الفصل الثاني عشر
أشرق الصباح، واستيقظت الطبيعة وهي في جلالها وعظمتها لاهية عمَّا يدور في هذا الكون من الحوادث والوقائع، وكذلك الأيام تدور بالناس فتتقلب الدول ويتغير وجه الأرض، ولا يختلف سَيْر الليل والنهار …
ولمَّا رَقَت الشمس قبة الأفق نزلت فاننكا؛ لتناول طعام الإفطار، وقد مضى الليل دون أن يطرق جفنها المنام، وكان لونها باهتًا ووجهها شاحبًا كأنها صنم من الرخام، فظن والدها أن ما بها تأثير إقلاقها في الليلة الماضية فلم يسألها عن تغيرها، وقد أحسنت فاننكا بقولها لأبيها إن فيدور سافر؛ فلذا لم يسأل الجنرال عنه، بل بلغ حاشيته أنه أرسله في مأمورية.
ولازمت فاننكا غرفتها طول النهار، ولما أمسى المساء استعدت للذهاب إلى المرقص، وقامت لتتزين بحليها وحللها، وما أصعبها زينة وما أقسى! واضطرت فاننكا إلى الذهاب للمرقص لأمرين؛ الأول: خوفها من أن ينزعج والدها إذا تظاهرت بالمرض رجاء البقاء في القصر؛ فيبقى الجنرال معها ويستحيل مع بقائه نقل جثة فيدور. والثاني: خشيتها مقابلة إيفان في غرفتها وهو مطَّلع على دخيلة أمرها، ففضَّلت الذهاب إلى المرقص مرغمة وتزينت أجمل زينة.
ولمَّا أتمَّت زينتها أمرت أنوشكا فأغلقت الأبواب، ثم اتجهت فاننكا قاصدةً غرفة الوصيفة عازمةً أن تودع حبيبها الوداع الأخير، فدخلت الغرفة وهي مزيَّنة كعروس أُعدَّت للزفاف، ولكنها سارت بخطًى مضطربة ووجه شاحب وهي في ثوبها الأبيض كأنها شبح خارج من بعض القبور، ولمَّا بلغت الصندوق رفعت غطاءه أنوشكا فركعت بجواره فاننكا، ومدَّت يدها دون أن تسقط من عينيها دمعة أو يصدر من صدرها تنهُّد لفرط الحزن واليأس، فانتزعت من إصبع الفتى خاتمًا وضعته في إصبعها بين خاتمَين ثمينَين، ثم انحنت على الصندوق فقبَّلت فيدور في جبينه القبلة الأولى والأخيرة، ثم قالت: الوداع يا خطيبي!
وفي تلك الساعة سُمِع وقع أقدام متجهة نحو الغرفة، فأقفلت أنوشكا الصندوق، وقصدت فاننكا الباب بنفسها ففتحته فوجدت خادمًا من أبيها يسألها: هل أتمَّت زينتها؟ فسارت فاننكا وراء الخادم وهو ينير أمامها الطريق قاصدةً أباها تاركةً لأختها في الرضاع إتمام المهمة التي عهدت بها إليها.
ونظرت أنوشكا العربة المُقلَّة لسيدتها وأبيها خارجةً من القصر، فانتظرت برهة ثم قصدت أخاها إيفان السائق الذي مرَّ بنا حديثه في بدء الرواية، فوجدته يتعاطى الراح مع جريجوار، وجريجوار فرحان جذل بما ناله من الجنرال، وكان الخادمان في بدء الشرب ولم تلعب الخمرة منهما بالرءوس بعد، فدعت أنوشكا أخاها وقصدت به غرفة مولاتها، وهناك قصت عليه الأمر وأعلمته ما تنتظره منه من المساعدة، وأبلغته ما وعدته به سيدتها فاننكا من الخير والبر الكثير جزاء خدمته وكتمانه. فأقسم إيفان بالأيمان المُغلَّظات ليخلصَنَّ لسيدته الخدمة، ويكتمَنَّ السر ما عاش، فدخلت به أنوشكا عندئذٍ إلى غرفتها، ورفعت غطاء الصندوق، فلمَّا رأى العبد جثة فيدور بُهِت ووقف منذهلًا حائرًا، ولكن خطر بباله ما وعدته به فاننكا عن لسان أخته فتشجع وتحمس، ثم سأل أخته أن تنتظره قليلًا، وبدلًا عن أن يعود إلى جريجوار ومجلسه ذهب فجهَّز مركبةً من مركبات النقل، ووضع بها فأسًا وحمَّلها تبنًا، وقصد بها بابًا صغيرًا في أحد جوانب القصر، ثم صعد إلى أنوشكا بعد أن تأكَّد خلوِّ المكان من الرقيب، فحمل جثة فيدور إلى المركبة ودفنها في التبن، وسار في ظلام الليل مخترقًا شوارع سان بطرسبرج المُقفِرة حتى وصل إلى نهر النيفا، وهناك وقف بعربته في ظل كنيسة القديسة مجدلينة وسترَهُ الظلام، فتناول الفأس وقصد النهر وكان الوقت شتاءً، وقد غشي الماء طبقة من الجليد، ففتح إيفان فُرجَة في الجليد، ثم رجع إلى العربة فأخذ ما على فيدور من دراهم، وقصد بجثته الفُرجَة فألقاها حيث حملتها مياه النيفا نحو خليج فينلندة سائرةً بها في طريقه الأبدية …
وبعد برهة رجع إيفان إلى القصر، وأخذت الفُرجَة تضيق بفعل البرودة؛ حتى التحم الجليد وعاد ظهره مستويًا كما كان، يكاد سناؤه يضيء ظلمة الدجى.