الفصل الثالث
في الزمن الذي وقعت فيه حوادث روايتنا كانت فرنسا ضامَّةً لسلطتها ما وراء جبال الألب من البلاد السويسرية والإيتالية التي افتتحها نابليون بونابرت الشهير، وكانت جنودها موزَّعةً على تلك البلاد؛ لحمايتها ورد المطامع عنها، ولمَّا رأت بعض دول أوروبا اتساع سلطان فرنسا أرادت مناوأتها؛ فانضمت الروسيا — وهي حديثة العهد في مضمار السياسة — إلى النمسا، واتحدت الدولتان على مقاومة الجنود الفرنساوية ومناصبتها العداء، فجرَّدت الروسيا جيشًا عهدت بقيادته إلى الفلدماريشال سوفاروف الشهير (وكان فيدور من ضباط هذه التجريدة كما سبق التلميح في الفصل السابق) وأرسلته للِّحاق بجيش النمسا في ميدان الحرب، فسافر الجيش الروسي مخترقًا الأراضي الألمانية فأشرف على إيتاليا بعد أن جاز جبال التيرول، ثم دخل مدينة فيرون في ١٤ أبريل سنة ١٧٩٩، وحينذاك ضمَّ سوفاروف جيشه إلى جيش الجنرال ميلاس النمساوي وتولَّى قيادة الجيشَين.
وفي الغد اقترح عليه أحد القواد أن يرسل الطلائع لاستكشاف العدوِّ، فنظر إليه سوفاروف متعجبًا، وقال: إني لا أدري واسطة لاستكشاف العدوِّ أبسط من أن أسير إليه توًّا وأهاجمه.
وتلك كانت خطة سوفاروف الحربية، وبها انتصر على الجيش التركي في واقعتَي فولكشاني وإسماعيلوف، وبها افتتح بولونيا بعد تجريدة لبثت ثمانية أيام، وبها استولى على براجا في أقل من أربع ساعات، حتى أُعجبت كاترينة قيصرة الروسيا بإقدامه؛ فأرسلت إليه تاجًا من أغصان السنديان محلًّى بالأحجار الكريمة، تبلغ قيمته ستمائة ألف روبل روسية، وأهدته صولجان القيادة من الذهب الخالص مرصعًا بالماس، وقلَّدته رتبة الفلدماريشالية العظمى (وهي رئاسة الجيوش العامة) ومنحته أن يسمِّيَ فرقةً في الجيش باسمه إلى ما شاء الله، ولمَّا رجع من الحرب أقطعته ضِياعًا واسعةً بها ثمانية آلاف من العبيد لخدمة أرضها، ولم يكن سوفاروف مع كل ذلك ابن قائد أو أمير، بل كان أبوه ضابطًا بسيطًا في الجيش الروسي، ولم ينل ما نال إلا بجدِّه واجتهاده، فما أجملَهُ مثالًا لمَن يريد التشبه بأعاظم الرجال في جليل الأعمال! ولقد نظر فيدور لرئيسه الأعظم فوجده القدوة المثلى التي يجب عليه السير على خطتها، ومثال الغاية التي ترمي آماله إليها، فأصبح وأمسى لا يفكر إلا في أنه يبلغ يومًا مبلغ ذلك القائد العظيم، وما ذلك على الراغب العامل بعزيز، فيكون من فيدور سوفاروف القرن التاسع عشر، وخير خلف لخير سلف.
وكان سوفاروف قوي العزيمة ثابت الرأي مقدامًا جسورًا، فساعدته هذه الصفات على مطاردة جيوش الجمهورية الفرنساوية، وكانت تحت قيادة الجنرال شرر، وكان شرر هذا متزعزعًا في الرأي لا يثبت على فكر، فكان من نصيبه التقهقر دائمًا أمام عدوه، لا سيَّما وأن جيشه لا يبلغ الثلاثين ألفًا، على أن جيش الروسيا والنمسا كان ينوف عن مائة ألف مقاتل.
وقد بدأ سوفاروف العدوَّ كعادته بضربة كادت تقضي عليه، فإنه حاصر مدينة برشيا في العشرين من أبريل، فحاولت المدينة الدفاع فلم تكن إلا نصف ساعة أمطرت فيها القنابل حتى قُضِيَ الأمر وافُتتحَت أبواب المدينة عَنوةً، ودخلتها فرقة من الجيش وفي مقدمتها أورطة فيدور، فطاردت حاميتها فلجأت الحامية — وكانوا ألفًا ومائتَي رجل — إلى قلعتها وامتنعوا فيها، ولكن لمَّا رأى قائد الحامية — وكان فرنساويًّا يُدعَى بوكريه — أن العدوَّ لا يكلُّ عن متابعته وقد تسلق جدران القلعة وراءه؛ طلب الأمان وسلَّم السلاح فأُخِذَ أسيرًا هو ومَن معه.
وبعد هذه النصرة عبر سوفاروف بجيشه نهر الأوليو، وقسَّم جنوده فِرَقًا حاصرت المدائن، وتحصَّنت في المواقع الحربية المنيعة، فانتشر بذلك الجيش على خطٍّ طوله ثمانية عشر فرسخًا من الأرض قد شغلها برَجْلِه وخيله.
أمَّا شرر فقد عجز عن المقاومة أمام هذه القوى الهائلة، فركن إلى القهقرى، وهدم في طريقه كل الجسور التي كان أقامَها على نهر الأدا؛ حتى لا يتحمل أعباء الدفاع عنها، ثم نقل معسكره العام إلى ميلانو، ولبث فيها ينتظر ردَّ جواب أرسله إلى حكومة الديركتوار الفرنساوية يقدِّم فيه استعفاءه، ويطلب مَن يخلفه على الجيش، ولمَّا طال عليه الانتظار، ورأى أن جيوش سوفاروف لا تزال تحثُّ وراءه السير؛ خاف عاقبة الأمر، فعهد بقيادة الجيش إلى مَن توسَّم فيه الكفاءة من ضباطه، فكانت القيادة من نصيب مورو، ولمَّا بلغ الأمر الجيش هلَّل له واستبشر، ولمَّا تجلَّى عليه قائده الجديد هتفت الجنود صائحة: «ليعش مورو، ليعش مخلِّص جيش إيتاليا»، فأثَّر هذا الإخلاص وتلك الحميَّة في نفس مورو حتَّى ألهياه حينًا عن خطر الموقف الذي أصبح فيه الجيش، وكان العدو قد حصره من الجناحَين والأمام، ولا بد من مقاومته من جيش يبلغ عدد جيشه؛ لينتشر أمامه صفوفًا موازيةً لصفوفه على مسافة عشرينَ فرسخًا على الأقل، وجيش الفرنساويين دون ذلك بكثير.
فلم يجد مورو طريقةً أسلم من مقاومة العدوِّ بمنعه عن عبور نهر الأدا بأي واسطة كانت؛ حتى تصل إليه النجدة التي ينتظر ورودها، فقام يتولَّى الدفاع عن قنطرة كسانو، وهي المعبر الوحيد للنهر؛ فحصَّنها وأقام على رأسها الطوبجيَّة، وعزَّزها بالنقط الأمامية المُحصَّنة.
وكان مورو بصيرًا فلمَّا رتَّب أمره كما ذكرنا؛ حفظ لنفسه خط الرُّجعى، ومهَّد لجيشه سبيل الوصول إلى جبال الأبنين أو شواطئ جنوة إن لحق به الانكسار.
ولم يكد يفرغ مورو من استعداداته الحربية حتى بلغه خبر دخول سوفاروف مدينة تريفليو وتسليم مدينة برغامة وقصرها، فأقام في مكانه ينتظر العدوَّ حتى لاحت طلائعه في اليوم الخامس والعشرين من أبريل.
ولما وصل سوفاروف عسكر بجنوده على مرمى المدفع من النقط الأمامية الفرنساوية، وكانت جيوشه ضعف جيوش الفرنساويين.
وفي المساء أرسل فيدور خطابًا إلى الجنرال شرميلوف يقول فيه: «صرنا أمام الفرنساويين وجهًا لوجه، وستكون غدًا واقعة هائلة أتعشَّم ألا تغرب شمسها إلا وأنا ملازم أول أو صريع بين القتلى.»
وفي الغد سُمِعَ دوِيُّ المدافع من جناح الجيشَين، حيث اشتبك بينَهما القتال، ولكن دُحِرَ جناح الفرنساويين الأيمن، وصُدَّت غارةُ الروسيين عن جناحه الأيسر، وأقبل الليل بظلامه؛ فاغتنم فرصته الروسيون فأصلحوا القنطرة التي كان هدمها الفرنساويون، وأقاموا أخرى على فرسخَين منها، وقد تمَّ إنشاء القنطرتَين دون أن تشعر به النقط الفرنساوية.
وفي الساعة الرابعة من الصباح عبر النهرَ قسم عظيم من جيش سوفاروف، فباغت النقط الفرنساوية التي صادفها في طريقه، والسرِيَّات التي أتت لتعزِّز قلب الجيش الفرنساوي، واشتبك بين الفريقَين قتال عنيف، أظهر فيه رجال بونابرت ما يشهد بشجاعتهم وشهامتهم، إلا أنهم اضطروا إلى التقهقر لكثرة عدد العدوِّ، وبينما هم في حال من الضيق شديد إذ سمعوا أصواتًا آتيةً من خلفهم، وكانت تلك نجدة أرسلها مورو لتدرك الفِرق التي هاجمها الروسيون، فأتت والقوم في أشد الحاجة إليها.
ولمَّا اعتزَّت جنود الفرنساويين بهذه النجدة هاجمت الأعداء واضطرتهم إلى التقهقر، ودام الفريقان في أخذ ورد، حتى وافت نجدة من النمساويين؛ فاضطر الفرنساويون إلى الانسحاب لقرية بوتزو، ولبثوا هناك ينتظرون قدوم العدو؛ فوافاهم بعد قليل، وانحصر القتال في بوتزو؛ فأُخذَت القرية واستُرِدَّت ثلاث مرات متوالية، وفي الرابعة كَلَّ الفرنساويون لتكاثر العدو عليهم؛ فاضطروا أن يخلوها. وكان بين الفرنساويين قائد يُدعى الجنرال بيكر لم تسمح له نفسه بالقهقرى؛ فلبث مع بعض رجاله يقاتل الأعداء؛ حتى خلت من حوله أعوانه صرعى، فاضطر أن يسلم نفسه أسيرًا لبعض ضباط الروسيين. أما الفرنساويون المنهزمون من الفرق المباغتة، فقد فرَّقت بينهم فرسان النمساويين؛ فقصدت كل فرقة قرية تحصنت فيها.
وفي تلك الأثناء انحصر القتال أمام قنطرة كسانو؛ فهاجم ميلاس ومعه ٢٠ ألف رجل الاستحكامات الأمامية للقنطرة، وما زال يهاجمها برجاله ويرد عنها ثلاث مرات فُقِدَ منه فيها ألف وخمسمائة مقاتل، وهو كل مرة تنجده فرقة من أتباعه؛ حتى اضطر الفرنساويون في المرة الرابعة أن ينحازوا إلى الاستحكامات الداخلية المُقامَة على رأس القنطرة نفسها، وكان مورو قائد الدفاع بذاته، فانتشب هناك قتال تشيب له الأطفال، فكانت القنابل تطيح الرءوس والموت يحصد النفوس، ولا زالت النجدات تتوالى على النمساويين، وقد اتخذوا من جثث رفاقهم سُلَّمًا ارتقوا عليه ذروة الاستحكامات، حتى رأى مورو أن الدفاع لا يُجديه نفعًا، فأمر بالقهقرى، ولبث بنفسه فوق القنطرة؛ ليحفظ لجيشه سبيل المرور، وكانت معه فرقة من الفرسان لم يبقَ منها حوله بعد نصف ساعة سوى ١٢٠ نفرًا، وكان فيمن قُتِل حوله ثلاثة من أركان حربه العظام، ولمَّا تمكَّن الجيش من العبور بلا طارئ؛ تبعه مورو، وما كاد أن يصل الضفة الثانية من النهر حتى ظهر النمساويون في طرف القنطرة من الضفة الأولى وأسرعوا في لحاقه، ولكن لم تكن إلا طرفة عين حتى سمع الفريقان صوتًا غلب دويَّ المدافع وشاهدا القنطرة قد انقضَّت بمَن عليها من فِرق النمساويين.
وفي ذلك الحين رأى مورو الفِرق التي كانت بعيدة عنه قد آبت منكسرة تتبعها الأعداء، فضمَّها إليه وأدار وجهه للعدو يكافحه، وتمكَّن ميلاس في تلك الفترة من إعادة بناء القنطرة؛ فعبر عليها بجموعه؛ فانحصر مورو من جناحيه وأمامه بجيوش تعادل عدًّا ثلاثة أمثال جيوشه، ولمَّا رأى ضباطه ذلك التمسوا منه أن يأمر بالقهقرى؛ لأن حفظ إيتاليا متعلق بسلامته، فقاوم أفكارهم مورو حينًا من الزمن، وكان مدركًا جسامة الخطر الذي وقع فيه وعِظَم الخسارة التي تنجم عن انهزامه، فرأى أن الموت خير له من البقاء بعد الهزيمة، وما زال يكافح ليحفظ لباقي جيشه خط الرُّجعى، حتى تساقطت من حوله رجاله صرعى في ميدان الوغى، ولبث القتال ثلاث ساعات أتت فيها مؤخرة الجيش الفرنساوي بالمدهشات، ولمَّا رأى ميلاس أن معظم جيش العدو قد أفلت من يده، وأن رجاله قد مَلَّت القتال أمر بالكفِّ عن الحرب، وكانت الجيوش الفرنساوية قد تمت هزيمتها بعد أن فقد ٢٥٠٠ رجل و١٢٠ مدفعًا.
وفي المساء دعا سوفاروف الجنرال بيكر الأسير إلى تناول الطعام معه وسأله عمَّن أسرَه، فأجاب أنه ضابط حديث السن من الفرقة الأولى التي دخلت بوتزو، فتحرَّى القائد العام عن ذلك الضابط فعلم أنه فيدور روميلوف، حيث كان قادمًا ليقدِّم لرئيسه سيفَ الجنرال المأسور، فدعاه سوفاروف إلى الطعام معه وأسيره، وفي الغد كتب فيدور إلى الجنرال شرميلوف يقول: «لقد قمت بوعدي، وصرت ملازمًا أول، وقد التمس لي الفلدماريشال سوفاروف من جلالة القيصر رتبة سان فلاديمير.»
قد أقبل جيش الإمبراطور الرسولي والقدسي إلى هنا، وما غرضه من الحرب إلا تأييد سلطة الدين ورؤسائه في إيتاليا، وردُّ حكومتها القديمة إليها.
فاتحدوا معنا — أيُّها الشعوب — باسم الرب والدين؛ لأننا حضرنا بجيش من ميلانو وجيش من بليزنسه لخلاصكم.
وقد وقعت بعد ذلك جملة وقائع كان سوفاروف فيها المنتصر، ولكنها أضعفت جيوشه وأنهكت قواها، وبينما القائد الروسي مستعد لمتابعة السَّير حسب الأوامر التي لديه إذ وافاه خطاب من المجلس الأعلى بفينَّا يقول: إن الدول المتحالفة قررت الإغارة على أرض فرنسا، ورسمت لكل قائد خطة سيره، وهي تأمر سوفاروف أن يقصد فرنسا عن طريق سويسرا. وكان مع سوفاروف ٣٠ ألف مقاتل روسي؛ فانضم إليه ٣٠ ألفًا أخرى من الجيش الاحتياطي تحت قيادة كوساكوف، ونحو ٣٠ ألفًا من النمساويين تحت قيادة الجنرال هوتز، ونحو ٦ آلاف من مهاجري الفرنساويين الثائرين على حكومتهم تحت قيادة البرنس ده كوندي، فبلغ جيش سوفاروف بذلك نحو خمسة وتسعين ألف مقاتل.
وقد أصيب فيدور بجُرح في إحدى الوقائع، فأَنعم عليه جزاء شجاعته بوسام آخر، ورُقِّي إلى رتبة يوزباشي، فعجَّل السرور شفاءه حتى تمكَّن من اللحاق بالجيش في ١٣ سبتمبر لمَّا تحرك قاصدًا جبال سويسرا.