شاع فُقدانٌ عامٌّ للثقة في الأنشطة التي تقوم بها الدولة في مجال التنظيم والإدارة والإنفاق. كما انحسرَتِ الثورة الكينزية في «خطاب ردِّ الفعل»، ووجهتْ بشكل غير شرعي تجاه جميع أشكال سيطرة الدولة على الاقتصاد. كان المشروع السياسي الأساسي في الفترة القريبة الماضية هو القضاءَ على التضخم في الاقتصاديات، واستعادةَ الأموال العامة، وتحريرَ العلاقات الصناعية، وتقليلَ الإنفاق العام (إنْ أمكن)، وخصخصةَ الصناعات الحكومية. ونظرت الحكومات الموجودة في السلطة للبطالة باعتبارها إما تكلفة حتمية لإتمام هذه الإصلاحات أو باعتبارها مشكلة مؤجَّلة إلى ما بعد الانتهاء من تلك الإصلاحات. إن مثل هذه السياسات تعكس التوقعات التي أفرزتْها التجربة الكينزية.
لكن تبقَى بعض الأسئلة المحيِّرة: هل كان من الممكن لنسخة أكثر تواضعًا من السياسة الكينزية في ستينيات القرن العشرين أن تَمنع تكوُّن التوقعات التي جعلتْها غير ذات جدوى؟ وهل كان كينز نفسُه سيُجرِّب طريق سياسات الدخول؟ لا سبيل لمعرفة الجواب. لكن من المهم تذكُّر أن كينز لم يَكُن ليقبلَ بالاستمرار في السير في طريقٍ بعدَ أنْ علم أنه خطأ، حتى لو كان هو الذي اختاره. بل كان سيحاول تصحيح الجوانب الخاطئة في هذا الطريق مع الإبقاء على الجوانب الصحيحة منه.
واليوم لا يُمكن تبنِّي السياسة الكينزية على نحو صريح، رغم أن الضغوط السياسية ربما تؤدي إلى تبنِّيها على نحو خفِيٍّ. فسياسات الاقتصاد الكلي نفعية وغير نظرية، وليس من الواضح كيف تتطور، لكنَّ هناك ملاحظتين تبدوَانِ مرجحتين؛ فمع عولمة الأسواق، وخاصة الأسواق المالية، انتهى عصر الإدارة الاقتصادية الوطنية الذي بدأ عام ١٩١٤. فالسياسات الكينزية — إنْ تمَّ تبنِّيها — عليها أن تكون عالميةً أو على أقل تقدير إقليميةً. كذلك فقد ولَّتْ حقبة إدارة الطلب التفويضية. وأيًّا كان الإطارُ النهائيُّ للسياسة الاقتصادية، فسيكون محكومًا بالقواعد أكثر مما كان عليه الحال في ستينيات أو سبعينيات القرن العشرين. ونظرة النظرية الكينزية للحكومات باعتبارها جهاتٍ تسعى لتعظيم الرفاهية الاجتماعية صعبةُ التصديق بحيث لا يمكن قبولُها في الوقت الحالي. ومع ذلك لن تُمكِن الثقة في قواعد عرض النقود أو توازن الميزانية إذا توقعت السوق أن الضغوط السياسية ستَضطَرُّها لكسْرِها.
والسؤال الأصعب في الإجابة عليه هو: ما مدى الحاجة للنظرية الكينزية للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي ورخائه في السنوات المقبلة؟ تعتمد الإجابة جزئيًّا على نتيجة التحول من الشيوعية إلى الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي السابق وفي الصين. فهل سيؤذن هذا التحول ببداية عصر جديد من السياسة المضطربة، أم أنه سيُعيد فتْح الحدود التي ظلت مغلقة لوقت طويل أمام التجارة ويُعيد الثقة في التقدُّم والرخاء التي اختفتْ باندلاع الحرب العالمية الأولى؟ إنَّ طبيعة الموقف هي التي ستحدد الأفكار الحاكمة التي ستحتاجها الاقتصاديات الرأسمالية، كما أن الأفكار ستحدد هي الأخرى طبيعة الموقف. ولا يمكن لنا التخلِّي عن هذا الاعتماد المتبادَل في الحياة الاجتماعية. وليس بجديد أن نعرف أنَّ عقْل كينز الخصب دائمًا كان مصدرًا غنيًّا للأفكار المرتبطة على نحو مباشر بمشكلات الاقتصاديات في فترات التحول.
السؤال الآن: ما الذي بَقِيَ مِن كينز؟ لقد أصرَّ كينز دائمًا على أن النماذج الاقتصادية يجب أن «تكون مرتبطة بالعالم المعاصر»، وقال عن حلوله التي طرحها إنها «على مستوًى مختلفٍ عن تشخيصي للمشكلات … ولم يقصد منها أن تكون نهائية، بل تخضع لجميع أنواع الفرضيات الخاصة وترتبط بالضرورة بالظروف الخاصة بوقتها.»
واليوم لا يَحظَى أيُّ نموذج بقبولٍ عامٍّ، سواء للاقتصاد الكلي أو الاقتصاد الجزئي أو العلاقة بينهما. فمِن ناحية نجد نظرية ميلتون فريدمان النقدية المعارضة لمذهب كينز، والاقتصاد الكلي «الكلاسيكي الجديد» الذي ارتبط اسمُه بكلٍّ مِن روبرت لوكاس وتوماس سارجنت — وهو «الجناح المتطرف من النظرية النقدية» — اللذين أنكرا صحة النماذج الكينزية وقوة تأثير السياسات الكينزية (ربما باستثناء تأثيرها السلبي). ويتفق علماء الاقتصاد الكلي «الكلاسيكي الجديد» مع أتباع النظرية النقدية في أنَّ سياسات الاقتصاد الكلي تؤثر في المتغيرات الاسمية لا الحقيقية، وأنَّ البطالة ستَمِيل دائمًا باتجاه «المعدل الطبيعي» الخاص بها. كما يرى مثلُ أتباع النظرية النقدية أنَّ «المعدَّل الطبيعي» للبطالة يمكن تقليله عن طريق السياسات المعنية بالعرض المصممة لتعزيز محفِّزات الاقتصاد، وتحرير أسواق السلع وأسواق العمل، وخصخصة الصناعات المملوكة للدولة. ويتمثل الإسهام التحليلي الأساسي لعلماء الاقتصاد الكلي الكلاسيكي الجديد في فرضية التوقعات العقلانية؛ إذ تستغل العناصر الفاعلة العقلانية كلَّ المعلومات المتاحة ذات الصلة في اتخاذ قراراتها، وتتوصل إلى تنبؤات صحيحة بشأن تأثيرات سياسات الاقتصاد الكلي الحكومية المعلنة، وتُبنَى تلك التنبؤات (في معظم نماذج التوقعات العقلانية) على نظرية كمية النقود. فسياسة الاقتصاد الكلي التوسعية (أو الانكماشية) ليس لها تأثيرات حقيقية حتى على المدى القصير (منحنى فيليبس يكون رأسيًّا دائمًا)؛ حيث إن الأسعار تتغير فورًا حسب الظروف النقدية المتوقعة. والاستنتاج المتناقض هو أن الإجراءات الكينزية لخفض البطالة إلى أدنى مِن «المعدل الطبيعي» لها لا يُمكِنها تحقيقُ نتائجها المرجوة إلا اعتمادًا على المفاجأة، وهو ما لا يصلح أن يكون أساسًا لأي سياسة قابلة للتطبيق. وهذا يعزز الخلاف مع النظرية النقدية بشأن وجوب اتباع سياسة الاقتصاد الكلي لقواعد ثابتة لتقليل الخطأ في التوقعات.
من الناحية الأخرى، يَرَى الكينزيون أن الطلب مُهمٌّ، وأنه لا يزال هناك دور مهم للسياسات الحكومية الهادفة لخفض البطالة. لقد أثبتَتِ التجربة الأوروبية في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين صحة فكرة كينز أن الارتفاعات أو الانخفاضات الشديدة في الطلب — سواء جاءت من القطاع الخاص أو الحكومة — يمكن أن تؤدي إلى بطالة دائمة. لكن ليس من الواضح سبب هذا. فإن كان الأفراد يتخذون قراراتهم بصورة عقلانية، فكيف يمكن أن تستمر البطالة غير المرغوبة عندما تتوافر فرص التجارة المربحة للجميع؟ لقد أدى هذا اللغز في وقت لاحق لوضع برنامج بحثي كينزي نشط. وحاول «الكينزيون الجدد» فهْم أسباب جمود الأجور والأسعار الذي افترضه الكينزيون في الخمسينيات بوصفه من المسلَّمات. فوضعوا نماذج لتفسير التعديل غير التام للأجور والأسعار للتوافق مع الارتفاعات والانخفاضات الشديدة في الطلب، والتي تقوم على تكاليف المعلومات وأخطاء التنسيق وتكاليف تغيير الأسعار وفرضيات كفاءة الأجور، والتوازناتِ الاقتصادية التي يَعتَمِد فيها الناتج على متغيرات عشوائية خارجية، وارتفاعِ البطالة على نحو دائم وغيرها. فقد وُضعتْ هذه النماذج لتُبين أنه حتى في حالة وجود التوقعات العقلانية ربما لا يتضح وضع أسواق العمل. واستمرت مدرسة ما بعد الكينزية في التأكيد على ما ركز عليه كينز من أهمية الوقت وعدم اليقين واستخدام النقود باعتبارها مخزنًا للقيمة ونظرية «الغرائز الحيوانية» في الاستثمار. ويُعَدُّ السلوك التقليدي للرأسماليين أو العمال الذي يؤدي لنتائج سلبية على الاقتصاد ككلٍّ نتيجةً منطقيةً لعدم اليقين أو — طبقًا لنسخة سرافا وكاليتسكي من مدرسة ما بعد الكينزية — نتيجة لصراع الطبقات.
ورغم الاختلافات الموجودة بينَها حول دَوْر سياسات الاقتصاد الكلي، فإن هناك اتفاقًا متزايدًا بين جميع المدارس — المؤيِّدة للنظرية الكينزية والمعارِضة لها — على أن الإجراءات المعنية بالعرْض يُمكِنها خفْضُ البطالة القائمة، إما بإزالة العقبات التي تواجه المعاملات في السوق أو بإعادة بناء القدرات الإنتاجية أو كلتيهما.
إن السؤال المطروح بخصوص ما ينبغي للحكومة فعلُه «باستمرار» من أجْل إبقاء النشاط الاقتصادي في مستوًى عالٍ والمقدار الملائم منه لن يختفي. والإجابة تعتمد من جانبٍ على رؤية صاحبها للاقتصاد، ومن جانب آخر على رؤيته للحكومة. فإذا كان الاقتصادُ غيرُ المدار «بطبيعته أكثرَ استقرارًا في دوراته» مما ظن كينز، فإن الإجابة ستكون أن الحكومات ليس عليها أن تفعل الكثير. وأقلُّ ما يجب على الحكومات عمله هو ألَّا تزيد الأوضاعَ سوءًا. ويرى فريدمان أن الصدماتِ الأشدَّ سياسيةُ المنشأ؛ فالحكومات يُغرِيها التلاعبُ بالمعاملات النقدية من أجْل ضمان الأهداف التي تخدمها في المدى القصير؛ لذا فإن صلاحياتها ينبغي أن تُقيَّد وفق قواعد معينة. فلقد آمَنَ كينز أن الاقتصاديات غير المدارة متقلِّبة بذاتها، مع مَيْلِها تجاه مستوى نشاط أقلَّ مِن الطبيعي، بحيث يُمكن للسياسة الاقتصادية أنْ تلعَبَ دَوْرًا كبيرًا في استقرار أدائها وزيادة كفاءته. كما رأى أنَّ الحكومات يُمكن ائتمانها على تنفيذ سياسة معاكسة للدورات الاقتصادية بكفاءة ونزاهة.
من الصعب حلُّ هذا السؤال على نحو تجريبي؛ إذ يمكن القول إن السياسة الكينزية (بكل ما يشوبها من شوائب سياسية) قد زادتِ الأمورَ سوءًا عما كان يُتوقَّع أن تكون عليه بدءًا من منتصف ستينيات القرن العشرين. لكن التاريخ أثبت أن نشاط القطاع الخاص يمكن أن يكون متقلبًا بشدة. وعلاوة على ذلك، عجزت النظرية النقدية عن التنبؤ بمستويات البطالة العالية الدائمة في أوروبا، والتي تَبِعَتْ تطبيق السياسات المضادة للتضخم في أوائل الثمانينيات، كما عجزتْ عن وضْع أيِّ قاعدة مالية قابلة للتطبيق.
يقودنا ما سبق إلى استنتاج أنَّ علم الاقتصاد طالما روَّج لنفسِه، باعتباره «دليلًا للفعل» بدلًا من مجرد وسيلة منظمة لتأمُّل حالات الاقتصاد المختلفة وتقديم رؤًى لبناء مؤسسات قادرة على تحقيق الرفاهية بشكل يتجاوز أفعال حكومة معينة في مكان معين في زمن معين. لكن لم يكن الاقتصاديون — كما قال كينز — مفيدين ولو بقدْر أطباء الأسنان. ولا يمكن ألَّا نفكر في أن عَقْد الستينيات من القرن العشرين — حينما كانتْ سياسةُ الاقتصاد الكلي ذاتُ الأسس النظرية مطبقةً — كان بدايةَ تحوُّلِ الأمور إلى الأسوأ، وأن عوامل التحيز والمؤسسات التي قيدت الاستخدام التفويضي للأدوات الكينزية في الخمسينيات هي ما أبقَتِ السياسةَ الاقتصاديةَ متحفظةً نسبيًّا. فكينزية آيزنهاور قدمتْ ما هو أفضل من كينزية كينيدي.
وإذا أردنا أن نستخلص درسًا من التجربة التاريخية بعد الحرب، فهو أن المذهب الكينزي سينجح إذا اعتُبر موردًا تقديريًّا في إطارٍ مبنِيٍّ على القواعد، يَضَع قيودًا قوية على سلطات الحكومات ويُعزِّز رفاهية الشعوب من خلال أوسع إجراءات التجارة الحرة الممكنة. ومن المرجَّح أن يَنبهِرَ الباحثون عن الإلهام عند كينز في يومنا هذا بمدى الاهتمام والتفكير الذي أولاه لتصميم نظام بريتون وودز، والذي كان أكبر ممَّا أوْلَاه للوصفات الكينزية لعلاج الأمراض المحددة للاقتصاديات الفردية. إننا نسعى — سواء عن وعْي أم عن غير وعي — لاستعادة الحالة السعيدة التي أفرزتِ «العصر الذهبي» التي هذبتْها كثيرًا تجارب الفترة البينية. وسيعتمد نجاحُنا، على نحوٍ جزئي، على مدى حُسْن الإدارة الاقتصادية.