الفصل السابع عشر
أصبح القوم في بطرسبرج ولا حديث لهم إلا حريق «الحانة الحمراء»، وقد استُخرِج من تحت الرماد أربع جثث عُرِفَت من بينها جثة صاحب الحان، أمَّا الجثث الثلاث الأخرى فعُلِم فيما بعد أنها جثث ثلاثة من خُدَّام قصر شرميلوف؛ لأنهم خرجوا قاصدين الحانة ولم يعودوا منها، وبقيَ سرُّ الحريق مكتومًا، وقد تضاربت فيه الظنون، خصوصًا وأن موقع الحانة كان منفصلًا عن المدينة، وكانت الطريق قفرةً في ليلة الحريق والزوابع عاصفةً، وهكذا أمنت فاننكا شرَّ ما فعلت لموت سرِّها بموت مَن أذاعوه، ولكن أخلف الخوفَ عذابُ الضمير وكانت الفتاة نقيةً، فثقلت عليها جريمتها التي ساقتها إليها الظروف القاسية، فلم يطب لها عيش، ولم تهنأ لها حياة وصارت تتصوَّر أمامها الحوادث التي مرَّت بها فتُكدِّر عليها أيامها.
ومن مبادئ النصرانية أن الخَطِيَّة تخفُّ بالاعتراف بها للرئيس الدينيِّ المُكلَّف بقبول الاعتراف، وأن كل خَطِيَّة لم يُعترَف بها لا تُقبَل عنها التوبة إلى الأبد، وحكمة الاعتراف الإقرار بالذنب مع الندامة إذلالًا للنفس وردعًا لها.
ورأت فاننكا أن تعترف بخطاياها، فقصدت أحد البوبات الأتقياء (والبوب: الرئيس الديني عند الروسيين)، فقصَّت عليه أمرها والتمست منه المغفرة، فأطرق الكاهن برهةً مندهشًا لفظاعة ما أتته الفتاة، ثم رفع رأسه إليها رافضًا ما طلبته من المغفرة، فكادت تُصعَق فاننكا لهذا الرفض؛ لأنه يحرمها من تناول القربان في الكنيسة ويقصيها عن المائدة المقدسة (وهي المائدة التي يُجهَّز عليها القربان)، ولا يُقصَى عنها إلا كل مَن أتى خَطِيَّةً لم يُسمَع بمثلها أو جناية بقي خبرها مكتومًا، فارتمت الفتاة على أقدام الكاهن تطلب منه الرحمة بها والشفقة عليها؛ لئلا يستجلب هذا الرفض تحويل الأنظار إليها وهتك سترها، فأطرق الكاهن برهةً، ثم سمح لها بحضور الكنيسة مثل رفيقاتها والاقتراب من المائدة المقدسة، لكن دون أن تتناول شيئًا من القربان.
وعلى ذلك ترك البوب كرسي الاعتراف، وسار قاصدًا منزله مضطرب الفِكْر والحواس، وبقيت فاننكا في الكنيسة وقد دخل الليل فأثَّر عليها خلوُّ المكان وهيبته وظلام الليل، مع ما هي فيه من الحزن واليأس، فازدادت كآبتها وقامت قاصدة القصر مثقلةً بالهموم.
ودخل البوب منزله، فوجد زوجته إليصابات في انتظاره، وقد أرقدت ابنتهما أرينا في الغرفة المجاورة لغرفتهما، ولمَّا شاهدت إليصابات انقلاب سحنة زوجها انزعجت، وسألته عمَّا به فطيَّب خاطرها، وكانت المرأة ثرثارة فألحَّت عليه؛ لتعلم سبب اضطرابه، لا سيَّما وأنها علمت بالأمس أن أمها مريضة، فخشيت أن يكون بلَغَه عنها خبرٌ يسوء وقْعُه، فأجهشت للبكاء، وقالت: لقد ماتت أمي.
فحاول الكاهن عبثًا أن يطمِّنها، وأقسم لها أن منشأ اضطرابه غير ما تظن، لكنها لم تقتنع واندفعت في البكاء، فاضطر أن يقول لها إن سبب ذلك الاضطراب سماعه اعترافًا في الكنيسة بجريمة لم يُسبَق لها نظير، فصاحت به المرأة قائلة: مَيْن وخداع، إنَّما أنت تحاول إخفاء الحقيقة.
وللحال تولَّتها نوبة عصبية شديدة، فلم يجد الكاهن بدًّا من أن يقصَّ عليها ما سمعه في الكنيسة مفصَّلًا؛ ليُذهب عنها رَوْعها، فاستحلفها كتمان الأمر، وهكذا خان «سرَّ الاعتراف» وفرَّط في أول وأقدس الواجبات الدينية التي فرضتها عليه وظيفته.
وكانت ابنتهما الصغيرة أرينا قد استيقظت على صوت المحاورة والبكاء، فهبَّت من فراشها، وبعثها حب الاطلاع إلى الإصغاء على باب الغرفة، فسمعت كل ما دار بين أمها وأبيها.
وأقبل يوم تناول القربان، فامتلأت الكنيسة بجماهير المصلين، وكانت فاننكا في مقدمة الصفوف جاثيةً أمام الهيكل ومعها أبوها وأركان حربه، ووراء الجميع خَدَمة القصر، وكانت أرينا وأمها من الحاضرين، فاشتاقت البنت أن تتبيَّن وجه تلك التي سمعت والدها يقصُّ عنها أفظع الأعمال، فتركت أمها تصلي واقتربت من الهيكل؛ لتشاهد فاننكا، ولكنها صادفت خَدَمة الجنرال فمنعوها من التقدم، لكنها قاومتهم راغبةً المرور بين صفوفهم، فدفعها بعضهم بقوة؛ فسقطت وأصابت رأسَها سُلَّمُ الهيكل فانجرحت، وقامت الابنة تولول وتصيح ودمها يسير، وأخذت في سب الخادم الذي دفعها قائلةً: إنك أحقر من أن تتجرأ على مثلي، أفمُعجَب أنت بلحيتك؟ أم مفتخر بتبعيتك لتلك السيدة التي أحرقت الحانة الحمراء؟
وكان السكوت شاملًا والقوم في انتظار الصلاة، فوقعت هذه الكلمات كالرعد، وسمعها كل مَن في الكنيسة، وفي الحال تبعها صوت مزعج صادر من جهة الهيكل، وكانت تلك فاننكا قد أُغمِيَ عليها.