الفصل العاشر
مضت الأيام الثمانية التي ضربها جريجوار للجنرال، وفي ليلة اليوم التاسع نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل سمع الجنرال قرعًا على باب غرفته، فقام ليرى الطارق، وإذا به جريجوار فسأله عمَّا به، فقال: لو كلَّف مولاي نفسه التوجُّه إلى غرفة ابنته؛ لوجد عندها سيدي فيدور.
فبُهِت الجنرال، ولكنه تشجَّع وارتدى ملابسه، وتبع الخادم دون أن ينبس ببنت شفة، ولما وصل إلى غرفة فاننكا أشار للخادم بالانسحاب؛ فانزوى هذا في أحد أركان الدهليز المظلمة، ثم قرع الجنرال الباب أول مرة وأنصت فوجد الغرفة ساكنة ساكتة، فقال في نفسه: السكوت لا يدل على شيء؛ إذ ربما تكون فاننكا راقدة.
ثم قرع الباب ثانية، فسمع صوت ابنته تقول بهدوٍّ وسكون تامَّين: مَن الطارق؟
فأجابها الجنرال بصوت خافت يكاد يخنقه التأثير: أنا أبوك يا فاننكا.
فقالت الفتاة مخاطبة أختها في الرضاع الراقدة في الغرفة المجاورة لها: أنوشكا، افتحي الباب لأبي.
ثم قالت مخاطبة أباها: عفوًا يا أبي، فأنوشكا تضع ملابسها، وستكون بعد لحظة تحت أمرك.
فانتظر الجنرال صابرًا، وقد كادت تتبدَّد وساوسه؛ لأنه لم يلاحظ في صوت ابنته ما يدعو إلى الريب فتمنى لو كذبت أقوال جريجوار.
وبعد برهة فُتِح الباب ودخل الجنرال، فأجال نظره فيما حوله فلم يجد غريبًا بالغرفة، بل وجد فاننكا راقدة على سريرها باهتة نوعًا ولكنها هادئة، فاستقبلته باسمة الثغر وقالت له بصوت يكاد يسيل رقةً وعذوبةً: أيُّ فرصة سعيدة شرَّفتني بمجيئك يا والدي في هذه الساعة المتقدمة من الليل؟
قال الجنرال: لقد لاح لي أن أكلمك في شأن خطير، وكان قد استولى عليَّ الأرق، فافتكرت أنك لا تؤاخذينني على إقلاق راحتك لو أتيت إليك في مثل هذه الساعة.
قالت الفتاة: مرحبًا بك يا والدي في أية ساعة أتيت من ساعات الليل أو النهار، فقل ما ترى، إني مصغية لما تقول.
فسرح الجنرال نظره ثانيةً حوله، فلم يجد ما يبعث إلى الظن بوجود شخص مختفٍ بالغرفة التي هو فيها، فعزم على تفتيش غرفة الوصيفة، ثم التفت إلى ابنته قائلًا: نعم يجب أن تصغي لما أقول، إنما أظن أننا لسنا وحدنا، ومن الواجب ألا يسمع غريب ما يدور بيننا.
قالت فاننكا: لكن أنوشكا أختي في الرضاع، وليست غريبة منا.
قال الجنرال: لا يعنيني.
ثم تناول شمعة، وقصد غرفة الوصيفة فقال: اخرجي يا أنوشكا، وقفي بالدهليز وراقبي ألا ينصت أحد لما نقول.
فخرجت الوصيفة، وسرَّح الجنرال نظره في غرفتها، فوجدها خالية إلا منه وابنته، فخرج ثانيًا بعد أن التفت مرة أخرى وراءه، ولما صار في غرفة فاننكا جلس بجانب سريرها، ثم مد يده إليها فمدت يدها إليه بلا تردد، فقال لها: إني أريد محادثتك في أمر خطير.
قالت: وما هو يا أبتي؟
قال: لقد كدت أن تبلغي الثامنة عشرة، وهو السن الذي تتزوج فيه عادة بنات الأشراف من الروسيين.
ثم سكت الجنرال برهة؛ ليرى تأثير كلامه في نفس ابنته، فوجدها ساكنةً مطمئنةً لم يظهر عليها أقل تأثير، فاستمر في حديثه قائلًا: ولذا فقد خُطِبْت مني منذ عام لمَن وافقت على قرانك به.
فسألته الفتاة بفتور قائلة: وهل يتكرم والدي بإعلامي لمَن خُطِبْت؟
قال: نعم، لابن المشير الحالي لجلالة القيصر، فما رأيك؟
قالت فاننكا: إنه شاب شريف مهذب كما أسمع، ولا يمكنني أن أحكم إلا بما سمعت، أليس هو ذاك الذي تعيَّن منذ ثلاثة أشهر بحامية موسكو؟
أجابها الجنرال: نعم هو، ولكنه سيحضر قبل مُضِيِّ ثلاثة أشهر.
فسكتت فاننكا، فسألها الجنرال قائلًا: وهل لديك ملحوظات تريدين إبداءها؟
أجابته: كلا يا والدي، إنما أطلب منك مِنَّةً واحدةً.
قال: وما هي؟
قالت: أن تتكرَّم بتأجيل زواجي حتى أبلغ العشرين.
سألها: ولمَ؟
أجابته: ذلك نذر نذرته.
قال لها: ولكن إذا كانت الظروف تقتضي عدم الوفاء بذلك النذر، وتضطرنا إلى التعجيل بالزفاف فما العمل؟
فسألته قائلة: وما هي تلك الظروف؟
أجابها مثبتًا نظره فيها: أن فيدور يحبك.
قالت الفتاة بفتور تام: أعلم ذلك.
فصاح الجنرال مندهشًا: تعلمين ذلك!
أجابت: نعم، فقد اعترف لي به.
سألها: ومتى؟
قالت: الليلة.
قال: الليلة! وبماذا أجبته؟
قالت: نصحته بالنزوح عن القصر.
سألها: وهل رضي؟
أجابته: نعم يا والدي.
فقال لها: ومتى يسافر؟
قالت: لقد سافر.
قال الجنرال: ولكنه تركني الساعة العاشرة.
قالت: وتركني في منتصف الليل.
فتنفس الجنرال ملء رئتَيه كمن انزاح عنه هم ثقيل، والتفت إلى ابنته قائلًا: بورك فيك من ولد مطيع، وإني منحتك يا فاننكا ما تطلبين وسيؤجَّل زفافك إلى تمام العشرين، لكن تذكري يا ابنتي أن الأمر أمر القيصر فلا قِبَل لنا بمخالفته.
فأجابته الفتاة: أشكرك يا والدي على جميع مكارمك، وستجدني طَوْع أمرك إن شاء الله.
قال الجنرال: حسنًا يا ابنتي، حسنًا.
وسكت قليلًا مطرقًا برأسه، ثم رفعها إلى ابنته قائلًا: إذن ففيدور المسكين قصَّ عليك الأمر كله.
أجابته: نعم يا والدي.
قال: وأعلمك أيضًا أنه قصدني أولًا لخطبتك مني.
أجابته: نعم يا والدي.
قال: وهل رضي مع ذلك أن ينزح عن القصر؟ يا له من فتى شريف النفس كريم السجايا! فلأمدنَّه برعايتي أيًّا كان، وأواليه البر ما عشت، ولولا أن سبق الوعد مني لارتضيته زوجًا لك، وما أظنك كنت رافضة بعلًا مثله.
فسألته الفتاة قائلة: وهلا يمكنك التخلص من هذا الوعد؟
أجابها: استحال الأمر يا ابنتي، فقد صدر مني لجلالة القيصر نفسه.
قالت: فاننكا: فلتتم إذن مشيئة الله.
فضمَّها الجنرال إلى صدره قائلًا: هكذا تكون ابنتي بارك الله فيها، فأستودعك الله الآن يا فاننكا، وإني لم أسألك إن كنت تشاطرين فيدور الحب أم لا؛ لأن كلًّا منكما قام بالواجب عليه، وما كان لي أن أرجو أكثر مما فعلتما.
وعلى ذلك قام الجنرال قاصدًا الخروج فوجد أنوشكا بالدهليز، فأشار إليها بالدخول إلى مكانها، واستمر في طريقه حتى وصل باب غرفته، فوجد لديه جريجوار بالانتظار فبادره الخادم مستفهمًا: ماذا تبيَّن لسعادتك؟
فأجابه الجنرال: إنك مخطئ ومصيب، ففيدور يحب ابنتي، ولكن يظهر أن ابنتي لا تهواه، وحقيقةً دخل فيدور غرفتها قبل منتصف الليل، ولكنه خرج منها على ألا يعود، ومع ذلك فلست بمخلف وعدي معك، فاحضر إليَّ في الصباح لأنقدك الألف روبل وأمنحك الحرية.
فنكس جريجوار رأسه، وانصرف مطرقًا مفكرًا بين مصدِّق ومكذِّب، لا يدري كيف يؤَوِّل غياب فيدور في تلك الساعة، وقد رآه بعينَي رأسه قاصدًا غرفة الفتاة ولم يخرج منها، لكنه تسلى بما ينتظره في الصباح، فأشرقت جبهته وأبرقت أسرته، فقصد فراشه يحلم بالروبل الذهبية وإطلاق الحرية.