الفصل الحادي عشر
ما كاد الجنرال يبرح غرفة ابنته حتى أسرعت أنوشكا، فأغلقت الباب غلقًا محكمًا، ووقفت وراءه فاننكا مصغيةً لوقع أقدام أبيها حتى ابتعدت في ظلمات الدهليز، وعند ذلك اندفعت إلى الغرفة المجاورة لغرفتها وتبعتها وصيفتها وأخذت الفتاتان تزيحان صُرَرًا من الملابس كانت ملقاة فوق صندوق ذي لَوْلب؛ ليخفيه عن الأنظار، ثم ضغطت أنوشكا على زرِّ الصندوق فرفعت فاننكا غطاءَهُ، وما كاد ينفتح الصندوق حتى صرخت الفتاتان معًا منزعجتَين لما رأتا: إذ صار الصندوق قبرًا، وأصبح فيدور فيه جثةً بلا روح.
ولقد ظنت الفتاتان طويلًا أن ما به إغماء، فحاولتا إنعاشه برشِّ الماء على وجهه وإعطائه المنبهات، ولكن ذهبت أتعابهما أدراج الرياح؛ فإن المسكين كان اختنق لقلة الهواء، حيث طالت محادثة الجنرال مع ابنته أكثر من نصف ساعة، حاول فيدور فيها التخلُّص من سجنه، فلم يستطع لتعسُّر فتح الصندوق من الداخل.
أصبح الموقف حرجًا: فتاتان وجثة لا تدريان معها ما تفعلان، فكانت أنوشكا تتصوَّر طريق سيبريا ممدودًا أمامها للمنفى الأبدي، أمَّا فاننكا — والحق يُقال — فكانت لا ترى ولا تفكر إلا في فيدور، وقد بلغ اليأس من الفتاتين المدى.
وبعد برهة من السكوت التفتت أنوشكا لسيدتها قائلة: مولاتي، لا يجدينا الحزن واليأس شيئًا، فلا بد من التدبُّر في طريقة تخلِّصنا مما نحن فيه.
فأجابتها فاننكا: تخلصنا ربما، ولكن هذا المسكين؟!
قالت الوصيفة: لا شك يا مولاتي أن حزنك عليه عظيم، ولكن تدبَّري الأمر، فمرهون عليه شرفك وشرف أبيك وأسرتك.
فأجابتها فاننكا: لا يهمني الشرف بعد موت الحبيب، فلأبكيَنَّه ما حييت ولا يتعزى قلبي لفقده أبدًا.
قالت أنوشكا: مولاتي، ليست الساعة لبكاء ما فات، وإنما لتدبُّر ما هو آتٍ.
قالت فاننكا: إذن فما نعمل؟
أجابتها الوصيفة: أظن أن مولاتي تعرف أخي إيفان السائق.
قالت: نعم أعرفه.
قالت أنوشكا: يجب أن نستدعيه إلينا، ونقُصَّ عليه الخبر، فهو يدبِّر لنا طريق الخلاص.
فصاحت فاننكا قائلة: ويْكِ! أنأتمن على سرنا عبدًا لا يلبث أن يفشيه في ساعة من ساعات سكره، كلا ثم كلا.
قالت أنوشكا: حقيقةً إن أخي يشرب الخمر مثل باقي رفاقه، ولكن لا أظن أن يبلغ به الأمر إلى أن يفشي مثل هذا السر، ومع ذلك فإذا وقع الإنسان بين خطرَين اختار أخفَّهما ضررًا، وبقاء هذه الجثة هنا يجرُّ علينا ويلات غير منتظرة، وينتهك شرف مولاتي.
أجابتها فاننكا: صدقت، فاذهبي واستدعي أخاك.
فقالت أنوشكا وقد أزاحت بيدها أستار النافذة: قد أوشك الصبح أن يلوح، ولا تساعدنا الفرصة على إتمام ما نريد، فلنؤجل الأمر إلى الليل، وبينَما تكون مولاتي بالمرقص الذي سيُقام الليلة الآتية في بلاط القيصر أتمِّم أنا وإيفان اللازم.
فأطرقت فاننكا برأسها ثم قالت: نعم، يجب عليَّ أن أذهب الليلة إلى المرقص، أوَّاه، ما أقسى واجبات الحياة! ومع ذلك فأنا مضطرة إلى الذهاب خشيةَ أن تتنبَّه لغيابي الظنون.
وعند ذلك اتجهت أنوشكا نحو الجثة، وقالت لمولاتها: ساعديني يا مولاتي على حمله، فلست أقوى وحدي.
فبُهتَت فاننكا وعلاها الاصفرار، ولكنها تشجَّعت، فأعانت وصيفتها على حمل جثة حبيبها، ووضعها في الصندوق، ثم أغلقت أنوشكا الصندوق، ووضعت مفتاحه في نطاقها وألقت الفتاتان صُرَر الملابس فوقه كما كانت إخفاءً له عن الأنظار.