الفصل الرابع عشر
مضى شهران على ما مرَّ بنا من الحوادث، وسرُّها مكتوم عمَّن في القصر أجمع، وذات يوم استدعى الجنرال شرميلوف ابنته إليه، فأوجست خيفةً لهذه الدعوة، وكانت منذ الليلة المشئومة تترقب شرًّا من أبسط الأمور، إلا أنها جمعت قواها واتجهت نحو مكتب أبيها فوجدته منفردًا ووجهه متهلل بالبِشْر والسرور، فاطمأنت واقتربت منه فقبَّلها في جبينها قبلته الأبوية المعتادة، وأشار لها بالجلوس فجلست، ثم مدَّ إليها يده بخطاب مفتوح، فأخذته متعجبةً، وأجالت نظرها في صفحاته وإذا به يتضمن موت خطيبها ابن المشير، حيث قُتِل في بِرازٍ مع بعض أعدائه.
وأخذ الجنرال يتتبع تأثير هذا الخبر على نفس ابنته، ولم تكن فاننكا مع شجاعتها وقوة عزيمتها لتتمكَّن من إخفاء عواطفها في مثل هذه الحالة، وأيُّ قلم يتمكَّن من وصف ما خالجها إذ ذاك من عوامل الأسف والندامة وعذاب الضمير، لا سيَّما وقد أصبحت خالصةً من وعود أبيها ولها حرية الاقتران بمَن تشاء.
وقد عزى الجنرال ما لمحه من اضطراب ابنته إلى حبها لفيدور، ذلك الحب الذي تجتهد أن تخفيه عن الناس، ولا تكاد تنمُّ به ظواهرها، فتبسم وقال لها مطمئنًا: هيا يا ابنتي، وقرِّي عينًا فقد تمهدت الأمور.
فأجابته فاننكا: وكيف ذلك يا أبتي؟
قال: ألم يبتعد عنا فيدور بسبب حبه لك؟
أجابته: نعم.
قال الجنرال: إذن فمتيَسِّر له العود الآن.
فصمتت فاننكا وارتجفت شفتاها، وبعد برهة من السكوت قالت: العَوْد …
أجابها الجنرال مبتسمًا: نعم العَوْد؛ لأن بُعْده عنَّا يؤلمنا، فاجتهدي يا فاننكا في معرفة مقرِّه وعليَّ إتمام الباقي.
قالت الفتاة بصوت يكاد يقطعه اليأس: ما من أحد يعلم مَقرَّ فيدور، نعم، ما من أحد إلا الله.
فصاح بها الجنرال قائلًا: ماذا تقولين؟ ألم يراسلك إذن أو يُحِطْك علمًا على الأقل بمكانه منذ سفره؟
فهزت الفتاة رأسها علامة السلب، وقد حال حزنها وضيق صدرها دون الكلام، فانقبض الجنرال لذلك وسألها قائلًا: وهل تخشين أن يكون أصابه حادث؟
أجابته فاننكا وقد بلغ منها الحزن مبلغًا عظيمًا: إنني أخشى ألا يعود لي صفو ولا راحة في هذه الحياة الدنيا.
وسكتت برهة، ثم قالت: اسمح لي يا أبتي بالانسحاب، فإنني خجلة مما تفوهت به.
فقبَّل الجنرال ابنته، وقد ظن أنها تأثرت من اعترافها بحب فيدور، وسمح لها بالذهاب ولم يفقد الأمل من لقاء فيدور رغمًا عن انقلاب هيئة فاننكا.
وفي اليوم نفسه توجَّه الجنرال، فقابل القيصر وبلَّغه قصة فيدور وابنته واستأذنه في الجمع بينهما لوفاة الخطيب الأول، فأذن به ثم أعلمه الجنرال خبر اختفاء فيدور، والتمس منه أن يأمر بالبحث عنه، وكان لشرميلوف مَعَزَّة لدى القيصر؛ فاستحضر القيصر في الحال مدير الضابطة، وكلَّفه بالبحث الدقيق في جميع أرجاء المملكة عن الفتى الغائب.
وانقضت ستة أسابيع أفرغ فيها الجنرال والشرطة جهدهما ولم يقفا لفيدور على أثر.
أمَّا فاننكا فزاد عليها الحزن واليأس من يوم تلاوة الخطاب، فاعتزلت في غرفتها مستسلمة لهمومها، وكلما حاول الجنرال تطمين خاطرها ازدادت كآبةً وانسحبت من مجلسه؛ حتى ظن أن ذِكْر فيدور يهيِّج أشجانها، فلم يكلمها بخصوصه بعد، وكان فيدور محبوبًا من حاشية القصر أجمع عدا جريجوار الخائن، فلمَّا علم الخدم أنه لم يُرسَل في مأمورية — كما قال سيدهم — بل اختفى بغتةً، ولم يوقف له على أثر، اغتمُّوا لهذا الخبر، وصار ذِكْر فيدور وغيابه موضوع حديثهم في مجالسهم يتساءلون كل يوم عن نتيجة الأبحاث عنه، ويسألون الله أن يرده لهم سالمًا؛ لكرم أخلاقه وحسن معاملته.