الفصل الأول
الكنوت (وقد أصاب مَن دعاه القنوط) آلة من آلات التعذيب لدى الروسيين، وهو سوط تُجمَع فيه عدة سيور غليظة من جلد البقر، تُجدَل عند أصلها وتُترَك أطرافها منفصلة عن بعضها، وتُجعَل في كل طرف أسلاك مفتولة من الحديد، فحيثما وقعت على جسم المجرم سال الدم، فلا تتكرر عليه الضربات حتى يصير جسمه كأنه جُرْح واحد تنبثق منه الدماء، فتُلبسه ثوبًا أرجوانيًّا.
فلا بدع أن رأيت الناس في روسيا وقد اجتمعوا زُرافات؛ ليشاهدوا توقيع العقاب بالكنوت على بعض المجرمين، فإنه من المَشاهد الأهلية عندهم.
وفي عصاري يوم من أواسط أيام السنة الأولى من القرن التاسع عشر المنصرم، أي في أواخر حكم القيصر بول الأول إمبراطور الروسيا، ما كادت تُقرَع أجراس الكنائس ببطرسبرج مُؤذِنةً بالساعة الرابعة من المساء حتى اجتمع لفيف من القوم على اختلاف طبقاتهم أمام قصر الجنرال الكونت شرميلوف حكمدار بعض مدن روسيا سابقًا، وقد استوقفهم ما رأوه من المعدات لجلد بعض المغضوب عليهم من حاشية الجنرال بالكنوت، ولم يَطُل انتظار المتفرجين حتى خرج إلى صحن القصر شاب طويل القامة يبلغ الخامسة والعشرين من العمر، مرتدٍ بكسوة ياور، وصدره مزيَّن بالوسامات، فوقف على سلم في صدر المكان يوصِّل إلى مساكن الجنرال، ثم رفع عينيه إلى نافذة في القصر يرجو أن يرى من خلالها خيال مَن ينتظر رؤياه، فوجد أستارها مسبلة وأقفالها محكمة، فلمَّا يئس من النظر التَفَت إلى رجل ذي لحية كثَّة سوداء واقف على مقربة منه بجوار المكان المُعدِّ لسُكنى خَدَمة القصر، وأشار إليه بيده ففتح بابًا قريبًا منه، وللحال خرج المجرم المُعدُّ للعقاب يتبعه جلاده ويحيط بهما عبيد القصر، ويَضطرون العبيدَ عادةً لحضور الجَلْد إرهابًا لهم واعتبارًا، أمَّا المجرم فكان حلاق الجنرال والجلاد سائق عربته المدعو إيفان (وهو خير مَن يقوم بمثل هذه المأمورية)، ولم تكن تلك المهنة التي اختص بها إيفان في القصر لتُبغِّض إخوانه فيه؛ فإنهم كانوا يثقون بطيب قلبه وصفاء نيته، وأنه وإن كان مضطرًّا لاستعمال ذراعيه لإيذائهم بأمر مولاه، إلا أن قلبه يتألم مما تأتيه يداه، ولكن ماذا يسعُهُ عمله؟ لا سيَّما أنه وباقي الخدم عبيد رقٍّ للجنرال يتصرف فيهم كما تشاء إرادته، وكان رأي الخدم العام مجمعًا على أن يد إيفان أحنُّ على أجسامهم في كل حال من كل يدٍ سواها؛ لأنه كان يغالط أحيانًا عدد الجلدات المحكوم عليهم بها، وإن رأى من المُولَّى على مباشرة الضرب التفاتًا وحرصًا اجتهد في أن تصل أطراف الكنوت على اللوح الممدَّد عليه المجرم لأعلى جسمه فيخف بذلك ألم الضرب نوعًا. ولقد نفعت إيفان رأفته برفاقه؛ فلما كان ينقلب به الحظ ويُمدَّد يومًا على لوح العذاب كان يجد من القائم مكانه بالضرب مراعاةً ورأفة، فكانت هذه المعاملة سياجًا للمحبة بين خَدَمة الجنرال وسائق عربته، ولا تتوطد دعائم هذه المحبة ويتم توثيق عُراها بكل أنواع المجاملات إلا في الأوقات التي يُكلَّف فيها إيفان بمباشرة مهنته وتنفيذ مهمته. ولكن لمَّا كانت الجلدات الأولى — على كل حال — أشدَّ الضرب إيلامًا يغيب معها الرشد ويضل الفكر، كان المضروب لا يتحاشى نوعًا من السباب يهديه إلى جلاده حتى إذا تم التعذيب وانصرف كلٌّ إلى شئونه، ثم أقبل الليل ومعه الراحة من الأعمال؛ يتبادل الضارب والمضروب كأسًا من الخمر يصرفان في صرفها ضغينة النهار ويتناسيان بها سيئات الأقدار.
وكان المغضوب عليه هذه المرة حلاق الجنرال، وهو رجل من عبيده يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، ذو قامة تميل إلى الطول، ولحية شقراء تدل سحنته على أنه روميُّ الأصل، وتقرأ في عينيه صفات المكر والخديعة، ولو غشتهما مؤقتًا علامة الخوف والاضطراب، فأُتيَ به إلى مكان العذاب. فلمَّا اقترب منه رفع عينيه إلى النافذة التي وجَّه إليها الضابط نظره أول مرة فوجدها مقفلةً، ثم التفت إلى جمهور المتفرجين المزدحمين لدى باب القصر، ثم ارتد بصره خاسئًا إلى لوح العذاب الممدَّد أمامه وتولَّته قشعريرة لمَّا أُصعِدَ عليه، فلم يخفَ ما به على إيفان، حيث اقترب منه، وقال له بصوت ضعيف وهو ينزع عنه قميصه: تشجَّع يا جريجوار وكن رجلًا.
فقال له الحلاق بصوت يذوب رجاءً والتماسًا: لا تنسَ ما وعدتني به أيها الصديق الحميم.
فأجابه: ليس في الضربات الأولى يا صاح، فإن ياور الجنرال لنا بالمرصاد، ولكن في الضربات الأخيرة سأبذل الجهد في مغالطة العدد فلا تَخفْ ولا تحزن.
فقال له مكتئبًا: ولكن انتبه خصوصًا لأطراف الكنوت.
فأجابه: سأفعل ما بوسعي يا جريجوار، فكن مطمئنًّا.
فقال جريجوار: يا للأسف! لو كانت النافذة …
ولم يكد يتم كلمته حتى صاح الضابط قائلًا: هل تم الاستعداد؟
فأجابه إيفان: نعم يا مولاي، ونحن في انتظار أمر سعادتكم.
فصاح جريجوار مخاطبًا الضابط بكل ألقاب التمجيد والتعظيم قائلًا: أرجو مولاي الكولونل أن تتكرم مراحم سعادته بالتمهل قليلًا، إني أرى نافذة سيدتي فاننكا تُفتح.
فرفع الضابط بصره رغمًا عنه إلى النافذة التي وجَّهه إليها أولًا، فوجدها كما رآها مقفلة محكمة، فالتفت إلى العبد وقال: لقد خدعت نفسك يا مسكين، وبالتالي فماذا تفيدك مولاتك الساعة؟
فقال المسكين: عفوًا يا مولاي فإن حضرتكم … سعادتكم تعلمون بأن ما أصابني كان بإيعاز من سعادتها، وأن سعادتكم … بل سعادتها ربما تعفو عن ذنب خادم مسكين مثلي.
فصاح الضابط بصوت كالرعد قائلًا: كفى، نفِّذ ما أمرت به يا إيفان.
فقال إيفان: حالًا يا مولاي.
ثم التفت إلى جريجوار وقال: هيا أيها الصديق، فقد أزف الوقت.
فتنهَّد المسكين ورفع عينيه إلى النافذة، ولمَّا وجدها على حالها اضطر مرغمًا أن يرقد على اللوح المشئوم، وحينذاك اقترب عبدان كان إيفان قد اتخذهما مساعدَين له، فربطا يدَي جريجوار من الرسغ إلى وتدَين مثبتَين على مسافة من اللوح، ورجلَيه إلى وتدَين مثلهما من خلفه، ثم أدخلا رأسه في طوق من الخشب، ولما رأى الضابط أن لم يبقَ ثمة موجب للتأخير، وأن النافذة لم تزل مقفلة، أشار إلى رجاله قائلًا: هيا.
فسأله إيفان صبرًا حتى يفك عقدة طرأت في الكنوت مؤملًا أن تنفتح في تلك الأثناء النافذة، ويأتي ملك الرحمة بالعفو والسماح، فانتظر الضابط ولبث إيفان يتظاهر بفك العقدة دقائق معدودات حتى ضجر المتفرجون ونبَّه ضجيجهم الضابط وكان مشغولًا عن نفسه، فتنبه ونظر إلى النافذة ثم إلى إيفان، وصاح به بصوت آمر لا يود لأمره ردًّا ولا تأخيرًا قائلًا: أما انتهيت؟ نفِّذ الأمر بلا إبطاء.
فلم يسعِ الجلاد إلا أن يصدع بالأمر، فتهيأ للتنفيذ وتقهقر خطوتَين إلى الوراء، ثم عاد إلى مكانه، وهبَّ على أخمصَيه رافعًا الكنوت فوق رأسه — حيث أدارها في الفضاء مرارًا — ثم نزل بها على جسم المجرم فجَلَدَه جلدة التفَّت بها الكنوت حول الجسم التفاف الأفعى، غير أن طرفها الحديدي لم يمسَّه، بل أصاب اللوح الخشبي، ومع ذلك صرخ الحلاق صراخًا دوَّت له الآفاق، وقال إيفان: واحد.
وعند ذلك رفع الضابط رأسه إلى النافذة فوجدها لم تزل مقفلةً، فأدار وجهه بسرعة نحو المضروب وكرَّر قول الجلاد: واحد.
ثم خلص الجلاد الكنوت عن جسم جريجوار؛ فظهر مكان وقعها منه خطوطًا زرقاء كالنيلة، ثم هبَّ إيفان على أخمصَيه ثانيًا، وجَلَدَه جلدة كالأولى متحاشيًا أن تصل ألسنة الكنوت إلى جسم المضروب، فصرخ جريجوار ثانيًا، وقال إيفان: اثنان.
وعند ذلك ظهر الدم وراء جلد المضروب، وفي الجلدة الثالثة ظهرت على البَشَرة بعض نقطٍ منه، وفي الرابعة سال الدم، وفي الخامسة أطارت الكنوت جزءًا من الدم فأصاب وجه الضابط، فاشتغل بمسحه بمنديل واغتنم إيفان فرصة انشغاله؛ فبدلًا أن يقول في الجلدة التالية: ستة، قال: سبعة، ولم ينتبه إليه الضابط، وفي الجلدة التاسعة أوقف إيفان الضرب مُحتجًّا بوجوب تغيير الكنوت، ومؤمِّلًا أن تأتي الرحمة، ولمَّا عاد إلى موقفه وابتدأ في الضرب عدَّ الجلدة الحادية عشرة مكان العاشرة.
وفي ذلك الحين فُتحَت نافذة مقابلة للنافذة التي كانت محطَّ الآمال، وظهر منها رجل يختلف سنُّه بين الخامسة والأربعين والخمسين مرتدٍ بكسوة الجنرالية، وأشار إلى القوم قائلًا: كفى، أحسنتم.
ثم قفل النافذة، وعند فتح النافذة كان الضابط قد أدار وجهه نحوها، والتزم الوقفة الحربية رافعًا يده إلى رأسه؛ لأداء السلام العسكري، ولمَّا قُفلَت النافذة؛ كرَّر قول الجنرال: كفى. فأوقف إيفان يده عن الضرب والتفت إلى جريجوار قائلًا — وهو يطوي سيور الكنوت: اشكر يا جريجوار سعادة الجنرال، فإنه عفا عن جلدتَين.
ثم مال إلى المضروب؛ ليفكَّ قيوده، وهمس في أذنَيه قائلًا: ومع الجلدتَين اللتَين غالطتهم فيهما قد كفاك الله شر أربع جلدات.
ثم التفت إلى مساعدَيه قائلًا: هلمَّا وفُكَّا قيود يده الأخرى ورجلَيه.
ولم يكن جريجوار في حالة تسمح له بالنطق فكيف بالشكران، فإنه أُغمِي عليه من ألم الضرب على رأفته، فأتى عبدَان وحملاه على أذرعهما، وسارا به إلى بيت الخدم يتبعهما إيفان.
ولمَّا وصلا إليه فتح المضروب عينَيه، فلمح الضابط ينظر إليه متألمًا ممَّا أصابه، فصاح به قائلًا: سيدي فيدور، أرجو سعادتكم أن تنوبوا عني في شكر سعادة مولانا الجنرال، أمَّا سيدتي فاننكا (وهنا انخفض صوته) فسأقدِّم لها شكري بنفسي.
فصاح به الضابط مغضبًا، لمَّا رآه كأنه يتهدَّد اسمًا عزيزًا لديه: ماذا تُصِرُّ بين أسنانك؟
فقال جريجوار: لا شيء يا مولاي لا شيء، غير أني أقول: إن جريجوار المسكين يشكر سعادتكم على الشرف الزائد الذي أوليتموه إياه بحضوركم ساعة جلده.
فقال الضابط وهو لا يصدق أن ذلك ما كان يتشدق به الحلاق: حسنًا، اذهب واسترح في مكانك.
ثم التفت إلى إيفان قائلًا: واسقِهِ يا إيفان كأسًا من الخمر، فربما ردَّت إليه صوابه وعلَّمته احترام أسياده.
فأشار إيفان بالطاعة، وتبعَ رفاقه حيث دخلوا، ثم قصد فيدور داخل القصر، وابتدأ الملأ من المتفرجين ينصرفون إلى حال سبيلهم يتذاكرون فيما شهدوه، معجبين بمكر إيفان وكرم الجنرال.