الفصل الثامن
التمس فيدور في نفس اليوم الذي مرت بنا حوادثه مقابلة الجنرال، فلمَّا تمثَّل لديه استقبله الجنرال كعادته بثغر باسم ووجه بشوش، فعظم الأمل في قلب الفتى وتشجَّع على بسط آماله، فما كاد يصل إلى المقصود من حديثه حتى تقطَّب وجه الجنرال، فلم يكترث فيدور بذلك التغيُّر، واستمر في سرد قصته، فانفرجت أسرة الجنرال لمَّا تلا عليه فيدور حديث غرامه، وأيَّد له صدق محبته لابنته، وأخبره بأن ما أتاه من جليل الأعمال التي استوجب عليها ثناءه وإكرامه كان مدفوعًا عليها بحب الفتاة، وقد أتاها طمعًا في التوصُّل إليها والتقرُّب منها، وعند ذلك مدَّ الجنرال يده مصافحًا لفيدور، وقال له وقد بلغ التأثر منه أقصاه: ولدي، أشكر عواطفك، وآسف لعدم إمكاني إنالتك متمناك، فإن ابنتي قد خطبها جلالة القيصر مدة سفرك بالحرب لابن مشيره الخاص، فلم يسعني إلا إجابة طلب جلالته، ولم أكن عالمًا حينئذٍ بذلك الحب الذي وعيتَه في صدرك وذهبتَ كاتمًا سرَّه معك، ولم أشاهد له أثرًا لدى ابنتي طول مدة غيابك، ولقد طلبت من جلالة القيصر أن يتكرم بإبقاء ابنتي معي حتى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها؛ لصعوبة فراقها على قلبي، فسمح لي جلالته بهذه المِنَّة، ولم يبقَ لفاننكا إلا خمسة أشهر تمضيها في القصر، ثم تُزَف إلى خطيبها، ولم أفاتحها للآن بشأن هذه الخطبة منتظرًا حلول فرصة مناسبة أكلمها فيها.
فلمَّا سمع فيدور هذه الكلمات التي رشقت فؤاده بسهام اليأس، أظلمت الدنيا في عينيه، والتزم الصمت، وبمَ عساه يجيب وقد صارت الكلمة الآن للقيصر؟ وكلمة القيصر في الروسيا أمر، وأمر القيصر لا يُنقَض ولا يُرَد، بل لا يخطر على قلب بشر في تلك البلاد تصوُّر معارضته، فلازم فيدور السكوت، ولكن ارتسمت على وجهه صورة اليأس والقنوط والكآبة بأجلى مظهر؛ حتى أشفق الجنرال نفسه على حالته ورقَّ لبلواه، فمدَّ له ذراعَيه، فما كان من الفتى إلا أنه ألقى بنفسه في أحضان الجنرال، واستخرط في البكاء والشهيق، وعندئذٍ سأله الجنرال عن ابنته، وهل هي تشاطره الحب وتعلم بما يسعى إليه؟ فأجابه الفتى — حافظًا لعهده مع فاننكا — بأنها لا تعلم شيئًا من هواه، ولا مما يسعى وراءه، وأنه أتى من نفسه يخطبها من أبيها، فارتاح ضمير الجنرال نوعًا وهدأ باله؛ لأنه كان يخشى أن يكون بابنته من الهوى ما بفيدور؛ فتكون البلوى بلوتَين ويعظم الخطب بشقاء الاثنين.
ولمَّا حانت ساعة العشاء نزلت فاننكا لغرفة المائدة، فوجدت أباها منفردًا إذ إن فيدور لم يستطع أن يحضر الطعام أو يقابل الجنرال وابنته مع ما هو فيه من اليأس، فقصد ضواحي المدينة؛ ليفرِّج عن صدره، ولبثت فاننكا وأبوها طول المائدة ساكتَين صامتَين، أمَّا فاننكا فكانت كاتمةً اضطرابها مالكةً عواطفها، فلم يظهر على وجهها ما يوجب الارتياب، أمَّا الجنرال فكان حزينًا مكتئبًا كثير التأمُّل والتفكُّر.
ووافت ساعة تناول شاي المساء، فاستعدت فاننكا للذهاب إلى المكان المُعَدِّ لذلك، وإذا بخادم قد أقبل يحمل إليها الشاي في غرفتها قائلًا إن مولاه الجنرال يشعر بتعب خفيف يمنعه من تناول الشاي كالعادة، فاضطر أن يلازم غرفته، فسألت فاننكا عمَّا به، ولمَّا علمت أنه عارض بسيط اطمأنت وكلَّفت الخادم أن يبلغ تحيتها لوالدها، ويسأله عمَّا إذا كان في حاجة إلى خدمة تقوم بأدائها، فأرسل الجنرال يشكرها قائلًا إنه لا يحتاج إلا إلى راحة وانفراد؛ وعلى ذلك دخلت فاننكا غرفتها وانسحب الخادم، ولم تكد تخلو بنفسها حتى استدعت إليها وصيفتها أنوشكا، وكانت أختها في الرضاع ومستودع ثقتها، فكلَّفتها أن تراقب رجوع فيدور، وتخبرها بمجيئه حال دخوله القصر.
وفي الساعة الحادية عشرة مساءً أقبل فيدور في عربة إلى القصر، فصعد إلى غرفته مثقلًا بالهموم، وانطرح على مقعد خائرًا واستسلم لتيار الأفكار، ولمَّا انتصف الليل سمع قرعًا خفيفًا على باب غرفته؛ فقام منذهلًا وفتح الباب وإذا به يرى أنوشكا، فدعته هذه أن يتبعها في الحال إلى غرفة سيدتها، فتعجَّب فيدور لهذه الرسالة التي لم يكن في انتظارها، لكنه أطاع وتبع الوصيفة.
ولمَّا وصل إلى غرفة فاننكا وجد الفتاة جالسة في ثوب ناصع البياض، وهي باهتة اللون غارقة في بحار التأمُّل، فوقف فيدور على الباب منذهلًا لمرآها على تلك الحال، وقد تصوَّرت له كدمية من الرخام مُعدَّة لبعض القبور، أمَّا فاننكا فرفعت رأسها إليه، وقالت له بصوت جليٍّ خالٍ عن كل اضطراب: تقدَّم.
فاقترب منها وقد جذبه صوتها كما يجذب الحديد المغناطيس، فأغلقت أنوشكا الأبواب، ثم سألته فاننكا قائلة: ماذا كان جواب أبي؟
فقصَّ عليها فيدور ما دار بينه وبين أبيها، وهي صاغية تسمع وبصرها ثابت لنقطة في الفضاء لا يتحوَّل عنها، ولا يقرأ في عينيها أو وجهها ما يدل على ما يتنازعها من العوامل، عدا أن شفتَيها القرمزيتَين صارتا في لون الثوب الذي توشَّحت به، أمَّا فيدور فكان بعكسها لا يكاد يستقر من الانفعال وقد تولَّته حمَّى كادت تفقده صوابه، ولمَّا أتمَّ قصته سألته فاننكا بكل سكون وثبات قائلةً: والآن، علامَ عزمت؟
فأجابها: تسألينني علامَ عزمت يا فاننكا؟ فماذا تريدين أن أفعل؟ لقد لقيت من الجنرال مدة إقامتي عنده كل إكرام وحفاوة، فهل يسعني أن أخونه بمقاومة إرادته؟ كلا، لم يبقَ لي إلا أن أرحل عن بطرسبرج؛ فأقصد أول ساحة للحرب تقابلني فأقاتل فيها حتى أُقتَل والسلام.
فقالت له فاننكا: إنك لمجنون.
وقد قالت له هاتَين الكلمتَين وقد ارتسم على شفتَيها ابتسام يدل على استحقارها ذلك اليأس منه، وتيقَّنت أنها انتصرت عليه بقوة سلطانها وثباتها.
فأجابها الفتى قائلًا: إذن فأرشديني يا مولاتي وأمُري بما تشائين، ألستُ عبدك المخلص المطيع؟
فقالت له فاننكا: يجب عليك ألا تبرح القصر.
قال: كيف أبقى؟
قالت: نعم، يجب أن تبقى، فإن اليأس والانكسار شيمة النساء والصبية الصغار، أمَّا الرجل فإن أراد أن يكون جديرًا بهذا الاسم وجب عليه الثبات والمقاومة.
قال فيدور: المقاومة؟ أقاوم مَن؟ أقاوم والدك؟ كلا …
فقاطعت عليه الفتاة قائلة: مَن يقول لك قاوم والدي؟ إنما يجب عليك مقاومة الحوادث؛ فإن عامة الناس يستسلمون لتيارها، أمَّا الرجل الكامل فلا يندفع في ذلك التيار، بل يوجهه كيفما تقتضي أهواؤه، فعليك أن تتظاهر أمام والدي بمقاومة نفسك ومجاهدة هواك، حتى يتيقن أنك تغلبت عليهما، أمَّا أنا فيظنني والدي جاهلة ما حصل فهو لا يرتاب بي ولا يشك فيَّ على الإطلاق، وسأسأله تأجيل الزواج سنتَين، وأنا واثقة أنه يجيبني إلى طلبي، فمَن يدري ما تعدُّه الأقدار في هاتَين السنتَين، فربما مات القيصر أو مات مَن خطبوني له، أو — لا سمح الله — مات والدي؛ إذ كل حي عرضة للموت …
فقال لها فيدور: ولكن إن ألحُّوا عليك …؟
فقاطعت عليه فاننكا، وقد احمرت وجنتاها حينًا، ثم اختفى الاحمرار بغتةً، فقالت: إن ألحُّوا عليَّ! ومَن يلحُّ عليَّ، أوالدي؟ كلا، فإنه يحبني ولا يرفض لي طلبًا، أمَّا القيصر فله من مشاغله العائلية ما يلهيه عن أن يكدِّر صفو العائلات، وعلى أي حال فقد أعددت وسيلة نهائية إن أخفقت كل الوسائل، فنهر النيفا على بُعد خطًى من القصر، ومياهه لا يُدرَك لها قرار …
وقد كان في لهجة فاننكا ما يدل على ثبات العزيمة وقوة التصميم، حتى ذُعِر الفتى من كلماتها، فلم يسعه إلا أن يصرخ منكرًا عليها ما تنويه، إلا أن ثباتها وقوة جَنانها أعلماه صعوبة ما يحاوله من إمكان ردِّها إلى رشدها؛ إذ رآها صلبة المراس كالقضبان تُكسَر ولا تُعصَر، لكنه من وجهة أخرى شعر بفرح داخلي أنعش فؤاده الذابل من الأسى كما ينعش قطر الندى أزهار الصباح؛ لأنه تيقَّن من كلمات الفتاة أنها تحبه محبةً صادقةً مخلصةً تحاول إخفاءها عنه وعن الناس حفظًا لكرامة نفس نشأت على العظمة ورُبِّيَت في مهد الكبرياء.