الفصل السابع
ودام الحال على ما وصفنا أشهرًا معدودات كان يظنها في البدء فيدور منتهى السعادة، فما لبث أن رآها منتهى العذاب، ولطالما تمنَّى قبلها أن يجمعه الدهر بمالكة فؤاده، فلمَّا تحقَّقت أمانيه وأصبح قريبًا منها يراها كل آنٍ، وتلتقي عيناه بعينيها ويستنشق عبير طيبها، يلازمها إن خرجت ويرافقها أنَّى سارت، رأى نفسه مضطرًّا أن يكتم عواطفه ويخفي هواه، فلا تظهر منه إشارة ما تفضح أسرار غرامه، ولعمري إنه لعذاب تعجز عن احتماله طبيعة البشر، وأي نفس تقوى على هذا الجهاد؟ وقد لاحظت فاننكا أن فيدور لا يستطيع كتم هواه طويلًا، وخشيت أن يفيض به الوجد يومًا فينفضح سره على غير ما تهوى، أو يقتله الكتمان كما يمزِّق بخار الماء — إذا اشتدت به الحرارة — جدران الإناء الذي يحتويه، ولو كانت من حديد أو فولاذ، فعزمت على مفاتحته في الأمر.
وذات يوم رأت فاننكا نفسها منفردة مع فيدور، فشاهدت محاولة الفتى عبثًا كتمان ما به، ومجاهدته نفسه على غير طائل، فتمثَّلت أمامه ونظرت إليه مثبتة عينيها في عينيه قائلة: أتحبني يا فيدور؟
فاختلج على الفتى، وتلعثم لسانه؛ فضم يديه إلى صدره وتمتم قائلًا: العفو … العفو … يا مولاتي.
فقالت له: علامَ تطلب العفو يا فيدور؟ أليس حبك طاهرًا؟
فأجابها: آهٍ يا مولاتي، إن حبي طاهر، وعلى قدر طهارته يأسي عظيم.
فقالت له: وممَ اليأس يا صاحبي؟ أليس أبي يحبك كولده؟
فصاح فيدور قائلًا: ماذا تقولين يا مولاتي؟ وهل إذا رضي والدك تتنازلين …؟
فقاطعته قائلة: ألستَ شريفًا أصلًا ونفسًا يا فيدور؟ فماذا أروم فوق ذلك؟ أتظن أن فقرك يحول بيننا؟ كلا؛ فإن ثروتي تكفينا نحن الاثنين.
فقال لها فيدور: إذن، إذن، فمولاتي تتكرم بإعارتي جانب اهتمامها.
فأجابته: على الأقل أفضِّلك على كل مَن رأيت.
فمد الفتى يده شاكرًا، وقال: فاننكا.
كأنه يرجوها أن تسمح له بتقبيل يدَيها، فابتعدت الفتاة بحركة كبرياء ألزمت الفتى مكانه، فتمتم معتذرًا: عفوك يا مولاتي، إني رهين إشارتك فأمُرِي بما تشائين، فلا إرادة لي أمام إرادتك، وإنني أخشى أن تمسَّ عواطفي شريف إحساساتك، فأرشديني أأتمر بما ترشدين.
فأجابته: إن ما أنصحك به يا فيدور هو أن تبدأ بالتوجُّه إلى أبي وتخطبني منه.
قال: إذن، فتسمحين لي أن أسعى ذلك المسعى؟
أجابته: نعم، ولكن على شرط.
قال: ما هو؟
قالت: ألَّا يعلمَ والدي مهما كانت إجابته أنك توجهت لخطبتي منه بناءً على رغبتي، وألا يعلمَ أحد أنك تتبع ما ألقيه إليك من التعليمات، أو يبلغَنَّ أحد ما دار بيننا الآن، ثم ألا تطلبَ مني مهما كان الحال أن أمدَّك بغير صلواتي وابتهالي إلى الله أن ييسر لنا الأمور.
فأجابها فيدور: لكِ ما تشائين، وإني حريص على ما تأمرين؛ فإنك منحتني فوق ما كنت آملُهُ، ولكن إن رفض والدك طلبي، أفلست تشاركينني في أحزاني وتشاطرينني في مصابي؟
فقالت فاننكا: بكل جوارحي، ولكن أتعشم ألا يتمَّ إلا كل خير، فاجعل الأمل رائدك والشجاعة دليلك، وإذا عزمت فتوكل على الله.
وخرجت فاننكا؛ لتخفي ما ألمَّ بها بعد أن تركت فيدور منفعلًا من أثر هذه المحادثة أكثر من انفعالها، يكاد لا يملك نفسه من الاضطراب.