الفصل التاسع
مضى على ما تقدم من الحوادث بضعة أيام كان بعدها ما شهدناه في الفصل الأول من توقيع العقاب بالكنوت على جريجوار خادم وحلاق الجنرال لذنبٍ أتاه أسخط عليه مولاته فاننكا، فاضطرت أن تشتكيه إلى أبيها، حيث كلَّف فيدور بمباشرة التأديب كما ذُكِر في الفصل المذكور.
وقد باشر فيدور مهمته، وسمع ما فاهَ به الخادم من كلمات الوعيد، إلا أنه لم يهتم بها، ولمَّا حُمِل الخادم إلى غرفته قام إيفان بتضميد الجِراح التي صنعتها يداه، فصار طبيبًا بعد أن كان جلادًا، ولزم جريجوار الفراش ثلاثة أيام نَقِه بعدها من الجِراح وباشر أعماله، وقد تناسى القوم الحادثة، أمَّا جريجوار فإنه أسرَّها في نفسه، ولو كان روسيًّا لطوى عنها كشحًا لتعوُّد أبناء الموسكوف على مثل ما أصابه، أمَّا هو فقد عرفناه روميَّ الجنس، أي من قومٍ عُرِفوا بالبطش والإقدام والخديعة وحب الانتقام.
وكان جريجوار عبدًا للجنرال قد عهد إليه بوظيفة الحلاقة، فقرَّبَته من مولاه وخصَّتْه بما امتاز به عن باقي الخدم من مقابلته الجنرال ومحادثته بلا حجاب ولا تكلُّف.
وذات يوم أراد الجنرال أن يستعدَّ للذهاب إلى استعراض حربي، فاستدعى إليه الحلاق لتزيينه، وأثناء ذلك دار بينهما الحديث على فيدور، فغالى جريجوار في مدحه ووَصْف خِلالِه حتى تعجَّب الجنرال لتذكُّره أن فيدور كان المكلَّف بمباشرة عقاب الخادم، فأراد أن يسبر غَوْر أفكاره فسأله قائلًا: أراك جعلت فيدور مثالًا للكمالات، فهلا تجد فيه عيبًا أو نقيصة بجانب كل هذه الفضائل؟
قال الخادم: مولاي، لولا أن قليلًا من الكبرياء يشمخ بأنف سيدي فيدور لكان أكمل الناس بلا مراء.
فصاح الجنرال متعجبًا قائلًا: الكبرياء! لعمري إن أبعد الصفات عن فيدور تلك الصفة.
فأجابه جيريجوار: عفوًا يا مولاي، إنما أردت أن أقول الطمع.
فقال الجنرال: الطمع! ما عهدت فيدور إلا قنوعًا متواضعًا؛ فقد ارتضى بإقامته في قصري، وتحت إمرتي على أن لديه من شواهد أعماله الجليلة التي أتاها في التجريدة الأخيرة ما يؤهله إلى مركزٍ سامٍ في البلاط القيصري.
فأجاب الخادم باسمًا: الطمع يا مولاي على أنواع؛ فمن الناس من يطمح إلى مركزٍ سامٍ، ومنهم مَن يطمح إلى مصاهرة الأسرات الكبيرة، فالأوَّلُون يعتمدون على أنفسهم للوصول إلى الغاية التي يرمون إليها، أمَّا الآخرون فيضعون آمالهم في الزوجة التي يسعون في خطبتها؛ ليتخذوها سُلَّمًا لبلوغ الشرف والثروة، وهؤلاء يرفعون عيونهم عادة إلى أرفع مما يجب أن تُرفَع.
فلحظ الجنرال أن وراء هذه الكلمات غرضًا يرمي إليه الخادم، فسأله قائلًا: وما تعني بقولك هذا؟
قال الخادم: إنني أروم تنبيه مولاي إلى أن النعمة قد تدفع المُنعَم عليه إلى نسيان درجته لفرط طيبة المُنعِم، فيمنِّيه الطمع بنوال غايةٍ أسمى ممَّا نال، على أنه قد يكون في درجةٍ أسمى ممَّا يستحق.
فصاح الجنرال قائلًا: التفت يا جريجوار إلى ما تقول، واعلم أنك قد اندفعت في طريق كثير العقبات، فأنا لا أعتبر ما تقول إلا تهمة ترمي بها أخص أتباعي يجب عليك إثباتها بالبراهين البيِّنات.
فأجابه الخادم غير متردد قائلًا: طريق الحق يا مولاي لا تعترضه عقبات، وما علمت شخصًا جعل الصدق رائدَهُ آبَ بندامة أو أخفق مسعاه، ومع ذلك فما قلت قولًا إلا وفي وسعي إثباته بالبيِّنات.
فصاح به الجنرال قائلًا: إذن فما زلت تقول: إن فيدور يحب ابنتي فاننكا؟
فأجابه جريجوار بتلك المراوغة التي امتازت بها أبناء جلدته قائلًا: عفوًا يا مولاي، فإنني لم أقل ذلك، إنما مولاي يقول، على أنني لم أذكر اسم مولاتي فاننكا على الإطلاق.
قال الجنرال: لكن هذا نفس ما تقصده من قولك، أليس كذلك؟ تكلَّم بحرية كعادتك، ولا تُخفِ شيئًا ممَّا وسعه علمك.
أجاب الخادم: لقد صدق مولاي، وأفصح بالإيضاح عما أشرتُ إليه بالتلميح.
قال الجنرال مستفهمًا: إذن فابنتي تشاطر فيدور الحب؟
أجابه جريجوار: لا أعلم يا مولاي، إنما أخشى عليها غائلة الأمر، كما أخشى وقعَهُ على سعادتك.
فسأله الجنرال: وما يحدو بك إلى الخوف؟
قال: أولًا، إن سيدي فيدور لا يعدم فرصة يتقرَّب فيها من مولاتي فاننكا ويحادثها.
قال الجنرال: ذلك أنهما في منزل واحد، فهل تريد أن يتجنبها كلما رآها؟
أجاب الخادم: وأيضًا إذا آبت مولاتي إلى القصر في ساعة متأخرة من الليل راجعةً من وليمة أو مأدبة، كان فيدور دائمًا مسرعًا لملاقاتها، فيمدُّ إليها يده يعاونها على النزول من العربة.
فقال الجنرال، وقد ظن أن تلك البراهين الواهية آخر ما في جَعبة، الخادم: إن كان فيدور ساهرًا ساعة مجيئها، فذلك لا يمنع أن يكون في انتظاري كما تقضي عليه الواجبات؛ لأنه ربما تكون لديَّ أوامر خطيرة يجب عليه تنفيذها، فهو مضطر إلى انتظاري حتى أعود في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار.
قال الخادم: وكذلك لا يمضي يوم لا يدخل فيه فيدور إلى غرفة مولاتي فاننكا مع أنه لم تجرِ العادة أن يُمنَح فتًى في سنِّه مثل هذا الامتياز، خصوصًا في منزلٍ مثل منزل سعادتك؟
قال الجنرال: وما في ذلك من بأس؛ لأني أنا الذي أرسله إليها في أغلب الأوقات.
أجاب الخادم: نعم بالنهار ولكن … بالليل!
فصرخ الجنرال منكرًا: بالليل؟!
وهبَّ واقفًا وقد بُهِت لونه واضطرب دمه، حتى اضطره الانفعال إلى أن يستند إلى مائدة على مقربة منه.
فأجاب الخادم بهدوء وسكون قائلًا: نعم بالليل يا مولاي، وحيث إن سعادتك قلت في البدء: إني اندفعت في طريق كثير العقبات، فلسوف أجتهد في الخلاص منه ولو كان جزائي الجلد بمثل ما ألزمني الفراش أيامًا في الأسبوع الماضي، إذ يصعب على نفسي أن أرى سيدًا مثل سعادتك طيب السريرة يخدعه قوم لا خلاق لهم، هم غرس فضله وكرَمه.
فقال له الجنرال: انتبه لما تقول أيها العبد؛ لأني أدري بك وبالقوم الأُلى أنت منهم، وحاذر أن يكون باعث اتهامك حب انتقامك مما أصابك من العقاب، فلعمري إن لم تؤيد أقوالك بالبراهين الدامغة؛ ليكونن جزاؤك جزاء مَن سعى بالفتنة والنميمة يقصد إلقاء الاضطراب في المنازل ومسَّ كرامة العائلات.
فأجاب الخادم: أنا راضٍ بما يقضي به مولاي.
فسأله الجنرال: تقول إنك رأيت فيدور دخل عند فاننكا ليلًا؟
أجاب الخادم: كلا يا مولاي، لم أرَه داخلًا، إنما رأيته خارجًا من عندها.
قال الجنرال: ومتى ذلك؟
أجاب الخادم: منذ ربع ساعة، عندما كنت آتيًا نحو سعادتك.
فقال الجنرال: كذبت أيها الخائن.
وهمَّ أن يلطمه، فابتعد العبد إلى الخلف قائلًا: صبرًا يا مولاي، فإني لا أفتري فيما أقول، ومع ذلك فلسعادتك الحق في عقابي بما تشاء إن كذَّبت براهيني.
قال الجنرال: وما هي براهينك؟
أجابه: لقد قدمتها لسعادتك.
فقال الجنرال: وهل تظن أني أصدق ما تقول؟
أجاب الخادم: كلا، ولكن أتعشم أن مولاي يتحقق بعينه صدق كلامي.
قال الجنرال: وكيف ذلك؟
أجابه الخادم: عندما يدخل سيدي فيدور عند مولاتي فاننكا بعد منتصف الليل أحضر لأُخطِر مولاي، فيتبيَّن صدق قولي من مَيْنِه، إنما ليعلم مولاي أني على الحالين مغبون.
فقال الجنرال: وكيف ذلك؟
أجاب الخادم: نعم، لأني إن خابت براهيني يكون جزائي العذاب الأليم، ولكن إن صحَّت فما يكون جزائي؟
فقال الجنرال بلا تردد: ألف روبل ذهبية وإعتاقك من الرقِّ.
قال جريجوار بهدوٍّ، وهو يضع الأمواس في مائدة التزيين: وأنا راضٍ بهذا الاتفاق، وأتعشم أن يقدِّر مولاي صدق إخلاصي قبل مُضِيِّ ثمانية أيام من الساعة التي نحن فيها.
وعلى ذلك خرج جريجوار تاركًا الجنرال مختبطًا حائرًا خاشيًا شر خطر بدأ يتمثَّل له ويتهدَّد ركن سعادته.
ومن ذلك الحين أخذ الجنرال شرميلوف يراقب حركات فيدور وفاننكا بدقة واستيقاظ، فلم يجد من أحد الطرفين ما يؤيد صحة مخاوفه، بل رأى فاننكا على الأخص أكثر فتورًا وجمودًا من ذي قبل لا تنمُّ ظواهرها على ما يوجب أقل ريبة فيها.